آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

قضية الحجاب الإشكالية والحيثيات.. مقاربة فقهية

وائل حمدوش


في ظل الدعوة إلى نقد التراث وإعادة بناء المنظومة الإسلامية، لاستعادة موقعنا المفقود في هذا العالم، أو حتى لمعرفة المكان فيه، عاش المفكرون بحثاً وتنقيباً عن مواطن الخلل لإصلاحه، وطرحت في هذا السياق العديد من القضايا على أنها مواطن للخلل ومصادر للتلوث الفكري، وسواء كانت كذلك أم لم تكن فإن قسماً كبيراً منها -حسب رأيي- ولد في أحضان عقل متشتت، لم ينظر في أسس النهضة بقدر نظره إلى زينتها الخارجية، فأخذت بالصورة ولم يتطاول فكره ليبحث عن الأساس والعلة لتلك القيم.

طرحت عبر هذه المسيرة النقدية قضية الحجاب كمستجد نقدي على الساحة، إذ ربما يكون مظهراً من مظاهر التخلف يجب تجاوزه وفك قيوده التي سجنت المرأة داخلها طويلاً، وكان المطلوب نزعه حتى تأخذ المرأة دورها - الذي لم تأخذه بسببه-  وقد تم التعليل فقهياً لهذه الظاهرة من عدة زوايا: فمن ناحية وُضِع الحجاب تحت عباءة الوضع الاجتماعي العربي آنذاك، وأنه عادة اجتماعية لا فريضة شرعية وقد تزول عادات وتولد غيرها، فلا مانع اليوم من نزعه إذا علمنا أنه معلل بالوضع الاجتماعي.

وفي طرح آخر تمت المناقشة من داخل النص الشرعي نفسه، وأنه لا يحمل الفريضة التي يعتقدها المسلمون اليوم، فقيل: إن قوله تعالى في آية الحجاب( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) يقصد به ستر موضع الجيب وهو أسفل من العنق بقليل ولا ذكر لحجاب الرأس الذي مارسه المسلمون أزمنة عديدة من غير دراية بمفهوم الآية.

وطرح غير ذلك من التأويلات، واشتغل المفكر والسياسي والمهني ورجل الدين... في تحليل النصوص الشرعية وفهمها على طريقته الفنية الخاصة.

مما لا شك فيه أن المصدر المعرفي في هذا الموضوع هو القرآن والسنة الصحيحة، وأن ما ينطويان عليه يعد الحكم من دون تبريرات عقلية، وحجاج منطقية.

وفي قراءة للنصوص نجد الوارد في هذا الموضوع ثلاثة نصوص تباشر الموضوع، وهي:

قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }الأحزاب59

وقوله تعالى:}وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ{ النور31     

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا : وأشار إلى وجهه وكفيه » سنن أبي داود وهو مرسل.

في ضوء الآيتين السابقتين نجد في الآية الأولى أمراً من الله عز وجل بإسدال الستر على الجسد كاملاً من غير تخصيص بمكان، وقد ورد أن الآية نزلت حتى لا يتشبه الحرائر بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فكشفن شعورهن ووجوههن ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهنّ؛ لئلا يعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، وتقول الروايات التفسيرية أن نساء الصحابة قد تخمروا حتى لم يبن منهن شئ ( ينظر: تفسير الطبري، والقرطبي، والبحر المحيط.... وكل كتب التفسير متفقة على سبب النزول هذا)

ثم أعقبت هذه الآية آية الحجاب الثانية، يقول أبو حيان الأندلسي: ( وكان النساء يغطين رؤوسهنّ بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهنّ  فأنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) البحر المحيط (8305)  وهذا التفسير موطن اتفق بين جميع المفسرين.

 فالآية الأولى أمرت بالحجاب، وذكرت سبب ذلك وهو (حتى يعرفن فلا يؤذين) فقرأ البعض أن علة الحجاب عدم التشبه بالإماء، وليس الحجاب أمراً تعبدياً، مع أن الذي  ذُكر حكمة وليس علة، والدليل على ذلك فهم الصحابة الذي وجه الخطاب لهم آنذاك، فضلا عن أن التميز قد يكون بوسائل أقل كلفة على النساء، كوضع إشارة معينة، وهذا ما يؤكده التعبير القرآني الذي يقول: (ذلك أدنى أن يعرفن) ولم يقل (لكي يعرفن) ففائدة من بين فوائد الحجاب أن يعرفن فلا يؤذين، وليست كل الفائدة ذلك.

 وإن كان القصد التميز فقط جاز لكل امرأة أن تتميز بما تشاء، مع أن الصحابة لم يؤثر عن أحدهم هذا الفهم، ولم يتميز أي منهم بشيء سوى الحجاب، ولا يعقل أن يتفق الكل على فهم غير كامل، ويفترض أن يفهم ذلك على الأقل بعض الصحابة وهم من عاصر الحكم وعاشه.

ثم شرحت الآية الثانية الآية الأولى وبينت الهيئة وأن الخمار ينبغي أن يسدل ليغطي النحر والجيب لا أن ينزع من الرأس ليغطى به الجيب- كما يقال اليوم - وأما الزينة التي سمح بإخراجها (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) فشرحها في الحديث النبوي( إلا الوجه والكفان) والنقل عن الصحابة أجمعين بأن المرأة ينبغي أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، وفي ذلك تخصيص للآية الأولى، ولو أن التعليل بالتميز كما قيل ما كان من حاجة لتفصيل الوضعية.

ثم إن دعوى أن النص يحمل على ستر الجيب فقط فيه مغالطة لأن الآية نصت على إسدال الخمار على الجيب - ولذا ذكر الخمار في السياق- ولم تنص على ستر الجيب فقط ، والخمار معروف عند العرب، ففي العين للفراهيدي:(خَمَّرْتُ الإناء: غطيته)1322، وفي لسان العرب (وخَمَّرَتْ به رأْسَها غَطَّتْه)4254، فبالخمار(الذي غطي به الرأس) يغطى الجيب أي بغطاء الرأس يسدل على الجيب فيغطى، ولم تنص على غطاء الجيب فقط ، والسبب كما ذكرنا أن النساء كانت تكشف نحورها، وتسدل الحجاب من وراء الظهر، وذلك كما لو أننا قلنا لأحد ما غط بجواربك الركبة، فلا ينبغي أن يفهم من ذلك خلعها وتغطية الركبة بها.

والدليل الأهم في هذا السياق هو التواتر الفعلي في الحجاب فقد تواتر الحكم في مسألة الحجاب من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير خلاف في ذلك، كما تواترت ركعات الصلاة وأوقاتها وهيأتها فعلاً، والقضية عملية فعلية تثبت بالعمل، والعمل متوتر على هذه الهيئة للحجاب، وهذا ما يقال لمن يعد الحجاب ظاهرة اجتماعية توافق عليها الناس اتفاقاً من غير أمر شرعي، فمن المستحيل التوافق على وضعية واحدة بين الآلاف من الصحابة من غير سابق معرفة بذلك، مع الدقة في وضع الحجاب، والصحابة الذين رافقوا النبي حياته نقلوا لنا أن حكم الحجاب فرض شرعي من غير خلاف وعاشوا على ذلك مع النبي فلا بد أن يسددهم النبي إن كان ذلك عادة وليس أمراً شرعياً، مع أن الحجاب لم يكن معروفاً من قبل على هذا النحو وإلا لم نزلت آية الحجاب إن كان معروفاً قديماً؟! وكيف نفهم الآيتين اللتين وقد وردتا بفعل الأمر(قل يدنين، وليضربن) هل ودرتا لعادة اجتماعية،؟! إذاً فلم لا نجيّر كثيراً من آيات القرآن للعادة الاجتماعية والإباحة والمصلحة ... ونخرج القرآن عن سياقه.

 القرآن ورد أساساً ليبين الأحكام فالأصل في حالة البيان والأمر أن يرد على الحلال والحرام ما لم يرد ما يصرفه للإباحة والعادة الاجتماعية والمصلحة وغير ذلك.

لا مانع من نقد التراث بل إنني  أدعو لقراءة التراث ثانية وثالثة وإعادة ترتيب المنظومة الإسلامية، ولكن أدعو أن يكون منطلق النقد موضوعياً يحكمه العقل لا تحكمه الشهوة وتسيطر عليه ردات الفعل، وأن لا نحكم بمجرد الاشتباه في آية قضية على أنها تخلفٌ أو نافقة الصلاحية، ثم تزول هذه الفقاعة، ويزول النقاش معها، كما ينبغي أن نحاكم التراث منطلقين من نصوص الوحي ذاتها لا من رغبتنا في التغيير، إذ التجديد ليس أمراً اختيارياً بل هو ضرورة فرضها الواقع الذي لم تعد مدونات السلف كافية لتعليله، مع رفضنا القاطع أن يحمل التراث قسراً على تبريره.

 

تاريخ النشر : 20-04-2008

6134 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com