عندما يُعرّف علماء أصول الفقه «الحُكْم» يقولون إنه خطاب الله المتعلق بأعمال المكلَّفين. وهكذا فالذي يُهمُّ الأصوليين والفقهاء إنما هو الجانب التشريعي إذا صح التعبير. بيد أن الخطاب القرآني هو أعمُّ بكثير من الجانب التشريعي، فهو يعرض معارفَ ومشاهد وإنشاء وأخباراً وقصصاً وأوامرَ ونواهي، تتعلق كلها بالإنسان وعالَمه تاريخاً وتجارب ومصائر، وعلائقه بالله عزّ وجلّ، ورُسُلِه، وعلائقه برُصفائه من البشر، وأدواره في كل ذلك، وكيف تؤثر عليه في حياته في الدارَين. وهذا ما يُعبَّر عنه في المصطلح الحديث برؤية العالَم.
فالخطاب القرآني إذاً، بل كل خطاب Discourse إنما يمثل رؤية للعالَم، وعلى أساسٍ من تلك الرؤية تصدر الأحكام الكلية والتفصيلية. فما هي إذاً «رؤية العالَم» التي ينطلقُ منها المسلمُ داعيةً وغير داعية، فينتج منها تحديد معيَّن للقضايا والمشكلات، ويصير المسلم الى اختيار الأساليب لمعالجتها أو مواجهتها؟!
الانطباع الأول الذي نشأ لدى فئة من المسلمين على مشارف الأزمنة الحديثة عن المشكلة التي تواجههم أنها دينية بحتة أو بالدرجة الأولى، وكان ذلك انطباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب. وقد عمد الى مواجهة هذا الانحراف الديني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستخدم في ذلك اللسان واليد وقوة السلطة.
أما الانطباع الثاني، وبعد مئة عام على الأول، فهو أن الدين بخير، وإنما المشكلة في فقد المسلمين السيطرة على دُنياهم. ولذلك كان لا بد من إصلاح الدنيا بالأساليب التي لجأ إليها أولئك الذين سيطروا عليهم. ثم لاحظوا أن رجالات الإسلام أو الدعوة الدينية لا يندفعون في سياق الإصلاح الدنيوي، فاستنتجوا أنه لا بد من إصلاح ديني أيضاً، من طريق تزويد الدُعاة وغيرهم بالمعارف الدنيوية الضرورية للانخراط في المشروع الإصلاحي العام.
وجاء الانطباع الثالث في حقبة ما بين الحربين واستمر بعدها. ومفاده أن الخلَل ديني ودنيوي معاً. أو أن عدم النجاح في الإصلاح الدنيوي عِلّته أمران دينيان: خروج الإسلام بالتدريج من حياة المسلمين، وهجمة العالَم المُعادي لهم على دينهم ودُنياهم.
والانطباع الرابع والأخير قِوامه تصوران متناقضان مفادهما أن جاهلية كافرة تسيطرُ على العالم، وتخترق حياة المسلمين وعقائدهم. وأن هناك في الوقت نفسه صليبية ويهودية قويتين وطاغيتين هاجمتين على المسلمين بالتبشير وبالاستعمار العسكري والاستيطاني والثقافي والقيمي.
ولا يزال الانطباعان الثالث والرابع مفترقين تارة ومقترنين تارة أخرى، يسيطران في العُمق على الخطاب الدَعَوي الإسلامي المُعاصر.
ويواجه الخطاب الدعوي المعاصر المشكلة الكبرى استناداً الى هذا الإدراك بأحد ثلاثة أساليب:
الأول: الخطاب الجهادي والممارسة الجهادية في الداخل والخارج. وهو يُغلِّب اعتبارات العنف الكلامي والعملي على رغم إيمانه بحديث المنازل الثلاث (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، ليس لاعتقاده الاستطاعة وحسب، بل ولخوفه من المعصية. ذلك أن الفساد المنتشر في العالم وفي حياة المسلمين، لا يكفي فيه للخروج عن المسؤولية الطاعة الشخصية والإنكار بالقلب واللسان، بل إن المُجاهدة والتي قد لا تؤدي الى غير الشهادة، ضرورية لتجنُّب المعصية الناجمة عن القعود.
والأسلوب الثاني: خطاب الابتعاد عن الشرور، واتباع الأوامر والنواهي، والحياة الصالحة في شكل فردي، خطاب: «لا يضُرُّكُم مَن ضَلَّ إذا اهتديتم». وهو الخطاب السائد في أوساط واسعة، وبخاصة لدى العامة، وذوي المزاج الصوفي.
والأسلوب الثالث وهو جديد نسبياً يتّبع استراتيجية إغراء الناس بالعودة الى الإسلام الذي غادروه، من طريق التخفيف من هَول فكرة الحرام، ومن طريق تسهيل طريق الحلال والمُباح – وأحياناً الإغراء بالنجاح الدنيوي، إذا جرى تنفيذ الأوامر، واجتناب النواهي. ويكتسب هذا الخطاب بالتدريج أنصاراً كُثراً لقوته في وسائل الإعلام الجديدة، وظهور دُعاة أتقنوا لغة الإعلام ومناحي المخاطبة التي تمسُّ شغاف القلب.
وقد يقول قائل بعد هذا العرض الموجز، وأين المشكلة في الأسلوبين الثاني والثالث؟ وأرى أن المشكلة تبقى في أساس الرؤية للعالم، وهي رؤية سوداوية ومسدودة الأفق، ولذا فإن الاحتمال يبقى قوياً في أن تنتصر الجهادية الانتحارية والمدمِّرة في النهاية على خطابي العُزلة والتسهيل في أقوال المدعوين وممارساتهم أو قسم كبير منهم.
ولذا لا بد لكي يسود انسجام نسبي بين المثال والواقع، أن تتغير رؤية العالَم لدى إنساننا. إذ ليست هناك مشكلة دينية بين المسلمين في الداخل، ولا في علاقتهم بالعالم. وتكون البداية بإقبال الدعاة على أمرين: الدعوة لبناء الدين، وفي موازاة ذلك إسقاط سوء الظن بالعالَم الآخر. وهذا يتطلب بالطبع دعاة يعرفون الموروث الإسلامي جيداً، ويعرفون العالم الى حد مقبول.
على أن المقولتين: مقولة عدم وجود الخطر على الدين، ومقولة تأهل الداعية للدعوة لبناء الدين، ينبغي ألاّ تُقبلا على عِلاّتهما أو بتبسيط غير مستحب. إذ يستطيع المسلمون الحساسون أن يتحدثوا عن مظاهر العداء للإسلام في أوروبا أو في غيرها. وقصة الصور الكاريكاتورية في الدنمارك أو الفيلم الهولندي، ظواهر تدل على ذلك. ففي كلتا الحالتين تجاوز الأمر أشخاص المسلمين الى رموز إسلامية بارزة. وما أعنيه بعدم وجود الخطر على الدين أن في الإسلام صحوة وامتداداً، وهاتان الظاهرتان: الصحوة والامتداد، هما اللتان أثارتا بعض المخاوف. فالنجاح الإسلامي – إذا صح التعبير – أيقظ بعض الإحساسات بالخطر لدى الآخرين، وليس الفشل. وما أعنيه أيضاً أن المناعة الدنيوية في الاقتصاد والسياسة، هي التي تسمح بمواجهة بعض الظواهر الهامشية. فالإسلام ليس في خطر، لكن لأن دنيا المسلمين ليست بخير، فإن التراجع الدنيوي، يدفع الآخرين لمحاولة إيقاف تقدم الدين، كما أوقفوا الدنيا. فالدين غير مستهدف في الحقيقة، بل المستهدف الدنيا، والتي ينبغي العمل على بنائها وتحصينها وتنميتها.
والأمر الآخر على رغم أنه يبدو تقنياً مهم وخطير، وأعني تأهل الداعية للعملين الدنيوي والديني في العالم. فالواقع أن الداعية المسلم ما اهتم طوال الخمسين سنة الماضية بمعرفة العالم، بل غلب عليه الشك فيه، وآثر جهله ومعاداته. وليس المطلوب من الداعية الآن أن يترك مهماته الدينية، لينصرف الى الشؤون الدنيوية، بل المطلوب أن يعرف العصر معرفة مقبولة للتنمية والتلاؤم بدلاً من الاستسلام للتمرد المستمر. والموضوع طويل، لكننا نعرف أن الجيل الحديث الأول من العلماء كان يملك معرفة جيدة بالعالم.
(*) ألقيت في ندوة «الخطاب الدعَوي» في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) في الرياض، في 15/3/2008
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.