آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

حوارات وشخصيات  .  

  •     

نعم: الحق أحق أن يتبع (بين الأستاذين الطالبي والشرفي)

أبو يعرب المرزوقي



تمهيد:
ليس من شك في أن "الحق أحق أن يُتبع". لكن هل من الحق أن نفسر الغضب الذي عبر عنه الأستاذ الطالبي في كتابه ليطمئن قلبي (دار سيراس للنشر تونس 2007) ولو تضمينا بأعراض الشيخوخة؟ وهل من الحق أن نعتبر المعركة الدائرة معركة بين ممثلي العلم والمرتدين إلى الخرافة ؟ لولا هذين السؤالين اللذين يزعجان كل قارئ موضوعي للكتاب ولرد الأستاذ الشرفي بعنوان الحق أحق أن يتبع (الصباح 23 مارس 2008) لبقيت على الحياد بين زميلين من اختصاص واحد كلاهما عرف بالتحول من تدريس اختصاصه إلى تدريس بعض أدواته. 
فالأستاذ محمد الطالبي مبرز ودكتور في الآداب العربية. لكنه عرف بتدريس التاريخ عامة وليس بتاريخ الأدب. والأستاذ عبد المجيد الشرفي مبرز ودكتور في الآداب العربية. لكنه عرف بتدريس اختصاص شبه نسبته إلى العلوم الإنسانية ذات مرة بنسبة الجغرافيا إلى العلوم الطبيعية. وهو يركز في دروسه وفي تأطير طلبته على الفكر الديني الإسلامي والديني المسيحي خاصة لأن رسالته كان موضوعها ذا صلة بالجدل الخصامي بين الفكرين في القرون الوسطى. 
ولن أتكلم في هذا التحول الملفت فضلا عن كونه ليس من الممتنعات عقلا. فقد سبق لي أن كتبت في المسألة. سأهتم اليوم بالجواب عن هذين السؤالين اللذين جلبا انتباهي لما قرأت رد الأستاذ الشرفي بعد أن قرأت ما يعنيني من كتاب الأستاذ الطالبي في متابعاتي للفكر الديني العربي الحديث: فهل كلام الطالبي يقبل التفسير بردة ضد الفكر العلمي لعلها من أعراض الشيخوخة وهل الخصومة من ثم هي خصومة بين ممثلي العلم وممثلي الخرافة والعقول الكسلى التي تبحث عن الاطمئنان وراحة البال جبنا أمام إقدام الفكر العلمي ؟ 

اعتراضات الأستاذ الطالبي ما طبيعتها ؟ 
لعل ما يبدو للوهلة الأولى مساعدا للضمير الذي ضمنه الأستاذ الشرفي رده هو النبرة الحادة في غضبة الأستاذ الطالبي وكلامه على معتقدات الأستاذ الشرفي. وهو أمر لست من محبذيه فضلا عن كون الاختلاف حول الحلول التي يقترحها لا يلغي أهمية القضايا التي يطرحها والتي ينبغي علاجها بهدوء وروية. وليس من شك في أن ذلك قد يعد تدخلا سافرا في ما لا يحق للأستاذ الطالبي أن يتدخل فيه إذا نظر إليه من زاوية حرية المعتقد بل وحتى حرية عدم الاعتقاد. 
لكن الأمر ليس هو كما يبدو للوهلة الأولى إلا لقارئ الكتاب المتحامل أو المتعجل في التهوين من أمر صاحبه الذي ليس من اليسير التهوين من فكره لما عرف به من صرامة وجدية. وقد بدا لي كلام الأستاذ الطالبي من علامات العقل الناضج حتى وإن طغى عليه شيء من حماس المؤمن المتألم مما وصفه في الكتاب من أعراض قل أن تتناسب مع المعرفة العلمية الجدية. ولعل حدة النبرة تضمر شيئا من الثورة على ما بدا لصاحب الكتاب من شبه عقوق لعله رآه في بعض طلبته. 
كما أني أعتبر الكثير من احترازات الأستاذ الطالبي عين العقل عندما يكون مدركا لحدوده -وهو أمر قل أن تصاحبه وثوقية الفرحين بما يتصورونه اكتشافات وهو أقرب إلى الكليشيهات وخاصة الآن في هذا الظرف-بدليل ما نبين ها هنا. فلو كان الأمر بالوجه الذي حاول الأستاذ الشرفي إفادته بالعبارة وبالإشارة لصح ما يقوله في رده الذي جاء بأسلوب المتكلم بنحن إلى حد جعلني وكأني أقرأ نصا فرنسيا لا عربيا حيث النحن هي ضمير المتكلم عندما يتواضع. 
فلا جدال أنه ليس من حق أي إنسان أن يحاكم معتقدات غيره إذا هو عبر عنها صراحة بوصفها معتقداته سواء في سيرته الذاتية أو في محاولة فكرية حرة لا يدعي لها صاحبها صفات البحث العلمي فضلا عن المباهاة بها وبصيتها الذي يبدو والله أعلم أنه قد عم الآفاق كما جاء في الرد. إنما المسألة هي بخلاف بادئ الرأي. وكل من قرأ الكتاب يشهد أن الأستاذ الطالبي كان أمينا في تعليل ما ألجأه للكلام في المعتقدات الشخصية لأنه نبه عديد المرات إلى أنه ما كان ليتكلم في معتقدات الأستاذ الشرفي لو كان صاحبها يعبر عنها بوصفها معتقداته أو بوصفها أمرا يعبر عنه في محاولات فكرية شخصية. 
إنما هو يفعل لأن صاحبها قد جعلها مادة لدرسه بل ولمضمون بعض الكتب المدرسية التي كانت تهدف إلى إصلاح برامج التعليم الزيتوني فضلا عن كونها برنامجا لتأطير الطلبة الباحثين الذين تكاثروا-بسبب ما يتميز به النظام الجامعي في بلاد العرب حيث تختلط السلطات فتزول الفواصل بين السلطة العلمية الحقيقية واستغلال النفوذ إلى أن يتحول التأطير بمقتضى هذا الخلط بين السلطات حكرا على من بيدهم الحل والعقد في السلطان الجامعي التابع لأشكال الجاه فيكون الطالب مضطرا للبحث مع زيد بدل عمر بما تفرضه ضرورات لقمة العيش انتدابا وترقية وجاها- بل هو جعلها فلسفة دين يدعي أصحابها أنهم يتوخون فيها المناهج العلمية الحديثة ويبشرون بها معتبرين إياها عين العقل الذي يتميزون به عمن يبحث عن الاطمئنان وراحة البال تعريضا بعنوان الكتاب. 
إستراتيجية الأستاذ الشرفي في الرد
الغريب أن الأستاذ الشرفي يبدو في رده-وليس يحق لي أن أعتبر ذلك تقية وإذن فهو عندي قد قصد ما قال- موافقا على أمر يوجب عليه أن يعطي للأستاذ الطالبي كامل الحق في كل ما قال في أعماله بمقتضى مسلمته التالية التي يباهي بكونه ينصح بها طلبته دائما. فهو يصرح في رده إلى أنه لم ينفك يقول لطلبته بأن للبحث في الدين ثلاث مستويات:
1-مستوى المصدر نفسه أي في هذه الحالة القرآن الكريم والوحي النبوي.
2-ومستوى إيمان الفرد إيجابا وسلبا للقول بمبدأ هو من جوهر الإسلام أعني حرية العقد.
3-ومستوى الدراسات التي يحاول بها العلماء فهم المستوى الأول أعني مستوى الاجتهادات التي تقبل المراجعة الدائمة لأنها جهد إنساني: كالتفسير والكلام والفقه وأصوله إلخ... 
ورغم أني لا أفهم كيف يستطيع المرء أن يدعي أن العلم يقبل بالفصل بين هذه المستويات ليستثني أهمها فإني قد فهمت أنه يستثني المستوى الأول والمستوى الثاني من البحث العلمي ليبقي ما يقرب مما كان موضوع رسالته أعني الخصومات حول جوهر الدين الذي يبقى من المقدس المتعالي الذي يتركه العلم وحاله. فهذه القاعدة التي ينصح بها طلبته إن صح أنها قاعدة فاعلة فإنها تعني أن بحثه العلمي في الديني مقصور على ما كتبه البشر حول المستوى الأول فهما وتأويلا دون المساس بالمصدر ذاته الذي يعتبره فوق البحث العلمي دون أن يقول لنا بأي معنى. 
فهل معنى ذلك أن بحوث الأستاذ الشرفي لا تتكلم في طبيعة الوحي وفي الحقيقة الدينية مثلا إلخ.. أعني في ما وصفه الأستاذ الطالبي في كتابه ونسبه إليه؟ ورغم أني أعجب من هذا الكلام الذي لا يبقي للبحث العلمي في الدين بل وحتى للفكر الديني شيئا يذكر فإني سآخذ ذلك على أنه كذلك لأنه ليس لي سبب لتجاوز ما يقوله صاحب الرد وأسأل: لو صح أن الأستاذ الشرفي يعمل بهذه القاعدة ويسلم بهذا الاستثناء فإنه يكون قد وافق على حق الأستاذ الطالبي في الاعتراض عليه بمقتضاه مبينا أنه لم يلتزم بها رغم أن الأستاذ الطالبي لم يشترط هذا الشرط في نقده على حد ما فهمت. 
ذلك أن الأستاذ الطالبي لم يسلم بهذه القاعدة ولم يؤسس عليها نقده. وإذن فهو لا يستثني من البحث العلمي المستويين الآخرين اللذين استثناهما الأستاذ الشرفي بل اقتصر على استثناء مواقف الباحث منهما من التحول إلى تبشير بالمواقف الشخصية التي تتحكم فيهما وزعمها معرفة علمية لتمريرها باسم العلم: وشتان بين الأمرين. وهذا الاستثناء المتعلق بالتبشير وادعاء الإصلاح معقول إذ حتى المستشرقين الذين لم يحولوا محاولاتهم إلى أدوات تبشير يقبلون بهذا الاستثناء. وغالبا ما يتهمون لعسر التمييز بين الأمرين حتى ممن لا ينكر بعض إنجازاتهم العلمية. لذلك فإني أفهمه بخلاف الاستثناء الذي يدعيه الأستاذ الشرفي. فيمكن للعالم الوضعي أن يبحث في كل وجوه الدين لكنه يرفع الحكم فضلا عن الفعل في صلتها بالعقد كما يفعل الاتنولوجي الذي يدرس الأسطورة من حيث بنيتها الخطابية شكلا ومضمونا مع رفع الحكم بخصوص عقائد أصحابها فيها.
وباستطراد عرضي أتساءل عن العلة التي تجعل جل المفكرين العرب يتبنون التقسيم الثلاثي غير الطبيعي في جميع تحليلاتهم. فالعقل يقتضي ضرورة أن نعلل كل تجاوز للقسمة الثنائية الدائرة بين النفي والإثبات: أعني ما يسمى بطريقة السبر والتقسيم. فالقسمة الوحيدة الغنية عن التعليل هي القسمة المترددة بين النفي والإثبات. أما ما عداها فينبغي تعليل الحاجة إلى تجاوز التردد بينهما وتعليل الوقوف عند عدد محدد أي لم هو كذلك ؟ ولم الوقوف عنده أي لم هو لا أكثر ولا أقل ؟ كذلك يفعل أي مفكر يستعمل طريقة السبر والتقسيم بعد القسمة الثنائية كما فعل كنط في جدول المقولات عندما أضاف القضايا المعدولة وكما فعل بيرس مثلا في تعليل نظرية المقولات والرمز. فهل يكون ذلك من بقايا المسيحية الصريحة في الجدل الهيجلي والخفية بتوسط علمنتها في الجدل الماركسي؟ 
ولست ممن يسلم بالقسمة الثلاثية إلا إذا اقتضتها الضرورة لما نبين من العلل بالنسبة إلى هذه الحالة. فقد كان ينبغي كذلك أن يتكلم الأستاذ الشرفي على مستوى رابع هو الدراسات العلمية حول المستوى الثاني أعني إيمان الأشخاص. فلا يمكن أن نتكلم على فكر ديني حديث أو قديم من دون جعل مسألة الضمير الديني والإيمان الموضوع الأول فيه. ولعل الأستاذ الشرفي قد غفل عن ذلك لظنه هذه المسألة متعلقة بخيارات الأشخاص الإيمانية قياسا على أحكام الأشخاص الذوقية. لعله لم ينتبه إلى أن الطابع الشخصي للحكم الذوقي لم يمنع الفكر الفلسفي من جعل الذوق مادة للمعرفة كما في النظريات التي موضوعها الذوق الجمالي. 
وكذلك ينبغي أن يكون الشأن بالنسبة إلى الذوق الديني. فالخيارات شخصية من حيث الخيار العيني للأفراد. لكن التدين والضمير الديني قابلان للمعرفة ولا يخرجان عن البحث العلمي حول النظريات التي موضوعها الذوق الوجداني: فشتان بين أن تفهم كيف يعمل الضمير الديني أو الخلقي وبين أن يختار أحد الناس موقفا شخصيا من مسألة معينة في حياته العينية كشخص معين. ويمكن القول إن أعمق محاولات الفكر الديني المعاصر تدور حول هذا الموضوع من كيركوجارد إلى هيدجر مرورا بكل الوجوديات ما آمن منها وما ألحد.
كما كان ينبغي أن يكلمنا الأستاذ الشرفي على مستوى خامس هو مستوى تمييز هذه المستويات الأربعة الأولى والفصل بينها بمعايير واضحة أو على الأقل بعلامات مفهومة ومحققة للتفاهم. وهذا المستوى لا يمكن أن يكون واحدا من المستويات الأربعة لأنه عندئذ يكون قاضيا ومتقاضيا. ولا نستطيع تجاوز هذه المستويات الخمسة إلا بالخروج منها إلى النظر فيها من خارجها وتلك هي غاية المستوى الخامس عندما يصبح ما بعدا للفكر الديني غايته التي يمكن أن تكون التساؤل عن صلة المعرفة الدينية بالسؤال الفلسفي الجذري حول نظرية الوجود والمعرفة والقيمة: 1-فعلم المصدر 2-وعلم الإيمان 3-والمعارف السابقة 4-وعلم هذه معارف السابقة (=أي ما حصر فيه الأستاذ الشرفي البحث الديني إذا قبلنا ما يقول في رده) 5-وعلم التمييز بينها ببيان حدودها المشتركة وطبيعة علاقاتها بعضها بالبعض وأصولها في ما كان قد جعل الفلاسفة يقدمون أحيانا على تسمية ما بعد الطبيعة بالإلهيات أو الثيولوجيا.

مناط الخلاف بين الأستاذين ما هو؟
لولا وجود هذا المستوى الخامس وخاصة غايته لما وجدت الخصومة بين الأستاذين أصلا. فالخلاف بينهما ليس هو في أن يكون المرء مع العلاج العلمي أو ضده في أي من المستويات الثلاثة التي ميز بينها الأستاذ الشرفي وحتى في ما بينا ضرورة إضافته أعني المستويين الأخيرين. فلا أحد ممن يعرف الرجلين يمكن أن يصدق أن الأستاذ الشرفي أدرى بالعلم -أي علم من العلوم التي يتوسلانها في مجالهما المشترك-أدرى به من الأستاذ الطالبي أو أكثر التصاقا بالصرامة المنهجية في مؤلفاتهما حتى لو سلمنا بأن الأستاذ الطالبي راجع بعد سن الخمسين مواقفه في بعض المسائل الدينية: فذلك ليس نقيصة بل هو فضيلة لأنه على الأقل من منظوره رجوع إلى الحق "والحق أحق أن يتبع" بنص صاحب الرد. إنما كلام الأستاذ الطالبي يدور حول ثلاثة أمور:
أولا حول ما يقبل من هذه المستويات وما لا يقبل المعرفة العلمية أو حول درجة الانتساب إلى المعرفة العلمية إن صح أنها جميعا قابلة للعلم. وهذا مستوى معرفي يكون فيه الأكثر حذرا أقرب إلى العلم من المقدام بدون مكابح وخاصة الآن بعد أن أدركت الإنسانية مآل العقلانية الأصولية.
وهو ثانيا حول ما يقتضيه الموقف العلمي من أخلاق أساسها الحرص على عدم الإفراط في الوثوقية التي تجعل ما يقدم على أنه علم هو في الحقيقة مجرد أحكام مسبقة لا تقل تعصبا وتزمتا مما تتصور نفسها ناقدة له. وهذا مستوى ديونتولوجي من المفروض أن يكون الأقوى في مجال العلوم الدينية التي هي أقل العلوم الإنسانية دقة وصرامة.
وهو أخيرا حول مدى علمية ما قدمه الأستاذ الشرفي من دعاوى أو فرضيات في كلامه على القرآن الكريم مضمونا وتحقيقا وحول نبوة الرسول الكريم مضمونا وطبيعة. وهذا مستوى نقدي لعمل إنساني ومن الطبيعي أن يحصل خلاف دون أن يكون في ذلك مسا بالأشخاص.

هل هي تقية أم سوء فهم لعلم الأديان الوضعي ؟
ولكن لا بأس فليس مطلوبنا في هذه المحاولة الكلام في الموضوع من رأس بل فهم الخلاف بين الأستاذين. المهم أن نفهم مسألة مبدئية تمهد لنا الطريق لفهم أسس الخصومة بينهما: فهل صحيح أن البحث العلمي يمكن أن يقصر بحثه على المستوى الثالث أو ما يسميه الأستاذ الشرفي بالاجتهادات البشرية ويترك المستويين الآخرين خارج البحث أي المصدر الديني والضمير الديني فيكون الأستاذ الطالبي متجنيا عندما ظن الأستاذ الشرفي لم يدخل في المسائل العقدية فحسب (وهذا حقه) بل حاول تقديم مواقفه وأرائه على أنها حقائق علمية تدرس ويبشر بها ؟ 
على حد علمي فإن مثل هذا الموقف إذا لم يكن تقية يلجأ إليها كل من ليس له الشجاعة لتسمية الأشياء باسمائها فهو دليل على سوء فهم لعلم الأديان حتى عندما يتخذ موقفا نقديا من الوضعية الصارمة: فالعلم يعتبر الدين كله بما فيه المصادر أعني الكتب الدينية والوحي اجتهادات ومنتجات بشرية وما وصفها بالوحي إلا من أساليب التجنيس الأدبي لا غير. والموقف العلمي من الظاهرات الدينية إذا كان علما وضعيا لا يكون متناسقا إلا بهذا التصور: فكما أن عالم الطبيعة لا يمكن أن يؤسس علمه على المعجزات وخرق النظام الطبيعي فكذلك عالم الإنسانيات عامة والدينيات خاصة لا يمكن أن يؤسس علمه على التسليم بوجود خطاب صادر عن الرب مباشرة بل هو يعتبر النصوص الدينية إنتاجا بشريا ضرورة. 
وتلك هي العلة التي جعلت فلاسفة الدين وكبار المفكرين الدينين يبدعون المناهج التأويلية التي أثرت الفكر المنهجي ببيان الفرق بين علوم الطبيعة وعلوم الروح مع التمسك بنسبية المعارف وعدم الوثوقية التي تتحول إلى تبشير بالعلوم الفاتحة. ولسنا الآن في مجال بحث هذا الأمر ومدى سلامته المنطقية. فالإجماع يكاد يحصل حول اعتبار ذلك من بديهيات الدراسات الدينية الفلسفية المتدرعة بالعلم حتى لو لم تكن وضعية بصورة مطلقة سواء كانت حديثة أو قديمة: فذلك يصح على الدراسات الدينية العقلية من أفلاطون إلى الآن . 
وليس قصدنا محاججة الأستاذ الشرفي للكلام على ما في كلامه من تقية لأن النوايا والسرائر علمها عند علام الغيوب حتى وإن كنا لا ننكر أن ظرف الثقافة العربية الإسلامية الحالية يشجع على النفاق والتقية بخلاف ما كان عليه الفكر الإسلامي الذي لم يتهم كباره أحدا من مفكريهم ميز بين الموقفين اللذين هما بنحو ما عقديان: 
موقف الفرض العلمي بأن ما يقبل التفسير لا يمكن أن يكون خارج النظام العقلي. لكن ذلك لا يعني أن كل شيء يقبل التفسير.
موقف العقد الديني أنه يوجد شيء خارج النظام العقلي وذلك هو مجال الإيمان الديني. وذلك يعني أنه يوجد شيء لا يقبل التفسير العقلي.
الحد الذي يعني المؤمنين
وما يعيبه المتدين الصادق على صاحب الموقف العلمي ليس هذا القول بل عدم الاستثناء الذي يلي الموقف الأول والاستثناء الذي يلي الموقف الثاني. فالقسم الأول من الموقف الأول لا يجادل المؤمنون في تناسقه بل هم يجادلون في الزعم بأن العقل الذي هذا شرطه يمكن له أن يثبت عقلا أن ما يتجاوز شرطه غير موجود ما لم يلجأ إلى تضمين منطقي غير جائز عقلا: حصر الموجود في ما يقبل التفسير العقلي أو بلغة ابن خلدون حصر الوجود في الإدراك. وبوضوح أكثر: 
فالمؤمن يسلم لكل إنسان يريد أن يدرس الظاهرات الدينية بأن العقل لا يعلم شيئا إلا بعد التسليم بعقيدته الفرضية القائلة بأنه: لا يقبل التفسير العقلي إلا ما كان ذا نظام عقلي.لكنه يشترط عدم حصر العقل في إحدى مراحل نضوجه فيعتبره مفتوحا على الممكن ومن ثم ينسب أحكامه. 
ولذلك فهو لا يسلم بأن كل شيء يقبل التفسير ومن ثم فهو يعتقد أنه يوجد ما لا يرد إلى النظام العقلي دون أن يكون غير معقول الوجود لأن الوجود أوسع من العقل بشهادة العقل نفسه الذي يدرك حدوده. 
وأول هذه الأشياء التي لا يستطيع العقل لها تفسيرا هي العقل نفسه. وجود النظام هو أكبر المعجزات التي ليس لها تفسير لأن تحكيم الصدفة والضرورة يجعلان حصول النظام أمرا شبه مستحيل: لا شيء يفسر واقعة العقل والإيمان بالعقل وتلك هي أولى المعجزات التي يؤمن بها المؤمنون لأنهم يأخذون العقل بدلالته الحقيقية أي إنه عندهم الإدراك الذي يدرك أنه يدرك ويدرك أنه لا يدرك كل شيء أي إنه يدرك ويدرك حدود إدراكه. فالعقل نفسه هو بهذا المعنى ظاهرة إيمانية. لذلك جعله الدين الإسلامي شرط التكليف
وليس بالصدفة أن قال الغزالي قولته الشهيرة في المنقذ والتي حرفها الأميون من التنويريين والعلمانيين فتصوروه نفى العقل في حين أنه أسسه: "فعادت الثقة في الأوليات (=الحقائق الأولية وأصلها كلها يعود إلى مبادئ العقل) بنور قذفه الله في القلب" أي إن التسليم بالعقل تسليم لا دليل عليه غير الإيمان به وغير التسليم الذي لا دليل عليه بالفرق بين العقل السوي والجنون ومن أصناف هذا الجنون إطلاق العقل حتى يصبح عين الخيال الجامح كما يفهم كل من له زاد فلسفي منذ الغزالي عندنا ومنذ كنط في الغرب.
والحصيلة هي أنه إذا صح أن الأستاذ الشرفي يؤمن بما قال إنه يقوله دائما لطلبته حول المستويات الثلاثة وأنه يستثني المستويين الأول والثاني فعلا لا قولا فإنه يجب عليه لئلا يتناقض أن يقبل نقد أستاذه راضيا وألا يحاول اتهام موقفه بصورة ضمنية فينسبه إلى أعراض الشيخوخة وتصوير المعركة وكأنها معركة بين العقلانيين واللاعقلانيين. 
فكل كتابات الأستاذ الشرفي بخلاف ما يزعم في رده لا تتعلق بالدراسات التي لها صلة بالمستوى الثالث (أي باجتهادات المفكرين في المصدر كمناقشة المفسرين أو المتكلمين أو الفقهاء فحسب) بل هي تدور حول المستوى الأول من منطلق المستوى الثاني دائما. وهو أمر لا أنكره عليه لأني اعتبر ذلك من جوهر الفكر الديني بشرط تحريره من الوثوقية واعتباره اجتهادا معبرا عن تجربة روحية شخصية وليس علما يدرس بصورة رسمية مع حرية وضعه أمام القراء إذا أرادوا قراءته بمبادرة حرة منهم لأن التعليم ليس عرضا لأحوال النفوس: إنه يناقش المصدر أي القرآن والسنة من منطلق مواقفه الشخصية ولعل أفضل مثال في ذلك مناقشة ما يُعتبر من التوقيفيات مثل العبادات كالصوم والصلاة من منطلق ما يسميه الضمير الحديث أعني أحد الموضوعات التي جادله فيها الأستاذ الطالبي. 
نزعة التغيير بدل التأويل
من الحجج التي ذكرها الأستاذ الشرفي لبيان دور التمييز بين المستويات الثلاثة في نفي ما يعتبره تهما غير وجيهة عدد الكتب التي ألفها تلامذته حول الإسلام الواحد والمتعدد. وهذه الحجة تبدو دالة على العكس تماما. فالمقابلة بين الصفتين بذاتها لاتدل على شيء محدد. فكل شيء يمكن أن يعتبر واحدا ومتعددا بما في ذلك ذات الإنسان إذا قابلناها بصفاتها. إنها إذن حجة تصبح عند فهم معناها العميق على صاحبها لا له. لكن المقابلة بين الوحدة والتعدد لا تكون ذات دلالة معرفية في حالة الظاهرة الدينية إلا إذا كانت متعلقة بما له صلة بالأمور التي يعتبرها أهل ذلك الدين من جوهره أعني غير التلوينات الثقافية التي لا مساس لها بجوهره. 
فيكون القصد بالظاهرة المدروسة في هذا النوع من البحوث هو اعتبار الصور المتعددة التي يتعين فيها ما هو جوهري في الدين متساوية ومن ثم فهي تعني نسبوية العقائد بمعناها عند ابن عربي مثلا أو في البهائية. وذلك ما لا أعارضه شخصيا إذا سلم القائل بها بأنه يبحث في الظاهرة الدينية من منظور انثروبولوجي ويتكلم على الدين الطبيعي ولا يتهرب فيزعم أنه يستثني من كلامه المصدر المقدس في الإسلام. وبهذا المعنى فهذه الكتابات إما فاقدة للدلالة العلمية أو هي حجة على صاحبها لأنها تبين أنه يعتبر الدين مجرد منتوج إنساني ثقافي. وبعبارة سلبية هو نفي ضمني للأديان السماوية. وآمل أن يفهمنا أصحاب هذا المنهج كيف يكون قصدهم غير ذلك ويبقى ذا دلالة علمية. 
لذلك فالخلاف ليس حول هذا التصور. فلكل الحق في أن يتصور ما يشاء بل حول اتهام فهم الأستاذ الطالبي: فهو قد فهم جيد الفهم القصد من هذا التصور. وسلوك الأستاذ الشرفي عندي أمر طبيعي لاستحالة الفصل بين المستويات الثلاثة التي ذكرها ولا أشك في أن الأمر ينبغي أن يكون كذلك إذا صحبه الحذر العلمي والروية لتجنب الخلط بين المواقف الشخصية وطبائع الأشياء في حدود ما هو ممكن من إدراكها حتى وإن سبق لي أن أشرت في غير موضع-من منطلق اختصاصي أن زادهم لا يكاد يعتد به دون إطلاق الحكم في ما يزعمونه من علوم أخرى لا تكاد تحصى ولا يكفي عمر شخص حتى لو مكث في قومه مكث نوح لتعلمها إذا صدقنا ما يصرح به أركون أو تلامذته مثلا- أشرت إلى أني أعتقد شروط هذا العلاج غير متوفرة في ما كتبه الأستاذ الشرفي وتلامذته. 
فأقصى ما بلغه فكرهم لا يتجاوز بعض الأحكام المسبقة التي هي من مبتذلات ما ليس علميا في الكتابات الاستشراقية مثل الكلام على تعدد المصاحف أو عدم موضوعية تدوين بعض الآيات في المصحف العثماني أو ما شابه كالكلام على دور أسباب النزول أو الأحكام. وهي أمور تتبين عند التمحيص أمورا معروفة ومبتذلة في الجدل الذاتي للعلماء المسلمين الذين حققوا نص القرآن نطقا وكتابة وترتيبا قبل أن يتكلم الناس عن نقد النصوص. 
ولعل ما أكد عليه الأستاذ الطالبي كان مداره حول جمع القرآن الكريم وطبيعة الوحي وبعض الشعائر التي هي توقيفية والتي يراها الأستاذ الشرفي غير ملائمة للضمير الديني الحديث. وهذا عندي من المتناقضات التي لم أجد لها تفسيرا عند كل العلمانيين. فإذا كان الدين عندهم مجرد ممارسة طقسية ثقافية فأي معنى للكلام عن المفاضلة بين ضروبها وهي جميعا مجرد ممارسة رمزية كيفما كانت ؟ فهي عندئذ لا تختلف عن تمسك الإنجليزي بالتقاليد في كل شيء ولا فائدة من الكلام فيها. 
وعلى كل حال ففي مسألة المباحث القرآنية أكاد أزعم أني لم أجد في كتابات هذه المدرسة ما يرقى حتى لما في كتابات عصر الانحطاط في القرن الخامس عشر من التدقيق العلمي والاطلاع على المصادر (ككتاب الإتقان مثلا) والمعرفة بالقرآن وبالعلوم الأدوات الضرورية بل هم لم يتجاوزوا بعض الملاحظات السلبية التي تجاوزها حتى تلامذة نولكده في مراجعاتهم لكتابات أستاذهم. ولست أقول ذلك متهمها إياهم بقصور في المدارك ولا حتى بنقص في التكوين بل لأن خلطهم بين البحث العلمي والدور الرسالي في إصلاح الإسلام وتحضير المسلمين حال دونهم والتؤدة العلمية والصبر المثابرة على تتبع الأشياء دون التلهف على التبشير الرسالي: الهدف من بحوثهم ليس علميا بل هو عملي. إنهم يريدون أن يغيروا ما يسمونه الواقع لا أن يؤولوه لفهمه بلغة ماركس. 
فعليهم إذن أن يقبلوا ردا عليهم من جنس المواقف العملية التي لهم: كل ما في الأمر أنهم يسعون إلى تغيير عقائد المسلمين والأستاذ الطالبي يرفض ذلك وله الحق في أن يرفض ذلك لأنهم لم يقتصروا على الاجتهاد أو الموقف الشخصي بل حولوا ذلك إلى حركة إصلاحية من جنس كل الحركات التي تصورت الاستعاضة بتقليد الغير أفضل من تقليد الذات. ورايي أنه إذا كان على المرء أن يقلد فليقلد ما عنده: لا معنى لصلاة مناسبة لروح العصر إلا إذا كان القصد مثلا أن نجعل المسجد كالكنيسة يجلس الناس فيه على كراسي ليسمعوا قداسا.
ذلك هو مصدر غضب الأستاذ الطالبي. وما كان ذلك بذاته ليعنيني شخصيا لو لم يكن الأستاذ هو الذي انطلق منه فكان صريحا بأنه لا يناقش الشرفي حقه في أن يعتقد ما يشاء أو في أن يبحث في الأديان سواء بقاعدته أو بدونها بل هو يناقشه في اعتبار ذلك علما وتقديمه على أنه إسلام في حين أنه يراه مروقا من الإسلام. ويؤسفني أن ألاحظ عابرا أن الأستاذ يستعمل كثيرا من العبارات لم يكن بحاجة إليها وفيها من النحت ما لا يقبله الذوق العربي. ولعل أبرزها ما سماه "انسلاخاسلامية" فهذا المعنى له اسم معلوم في العربية هو المروق. وطبعا فلست أنا من يزعم تعليم العربية للأستاذ الطالبي: فلعله قصد بذلك أمرا اقتضاه مقام المقال.
ولست أدافع عن الأستاذ الطالبي بهذا العمل. فهو أطال الله في عمره أقدر مني على ذلك بل أحاول أن أجيب عن سؤالي أي قارئ موضوعي لكتابه بالمقارنة مع رد الأستاذ الشرفي عليه. فهو لا يجادل في حق الأستاذ في أن يذهب إلى غاية الموقف العلمي من حيث الفرضيات التي ينطلق منها أي بحث علمي في الأديان لو كان بحثه بحثا علميا حقا. ما يناقشه هو تحول هذه الآراء الشخصية التي ليس لها الحجية العلمية الكافية إلى دور رسالي مع جوق من الطلبة أغلبهم "تسكره زبيبة". 
فلا أحد اتهم الفلاسفة العرب أو المتكلمين الكبار أو مرق أحدا لذهابه إلى الغاية في فكره الديني في مستوى الاجتهاد الفكري ولم يحوله إلى دور رسالي في إصلاح الدين دون أن تكون الأمة قد اعترفت به مجتهدا مصلحا يتقبل منه. وإذا صح فهمي فإن المشكل عند الأستاذ الطالبي هو في ظهور جماعة ذات منزع تبشيري تكسو تصورها الديني الخاص بزعمه فهما علميا للدين: والفهم العلمي للدين يعد عندي من التصورات الهجينة التي لا معنى لها إذا لم تكن القصد الانثروبولوجي للدين الطبيعي من حيث هو منتج ثقافي تاريخي ليس فيه ما هو سماوي منزل. 
وحتى يتضح الأمر أكثر سأذكر ظاهرتين أخريين عالجتهما سابقا في كتاباتي حول أمراض الجامعة التونسية الكاشفة لأمراض وراءها تعلل ما أصابها وليس هذا محل بحثها رغم أن كل الجامعيين في الوطن العربي يعرفون سرها ويفسرون به انحطاط البحث العلمي واستقلال الجامعات. وهاتان الظاهرتان هما ظاهرة تدريس الإبستمولوجيا وظاهرة تدريس النقد الأدبي. ففي هذين المجالين كثر الدجل إلى حد لا يكاد يصدقه عاقل: وهو دجل أهم سماته الانتقال السريع من عموميات حول التقريب الجمهوري في النظريات النقدية أو العلمية إلى محاولة تغيير الثقافة والمجتمع بريادية يزعمونها تنويرية وعقلانية وهي في الحقيقية ستالينية متخفية تريد أن تغير الثقافة رغم أنف أصحابها كما أصبح الأمر واضحا عند الليبراليين العرب الجدد.
نموذج ثان من التغيير بدل الفهم والتأويل
وسأبدأ بالظاهرة الثانية لصلتها المباشرة بموضوعنا. ورغم أن طابعها المعقد قد يحول دوننا وإدراك الإشكال المطروح بالدقة الكافية فإنها تساعد على فهم النقلة السريعة من زعم العلم إلى تزعم العمل دون روية فتصبح نقلة من إدعاء العلم إلى إدعاء الثورة خاصة إذا تحول ذلك إلى نفوذ رسمي يجعل من لا صلة له بالزيتونة مصلحا للزيتونة وقس عليه أشياء كثيرة. ذلك أن النقد الأدبي كان ولا يزال منذ أفلاطون إلى اليوم ذا صلة بالفكر الفلسفي في بعده العملي بل إن هذه الصلة قد ازدادت متانة منذ أن أدرك الفكر الفلسفي حدوده في المجال العلمي فارتد إلى المجال الأدبي والعملي عله يستمد من عمومياته التي لا تقبل المحاكمة العلمية سلطانا جديدا باسم الإبداع بعد فقدان السلطان الذي كان يستمده مما يزعمه من علم كاذب: فعموميات الفكر الأدبي الذي هو تمثلي ومخيالي بالجوهر صارت مدار الفكر الفلسفي منذ أن يئس الفلاسفة من الميتافيزيقا وعجزوا عن متابعة العلوم الدقيقة. 
وهذا الأمر ييسر المآل الذي يجعل الفكر ينتقل مباشرة من العلاج النظري إلى الدور الرسالي كما يبتين من فوضى الفكر في كل الكليات الأدبية بخلاف ما عليه الكليات العلمية من رصانة وروية: ولست أتكلم على الأدباء المبدعين بل على النقاد الذين يعوضون العقم الإبداعي في الأدب وفي النظريات النقدية بالخطاب المباشر حول الإصلاح الروحي والثقافي للأمة فينحط النقد إلى الثرثرة الإيديولوجية. وهو ما نراه يحصل في الدراسات النقدية التي سرعان ما تنتقل من النقد الثقافي والتحليلي المزعومين إلى الموقف الإصلاحي في مجالين مفضلين لم يصل إليهما تطور المجتمع الغربي إلا في نهاية المطاف ونقادنا الأدبيون يريدون أن تكون بدايته: المسألة الثقافية في مجالين ذوي صلة مباشرة بالمسألة الدينية في مجتمعات لم يزل الطابع الديني لثقافتها حائزا على المرتبة الأولى أعني: 1-مسألة الجندر 2-ومسألة حرية الإبداع بمعنى التحدي المباشر للمقدسات. 
وليس عندي شخصيا أدنى اعتراض على هذه المواقف لأن من وظيفة الإبداع أن يتجاوز الحاضر إلى المستقبل وأن يتصادم مع الموجود من اجل المنشود. لكن ذلك لا يقع كيفما اتفق بمجرد الاستعاضة عن الحاضر الأهلي بالحاضر الأجنبي بل هو يقتضي أن يصبح الحاضر الأهلي خصبا فيتولد عنه مستقبله الذي هو به حامل. فتكون وظيفة الإبداع وظيفة القابلة. لكن ما يحصل في النقد الأدبي العربي عامة والتونسي خاصة هو التناقض التام مع الأساس النظري للنقد العلمي أيا كان موضوعه. وهذا التناقض مضاعف: 
التناقض الأول: ففرضية إدخال العلمية على النقد الأدبي الحديث وعلى فهم الإبداع هي أن يكون ما يحصل في المبدعات ثمرة إما لتطور الجنس أو الأجناس الإبداعية كلها من حيث هي منظومة رمزية إما بفاعلية جدلها مع ما يسمونه كل الأجناس (المدارس البنيوية) أو بفاعلية الجدل بين المستوى الرمزي والمستوى الواقعي من الوجود الإنساني (المدارس المتمركسة) أو بفاعلية الجمع بين هذين الحديين الأقصيين في النقد الأدبي. 
التناقض الثاني: فرضية النقد الثقافي عامة وبخاصة الكلام على الجندر وحرية الإبداع بمعنى الثورة على المقدسات تلغي كون الأدب من إبداع ثقافة بعينها تعي ذاتها لتتجاوزها بالنقد بشروط تطور تلك الثقافة الذاتي مع ما يصاحب ذلك من صراعات حقيقية وغير مفتعلة: فلا يمكن أن تقفز الثقافة العربية إلى غاية ما وصلت إليه الثقافة الغربية لمجرد أن أحد النقاد أو الأدباء عاش في أوروبا بعض سنوات من حياته أو قرأ كتابا يظن نفسه فهمه وصار مبدعا بمجرد تقليد ما فيه من أفكار لا علاقة لها بالذائقة في الثقافة التي يريد أن ينسفها كما نسف البعض المدينة القديمة ليعوضها بالأسمنت المسلح. فكيف عندئذ نجعل مابعد أدب ثقافة أخرى أو نقد ثقافة أخرى مصدرا لمعايير أدبنا وثقافتنا ؟ هل يمكن تصور الأدب منفصلا عن التطور الذوقي العام وهو تطور لا يمكن أن يكون إلا متدرجا حتى يستجيب فعلا لحاجة رمزية وروحية تعبر عن الحالات الوحدانية في ثقافة معينة يمكن أن تثري التراث الإنساني.
وهذا كله يقتضي أن يكون لكل تجربة ثقافية وتاريخية خصائصها التي تثري بها التراث الإنساني إذ في خلاف ذلك يصبح الإنسان جوهرا كونيا لا يتحقق في التاريخ بمسارات وتجارب متعددة بل هو يكون مثل أي ظاهرة طبيعية ثابتا لا يتغير فلا يكون ذا تاريخ إلا بالاستيراد من تاريخ غيره. وشرط إدراك الاختلاف بين الثقافات أن تتحرر الفاعلية المبدعة من إسقاط التجارب الأخرى حتى تكتشف الطابع المميز لتثري به التجربة الإنسانية فتوسع أفقها. 
لكن الموقف الذي يجعل بداية ما هو غاية في التجارب الأخرى التي يريد نسخها يلتزم موقفا يعميه عن رؤية المميز فلا يمكن له أن يرى شروط الإبداع الذي يدرسه وخصائصه بل هو يقتصر فكره على التقليد فيصبح من أصحاب التوريد محاولا صب الإبداع في قوالب مسبقة: كمن يعوض سيارة قديمة بسيارة جديدة دون أن يبدع شيئا في السيارتين. وبذلك تفهم لماذا بلغ الأدب الياباني والأمريكي اللاتيني العالمية ولا يزال الأدب العربي كسيحا.
نموذج ثالث من التغيير بدل الفهم والتأويل
أما الظاهرة الثانية فهي ما يسمى بتدريس الإبستمولوجيا في جامعاتنا العربية عامة والمغاربية خاصة. فجميع المدرسين لهذه المادة من خريجي الآداب. لذلك فهم يخلطون بين مضغ مبتذلات الكلام في الإبستمولوجيا في الأدبيات الفرنسية التي يكاد أغلبها لا يتجاوز التقريب الجمهوري في العلوم. والمعلوم أن الفكر الإبتسمولوجي ليس هو في متناول غير العلماء المبرزين في اختصاصهم إلى حد النفاذ منه إلى ما بعده بالمعنى الفلسفي للكلمة أعني شروط إمكانه وكونه على ما هو عليه. ولما كان الكلام الذي يمضغونه ليس فكرا إبستمولوجيا إلا بالاسم فإنه سرعان ما ينتقل من الكلام في العلم إلى الكلام في العمل بعد عرض سريع لعبارة فيزيائية أو بيولوجية ابتدائية لإبهار الطلبة الأميين في الغالب بعد أن أفسدوا التعليم بما نالوه من سلطان ثمرة لهذا الدجل. 
ذلك أن أصحاب هذا الفكر القاصر تحولوا إلى مصلحين لكل الحضارة العربية الإسلامية ومبشرين بالتنوير والعقل العلمي وهم لا ناقة لهم ولا جمل في العلم فضلا عن زعم إصلاحه وإصلاح حال الأمة كلها. وقد سمعت البعض منهم يسخر ليس من العلماء المسلمين الذين من حجم ابن سينا والغزالي وابن تيمية وابن خلدون بل هم يتجرأون حتى على النبي نفسه بمزاح ثقيل حول الأمية. لذلك فأنت تجد الكليات العلمية التي تعلم العلم ما هو أكثر تواضعا وأقل كلاما عن العقلانية والتنوير والإصلاح المطلق الذي ينتهي إلى التشويه غير الحذر والمتهور الذي يفسد البلاد والعباد.
خاتمة
ولنختم فنذكر بطبيعة ما كتبه الأستاذ الطالبي: فليس هو كلام من يعاني من أعراض الشيخوخة ولا هو كلام من يقف موقفا غير عقلاني. الأستاذ الطالبي لم يجادل الأستاذ الشرفي في العلم ولا في عقيدته الشخصية بل في انتقاله مما يدعيه علما إلى ما يدعيه إصلاحا للعقائد والشرائع لتكون مناسبة لروح العصر: لذلك فهو يقول له أتركنا وشأننا فلا تجعل مواقفك الشخصية مادة للتدريس بزعمها علما وهي أبعد الأشياء عن العلم وأخلاقه التي أولها الحذر والروية. أعني أن غضبة الأستاذ الطالبي كما يؤكد على ذلك مرارا وتكرارا في كتابه سببها تقديم الأستاذ الشرفي مواقفه وخياراته الشخصية من الدين الإسلامي على أنها علم يدرسها لطلبته الذين ما أن يسمع المرء لثرثرة بعضهم في الفكرين الفلسفي والديني حتى يدرك هول المصيبة.
ذلك هو حسب رأيي وفهمي ما جعل الأستاذ الطالبي يغضب غضبة في نبرتها شيء من الإفراط لا أقره عليه. لكن فكره أبعد ما يكون عن الفكر الذي يعاني من أعراض الشيخوخة كما قد يُفهم من تلميحات الأستاذ الشرفي. وليس كلامي هذا شهادة للطالبي فهو غني عن شهادة أي زميل لأن أعماله العلمية لا وجه للمقارنة بينها وبين كل الجوق التنويري في الجامعة التونسية. فيكفي بحثه الصارم في تاريخ الكتابة العربية ليدحض به خرافة التدوين المتأخر للقرآن الكريم حتى يعلم الجميع أن الرجل على سعة من المعرفة والتدقيق ليت الأستاذ الشرفي ينصح بها من يسمع له من تلامذته لئلا يدعي أحد منهم بعد قراءة كتاب أو كتابين أنه أكتشف سخف ابن خلدون وعقم الفكر الأشعري. فيكفينا ما أشبعونا به من حصرم الزبيب.

 

عودة لا بد منها (متابعة)

 

بعد المحاولة التي كتبتها حول رد الأستاذ الشرفي على الأستاذ الطالبي من منطلق جوهر الخصومة ها أنا أعود إليها من منطلق قد يعد عَرَضيا من حيث المضمون لكنه جوهري من حيث الدلالة على السلوك العلمي فضلا عن العلم لدى أحد طرفي الخصومة.  وعلة العودة هي الشكل المستفز من رد الأستاذ الشرفي على أستاذه الطالبي. ومسألة الشكل هذه المرة تبدو عديمة العلاقة بالخصومة بين الرجلين لصلتها بحادثة قديمة ذكرني بها هامش الأستاذ الشرفي الثالث هامشه على رده (الصباح تونس 23 مارس 2008).

فقد جاء في هذا الهامش ما يلي إيرادا لما اعتبره من القرائن الدالة على معاناة أستاذه من أعراض الشيخوخة "وإلا فكيف يمكن تفسير ارتكابه (يقصد الطالبي) لأخطاء لا يقع فيها حتى تلامذة الابتدائي من مثل جمعه لسُورة على "سورات" عوض سُوَر (ص 153)، وهو الذي يستشهد بالآيات القرآنية بمناسبة وبغير مناسبة، وخلطه بين الفريسيين (pharisiens) من اليهود والفارسيين (وهو جمع مذكر سالم لفارسي، ص 154)، وارتكابه لأخطاء لغوية نحوية وتركيبية في كل صفحة تقريبا؟".كتب الأستاذ الشرفي هذا الهامش لظنه قرينة ليس أكثر منها إثباتا لعرض الشيخوخة قرينة على تهمة قدمها في شكل اعتذار لم أر في حياتي أقبح منه ولا أشنع حتى لو كان صحيحا فضلا عن كونه لا يتضمن أي قدر من الصحة مهما تسامحنا مع صاحبه.

                         علاقة الهامش بالحادثة

والحادثة التي ذكرني بها هذا النص فكانت علة هذه العودة هي حضوري ذات مرة في كلية الآداب بمنوبة مناقشة لإحدى الرسائل الجامعية في الحضارة العلمية العربية الإسلامية كان فيها الأستاذ الشرفي يحاول التهوين من علم المترشح -وبالتالي من علم  المشرف عليه الذي هو أحد كبار علماء تونس بالعلوم فضلا عنه بالحضارة العلمية العربية وهو أيضا من أساتذة الشرفي: قصدت المرحوم محمد السويسي أستاذ الرياضيات وتاريخ العلوم والآداب العربية-فكان من المقادح التي أوردها كتابة المترشح أسم علم بحسب النطق الألماني "إجناس جولد تسيهر" بهذا الهجاء الأصلي لاسم صاحبه بدل كتابته بالهجاء الفرنسي "إنياس قولد زيهر".

لم يكن المرشح يريد أن يناقش مثل هذه التفاهة التي تدل على جهل المناقش لظنه الاسم لفرنسي أو لاعتقاده أنه ينبغي ألا ينطق إلا بالفرنسي بدل دلاتها على جهل الطالب فضلا عن كون ذلك  كما يعلم الجميع لا علاقة له بالعلم المتعلق به الشأن في الرسالة. والمعلوم أن المحكَّمين في اللجان العلمية لا يطيلون الكلام في الشكليات إلا لإخفاء الجهل بالمضمونات. والمعلوم كذلك أن المترشحين مضطرون للكثير من الاحتراز معهم لتجنب التحكم السلطاني ما أمكن لهم ذلك. وإلا فإن إثارة مثل هذه القضية في مناقشة رسالة دكتوراه دولة كان ينبغي أن يثور عليه أي طالب علم في هذا المستوى من الاختصاص يناقشه من يفضح مستواه بمثل هذه التفاهة مع خطأها فوق ذلك.

فإثارة هذا الأمر في مناقشة دكتوراه دليل على سطحية المناقش وعلى خواء زاده المعرفي في المجال أعني تاريخ العلوم العربية حتى لا نشكك في نزاهته إذ يصعب أن يجهل من يزعم الاطلاع على الحضارة الإسلامية ألا يعرف النطق الصحيح باسم أهم المستشرقين في ما يزعم الكتابة فيه (علوم القرآن الكريم) وهو نطق أظن المترشح قد أخذه عن ترجمات المرحوم عبد الرحمن بدوي.      

                    إجناس جولدتيسهر والفارسيين

المهم هو العلاقة بين هذه الحادثة والهامش الثالث من رد الأستاذ الشرفي العلاقة التي تذكرتها عند قراءة الهامش. إن العلاقة بينة في المثال الثاني الذي ضربه الأستاذ الشرفي والوارد ضمن القرائن التي يظنها مفحمة الدلالة على أن الأستاذ الطالبي بلغ أرذل العمر بدليل نسيانه وهو أستاذ العربية أبسط قواعد اللغة العربية والوقوع في أخطاء لا يقع فيه تلاميذ الابتدائي. وفي الحقيقة فإن الأستاذ الشرفي لو كان على دراية بقانون النسيان في أمراض الشيخوخة لعلم أن هذه الحجة عليه لا له: ذلك أن آخر ما ينساه المصابون بعرض الشيخوخة ليس أول هو ما تعلموه بل آخره. وإذن فإذا كان الخطـأ اللغوي المنسوب إلى الأستاذ الطالبي خطأ لا يرتكبه تلاميذ الابتدائية فهو مما يتعلم في الصغر فلا ينساه الشيوخ حتى في أرذل العمر ومن ثم فلا يعقل أن يكون نسيانه إن صح أن الأستاذ الطالبي وقع في مثل هذه الأخطاء دالا على أعراض الشيخوخة.

لكن المشكل أن كل الأمثلة التي أوردها الشرفي تدل على أنه هو الذي وقع في خطأ فيها وليس الطالبي. ولنحاول بيان ذلك لعل فيه إنصافا للشيخ الطالبي وصدا لتنمر العاقين. ولنبدأ بالمثال الذي ذكرني بالحادثة فهو مثال "الفارسيين". فإذا علمنا أن الناس لم يعتادوا على جمع الفارسي جمع مذكر سالم بل العادة جرت على جمعها جمع تكسير على فرس تبين أن الأستاذ الشرفي يثبت بهذه القرينة أن الحجة قد أعيته فطلب ما لا معنى له. فالخلاف كله يأتي من تمديد الأستاذ الطالبي حرف الa كما يفعل العرب ونطق الأستاذ الشرفيحرف  ال s زايا كما يفعل الفرنسيون في كلمة فارينزيان. ولا مشاحة في التقريب بين الحروف من الأنظمة الهجائية المختلفة.

والدليل أن الكلمة بالانجليزية أقرب إلى هجائها عند الأستاذ الطالبي منها في الهجاء الفرنسي الذي مال إل
تاريخ النشر : 05-04-2008

6373 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com