آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

تقنين الفقه وتطبيق الشريعة

عبد الرحمن الحاج



تحول مفهوم "تطبيق الشريعة" إلى نوع من المطابقة بينه وبين "استعادة" الإسلام الذي أخرجته تحولات كبرى من الحياة العامة، أو "عودته" بعد أن غاب غياباً قسرياً (بحسب خطاب أكثر الإسلاميين)، وانطلاقاً من هذه الحالة التي أصبح فيها مفهوم تطبيق الشريعة فقد تحولت مقولة "تطبيق الشريعة" إلى معيار يفرق بين الإسلامي "المؤمن" بالدولة الإسلامية وغير الإسلامي الذي لا يؤمن بها، ولدى البعض أصبحت معياراً بين المسلم وغير المسلم أو بين الإيمان والكفر! 

إن تاريخ مفهوم تطبيق الشريعة هو تاريخ مفارق إلى حد ما لفكرة "تقنين الفقه"، ومعظم الدراسات حول تاريخ تقنين أو تطبيق الشريعة لا تربط بينها، غير أن ولادة كل من فكرة التقنين والتطبيق هي من تأثيرات تآكل مفهوم الخلافة ووفادة مفهوم الدولة الحديثة إلى العالم الإسلامي، إذ يبدو أحدهما ولد في أعقاب الآخر.

ويجب أن يبقى في أذهاننا ونحن نبحث في هذا الموضوع أن كلاً من "التقنين" و"التطبيق" مصطلحان حديثان، وما كان يخطر ببال أحد من علماء الإسلام المتقدمين هذين المفهومين قبل قرنين من الآن، لقد عرف التراث في عهد الخلافة الإسلامية مفاهيم مثل: أحكام السلطان، وأحكام أهل الإسلام، أحكام التدبير، وأحكام الرعية، وأحكام الإيالات (حسب الجويني)، وأحكام البلاد (حسب ابن جماعة)، وأحكام الدولة (حسب ابن خلدون)، بوصفها جملة القواعد والأحكام التي يسنها الإمام ونوابه لتدبير دار الخلافة وولاياتها، وهي بالعموم أحكام مستهدية بالشريعة الإسلامية والمصالح الموضوعية العامة، أو لا تتعارض مع نصوص الشرع وما عرف من الدين بالضرورة، وهي ليست الفقه الإسلامي ذاته الذي استنبطه أئمة المذاهب الأربعة والفقهاء المجتهدون من أتباعهم، ولا هي الشريعة الإسلامية ذاتها، وما قال أحد من العلماء القدماء (المتقدمين) ذلك، ومع هذا يعتقد كثير من الإسلاميين اليوم بأن ما كان سائداً هو أحكام الفقه الإسلامي ذاته أو الشريعة ذاتها!

عندما شعر ولاة الخلافة العثمانية أنه ما عاد ممكنا الاستمرار دون إصلاحات، بدأ عصر التنظيمات بداية لإعادة هيكلة مؤسسات الخلافة وأنظمتها، كان هذا العمل التنظيمي الكبير عملاً من أجل مواجهة التغيرات الكونية التي أصابت العالم، غير أنه كان ذاته الذي سرع في انهيار الخلافة وزوالها! وفي سياق التنظيمات وجدت فكرة تقنين الفقه الحنفي الذي كان مرجع الأحكام القانونية الخلافة العثمانية.

استدعي عدد كبير من علماء الحنفية من مختلف أنحاء السلطنة، كان بينهم "خاتمة المحققين" في المذهب الحنفي العلامة الشامي ابن عابدين، صاحب حاشية "رد المحتار على الدر المحتار" الشهيرة في الفقه الحنفي، وخرج الفقهاء بأول إنجاز لهم في مجال التقنين هو مجلة الأحكام العدلية، التي حُوِّل فيها باب الأحوال الشخصية في الفقه الحنفي إلى مواد قانونية. 

ما استمر الأمر طويلاً حتى انهارت الخلافة، وجاءت الدولة الوطنية الحديثة بقانونها الوضعي، الذي نسف كلياً مرجعية الفقه الإسلامي ومجلة الأحكام العدلية، كان انهيار الخلافة بحد ذاته كفيلاً بإثارة شعور بالفاجعة لزوال مرجعية الإسلام من الحياة العامة وكيانه السياسي الجامع (الخلافة)، فكيف وقد اقترن بذلك القانون الوضعي؟

لقد قضت الدولة الحديثة على فكرة تقنين الفقه بالكامل، وبما أن القانون الوضعي الذي كان النقيض لمرجعية الفقه الإسلامي وتقنينه تبعاً، فقد أصبحت المطالبة بعودة الإسلام إلى الحياة العامة مسألة حتمية، وبما أنه لم تكن الشريعة مقننة، وما تقنن من الفقه الحنفي هو باب صغير من أبواب الفقه هو الأحوال الشخصية (في إطار مذهب فقهي واحد)، وقد تم استيعابه في قانون الدولة الوطنية، وقد وقع الحركيون في مشكلة البديل الإسلامي غير الجاهز.

لقد استغرق ظهور مصطلح "تطبيق الشريعة" لأول مرة أكثر من عقدين من تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية وذلك في نصوص المرحوم عبد القادر عودة في كتابه "التشريع الجنائي"، وليس من الغريب بالطبع أن يكون هذا المصطلح قد صكه مفكرو الأخوان المسلمين، ليصبح فيما بعد شعاراً لكل الحركات الإسلامية، صحيح أن مفهوم تطبيق الشريعة (الذي ظهر أساساً في إطار الفقه الجنائي) ضاق لاحقاً إلى "تطبيق الحدود"، إلا أن تحول "تطبيق الشريعة إلى شعار للحركات الإسلامية، مكن الإسلاميين عام 1950 من إدخال مادة دستورية في دولة وطنية لأول مرة بعد سقوط الخلافة تنص على كون "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس في التشريع" بجهود الدكتور مصطفى السباعي (المراقب العام لحركة الأخوان المسلمين السورية آنذاك).

يبدو إذن أن تطبيق الشريعة وريث انهيار مشروع تقنين الفقه، ولكنه يمثل انتكاساً له في الوقت ذاته، ففي حين تمثل مقولة تطبيق الشريعة دعوة احتجاجية لتحويل الشريعة إلى قانون بديل عن القانون الوضعي، فإن تقنين الفقه كان عملاً فعلياً لتحويل الشريعة إلى قانون عصري لدولة حديثة.


تاريخ النشر : 11-04-2008

6389 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com