تمهيد: هم الإبداع الاصطلاحي في مشروع طه عبد الرحمن:
من التجزيء والتجريد والتحيز إلى التكامل والتداول والتفاعل:
لم يمنع دوران مقولة "لا مشاحة في الاصطلاح"([1]) على الألسن عموم المؤلفين المجتهدين من تخصيص مباحث في كتبهم لتحديد المفهوم ومعالجة المصطلح قبل طرق الموضوعات([2])؛ فابن حزم (456 هـ) مثلا، قدم لكتابه "الإحكام في أصول الأحكام" بمبحث عن الألفاظ الدائرة بين أهل النظر، تناول فيه ما يزيد على ثمانين مصطلحا أصوليا؛ كالرسم، والحد، والاعتقاد، والبرهان، والدليل، والحجة، والدال، والاستدلال، والدلالة، والإقناع، والشغب، والتقليد، والإلهام، والنبوة، والصدق، والباطل، والنص، والتأويل، والعموم، والغرض، والجدل، والجدال، والاجتهاد، والرأي، والعناد، ودليل الخطاب، واللغة، والخلاف، والإشارة، والمجاز([3])... أما أبو الوليد الباجي (474 هـ)، فقد حدد في مقدمة كتابه "المنهاج في ترتيب الحجاج"، مدلولات سبع وثمانين مصطلحا من الألفاظ الدائرة بين المتناظرين؛ كالحد، والعلم، والعلم الضروري، والعلم النظري، والجهل، والشك، والظن، والسهو، والعقل، والفقه، والجدل، والنظر، والاستدلال، والبيان، والنص، والظاهر، والعموم، والمجمل، والمفسَّر، والمحكم، ودليل الخطاب، ولحن الخطاب، وفحوى الخطاب، والحقيقة، والمجاز وغيرها([4]).. وتعبر هذه المجهودات الاصطلاحية عن مؤشرات الوعي المنهجي العميق عند أولئك المؤلفين، وحرصهم على تفادي اختلاط المفاهيم والمصطلحات والارتباك بل والتحيز والانتقاء في حصر المدلولات. أما في الفلسفة الحديثة فقد اعتنى المجتهدون بالمفاهيم والمصطلحات إلى درجة أن أصبحت تلك المفاهيم تقترن أسماؤها بأسماء واضعيها، فيقال جوهر أرسطو، وكوجيطو ديكارت، والجزء الذي لا يتجزأ لـ"ليبنس"، وشرط الإمكان لكانط، وقوة "شيلينغ"، وديمومة "برغسون"([5]).
ولما كانت الفلسفة لغة مفاهيم ومصطلحات، وليست فقط مجرد معجم من الألفاظ، كانت عناية طه عبد الرحمن القصوى بالمفاهيم والمصطلحات صناعة وتصنيعا، واستعمالا وتوظيفا، بناء على معايير محددة وأخرى غير محددة([6]). وهذه العناية بالمصطلح هي التي جعلت مشروع طه يتميز بمجمعاته الاصطلاحية التي تتركب من مصطلحين مفردين فأكثر، وتربط كل مجموعة منها علاقات دلالية ومنطقية وصياغات صوتية وصرفية، بحيث تكون نسقا هندسيا وموسيقيا متسقا في البناء المفهومي لمشروعه([7]).
وقد رصد طه عبد الرحمن أنماط التحيز في المصطلح الفلسفي العربي منذ بداية تشكله وانتقد عمليات استنساخ النموذج الاصطلاحي اليوناني عند نقل المعاني، من دون التمييز بين ما هو لغوي يخص اللسان اليوناني، وما هو اصطلاحي يخص المعرفة الفلسفية، مع تقييدها وتصحيحها على مقتضى التعبير العربي، بل حكموا اليونانية في العربية، فوقعوا في مقابلات قلقة يغلب عليها ترجيح اعتبارات اللسان اليوناني، وتنزيل جهازه الصرفي والنحوي على أصناف من الألفاظ والعبارات العربية، مما يلحظ بشكل كبير عند المتمنطقة العرب، مع العلم بأنه لا شيء أخص باللسان من قواعد الصرف والنحو التي توضع له، فكيف ينقلون هذه القواعد في صيغتها اليونانية، إلى اللسان العربي مع تفاوت صارخ في الأبنية والتراكيب بين اليونانية والعربية؟
إن هذه الثغرات الاصطلاحية في النص العربي، فسلفيا كان أو منطقيا، حولته إلى نص مضاد لمقومات الأمة ومفرداتها التداولية ما سعى طه إلى تجاوزه، لما يورثه هذا التحيز المصطلحي من العجز الفلسفي والحصر اللغوي والبلاغي، وذلك لغياب القدرة التداولية اللازمة عند المتفلسف على استشكال المصطلح في صيغته اليونانية، وكيف له أن يتفلسف ويستشكل وهو لا يتصور ذلك خارج ما رسمه اليونان؟ وقد أضر هذا التصور بقدرة اللغة العربية، بنظر طه، على صناعة المفاهيم واستثمارها، مما عطل القوة التي تتحرك بها ألفاظها وتتولد بواسطتها تراكيبها، وفي الأخير تجميد آليات اشتغالها في إنتاج الفكر.
ولما كان هذا التصور المعطِّل لحركية مفاهيم اللغة العربية ومصطلحاتها ينبني على خلفيتين نظريتين متحيزتين، الأولى تجزيئية من حيث الدلالة، والأخرى تجريدية من حيث التشغيل، أقام طه مجهوده المفاهيمي والاصطلاحي بما يتوافق ونظريته التداخلية في المعرفة؛ أي أن وضع المفهوم والمصطلح عنده يستقيم على أصول النظرية التكاملية في الدلالة، وأن تشغيله يستقيم على أصول النظرية التداولية، هذه النظرية التي تجعل دلالة اللفظ متعددة بتعدد الاستعمالات وموجهة بأهداف التأثير والتغيير، عبر مظهري "الامتداد الدلالي، والإمداد التداولي"([8]).
ويتجلى هذا المنحى التداخلي في وضع المصطلحات وتشغيلها، من حيث اعتبار الدلالة ليست سمة واحدة منعزلة ولا سمات كثيرة متفرقة، وإنما هي تأليف من السمات التي يركب بعضها فوق بعض. وعليه عمل طه على تشييد المعنى الاصطلاحي على المعنى اللغوي مثلما تُشَيَّد طبقة على أخرى، وكما أن تشييد الطبقات لا يتأتى إلا إذا أقامت كل طبقة قواعدها على الطبقة التي تحتها، فكذلك المعنيان: الاصطلاحي واللغوي، لا يستقيم اجتماعهما إلا إذا أقام المدلول الاصطلاحي أصوله في المدلول اللغوي، واصلا أسبابه بأسبابه، ويبقي هذا الوصل على تعلق معاني اللفظ بعضها ببعض مهما تقلبت أطوارها وتجددت مسالكها([9]). فحفظ المناسبة بين المدلولين اللغوي والاصطلاحي في مستويي الممارسة الاصطلاحية، اختراعا واستثمارا، سواء عبر الامتداد الدلالي الطبيعي أو عبر الامتداد الدلالي الصناعي، هو أبرز مؤشرات الاجتهاد والإبداع في النموذج الاصطلاحي عند طه عبد الرحمن. وبفضل هذين الامتدادين الطبيعي والصناعي يتوسع المجال الاستشكالي والاستدلالي لأي مفهوم، مع حفظ المناسبة بين المدلولين اللغوي والاصطلاحي، فيرتفع القلق والاضطراب عن المفهوم، بل تنفتح طرق التداعي بين المعاني وترسم بينها سبل استدلالية وآفاق انتقالية تفتح للمتفلسف مجالا أوسع لتخيُّر المجرى الذي يناسبه من مجاري تحرك الفكر التي تمثلها هذه السبل والآفاق([10])، مع استثمار المعارف المختلفة والقدرات النظرية المتعددة.
ويشتغل النموذج الاصطلاحي التطبيقي عند طه عبد الرحمن على مستويين: مستوى التنظير التأثيلي، ومستوى الصناعة الاصطلاحية، وذلك ما سنعرض له في ما يأتي:
1 ـ فقه تأثيل المفاهيم([11]):
رسخ طه عبد الرحمن في مشروعه العلمي نموذجا في الاشتغال الترجمي وفق مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي، وهو ما يسمح بالانخراط، بنظر طه، في الكتابة الفلسفية الحية، والتي تكون مفاهيمها مبثوثة في قلب المتلقي العربي لا في قلوب سواه، ولا اعوجاج فيها ولا تحيز، وتكون أصولها مركوزة في التاريخ العربي لا في تاريخ غيره. و رد طه، على بعض أهل التقليد في القول الفلسفي ممن تحفظوا على هذا الاشتغال الفلسفي الجديد. واعتبر أن التقليد دخل على الفلسفة العربية الإسلامية من الترجمة لاقترانهما، حتى لا فلسفة معترفا بها بغير ترجمة. وعلى هذا الأساس قدم طه نموذجه النظري والتطبيقي للاشتغال الترجمي، وجعل الترجمة مراتب ثلاث:تحصيلية تتمسك بحرفية اللفظ، وغايتها التعلم من النص الأصلي والتلمذة على صاحبه، وتورث الخطأ في المعنى والتركيب، وتوصيلية تتمسك بحرفية المضمون دون حرفية اللفظ، وغايتها ممارسة التعليم، وتوقع صاحبها في تهويل بعض المضامين، بما يشعر المتلقي بالعجز إزاءها، فلا يعترض عليها بله أن يضع ما يضاهيها! وتأصيلية تتصرف في المضمون كما تتصرف في اللفظ، وغايتها رفع عقبات الفهم الزائدة عن الضرورة من طريق المتلقي، ثم تقدره على التفاعل مع المنقول بما يزيد في توسيع آفاقه ويزوده بأسباب الاستقلال في فكره.
ويرتب طه هذه الأنواع للترجمة حسب الأهمية، بخلاف ما ذهب إليه غالبية المترجمين العرب قديما وحديثا؛ أي يجعل التأصيلية في المقدمة ثم التوصيلية وفي الأخير التحصيلية. فالترجمة التأصيلية هي التي تفتح للمتلقي آفاق تفلسف جديدة، وتنمي ملكته الفكرية والفلسفية، إلا أن هذا لا يحصل تلقائيا، ولكن لا بد من الاستعانة بآليات مفهومية جديدة تنسجم والتصور التداولي الذي يؤطر مشروع طه ككل، ويجسد هذه الآليات الاشتغال التأثيلي الذي عمل طه على وضع تصور ضابط له. كما أن الضرب التأصيلي من الترجمات الثلاث هو الأقدر على تفعيل الاشتغال التأثيلي وتوفير مقابلات عربية للمفاهيم الفلسفية المنقولة.
وانطلق طه في تصوره التأثيلي من معطى أن كل قول بيان، وكل بيان ينقسم إلى "عبارة"و"إشارة"، والعبارة تضاد الإشارة([12]). وعليه، عمل على وضع أركان للتأثيل المفهومي، من خلال التمييز بين العبارة الإشارية التي يختص بها القول الفلسفي مقارنة بالقول العلمي والأدبي. وانتقد المفاهيم الفلسفية العربية السائدة والمفتقدة للقوام التأثيلي المطلوب، ذلك أنه تم وضعها في مقابل مفاهيم منقولة دون التفريق بين ما هو عباري يتوجب نقله وما هو إشاري يُخيَّر في نقله، فنقل الكل على أنه عبارة!
إن تأثيل المفهوم يجب أن ينطلق، بنظر طه، من الاعتقاد أولا أن هذا المفهوم فيه جانب عباري وآخر إشاري. وهذا التمييز الدقيق جعل طه يسلك في كلامه عن التأثيل مسلكا علميا، يدخل في نطاق "فقه الفلسفة" وليس "فلسفة الفلسفة"([13]). وعليه اجتهد من أجل تأثيل نوعين من المفاهيم: مفاهيم من وضعه يضع مدلولاتها العبارية وينمي قوتها الإجرائية، وأخرى من وضع الغير يعمل على تزويد مدلولاتها العبارية بجانب إشاري على قدر ما تطيق، حتى إنها قد تظهر أحيانا، وهي مزودة بجانب إشاري، بغير ما تظهر به في أصلها عند الغير؛ ذلك أن الدلالات الإشارية تثمر في العربية تصورا تخاطبيا تداوليا للمفهوم لا نظير له في لغات أخرى.
وعلى الرغم من ذلك فإن تزويد المفهوم الفلسفي المنقول بإشارية جديدة وفق المجال التداولي الخاص للمترجم، كما يقترحه طه، يطرح بنظرنا، بعض التساؤلات الحرجة؛ ذلك أن هذا التزويد قد يحدث أحيانا اضطرابا وخلطا، بل وتناقضا في المفهوم ذاته بحسب كل مترجم أو فيلسوف أو مستعمل بعامة، لاختلاف الرؤى المعرفية وتحيزها، والتفاوت في نسبة التشبع بالتراث أو استيعابه، ومدى التفاعل الإيجابي الخلاق أو السلبي المتعثر مع ثقافة المجال التداولي الخاص ومقتضياته!
ويذهب طه إلى أن القول الفلسفي، وهو مجال اشتغاله، ليس قولا عباريا خالصا ولا قولا إشاريا خالصا، وإنما هو قول يجمع بين العبارة والإشارة على وجوه مختلفة. ويحدد طه للعبارة مبادئ هي:الحقيقة والإحكام والتصريح، وللإشارة مبادئ هي نقيضها، أي: المجاز والاشتباه والإضمار.وكل مبدأ من هذه المبادئ يتفرع فروعا بحسب مقتضياته ودلالته.
وعلى الجملة، يتبين من التعريفين اللذين وضعهما طه للبيان العباري وللبيان الإشاري أنهما طريقتان في الكلام متباينتان؛ فما يصدق على أحدهما لا يصدق على الآخر، فحيث تكون العبارة ذات معنى حقيقي تكون الإشارة ذات معنى مجازي، وحيث تدل الأولى في مختلف استعمالاتها على معنى ثابت، تدل الثانية في هذه الاستعمالات على معان متقلبة، وحيث تصرح الأولى بجميع أجزائها، تضمر الثانية بعضها([14]).
وأبطل طه ادعاء أن العبارة إشارة، سواء من جهة مضمونها، وهو رأي الفيلسوف الألماني "فريدرش نتشه"، أو من جهة صورتها، وهو موقف اللساني الأمريكي المعاصر "ميكائيل ريدي"؛ فنتشه، بنظر طه، يقوم بتوسيع لمضمون الإشارة من وجهين كلاهما مردود، أولهما توسيع عمودي يجعل الإشارة علاقة تقوم بين كل مستويين متباينين أي كانا، فيقع في الخلط الفاسد، والثاني توسيع أفقي يجعل الإشارة تحتمل الدلالة على نقيضها وهو العبارة، فيقع في الابتذال. أما ريدي فقد أصاب حيث أخطأ "نيتشه" لكن موقفه من التداخل بين العبارة والإشارة ليس حجة كافية لدرء التضاد بينهما كما أكده طه.
كما أبطل طه دعوى أن الإشارة عبارة، على مذهب فيلسوف اللغة الأمريكي المعاصر "دونالد دافيدسن" في مقالته "مدلول الاستعارة"؛ ذلك أنه يرى أن المعنى العباري يغني عن المعنى الإشاري، مما يفضي به إلى تفريق ما كان حقه الجمع كالمعارضة بين الدلالة والتداول، وتضييق ما كان حقه التوسيع كقصر المعنى الحقيقي على شرط الصدق، وتجريد ما كان حقه الوصل كعزل المعنى الحقيقي عن افتراضاته المقامية.
وبناء عليه، فالقول الفلسفي، بنظر طه، قد يرجح أحد البيانين بحسب رتبته؛ فإن كان قولا فلسفيا علميا رجحت العبارة، وإن كان قولا فلسفيا أدبيا رجحت الإشارة، وإن كان قولا فلسفيا طبيعيا فلا رجحان. وهذا الرجحان إما أن يكون مقبولا عندما تتفاوت العبارة والإشارة في القول الفلسفي بموجب اشتغال فني يوافق الفلسفة الطبيعية لمجال المتلقي التداولي، وإما أن يكون مردودا عندما تتفاوت العبارة والإشارة في القول الفلسفي بموجب اشتغال فني يخالف الفلسفة الطبيعية لمجال المتلقي التداولي([15]). وقد وضح طه ذلك من خلال وقوفه على القول الفلسفي العربي في بعديه الطبيعي والصناعي.
وقد سلك، كما ذكرنا، في بحث المفهوم الفلسفي طريقة فقهاء الفلسفة وليس منهج الفلاسفة، لكن من غير أن يعني هذا إقامة التعارض بين "التفقه" والتفلسف"، ولكن جعل الأول خادما لفلسفة المفاهيم. وبناء على هذا سعى طه إلى إخراج المفهوم الفلسفي العربي من جموده وتعطله وتحيزه نتيجة النقول التحصيلية، من خلال الوقوف على الأسباب اللغوية التي يتوسل بها في إنشاء واستثمار المفاهيم الفلسفية في أصولها؛ إذ من خلال هذه الأسباب اللغوية يتوصل إلى المقاصد الفلسفية مما يلائم مجال الفيلسوف التداولي. ثم إن نقله المفهوم الفلسفي يساعد على تبين المفاهيم وخصوصيتها، بما يبطل ادعاء بلوغها النهاية في الشمولية مما يروج له المقلدة.
وكشف الأسباب اللغوية التي توضع وتستثمر بها المفاهيم الفلسفية يقتضي تحديد العلاقة الموجودة بين المفهوم الفلسفي ولفظه المستعمل. وعليه ذهب طه إلى عكس النظرية التقليدية التي تعتبر المفهوم الفلسفي مجردا، وأكد أن هذا المفهوم لا يمكن تجريده من البنية اللفظية التي جاء عليها، ولا حتى من قرينة الاستعمال التي يتصل بها([16]).
وارتباط المفهوم باللفظ عند طه يورث خاصية "الانفهام"، أي أن واقع المفهوم يصطلح عليه وفق مبادئ مجاله التداولي. وعليه فالأصل في المفهوم الفلسفي أن يكون منفهما من صورته اللفظية ومنتسبا إلى مجاله التداولي. وأكثر من هذا فإن الانتساب التداولي شرط في حصول الانفهام من اللفظ؛ ذلك أن لغة الفيلسوف هي تلك التي يجدها في مجاله التداولي. وبالجملة فالأصل في المفهوم الفلسفي هو الانفهام التداولي، وهذا ما يجعل المفهوم الفلسفي عكس المفهوم العلمي، لا يتمحض فيه الاصطلاح ولا يصفو للعبارة؛ إذ لا يمكن أن يكون تصورا خالصا مثل ما نجده في التصور العلمي؛ إذ يشوب مدلوله الاصطلاحي مدلول يضاد عبارته وهو الإشارة. إلا أنه كما لا يستقل به المدلول الإشاري فيكون مدركا تصوريا فكذلك لا يستقل به المدلول الإشاري فيكون مدركا وجدانيا، و«إنما يشترك فيه هذان المدلولان على أقدار مختلفة، مع وجود فارق في مراتب العلوم، في حين تتزايد وتيرة الإشارية فيه بارتقائه في مراتب الفنون»([17]).
ولتوضيح منزلة الجانب الإشاري للمفهوم الفلسفي من جانبه العباري، أكد طه أن هذا الجانب هو الذي يشترك فيه المتفلسفة على اختلافهم، أقواما وألسنة، وهذا ما التبس على بعض المتفلسفة المقلِّدة فادعوا شمولية المفاهيم الفلسفية، من غير تنبه إلى أن المعنى الفلسفي لا يقبل الرد إلى مدلوله الاصطلاحي وحسب، وإلا كان قصورا علميا، بل هو مردود أيضا إلى جانبه غير الاصطلاحي وهو الإشارة؛ أي جملة آثار تداولية ينقلها الفيلسوف إلى المفهوم، مما يبث في هذا المفهوم أسباب الخصوصية والتحيز الذاتي، فتمتزج خصوصية الإشارة الشمولية بشمولية العبارة في المعنى الفلسفي، وهو امتزاج إغناء وثراء للمفهوم الفلسفي، إذ ما يتولد من الشيئين في حال الازدواج لا يتولد منهما على حال الانفراد!
ولما كانت المميزات التداولية التي يحصل بها الوصل هي مجال الفيلسوف التداولي، والمفاهيم الفلسفية التي يتم بها وصلها بهذا المجال هي أصول الخطاب الفلسفي، فوظيفة الجانب الإشاري في المفهوم هي ربط جانبه العباري بأصول المجال التداولي لواضعه أو مستثمره. وهذا الوصل بالأصل هو ما يطلق عليه عادة "التأصيل"([18])، فتكون وظيفة الإشارة في المفهوم الفلسفي هي النهوض بتأصيل عبارته. واختار طه لوظيفة الإشارة عوض "التأصيل" اسم "التأثيل" لوصف حقيقة وجود الإشارة في المعنى الفلسفي على مقتضى التداول. فالتأثيل يسد مسد "التأصيل" في الغرض منه، ويفيد أكثر منه الإكثار والتنمية؛ إذ يقال "أثل ثروته" أي أكثرها ونماها، والتأثيل الذي ليس معه زيادة إنما هو محض تجميد. كما أن كثرة الاستعمال للفظ "التأصيل" ساهم، بنظر طه، في دخول الابتذال عليه.
ولما كان دور الإشارة تأثيليا فقد حدد طه المبادئ التي يقوم عليها القول الإشاري وهي الإشارات:الإضمارية والاشتباهية والمجازية. واعتبر الإشارات الإضمارية([19]) هي النوع التأثيلي من هذه الأنواع الممكنة للإشارة، ويصبح عندها حد تأثيل المفهوم الفلسفي تزويد الجانب الاصطلاحي منه بالمضمرات التي تربطه بالمجال التداولي لواضعه أو لمستثمره([20]).
وتنقسم العناصر التأثيلية المضمرة في وضع المفهوم الفلسفي واستثماره إلى قسمين: عناصر تأثيلية مضمونية وعناصر تأثيلية بنيوية.
أولا: العناصر التأثيلية المضمونية هي جملة المضمرات الدلالية التي تتأصل بها الإمكانات الاستشكالية للمفهوم الفلسفي. وينقسم التأثيل المضموني إلى "تأثيل لغوي"، أو ما يسميه طه بـ"علم التأثيل اللغوي" أو "التأثيليات اللغوية"، وهو ما كان يعرف عند العرب باسم "المعنى اللغوي"، ويقابله مصطلحEtymology ، أي العلم الذي ينظر في أصول المعاني وأزمانها وأطوارها أو تاريخها. والمقصود بالتأثيل اللغوي هو أن الفيلسوف عادة ما يفتح استشكاله لمفهوم ما بالاستناد إلى معناه اللغوي، إن إيجابا أو سلبا، أي دلالته السابقة.
ومن أنواع التأثيل المضموني أيضا "التأثيل الاستعمالي" وهو لجوء الفيلسوف إلى الاستعمال السابق للمفهوم، وهو أمر لم ينتبه إليه البلاغيون برغم اهتمامهم بتأثير القرائن السياقية والمقامية في الكلام. وضرب طه أمثلة كثيرة للتأثيل الاستعمالي مثبتا حاجة الفيلسوف إلى تأثيل مفاهيمه بواسطة سابق الاستعمالات، مما يفيده في توسيع أفق المفهوم الاستشكالي؛ إذ تحمل هذه الاستعمالات السياقية والمقامية الفيلسوف على تعميق النظر في مفهومه وتنويع وجوه مقاربته.
ويعتبر التأثيل النقلي آخر أنواع التأثيل المفهومي، وهو وضع الفيلسوف لمفاهيمه واستثمارها بناء على الدلالات والاستعمالات الحسية، ناقلا لها من دائرة المحسوس إلى دائرة المعقول([21]). ومن أمثلة التأثيل النقلي للمفاهيم أمهات مفاهيم منهج الفلسفة نحو "النظر" و"التأمل"؛ فهناك نظر بعين الرأس، ونظر معقول وهو نظر بعين القلب. وتأمل محسوس وهو تشديد النظر إلى الشيء، وتأمل معقول وهو إعادة النظر في الشيء.
وجماع القول في التأثيل المضموني، أنه الأصل في التمكن الاستشكالي للمفهوم؛ إذ يوفر له أسباب الاتساع والامتداد سواء وضع أصلا في لغته أو نقل عن غيرها، وهذا ما يسمح للمفهوم بالتحرر من اتباعيته الاستشكالية وتبعية الفلسفة للغة المنقول إليها.
ثانيا: أما العناصر التأثيلية البنيوية فهي: جملة المضمرات العلاقية التي تتأصل بها الإمكانات الاستدلالية للمفهوم([22])؛ أي أن هذا النوع من التأثيل يعمل على توسيع الأفق الاستدلالي للمفهوم بناء على إدماجه في علاقات تمتد جذورها في التداول الذي يختص بالفيلسوف.
وينقسم التأثيل المضموني إلى ثلاثة أقسام هي: التأثيل الاشتقاقي والتأثيل التقابلي والتأثيل الاحتقالي أو الحقلي:
أ ـ فالتأثيل الاشتقاقي هو الاستناد في بيان المدلول الاصطلاحي للمفهوم الفلسفي إلى المضمرات اللازمة عن صيغتها الصرفية، بما يجعله مستوفيا لشروط التداول اللغوي للمشتغلين به وينمي قوته الاستدلالية على مقتضى التشقيق. ومعلوم أن الدلالة الاشتقاقية هي جملة الإشارات المضمرة التي تستمد من الصيغ الصرفية التي تبنى بها الألفاظ. ويتميز الاشتقاق في اللغة العربية الذي يعتمد الأوزان عن غيره من الألسن الفلسفية الأخرى المعتمدة على الزيادات. ويبقى الجهاز الاشتقاقي لكل لغة متضمنا جملة من المعاني والعلاقات الأصلية التي تميز كل لغة عن الأخرى([23]).
ب ـ وأما التأثيل التقابلي فهو الاستناد في بيان المدلول الاصطلاحي للمفهوم الفلسفي إلى المضمرات غير المباشرة اللازمة عن توسط نظائره، أضدادا كانت أو أمثالا، توسطا يقوم بشرائط التداول اللغوي والمعرفي للمشتغلين به، وينمي قوته الاستدلالية التشقيقية([24]). ويحقق التأثيل التقابلي للفيلسوف أغراضا استدلالية كثيرة، كرفع التعارض وتحقيق الاتساق ودفع الاعتراض بممارسة النقد وتحقيق المخالفة للجمهور والفلاسفة.
ج ـ وأما التأثيل الاحتقالي، وهو مأخوذ من الحقل أي البقعة المزروعة، ومما له علاقة بالإثمار والإنتاج، فيقصد به طه تزويد المفهوم الفلسفي بحقل مفهومي يضرب نطاقا على مفاهيم مخصوصة ينتج بعضها من بعض بعلاقات استدلالية مضمرة تنمو على مقتضى شرط التداول المعرفي للمشتغلين بهذا المفهوم([25]). فلا بد لكل مفهوم أن يتخذ له حقلا من المفاهيم، وألا يخرج عن كونه مفهوما. فالاحتقال إذن شرط في المفهومية التي تتحقق من خلال الاستفهام عن المفهوم الفلسفي نفسه! وميز طه بين الحقل المفهومي عند اللسانيين المعاصرين، والحقل المفهومي عند الفلاسفة المبدعين، واعتبر أن الفيلسوف الذي لا يؤثل مفاهيمه لن تكون فلسفته إلا مضطربة المفهوم ونابية المضمون، ومستكرهة عند السامع، أو بالعبارة العربية لن تكون إلاَّ فلسفة قلقة؛ وقلق القول من قلق القائل! ثم إن مفاهيم غير مؤثلة لن تكون إلا مجتثة ثم متحيزة.
إن الاجتهاد في تأسيس فقه تأثيل المفاهيم عند طه عبد الرحمن يستمده قوته الإبداعية من مفهوم التأثيل ذاته الذي يقترن مدلوله بمدلول "الشجرة"، فالتأثيل لغة هو أن يجعل للشيء أصلا ثابتا يبنى عليه، و«الأثل شجر مستقيم، باسق، طويل العمر، جيد الخشب»، والكلام أشبه بالشجرة([26])، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ( [إبراهيم: 24]، فالتأثيل إذن، يفيد الاستقامة والعلو والدوام، كما يفيد معنى الثبات.
ولاحظ طه أن غياب منهج التأثيل عن التجربة الفلسفية العربية سبب لها آفات الاجتثاث والجمود والتقليد والتحيز. وقد لا يريد المتفلسف هذا الاجتثاث ولا يقول به، ومع ذلك تجده يعترض على التأثيل ويأباه. ودفع طه الاعتراضات الممكنة على فقه تأثيل المفاهيم كما يقترحه، كالاعتراض البلاغي كما ورد عند الكاتب والبلاغي المعاصر "جان بولهان"([27])، والاعتراض الفلسفي كما هو عند فيلسوف العلم "جيل غاستون غرانجي"([28]). أما الاعتراض التواصلي الكبير فيسميه طه اعتراض الاعتراضات، ولم يرجع فيه إلى كاتب بعينه أو إلى مفكر بعينه، وإنما استنبطه من عموم الممارسة الفلسفية([29]).
وفي المقابل يؤكد طه أن الفلسفة الغربية مؤثلة وراسخة ومتمكنة؛ إذ نشأت عن قرائح الغرب، وتوسلوا فيها بأسباب ضاربة في مجالاتهم التداولية المختلفة. ولهذا انتقد فلاسفة الإسلام الذين ذهلوا عن أهمية التأثيل اللغوي، مما سبب للفلسفة الإسلامية حالة عدم استقلال في المسار الفكري، وكذا إبداع إشكالات واستدلالات خاصة بها.
ولإثبات الميزة التأثيلية في الفلسفة الغربية تناول طه مواقف بعض فلاسفة الغرب من التأثيل اللغوي؛ فوقف مع أفلاطون ومساءلته للتأثيل، وقدم أمثلة عديدة على ذلك، كرأس مفاهيمه الفلسفية ألا وهو مفهوم "الماهية"، ومفهوم "المثال" ومفهوم "الوضع"([30])، وخلص إلى أن ميلاد الفلسفة الصناعية اقترن بالسؤال التأثيلي الصريح. وما كان الوعي بالحاجة إلى هذا السؤال ليتحقق لو لم تتقدمه ممارسة واسعة للتأثيل، جعلها تواجه صعوبات وآفات أصبحت معها إثارة السؤال بصددها أمرا ضروريا، فأبى أفلاطون أن ينهض بهذا السؤال عن التأثيل من غير أن يتوسل فيه بأسباب التأثيل، من خلال النظر طويلا في العلاقة بين اللفظ ومدلوله هل هي طبيعية أو اصطلاحية خصوصا في محاورته "قيراطيلوس"([31]).
واتخذ طه ديكارت نموذجا لعرض الممارسة التأثيلية في الفلسفة الحديثة. فديكارت يعتبر التأثيل لازما ومشروعا ومقبولا، وينبه بصريح العبارة إلى أنه سيستعمل مفاهيمه الفلسفية في معان غير المعاني التي صارت تدل بها عند معاصريه، متوسلا في ذلك بمدلولاتها الأصلية في اللغة اللاتينية، فينشئ خطابا ملتئما ظاهره عبارة واضحة وحقيقته إشارة خفية. ومثل طه بتأثيل ديكارت لمفاهيم "الحدس" و"الوضوح" و"الحقيقة"([32])، بما يبرز استثماره المكثف للمعاني اللغوية لمفاهيمه الفلسفية، ويثبت أن ميلاد الفلسفة الحديثة قد اقترن بالعمل التأثيلي الصريح.
وأما موقف فلاسفة الإسلام من التأثيل اللغوي فقد اختلف باختلاف الأطوار التي تقلب فيها المفهوم الفلسفي العربي، وهي أربعة:
أ ـ طور النشوء، ويمثله كتاب "رسالة في الحدود" لجابر بن حيان، و"رسالة في الحدود والرسوم" للكندي.
ب ـ طور التجديد، ويمثله كتاب "الحروف" للفارابي، و"مفتاح العلوم" للخوارزمي الكاتب([33])، و"رسالة في الحدود" لابن سينا، و"المقابسات" للتوحيدي.
ج ـ طور الاستقرار، وتمثله كتب الغزالي المنطقية: "معيار العلم" و" محك النظر" و"القسطاس المستقيم"، وأيضا تفاسير وشروح وتلاخيص ابن رشد وكتاب "المبني" للآمدي.
د ـ طور الاستقصاء، ويمثله كتاب "التعريفات" للشريف الجرجاني، و"الكليات" لأبي البقاء، و"كشاف اصطلاحات الفنون" للتهانوي.
وعلى العموم، فقد انعدم الوعي العميق بالتأثيل في المفهوم الفلسفي العربي، برغم إقرار فلاسفة الإسلام العمل بهذا التأثيل في مستوى الاصطلاح على المفهوم الفلسفي، أو قل الاختراع، إلا أنهم أنكروا الأخذ به في مستوى استثماره في سياق الخطاب الفلسفي([34])، فأخطأوا الإنتاج الجديد والعطاء الصحيح، وفوتوا على أنفسهم التحقق بالإشارية الأجنبية، وكذلك استثمار الإشارية العربية([35]). وظلت المناسبة الدلالية بين المدلولين الاصطلاحي واللغوي قلقة ومانعة من النهوض بالمفهوم العربي ووصله بمقتضيات مجاله التداولي، في حين كانت هذه المناسبة هي أهم الأبعاد وأخطرها مما تتلابس به قضية المصطلحات في أسسها النظرية وأبعادها المعرفية والإدراكية([36])؛ ذلك أن العلاقة بين المدلول الاصطلاحي والمدلول اللغوي فيه، أو المناسبة الدلالية، ظلت قلقة مما منع النهوض بهذا المفهوم نهوضا موصولا بمقتضيات التداول العربي.
وقوم طه المفهوم الفلسفي العربي من جهة افتقاده للتأثيل، كما انتقد مستنده النظري التجزيئي في الوض
تاريخ النشر : 29-03-2008
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.