يُسَرُّ المرء لرؤية الكتاب و يفرح لاقتنائه ويسعد بمطالعته، ذلك أن في استصحاب الكتاب توسعة للذات تنمو بها الشخصية وتنفتح بها آفاق الوعي وتستيقظ بها الإرادة. بالكتاب المبدع يمتدّ العمر مديدا - عُمرُ المبدِع وعُمر القارئ- فترتقي الحياة مزهوّة بالتنوّع وبالنَسَغ المتخلِق فيها روحا وذكاء وحركة.
هذا هو شأن الكتاب في كل حضارة فما بالك بالحضارة التي انبعثت أساسا من " كتاب".
أمّا في الواقع فقد عاش الكتاب عندنا في بلاد "المغارب" وضعا يختلف عما درج عليه المشرق، هو هنا قطعٌ نادرٌ و متاع سريع العطب. تعرّض في الماضي إلى الحرق والإتلاف فضلا عمّا طغى لدى العلماء طوال القرون من سنّة الرواية الشفوية المشدِّدة على الحفظ أكثر من أيّ سعي إلى الإضافة بالكتابة و الإبداع بالتأليف. لذلك سادت بين المتأخرين من المغاربة قولة : "من ألّف فقد استُهدِف" توقيّا من الكتاب الجديد المؤدي إلى النقد والتقويم.
في تونس الحديثة كان للكتاب العربي المبدع تاريخٌ خاص يختلف في بعض مناحيه عمّا عرفه في الجهات المغاربيّة الأخرى. في البلد الذي أنجب ابن خلدون كان على المؤلف منذ أجيال أن يواجه حالة عجيبة من الزهد في التأليف والتفكير. ذلك ما جعل أحد الروّاد ينشر كتبه ضمن مجموعة "تحريك السواكن" بينما اختار آخر للنشر سلسلة " البعث" أملاً منهما في الحركة والإحياء. يضاف إلى ذلك ما استقرّ لدى بعض النخب التونسية من اعتقاد راسخ أن الكتابة الجادّة والحديثة لا تكون إلاّ بالفرنسية أمّا العربيّة فقد حسبوها لغة إسهاب لفظي و قصور فكري.
لذلك كان حرص عدد متزايد من المثقفين اليوم في هذا القطر على النشر بالعربية انعطافا تاريخيا حريّا بالاهتمام. ذاك صنيعٌ أقدمت عليه نخب من الرجال والنساء اعتبروا أن مراجعاتهم الفكرية و قراءاتهم للتراث والتاريخ و تقويمهم للمؤسسات و التوجهات الكبرى ينبغي أن تكون بالعربيّة.
ضمن هذا المسعى يتنزّل أحدث كتاب للمؤرخ والمفكر محمد الطالبي :" ليطمئن قلبي" الذي عالج فيه مسألة الإيمان ومقتضياته المعاصرة. اختار الكاتب أن يكشف عن تجربته الفكرية والذاتية في ضوء تحديين: أحدهما داخلي يمثّله المثقفون " المدّلسون، المتقنّعون بقناع الإسلام" والثاني خارجي هو " الغرب المسيحي" الذي ليس له غاية سوى " القضاء على الإسلام".
ينطلق الكتاب من اعتبار الإيمان انعتاقا للإرادة، هو شهادةٌ على العصر ومشاغله وتحدياته. هذا ما جعل المؤلف يباشر موضوعه من عدّة زوايا. هو وصيّة ٌ تختزل مسيرته في دروب الحياة وأوعارها و هو تكريم لابن خلدون" رائد الحداثة"، و هو فوق هذا وذاك مكاشفةٌ فيها تبيان لمسالك الإيمان والسعي إلى الحقيقة.
السؤال الذي يطرح نفسه هو : ما هي ضرورة الربط بين هذه المجالات الثلاثة و مجال رابع فيه "ردّ قاطع" على من لا يشاطره من الباحثين المعاصرين رؤيته في التعامل مع النص الديني؟
الواضح أن مواجهة " الإنسلاخسلاميين" أو المؤسسين للحداثة على أساس القطع مع الإسلام بعدٌ أساس في مشروع " ليطمئن قلبي".
هنا تبرز أهم مفارقات هذا الكتاب الهامّ، ذلك أن من يهدف تجلية الهمّ الإيماني باعتباره أرقى تعبير عن حريّة الضمير ملتزما في ذات الوقت بمقاربة حداثية، لا بد أن ينأى بنفسه عن كلّ تشهير يذكّر بعقم ما في تراثنا من عناوين منسوجة على نسق " فضائح الباطنية" للغزالي.
كيف يمكن الإخلال بأخلاقيات الحوار في كتاب ذي مشروع فكريّ وضعه صاحبه وصيّةً تستشرف جيلا يُصلح ما أفسدته أجيال ؟
بعض المؤاخذات الواردة في الكتاب الموجّهة خاصة إلى عبد المجيد الشرفي تذكرك بما كتبه السيوطي في الإتقان حين تناول شروط مفسر القرآن وآدابه في القرن التاسع الهجري. قال صاحب الإتقان :" اعلم أن من شرطه[المفسٍّر ] صحة الاعتقاد أوّلا ولزوم سنة الدين فإن كان مغموصا عليه في دينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين ثم لا يؤتمن في الدين على الإخبار عن عالم فكيف يؤتمن في الإخبار عن أسرار الله تعالى ولأنه لا يؤمن من أن كان متهمّا بالإلحاد أن يبغي الفتنة ويغرّ الناس بلينه وخداعه كدأب الباطنية وغلاة الرافضة....".
استعادة الطالبي لهذا الخطاب في عصرنا إقرار بمنطق " الفرقة الناجية" في ذات الوقت الذي يقول فيه : " إننا لسنا في حرب مع أحد من مخالفينا " و " طلب الحقيقة عينُ الحداثة وغايتُها" .
من المؤكد هنا أنّ مسألة الحداثة بحاجة إلى نقاش. ما أفهمه مثلا من الحداثة هو امتلاك علوم ومعارف حديثة و تمثّــل لآليات فهم ممنهج و تحليل موضوعي. هذا هو شرطُها اللازم أما شرطها الكافي فهو العمل من أجل إرساء صراع سلمي وتاريخي تتعايش فيه تعددية للأفكار والتقاليد وتنمو فيه رؤى مختلفة في فهم الماضي والتموقع في الحاضر. بهذا المعنى فإن أهمّ ما في الحداثة هو أنّها ليست أمراً معطى ومكسبا نهائيا بل حراك وجدل متواصلان في الفكر والواقع.
من ثَم يكون السؤال: هل في هذا الموقف من " الإنسلاخسلاميين" ما يحقق ظروفا أفضل للحداثة بشرطيها اللازم والكافي أم أنه مزيد من التدابر والتشظّي بين النخب؟
المحرج في هذا الكتاب هو نفَس الإدانة المبثوث في أكثر من مقطع والذي ينقد جهودا لنخب عربية وأوروبية ومسيحية هي بحاجة إلى النقد لكن بغير هذه الصرامة المتعالية.
بعض ما ورد في كتاب الطالبي غير مقبول رغم أنه مفهوم.
هو غير مقبول من الذين تابعوا دراسات الطالبي في التاريخ الوسيط و تجديد الفكر الإسلامي لكونهم يدركون ما يعنيه الرهان الذي تأسست عليه الجامعة التونسية والتي كان هو أحد ركائزها. أليس عبد المجيد الشرفي وتلاميذه من نتاج ذلك الاختيار القائم على تكوين في الإنسانيات بمناهج حديثة لا تسعى في بحوثها إلاّ إلى التحقيق والموضوعية ؟ ما انتهى إليه الطالبي مثلا في بحثين أحدهما عن ضرب المرأة في الخطاب القرآني و الثاني في مسألة " النشوء والارتقاء " في الفكر الإسلامي عامة و مقدمة ابن خلدون خاصة نموذجان لتبحّر علميّ وتميّز في المعالجة وجرأة في الاستنتاج. لكن أليست تلك الأعمال وليدة ذلك الرهان بكل ما يحتمله من تعدد في النتائج. فهل هناك من معنى لمواجهة آراء المخالفين من ذات المدرسة من مدخل الإيمان والتجريم ؟
لكن الحرقة التي تتسم بها بعض فقرات الطالبي مفهومة.
إن ما ينشر في تونس وخارجها باسم المعاصرة والموضوعية و إضافة عبقرية المحدث إلى فذاذة الموروث بحاجة إلى نقاش هادئ و صريح.
إنّه النقاش الضروري في معنى المعاصرة و في وسائطها و في غائيتها.
تقوم المعاصرة على معارف جديدة ومناهج حديثة، تلك هي وسائلها. لكن القصدَ من ذلك إعادةُ بناء المنظومة المعرفية والثقافية القديمة بشكل يجعلها قادرة على إنتاج متناسب مع مقتضيات العصر. للمعاصرة غايةٌ هي بناء معرفة متسقة تتجاوز النسيج المعرفي السابق من حيث التمكّن والراهنية من خلال القدرات الكامنة في الفكر والشخصية الذاتيين. من ثم تصبح المعاصرة حركة جدل بين الداخل والخارج المعرفيين والثقافيين. أما حذق أفنان المعرفة الحديثة و الاطلاع على إنتاج الفكر الكوني إطلاعاً مباشراً دون تحديد غاية لكلّ ذلك فهو ضرب من العدمية المفزعة.
ما أفهمه من غضب الطالبي هو قول مخالفيه بحداثة واحدة ووحيدة. مثلُ هذا الطرح لا يُنهي التعطّل الذي حال بين الهوية الجماعية وبين مواكبة مقتضيات اللحظة التاريخية ولا يجعل الإبداعَ غايةً للمعاصرة، إنّه موقف قَبْلِيٌّ لا يرى للداخل الثقافي أية قدرة على تمثّل مستجدات المعرفة والواقع.
كأنّ الطالبي ضائق بهذا الاشتراط المتعسّف ضرورة التجرّد من كلّ مقدّس لتحقيق معاصرة تبلغ الأفق الحداثي.
لعلّه ذات الاحتراز الذي عبّر عنه هشام جعيط عندما رأى في المثقف العربي : "ثورة على العقلانية البدائية والذهنية المعادية للدين بصورة نسقية".
لكن رغم هذا فأنْ يضيق المفكّر والعالم ذرعا بهذا الزمان، و أن يفقد الأمل من المكان و من ناسه أمر يسيء إليه قبل غيره. إنّه إحباط لا يرسي حداثة مبدعة فضلا عن أنّه لا يكسب مصداقية لخطاب الإيمان القائم على الحريّة الواعية...
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.