الكتاب: الإسلام وأزمة العصر, حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس.
الكاتب : برنارد لويس .
ترجمة: أحمد هيكل.
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة، 2004؛ 174ص.
لم تحظَ قضية بالاهتمام العالمي منذ عقد من الزمن كما حصل في قضية الإرهاب الذي هَجس العالم كله، فكان له نصيب الأسد من صفحات الكتب ومقاعد المؤتمرات، فتطوعت وطوِّعت له المؤسسات الفكرية والاجتماعية وحتى العسكرية بحثاً عن جذوة هذا المرض, ونبشاً عن حل وعلاج لأدوائه.
فمنذ الحادي عشر من أيلول والكتابات تتوالى في عرض أسباب الإرهاب, وتترى في البحث عن شخصه الهلامي بين صخور أفغانستان وأزقة الفلوجة، بل وفي نفوس المناهضين لأمركة الحرب ضد الإرهاب, وقد تلا ذلك تصنيفُ العالم إلى إرهابي وغير إرهابي.
وعُرِّف الإرهاب تعريفات ربما وصل عددها إلى عدد المعرِّفين نفسهم، وذلك يعكس بصورة جلية مقدار الخلاف العالمي حول قيمية هذه الأعمال وبالتالي توصيفها القانوني والشرعي.
وقد أفرزت هذه الحقبة الكثير من المؤلفات والمشاريع والمؤتمرات, ومن بينها كتاب برنارد لويس -أحد الجنرالات الفكرية للحرب على الإرهاب- "أزمة الإسلام: حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس" والذي حرّفت ترجمته "لوجهةٍ تليق بكمال الإسلام" -حسب ما يرى مترجمه- ويعد هذا الكتاب جرعة تبريرية هامة في التسويق لحروب "العدالة الأمريكية" ولاسيما أن مؤلفه بأفكاره هذه أحد منظري الحرب على الإرهاب، فحاول من خلال هذا الكتاب تفسير "الإرهاب الإسلامي".
في مقدمة كتابه يتحدث برنارد لويس عن تكييف الحرب, وبأنها حرب سلام ضد الإرهاب وليست ضد المسلمين، فهي مستعينة بالمسلمين وغيرهم، وهو ما حرص على إظهاره الرئيس الأمريكي جورج بوش منذ ولادة الحرب وحتى اليوم، وذلك على العكس مما حاول ابن لادن إظهاره فقد حرص على إظهارها بصورة الحرب الدينية، في استنهاض منه جديد للمشاعر المسلمة حيال الزحف الصليبي الجديد إلى مقدسات المسلمين, وقد ظهر هذا في الكثير من أشرطته التي بثها, والتي وصفت أمريكا بفراعنة هذا العصر, ولقبت بوش بفرعون هذا اليوم, وقد استنهض ابن لادن مشاعر المسلمين من خلال ملامسة أكثر الأوتار حساسية في نفوس المسلمين, متمثلاً في وصف الحرب بالصليبيّة, واستعراض الذل الذي حل بالمسلمين منذ سقوط الخلافة، موجهاً أصابع الاتهام في كل ما حل بالمسلمين اليوم إلى الشيطان الأكبر (أمريكا اليوم).
ويشير الكاتب إلى المهد الذي تربت فيه خصائل الإرهاب, والتي كونت البنية المعرفية والدعائم النفسية المحركة لثقافته (الإرهاب), فالإسلام بوصفه حضارة يتقاسم مع العالم المسيحي طرفي الدين الإلهي أكبر حضارتين في تاريخ الإنسانية, وقد حظي في القرون الوسطى بمركزية العالم فكراً وحضارة واقتصاداً، يقوم أساسه الأول على الإيديولوجية المتمثلة في اعتقاد خلافة الله في الأرض على أيدي أتباعه, ومطاردة المارقين الكفرة وإعادتهم إلى حظيرته, أو إلقائهم إلى الله لينالوا قصاصهم, وقد استمدت هذه الخلافة شرعيتها من مواقف النبي, الذي كان مقاوماً في مكة, ورئيساً لدولة في المدينة, وقد كان هذان الجانبان مصدر إلهام لتقليدين إسلاميين أحدهما سلطوي يسلم بالواقع والآخر راديكالي ميال إلى الحركة.
كما أن الدين الإسلامي دين ودولة، في تلاصق تام بين السياسي والديني، رافضاً العلمانية بكل أشكالها, فالإسلام هو المحرك الأساس داخلياً وإقليمياً ودولياً, فهو ليس عقيدة فحسب, وإنما هو عقيدة وهوية وولاء وحكم .. وتجد هذه الإيديولوجية الإسلامية نفسها أمام أمر واقع الآن: فالأرض أرض الله, ولكن يحكمها أعداء الله, ويذل فيها خلفاء الله, وتنهب ثرواتهم, وتستباح دمائهم, وتتالى فصول الذل عليهم, ولا شك أن هذه الأيديولوجيا توفر أساساً شعورياً مألوفا للهوية والتضامن, والشرعية والسلطة, وصياغة يمكن من خلالها نقد الحاضر, و برمجة المستقبل, وفي ضوء ذلك يعبئ الإسلام شعاراته مع أو ضد قضية ما, وقد خلقت هذه الأيديولوجية ـ مع ما يعززها من فصول الذل المتعاقب نماذج عدة في إقامة الخلافة وسوق الجناة إلى القصاص, فكان منها الراديكالي, والمحافظ, والاستباقي, وبينهم تتدرج النماذج, وقد برمجت نفوس المسلمين على وجود عدوٍ يجب البحث عنه, وأن غيابه يحدث فراغاً نفسياً, ويعطل من الخلافة, فيستمر البحث عنه إلى أن تسلم الأرض كلها أو تخضع لحكم الإسلام، هذا ما رآه لويس في التراث الإسلامي ليسعف به استراتيجيته التي لا تبحث عن عدو، ولا حتى تسعى للسيطرة على الأرض (خلافة على الطريقة الأمريكية) ولا حتى قيادة العالم والتدخل في شؤون الدول في تفاصيلها الجزئية، وإلا فإن المخالف إرهابي يستحق العقاب لتخليص العالم من ظلمه (الحرب الأمريكية).
وصف دار الحرب أحد أهم فصول هذه النظرية الإسلامية، يكرسه مبدأ الجهاد (أعظم القربات إلى الله), والذي تضافرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بالإغراء في طلبه، وطلب كسب الشهادة حتى قيام حكم الله في الأرض, ويستند المسلمون لهذا المبدأ تاريخياً باللحظة التي تم فيها "إنشاء قبة الصخرة فوق معبد يهودي" (حسب زعم لويس)، وعلى طراز الأبنية المسيحية: كقبر المسيح , وكنيسة القيامة, والتي حملت رسالة مفادها أن اليهود والمسيحيين (بشكل أخص) قد تهاونوا في حفظ ما أوحي إليهم مما عرّضه للتشويه ولحق به الفساد, حتى أتى الوحي الخاتم مصححاً, ليعلن بدء العهد الإسلامي وأفول العهد المسيحي واليهودي.
إن الحروب الصليبية تحتل مكاناً بارزاً في الضمير والخطاب الشرق أوسطي الحديث، لدى العرب القوميين ولدى الإسلاميين الأصوليين, وبوجه خاص لدى أسامة بن لادن, ورغم أن دوافع الحرب الصليبية اقتصادية المنطلق لدى معظم مؤرخي الحروب الصليبية, وأن هدفها كان النهب والسلب بعيداً عن الوجهة المسيحية, إلا أنها ليست كذلك بين المسلمين, وإنما تمثل لهم جدل العلاقة المستمرة بين المسيحية والإسلام, وتهدف إلى إصابة قلب المقدسات الإسلامية والنيل منها في ثأر تاريخي ترقَّبه الصليب انتقاماً من الإسلام؛ لسلبه أماكنهم المقدسة في القدس, وقد طويت صفحة الحروب الصليبية, وخمدت معها الجذوة النفسية إثر تحرير صلاح الدين القدس, وطرد الصليبين منها, وقد ظل هذا الشعور حبيس النفوس، حتى تم استنهاضه في القرن التاسع عشر إثر مناوشات القوى الأوربية على حماية الأماكن المسيحية المقدسة, ثم مع الهجرة اليهودية الحديثة, وظلت من ذلك الحين إلى اليوم-مترافقة مع صورها الحاضرة لسيطرة الكفار على الأماكن المقدسة, وتخلف الصليبين أمامهم وهم أهل الصليب-مداراً تستفزُّ فيه مشاعر المسلمين لمجرد ذكرها, وقد استمر ذلك حتى الحادي عشر من أيلول وتصريح بوش بأن حربه على الإرهاب حرب صليبية, اشتعلت معها مشاعر المسلمين, معززة برصيد الكراهية الذي تتمتع به أمريكا في نفوس شعوب الشرق الأوسط عموماً والمسلمين خصوصاً.
وعلى الرغم من أن مصطلح (الحرب الصليبية) قد تحول مدلوله, وأصبح يتناول كل حرب مقدسة أياً كان وجهتها, فالحرب لحماية البيئة حرب صليبية, والحرب لمكافحة المخدرات حرب صليبية, وغيرها من وجوه التنقية الاجتماعية –حسب ما يتعالم بذلك لويس-, إلا أن هذا التحول المصطلحي لم يطل نفوس المسلمين, فوقعت الكلمة موقع الأمس, واستنفرت مشاعر المسلمين محافظين كانوا أم ثوريين.
ولا أدري أكانت التسمية بالصليبية متأثرة بكل حرب مقدسة اجتماعيةً كانت أم بيئية ... أم أن التسمية الصليبية كانت امتداداً للحروب الصليبية على بيت المقدس، فلمَ لا تكون الحروب الاجتماعية استحقت لقب الصليبية لترتفع إلى مكانة تضاهي الحروب على الشرق الأوسط، ولماذا يرى لويس العكس؟! وهل زلة اللسان التي انحدرت من بوش تطلبت هذا التحول المصطلحي.
إن ما تتمتع به أمريكا - أكبر القوى الحضارية و الاقتصادية في العالم - من سيادة للعالم وكونها الأغنى بين دول العالم, مع انحدارها من المجتمع المسيحي, وما ولَّد ذلك من سيطرة عسكرية, على منابع الثروة في الخليج, وتهديده اقتصادياً, وما تحويه من مظاهر المادية المفرطة التي أفرغت من الأدبيات والأخلاقيات حتى تفسخت لديها القيم واهترأت الروح, وما يخلف ذلك من خشية على أخلاقيات المجتمع الإسلامي أمام عولمة أمريكا, إضافة إلى اتهامها بحراسة الحكومات والأنظمة العربية ودعمها اللامحدود لدولة إسرائيل, كل هذه العوامل تضافرت لتقع موقع البحث في نظرية الجهاد الإسلامي, وتبوأت لذلك لقب الشيطان الكبر. وقد برهنت أمريكا على خذلانها للشعوب المسلمة, وأن ديمقراطيتها لا تطال هذه الفئة, وحقوق الإنسان لا تنطبق عليها ـ من خلال ازدواجية المعايير في إلقاء الطعم بين الشعوب وحكامها, ومساومتهم على إرضائها ـ قد تجلى ذلك واضحاً في انقلابها على القاعدة؛ إذ أيدتها في حربها ضد السوفييت ثم لاحقتها، ثم من خلال دعمها للثورة الشيعية, ثم وقوفها صامتة أمام طيران صدام و قواته في قمع هذه الثورة.
وقد برر صُناع السياسة الأمريكية ـ ومن ورائهم صناع الثقافة الأمريكية ـ تلك السياسة، وأن وجودهم في الكويت والسعودية لا يعدو مهمة الدفاع عنهم أمام أطماع صدام؛ وأما تقاربهم مع إسرائيل فلقد فرضته الظروف السياسية، إذ اضطرت أمريكا للاستعانة بوكيل شرق أوسطي للحد من المد الشيوعي في قلب العالم العربي، مع أن السوفيت كانوا أول المؤيدين لقيام دولة إسرائيل، فاضطرت أمريكا لمد اليد لدولة إسرائيل! وقد عارض ذلك كثير من صناع القرار في أمريكا، وشككوا في قدرة إسرائيل على ذلك, وأنها لن تكون عوناً بل ستشكل عبئاً استراتيجياً على أمريكا, لكنهم اضطروا أمام ضغوطات الواقع, إلا أن هذه التبريرات كانت تعتبر زيفاً باطلا ً وأقنعةً تستر شهوة أمريكا في الاحتلال ونهب الثروات، وظل لقب الشيطان الأكبر من حظ الأمريكان بامتياز .
((إن معظم المسلمين ليسوا من الأصوليين، كما أن معظم الأصوليين ليسوا إرهابيين، لكن معظم الإرهابيين في عصرنا مسلمون، ويفخرون بتحديد هويتهم على هذا النحو), ويجملون المدنيين وغيرهم وفق أسلوب جديد تتخذه حربهم ويوجهونها إلى الشيطان الأكبر (أمريكا)، وما ذلك كله إلا عبارة عن تفريغ مشاعر معبئة من متواليات الفشل وإخفاقات الحداثة يغذيها الحسد من نجاحات الغرب المتكررة؛ لذا فان حربهم لم تعد تستهدف عدواً معيناً ترجى هزيمته، لكنها أصبحت موجهة نحو الرأي العام العالمي؛ للفت النظر إليهم وإثبات وجودهم من خلال بث الخوف في النفوس, بغية تحقيق انتصار سيكولوجي يشفى به الغليل مما عانته هذه الفئة من التخلف والذل والبحث عن الذات.
في كل ما سلف حاول (الجنرال) برنارد لويس صياغة نظرية تبريرية للحرب على العراق والحرب في أفغانستان، وربما الحروب القادمة التي تتطلب تبريرات من هذا القبيل، وربما تبريرات على نحو أعمق لتسوِّق ما هو قادم على عظمه وكوارثه وتطرفه على الطريقة الأمريكية، فلقد قرأ مؤلف الكتاب التراث الإسلامي محاولاً استخراج بذور الإرهاب من بين الأدبيات الفقهية الإسلامية، مستعيناً بالتأويل والتعليل والتبرير والالتفاف وحتى التغليط .. لتتكامل فصول دراسته التي أُنجزت نتائجها مسبقاً.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.