1. توطئة.
مع إشراقة الأزمنة الحديثة بدأت تتهافت نسبيّا فكرة الحقيقة كمقولة عليا لا يطالها التفكيك والتجاوز نظرا إلى أنّ الميزة الجديدة التي بدأت تسود منطق التعامل مع الأحداث أو مع المدوّنات النصيّة هي النسبيّة، لذلك كان هجر نسق البداهة والبساطة هو قدر كلّ تعامل مع الموضوع،ومن ثمّ كان همّ المراجعة للذاكرة الأهليّة و التراث هو محاولة إخضاعها لهذه المقولات قصد جعلها أكثر واقعيّة و مواكبة للمستجدّ وهذا تطلّب فعلا تأويليّا و نموذجا في القراءة يؤمن بفاعليّة قبليّات القارئ في مجال القراءة قصد محاولة استبدال هويّة المقروء،مثل هذا المنهج يشرّع لنموذج حضاري بديل يرنو إلى التموقع بدل المتداول ليعبّر عن معانقة الفكر للتداخل و التنافر القائم بين الأشياء و السعي نحو منطق الاستبدال الدوريّ للهويّات بحسب حاجيّات الواقع و نداءاته،و من ثمّ الدخول في "مبدأ اللايقين" المعبّر عن الهجرة الدائمة والغربة المتكرّرة الرامية إلى الغربة المنتجة بدل الاطمئنان الزائف و الإلفة السلبيّة بمقولات تسكن الذاكرة .إنّها ولادة جديدة للفكر و القيم والمفاهيم من خلال انتقالها من حقل أنطولوجي إلى حقل آخر مغاير[1] وهي سمة هذا العصر الذي نعايشه، حيث آثر الإلفة بقيم لم تكن كذلك في السّابق و لكن غدت كذلك بفعل عقلانيّة الاقتصاد وعقلانيّة الأصلح –الأصلح ثروة وقوّة ونفوذا و مصلحة،أي المجسّد عمليّا للوجه الثاني للفلسفة وهو فلسفة القوّة أو الفلسفة المشرّعة للقوّة.
نعني بذلك محاولة تجاوز نسق فلسفة الحضور- الذي يعرف بأن ) الوعي لا يعترف إلا بما يحضر في الوعي لديه فيتخذ شكلّ الدلالة و المعنى و القانون و الهوية فيتطابق هكذا مع مقولاته.و تذهب فلسفة الوعي،أو فلسفة الحضور هذه إلى القول بأن ما هو واقعي لا يمكن إلا أن يكون عقلانيا،أي أن كلّ ما هو واقعي ...لا بد و أن يحضر في الوعي و تتمثله المفاهيم العقلية.([2]- إلى نسق آخر هو فلسفة الغياب أو التيه التي تقطع جزئيّا أو كلّيّا مع كلّ دلالات التطابق ساعية من وراء ذلك إلى خلخلة الاطمئنان أو استبداله عبر جرّ الفكر الإنسانيّ نحو القلق والارتياب و الغربة و الهجرة و الترحال و كلّ هذا بالإمكان تحصيله عبر فن السؤال و الوعي بلانهائيّته ) سؤال لا ينام على قناعاته ولا يفضي إلى جواب.سيبقى دائما قائما، ماثلا،مسترسلا،متأنيا،وصبورا ،دائما من نص الآخر،نكثّف حضوره فينا،نزرعه في تربة نسيجنا النفسي و خلايا دماغنا ليفضي ذلك إلى مشارفة تخومه.فيكون اختلافنا معه وعنه،اختلافا منه.أي أن هذا المختلف عنه يضل من صلبه و لا يفرض عنه من الخارج بإجراء تعسفي.فهو اختلاف يسكنه.منشأه هو.فنحن لا نطرد الغير لنقيم نحن .[3](
تلك هي الانفلاتة التاريخية للوعي الإنسانيّ التي يبتغي الانخراط فيها،و الممثّلة عندنا بنموذج نصر حامد الذي هو عنوان لنخب باتت تفكّر في امتلاك التراث الأهلي و أصوله و تحريره من الارتهانات التاريخيّة و إعادة قراءته قراءة واعية ومواكبة ولكن بآليّات الآخر المختلف لعلّها تستطيع تحقيق أمل التنوير المتمثّل في إدخال الذات الثالثيّة في الدورة التاريخيّة عبر جملة من المراجعات"الأليمة"لأصولها قصد تحريرها من ربقة ما يدعوه هو بالفكر الميتافزيقي-المفارق لنبض الواقع وتاريخيّته، ويعلن عن تأسيس ما يعرف بحداثة الإنسان المعاصر[4]، إنها محاولة جريئة منه لتجاوز أطياف الماضي أو ما يمكن تسميته بالقطيعة المعلنة مع الإبستمولوجيا القديمة بعد انهيارها أو حضورها اللافاعل في الصيرورة التاريخيّة المعاصرة والمعاكسة للخطّ المعلن من قبل حرّاس الذاكرة الأهليّة.و إنّ هذا الإطلاق ليس مرميّا على عواهنه بل هناك شرعيّة يمرّرها ليثب أحقيّته في التداول،فطبيعة التأسيس للخطاب الحديث و تطبيقاته العمليّة تعبّران عن نزعة ترمي إلى محاولة تقويض جزء من المنظومة السابقة، باعتبار أنّ المشاريع المقدّمة في فكر الحداثة لم تكن مجرّد اقتراحات لأفكار جديدة أو إدخال بعض التنقيحات أو الاستبدالات العفويّة و السطحيّة على الفكر الكلّاسيكي، بقدر ما هي محاولة جديّة و واعية لتفكيك السابق و إعادة تركيبه، و الانتقال من التنوير إلى التثوير،بحسب تصوّر نصر حامد، قصد التمكّن من الأخذ بنسق الحداثة فـ )عقل الحداثة دخل في أزمة حاليّا بسبب انحرافات الحداثة والنقد الذي تعرّضت له سوف يجد حلاّ له في تشكيل عقل جديد يتجاوزه هو عقل ما بعد الحداثة...أو العقل المنبثق الصاعد حديثا،أو العقل الاستطلاعي و المستقبلي الجديد.مهما يكن من أمر فإنّ عقل الحداثة الكلّاسيكيّة ...سوف يتعرّض للتفكيك و النقد مثله في ذلك مثل العقل الديني الذي هيمن قبله طيلة قرون و قرون.[5](
هنا بدأت لحظة البناء لتصوّرات إعادة الوئام بين الأنا و العالم بمفهومه المعاصر و لكن هذا التأسيس الجديد مرّده أنّ أصحاب هذه الأنسقة الفلسفيّة يرون أنّ مثل هذا الانبلاج للجديد المعلن ليس في معظم القديم ما يعضده لذلك اندفع إلى التقويض غير متجانف لإثم الإلغاء أو الإنكار حتّى و إن تعلّق الأمر بنصّ تأسيسي للفكر الإسلامي وهو النصّ القرآني فكلّ الأنظمة الفكريّة خاضعة لأثر التاريخ في مجال التعديل أو الإلغاء،إنّ طبيعة التفكير المقدّمة قد ألغت منطق الفوارق بين النصوص و اعتبرتها نصوصا ثقافيّة أو منتجا واقعيّا-ثقافيّا،لو استخدمنا مصطلح نصر حامد، ممكنة التحوير و حتّى الإلغاء إن اقتضى الواقع المرجعي ذلك،[6]لأنّ النصّ القرآني قد انتقل من حقل المرسل و تموضع بشريّا ضمن حدود أفق المتلقّي وفعاليّاته وتجاربه و تصوّراته و آليّات فهمه،بمعنى أنّه يسعى إلى التأسيس لمرحلة ما-بعد-توليد النصوص،أي الانتقال من سلطة النصّ إلى سلطة الواقع،وهذا الانتقال في نظره ضروريّ للتخلّص من صرامة النصوص إلى مرونة القراءة،ومن ثمّ جذب النصّ من علياء المرسل إلى واقع القارئ لدفعه نحو الانخراط في المحايثة بما تعنيه من امتلاك و انتماء لحقل القارئ ،مثل هذه النزعة التحديثية لم تستهدف المفاهيم فحسب بل طالت فاعليّتها المناهج ثم بنية الفكر نفسه و إوالياته، ممّا ولَد تعريفات جديدة تخصّ: "الإنسان" و"الحقيقة" و"الواقع" و "النصوص" و"الإله"، إنها محاولات تختزن في جوانيتها هاجس استعادة البعدين المفقودين –المنسييْن في النسق المستقيل، الإنسان والتاريخ ،باعتبار أنّ هذين البعدين قد غيّبا في نظريّة المعرفة القديمة بسبب اغتراب الإنسان عن ذاته والتفاتته إلى الإلهيات وما حوته من مواضيع ترمي بفكره في ساحة الغيب ومن ثم ترفعه عن واقعه وإحداثياته،لذلك وجب تجاوز كلّ نسق يغيّب الإنسان عن التاريخ ودينامكيّته عبر تحويل الإلهيّات إلى إنسانيّات و اللاهوت إلى أنثروبولجيا و الانخراط في نسق تأويل العقائد على أساس أنّها جهد من الإنسان لتجاوز اغترابه في هذا العالم فيخلق في شعوره كائنا من داخله لا آتيا من الخارج المتعالي، ويضفي عليه صفات الكمال التي يفتقر إليها،ومن ثمّ يحوّل الإله من ذات مشخّصة لها وجود مفارق للوعي إلى مجرّد حضور معرفي يجسّد جهد الإنسان للوصول إلى النموذج أو المثال الذي يطمح إليه[7]،و هذا يتطلّب فعلا جريئا، وعبّر عن ذلك نصر حامد،في سياق نقده لمشروع حسن حنفي،من خلال ضرورة الانتقال من تنوير التراث وأصوله إلى "التثوير"[8] أي الانتقال من مجرّد التلوين و التغيير السطحي إلى أفق التأويل،بمعنى دفعه نحو الحضور في أفق الوعي العلمي بالواقع والتراث.
إذن،سنحاول ضمن هذا السياق قراءة بعض تصوّرات نصر حامد في مستوى النصّ القرآني و نصوصه الثواني قصد تبيّن كيف حاول تجنيد آليّاته المعرفيّة لتغيير هويّة النصّ القرآني ومن وراءه الحامل له "الإنسان" و تحويله من نصّ مفارق-مقدّس إلى نصّ ثقافي أو تجربة بشريّة محايثة تخضع لسنن التاريخ بمعنى تحويله إلى ظاهرة ثقافيّة مشروطة أو مجرّد ممارسة خطابيّة هي في الأخير ليست إلاّ فعاليّة بشريّة تاريخيّة دنيويّة ذات مسار حلزونيّ لكن دون تجاوز سقف الدنيوة المرتبطة بتجربة الذات التاريخيّة و إبداعات المجتمع،بمعنى أنّه يقرأ النصّ المقدّس-التأسيسي المفارق في المنظومة الأشعريّة-الأرثودكسيّة ضمن أرضيّة علميّة رياضيّة خارج الوعي اللاهوتي الرسمي وهو بذلك يحاول أن يوجّه النصّ القرآني إلى مجال الصيغة البراغماتيّة في التعامل مع النماذج النصيّة من خلال رؤيتها كمقاربة حياتيّة و حكاية عن مسار تاريخي و محاكاة لنماذج سابقة كإعادة خلق و ابتكار،بمعنى أنّنا نحاول تتبّع مصطلح شديد الحساسيّة عند صاحبنا وهو "التجديد و إعادة البناء" لأنّ يعتبر مثل المصطلح ليس مجرّد طلاء للبناء القديم بقدر ما يقدّمه على اعتباره تفكيك للمنظومات و شبكة المقاربات والسياج الدوغمائي و الخطّ الأرثودكسي-المحافظ الحاضن للنصّ القرآني و لدلالاته و تفرّعاته و علومه التي ارتقت من مجرّد تجربة تاريخيّة إلى نصّ مقدّس-مغلق-مفارق ،يحكم تجربة الإنسان التاريخيّة المتدوّمة، غير قابل للتفكيك أو التعديل أو المراجعة لأنّ في ذلك هتك و ليس مجرّد انتهاك لقداسته،كما أنّ مثل هذه التصوّرات حول النصّ القرآني ستكشف عن حجم المعركة التي يخوضها نصر حامد و جملة النخب التي اختارت نهج التحديث العلمي-الواقعي ضدّ أصحاب الخطّ المحافظ في مجال صناعة الذاكرة و من له أهليّة صياغة الوقائع والنصوص و التجارب،إنّه صراع بين حماة النصوص و محرّريه.[9]
2. خلخلة مسلّمات النصّ القرآني في منظومة العقل المنعكس: القلب المنهجي في مشكلّة البداية
إنّ الذي يهمّنا هنا هو الأزمة التي تفجّرت في أواسط القرن الماضي و مازالت ممتدّة إلى يومنا هذا و تنذر بالاستمرار،و هي تلك التي تميّزت بسقوط العديد من الإيديولوجيّات و المفاهيم، وخصوصا المتعلّقة بإرادات القراءة ونسقها وآفاقها ضمن دائرة "النصّ المقدّس"ممّا يؤكّد أنّ طبيعة الاهتمام تتّجه نحو استبدال هويّة النصّ القرآني،بمعنى أنّ القارئ يوجّه النص المقدّس،الذي غدا نصّا "مؤنسنا"لحظة نزوله و حضوره في حلقة التاريخ البشري،و هذا التوجيه يكون عبر "قبليّات القراءة" المضمرة في فكر القارئ،بمعنى أنّه لن يبحث في النصّ إلاّ عن الذي ينتظره هو منه،لذلك سيسعى إلى جعله ناطقا بإجابات بعينها يريدها،وهو ما يجعل النصّ بكلّ أشكال حضوره،نصّا ناطقا بلسان القارئ لا نصّا مغيّرا لقبليّاته،و إن تعذّر مثل ذلك يغدو العيب في النصّ لا في الواقع،مثل هذا القول يقلب المعادلة التراثيّة-الأهليّة القائلة بحاكميّة النصّ إلى سلطة القارئ-المؤوّل،بمعنى إرادة نصر حامد الخروج بالنصّ الديني من دائرة الأسطورة إلى دائرة التاريخ و من دائرة الإيمان والتسليم إلى دائرة العلم و المراجعات النقديّة،من خلال جعله قابلا للقراءة ،باعتبارها فعلا ينحو ناحية القارئ لا قابلا للتأويل فحسب باعتباره فعلا ينحو ناحية المرسل و لا يخرج عن سلطته، و التطوير و اختلاطه بالواقع،فلا يعقل أن تكون الحاكميّة لنصّ ثابت المعاني و الدلالات على واقع متشعّب و متغيّر و متطوّر منخرط ضمن صيرورة تنفر من الحلّ و تميل إلى الترحال،فالتسليم بمثل حاكميّة النصّ إهدار له و للواقع الذي يحكمه[10] لذلك وجب نسخ مقولات الخطاب الديني المحافظ "حرّاس الرأسمال الرمزي" قصد الانخراط في استقطار الدلالات و المفاهيم المعتقلة في جسد النصّ القرآني والتي تتّفق و اللحظة التاريخيّة المعاشة،عبر هذا الفعل التفكيكي ،أي بواسطة القراءة التأويليّة ،التي تصل إلى المغزى عبر الدلالة لا وثبا عليها[11] ،يمكن أن يستعيد النصّ القرآني أوّلا و نصوصه الثواني ثانيا وضعهما الطبيعييْن بعد أن قلب حرّاس الرأسمال الرمزي النصّ القرآني و أوقفوه على رأسه،وهذا العمل التفكيكي لن يحرّر النصوص فحسب بل يحرّر الذهنيّات و التاريخ. إنّ الكشف عن الخفي لا يتمّ بمجرّد استبدال التسميات بل بالقطيعة المعرفية و الكشف عن الإرادات المثبِّتَة لهذه الأنساق، فلا بدّ من إيقاع الترتيب الإبستمولوجي الذي يراجع التولّد التدريجي للأفكار و تجدّدها أو تجاوزها إن اقتضت الضرورة الإنسانيّة ذلك، لكن دون قفزات مراهقة.بالإمكان إذن، اختصار نسق التجديد عند أبي زيد و ما تولّد عنه من مراجعات للنصوص التأسيسيّة بقولنا إنها "حداثة العقل المنعكس" ،لو استخدمنا مصطلح ميشال فوشو.
بهذا التحديد الإشكالي للتصورات وللمفاهيم بالإمكان إدراك أنّ نقطة التحول أو المفارقة بين المنظومتين القديمة-المحافظة و الناشئة حديثا ضمن مجال دراسة النصوص،تكمن في تحديد مشكلّ البداية باعتبار أنّ هذا التحديد هو الذي يتسنّى بمقتضاه رسم خط سير التفكير للمفاهيم و الإشكالات التي تتحرّك ضمنها و بها هذه المنظومة أو تلك،بهذا المعنى بدأت مرحلة الجزر للفكر الميتافزيقي أو فكر الماورائيات و المُثل أمام الدفق الذي غدا يمثّله الفكر الحديث الظهوراتي فكر الواقع في "العالم" و التفكير في الـ"هنا" أي من مرحلة الواقع كفكر أو كأمثولة إلى مرحلة الواقع كعالم حسي له وضعه الزمني في حلقة التاريخ،إنّ هذا التغيّر أنشأ منظومة الحضور القائم"في"العالم و التوق إلى التقدّم "في"ـه،كلّ هذه التعبيرات عن التوق و التقدّم و تعبيرة ما يجب أن يكون قد انفصلت عن نسق التجريد لتغدو صيرورة و ميلا للتعالي المستمر داخل العالم الحسي،عالم الإنسان عالم الـ"هنا"،وهذا ما دفع إلى إقرار حلقة فن التأويلcercle herméneutique ،كما عبّر عن ذلك ميشال فوشو، أين تتأسس حركة الانعطاف المتغيّرة، التي تتراءى جليا في انبجاس مسحة القلق و الحيرة والتوتر العالية على جبين الفكر الحديث،أي العالم الذي هجره الإله،والمعبّرة عن شيء دفين في الفكر و في النفسيّة،إنّه مخاض مأزوم لفكر الحداثة، بعد أن استُبدلت مركزيّة فكرة الإله بمركزيّة الإنسان،الذي يفكّر في ذاته كحلقية،تبعا لمنظوريّة الفهم المعلنة صعدا، من هنا تفقد الحقيقة مشروعيتها من حيث هي كذلك تبعا لتغيّر نظم الاستدلال بها، أي من الحقيقة إلى حقيقة من جملة حقائق أو لنقل معارف لها إمكانيّة أخذ صفة اليقين،مهما كان مصدر هذه الحقائق،لأنّ طبيعة القادم وحاكميّته سيكون مبنيّا على معيار التوافق مع أقانيم الواقع الإنسانيّ،لذا يغدو الإنسان ماسكا بحلقيّة القبول و الرفض للمقولات [12]،فلم نعد نقول بحاكميّة صنف فقط من المعارف بقدر ما غدونا نقول بتداخل أصناف المعرفة من دون إقصاء أو حجب و من دون نظر إلى المصدريّة،لأنّ المعيار الناظم ليس النظر في المصدر بقدر النظر في الفاعليّة أي اكتسابه الأهليّة الفكريّة للتواجد و ممارسة فعاليّته الفكريّة،فالنصوص في مستوى حداثة العقل المنعكس قد استوت و نُزعت عنها سمة القداسة و التراتبيّة، وغدت نصوصا "ثقافيّة-تاريخيّة".إنَها إرادة جامحة تنتاب الفكر للتغيير و للثورة وللتجديد وللتفكيك وللهدم و للتجاوز ولإعادة الصياغة من خلال طرح كلّ المرجعيات و إسقاط حجب التقديس عنها وتطبيق الصرامة المنهجيّة و النقدية عليها،لأجل فسح المجال أمام تصوّرات جديدة يراد لها أن تكون البديل الفكريّ-الحضاري في هذا الوجود التاريخي-الإنسانيّ حيث كلّ متعال عنه يُعدّ من قبيل المجاز،بالإضافة إلى اعتبار أنّ التعالي و المفارقة من المفاهيم التي تشوّش على المفكّر دراسته العلميّة للنصّ،إن أخذناها من المفهوم السلفي-المحافظ،أمّا إن اتخذنا نهج التعالي المؤنسن ضمن حدود الأفق التاريخي-الإنساني فإنّها تغدو دافعة للتناول العلمي و تنسيب الدلالات المطلقة و محاولة تدجينها و أنسنتها ،ومن ثمّ وجب تحرير الذهنيّات من حصار مفاهيم"المحظور"و"الحرام"لمانعة من كلّ تناول و معالجة "للنصّ-التابو"،فوجب التقحّم والمواجهة لنفي صبغة التقديس و التعالي و المفارقة عبر استبدال هذا الدياليكتيك النازل من المفارق إلى المحايث بديالكتيك صاعد من المحايث إلى المفارق دون هجرة للعالم هنا[13]] لذلك فإنّ هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر "المحظور" و"المحرم" في الوعي الديني السائد والمسيطر،لا يقتحمها إلا بوصفه خطابا بدوره لا يزعم امتلاك الحقيقة …إنه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرى…مقاربة بعض جوانب الحقيقة بالمعنى النسبي،أي الثقافي التاريخي .[14](
من هنا تتسارع إلى الذهن أنّ الحقيقة،في عرف نصر حامد، لم تعد واحدة متوحدّة في ذاتها لا تقبل التعدّد لأنها صادرة عن إله متوحّد، بل أصبحت يقينا متولدا عن اجتهاد معرفي أو جهد عقلي إنساني في ظروف معيّنة خاضعة لتأثير الزمن الأرضي بما فيه من تقلّبات و ضغوط و شعور و ميولات، يقبل الإثبات أو النقض بعيدا عن منطق الماورائيات أو التدخّل المباشر لما يسمى بالإله أو بالمطلق أو بالمتعالي،بهذا تغدو مشاريع الحقيقة أو إعادة صياغة الإنسان،التي تدّعي الإطلاقيّة، مجرد وهم فكريّ،باعتبار أنّ كلّ فكر قابل للتأويل و من ثمّ قابليّته للتجاوز ضمن ما يسمّى بقدر الصيرورة و التاريخ أو العبور في زمن صنعه الإنسان،تلك هي حقيقة التفكيك التي أريد لها أن تكون صبغة هذا العصر، تفكيك كلّ العقائد والأنظمة اللاهوتية الآتية من العصور الوسطى قصد محاولة تأهيلها من خلال تعديل نسقها من الإطلاقيّة إلى النسبيّة و من الأحاديّة إلى المعيّة المعرفيّة أو التداخل ، نظراإلى الجمود الذي طالها،وقد عبّر هاشم صالح عن هذا التوجّه الحداثوي الغربي الذي يريد خلخلة كلّ الثوابت والأصول التي تقوم عليها الذات الإنسانيّة لدى العديد من الثقافات الثالثيّة ومنها الذات الإسلاميّة ، والعمل على إدخالها ضمن مسار جديد هو مسار العولمة عبر فرض نسق التجديد و إيجاد بدائل عن نموذج الإيمان القروسطي بنموذج لإيمان يستجيب لمواصفات حداثة الإنسان لا لمواصفات المعبود سبحانه،أي أنّنا مع هذه الحداثة نشهد فاعليّة العقل المنعكس الذي بلور مفهوم تكييف مفهوم الإله بحسب مواصفات الإنسان بدل استجابة الإنسان لمواصفات الله التي أثبتها لأجل أن يكون متماهيا معها أو ساعيا لامتلاكها ولو نسبيّا[15]،من هنا تحوّلت العقائد التي هي جوهر النصّ القرآني إلى مجرّد تصوّرات ذهنيّة موجّهة للسلوك بعد أن كانت دليلا على وجود إله مفارق-رقيب،بحيث غدت مثل هذه الأنظمة العقائديّة المتعالية،في عرف نصر حامد أبي زيد الآخذ بنسق العقل المنعكس، نظاما واقعيّا هدفها الاستجابة لمصالح الناس أو تبريرها بعدما كانت تسعى إلى إقامة مصالح النّاس وفق نظريّة مقاصد النصّ المقدّس،بصرف النظر عن المصدر ودلالته على وجود مفارق،مثل هذا التوجّه يبرّره نصر حامد وفق مرجعيّة العقل المنعكس بأنّ الوجود الإنسانيّ هو الأصل،أي الوجود الحقيقي "الديالكتيك الصاعد"،و كلّ وجود في الوعي هو وجود بالمجاز،،فالإنسان هو مبدع اللغة لذلك فكلّ مفاهيمها تنطبق بالحقيقة على الإنسان لأنّه هو المعنيّ الأوّل بمعانيها و مفاهيمها،أمّا غيره فتطلق عليه مجازا قياسا على إطلاقها على الوجود الإنسانيّ[16] ،و خلاف ذلك يعدّ عائقا أمام التفاعل المثمر الذي يراد للإنسان أن ينخرط فيه ) يدخل هذا التحليل الأنتروبولوجي ... في باب الأنسنة الحديثة و ما تفرضه من مراجعات فكريّة و نقد تفكيكي لجميع " القيم" والاعتقادات و أنواع التشريع والسياسات الشرعيّة التي ورثناها عن الماضي البعيد و القريب .والأنسنة إذن نشاط شامل، بنّاء، مبدع ،يعتني بإعادة النظر في جميع ما يتعلّق بوجود الإنسان و طرق الفهم و التأويل و التجسيد التاريخي لهذا الوجود([17]،مثل هذا التصوّر في مجال استبدال البدايات،يطرح إشكال "المجاز" في الفكر الإسلامي[18]،بمعنى أيّ العالميْن "عالم الإله" أو "عالم الإنسان-الهنا" يمثلّ الحقيقة و الآخر يمثّل المجاز،ومن ثمّ يخرج إشكال المجاز من حقله اللغوي إلى حقله الحضاري في مجال "صياغة رؤية للعالم"، وعبر ذلك تتحدّد الرؤى إمّا الهجرة من عالم الهنا-المجازي إلى عالم الحقيقة الفوقي،ممّا يعني انتصارا للموقفالسلفي-الأشعري،و إمّا الإقرار بحقيقة الوجود الإنساني-في الهنا و اعتبار العالم الفوقي الكامن في الوعي عالما مجازيّا،وهو ما يعني انتصارا للموقف الحداثي-العلمي،و لعلّ تعبيرات نصر حامد و تحليلاته تشير بداهة لا إلى انتصاره إلى الموقف الثاني فحسب،بل و تؤكّد سعيه إلى إضعاف حجج الموقف السلفي و سلبه أهليّة حضوره و تداوله.
هذا يؤكّد التصوّر الجديد القاضي بإقرار الوجود في الـ "هنا" لا في عالم آخر غير عالمنا هذا،فـ "أسطورة" العالم الفوقي وجب تجاوزها،) فحركة التشخصن...تخوّلنا من التفكير في تعال،دون التجاء إلى عالم الغيبيّات....([19] بهذا نقول أنّ نصر حامد قد اتّجه صوب أنسنة النصّ القرآني من خلال الفصل في مجال البداية،بحيث يغدو نمط التعامل معه على أساس أنّه نصّ لغوي أو منتج ثقافي تماما كما فهمه أدونيس،بمعنى التعامل معه خارج كلّ بعد ديني-إيماني،و إخضاعه للصرامة العلميّة من نقد وتفكيك وإعادة بناء و تغيير...التي تخضع لها النتاجات المعرفيّة الأخرى. إذن، إنّه عمل يستهدف استبدال هويّته عبر تحويله من ناطق باسم الإله إلى ناطق باسم تأويلات الإنسان وانتظاراته،وهي مغامرة تستهدف نسف المنظومة العقديّة برمّتها و جهود الأقدمين الذين أصّلوا تلك الحقائق،عبر إخضاع كلّ الظواهر بما فيها النصّ القرآني إلى آليّة التحليل التاريخي لنشأة الأفكار للتأكيد على تاريخيّة دلالة النصّ ،ومن ثمّ العودة إلى القول بفاعليّة الواقع الإنسانيّ في صياغة النصوص، وبالتالي إلى نسف قول المنظومة الأشعريّة بمفارقة النصّ القرآني و استبداله بمقولة الوجود الإنسانيّ من حيث كونه الوجود الحقيقي و كلّ مفارق له هو مجاز.مثل هذه التأكيد يفضي إلى تغيّر جذري في مستوى التعامل مع موجدات النصّ القرآني نعني بذلك قضيّة مسلّم بها في المنظومة الأرثودكسيّة-الإسلاميّة وهي الوحي،وهو تغيّر يعتبره مدخلا أساسيّا لتحقيق وعي علمي بالنصّ المقدّس و تجاوز الوعي الإيديولوجي[20] الذي تتستّر وراءه الخطابات الأشعريّة أو حرّاس الرأسمال الرمزي.
3. الوحي كظاهرة تاريخيّة ...لها شروط إمكان
إن المتأمل في ظاهرة الوحي يلاحظ أنها تمثل فاتحة كلّ ظاهرة دينية عامة,سواء أكانت في أديان الوحي التوحيدي أو في غيرها من التجارب الدينيّة الأخرى, فالوحي يمثل حجر الزاوية في إثبات صدق النبوة, وهي التي أصبحت قناة الوصل بين السماء و الأرض)إنّه يدعى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت,وهذا المفهوم يشكلّ مجازا مركزيا وأساسيا,يشكلّ النظرة العمودية للإنسان المدعو بدوره للارتفاع إلى الله,أي إلى التعالي ([21]
إنّ هذه المقدّمة ضرورية لأجل بيان أن مسلك دراستنا لظاهرة الوحي عند نصر حامد يتجاوز معالم التحديدات المدرسيّة للوحي,وهذا بالضبط سبب إحراجها و جدتها في الآن نفسه, فنصر حامد و إن كان ينطلق في دراسته للوحي من ذلك التراث التوحيدي المثبت بشكلّ تَقوي ورع-لو استخدمنا مصطلح أركون-في المخيال الجمعي إلا أنه يؤسس نظرة متميزة من خلال مجانبة النتائج المكرورة, فهو يسعى من وراء كلّ هذا إلى فهم و تبيّن المنشأ التاريخي و الثقافي-الواقعي لهذه الظاهرة بعدما استنفد السلف دراسة المنشأ الإلهي لها إلى حد الاحتراق. و في خضمّ هذه الدراسة يحاول تتبّع الوظيفة الإيديولوجية للوحي,و كيفية تسخير مثل هذه الآلية لأجل إضفاء التقديس على بعض التعاليم ذات الأصل التاريخي-الثقافي.وهو في هذا يوظف المفاهيم الجديدة التي أفرزتها الحداثة قصد تعقل ظاهرة الوحي من الناحية المعرفية –العلميّة،لأنّ مثل هذه الدراسة ستمهّد السبيل نحو "دنيوة" النصّ القرآني بمعنى تحويله إلى فعاليّة بشريّة تاريخيّة.
إن الأمر يتعلق بشيء لا يُسأل عنه في المنظومة السلفية/الأشعرية وهو مصدر الوحي,لأنه شيء ألفه النّاس و اعتادوا قبوله,بحيث لم يفكر أحد داخل الحقل السلفي أن يبضعه موضع تساؤل أو استفهام أو مراجعة,لكن الأمر يختلف إذا ما اختلفنا إلى منظومة نصر حامد التجديديّة,فهو يضع هذه المسلًمة و غيرها موضع السؤال قصد إعادة الإجابة عنها بصورة حداثيّة, بصورة تأمل في أن تنشدّ إلى الحقيقة ،بما هي حقيقة، وتتباعد عن الإيديولوجيا التي ينتجها الخطاب السلفي –فيما يزعم هو-,يقول نصر حامد في هذا المجال )لذلك فإنّ هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر "المحظور"و "المحرم" في الوعي الديني السائد و المسيطر,لا يقتحمها إلا بوصفه خطابا بدوره لا يزعم امتلاك الحقيقة…إنه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرى…مقاربة بعض جوانب الحقيقة بالمعنى النسبي,أي الثقافي التاريخي .[22](
نتبيّن من خلال ما ورد صعدا أنّ نصر حامد ينطلق مما هو ثابت متعيّن, وهو الواقع الأرضي لأجل أن ينفتح على المجهول,على الميتافيزيقا,على المتعالي, و هذا يثبت لنا منذ البدء أن الحقيقة الثابتة لديه هي الواقع الأرضي-العينيّ-,فهو الشاهد ,أما الغائب أو المجاز أو المجهول فهو كلّ ما وراء ذلك, فالوجود "في"العالم قد أصبح الأساس الذي تقوم عليه فلسفة نصر حامد,فإذا عرفنا أن العالم هو أرضنا ,فمن ثم فهو كذلك التربة التي تنمو و تنبجس على سطحها الحقيقة ) الواقع إذن هو الأصل و لا سبيل لإهداره,من الواقع تكون النص,ومن لغته و ثقافته صيغت مفاهيمه,ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته,فالواقع أولا و الواقع ثانيا و الواقع أخيرا. ( [23] ضمن هذا المنظور الواقعي يتحرك نصر حامد في معالجة قضية الوحي,فبما أننا نعيش في هذا العالم الأرضي و نجربه,فما الذي يترتب عن القول بأننا قادرون على وضع مشكلّة التعبير عن تجربتنا بالعالم و حقيقتها بهذه الصورة ؟ يرى نصر حامد أن على الوحي بما هو تجربة وتعبير تقديم العبارة الأولى عن العالم, لكن في الوقت ذاته نعرف أنّ هذه العبارة الأولى ذاتها هي في الواقع شيء ثان بالنسبة إلى التجربة العينيّة بالعالم, و تتطلّب هذه المنهجيّة أن تكون كلّ العبارات المعبرة عن التجربة العينيّة و كلّ المفاهيم مستوحاة من التجربة,أي من تجربتنا بالعالم, هكذا يرى نصر حامد تجربة الوحي المحمدي, فهو يرى أنّ المعنى الحقيقيّ كامن في هذه التجربة,و من ثم يُطالب بالتخلي عن أي افتراض مسبق أو متعال,أي افتراض يسبق كلّ شيء,وخاصة التجربة في الواقع, أي يكون هو البداية والتبرير .
من هذا التقديم الفلسفي,الذي يركّز على الفلسفة الواقعية/ الإمبيريقية, يتسنّى لنا البدء في الكشف عن رؤية نصر حامد للوحي, و إنّ الرابط الذي اعتمدته لأجل إدراج نصر حامد و منظومته التجديديّة ضمن هذا النهج,هو الاشتراك في نقطة البدء ,وهو الواقع, العالم ,الأرض ,الحسي,و لا أطلق هذا الحكم جزافا وإنّما استنتجته من مقولاته التي لا تترك مجالا إلا وتذكّر القارئ بمحوريّة الواقع و أسبقيّته على الوحي,و يمكن أن نورد أمثلة على ذلك :
q فمن الطبيعيّ أن يكون المدخل العلميّ لدرس النصّ القرآني مدخل الواقع و الثقافة, الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص و ينتظم المتقبّل الأول للنص وهو الرسول …بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة و الواقع, بمثابة البدء بالحقائق الإمبيريقية. [24]
qو إذا كان البدء بالواقع معناه البدء بالحقائق التي نعرفها من التاريخ,فإنّ دراستنا لمفهوم النصّ سعيا لتحديد ماهية الإسلام, لا ينبغي أن تغفل الواقع, بل عليها أن تبدأ به بوصفه الحقيقة العينيّة الملموسة التي يمكن الحديث عنها.[25]
بهذا نكون قد وصلنا إلى رأي مهمّ يتعيّن علينا أن نعبّر عنه في صيغة واضحة, إنّ المعرفة اليقينيّة الوحيدة التي يعتنقها نصر حامد هي المعرفة التي تجرّب العالم في العالم و ضمن حدوده الإمبيريقيّة,بهذا أرى أنّ حلّ مشكلة الحقيقة و البداهة-في نظر نصر حامد-إنمّا يكون "في" العالم-"في" الواقع المتعيّن. من هذه البداهة يخترق نصر حامد المنظومة السلفيّة لأجل تناول ظاهرة الوحي من نقطة انتهاءها ( الواقع الأرضي) لجعلها نقطة البدء الأصيلة. فأولى المفاهيم التي يطلقها على الوحي هي الإعلام ,و يرى فيه المفهوم الجامع لكلّ التفسيرات الفرعية الأخرى لكلمة وحي.
فالوحي عنده عمليّة اتّصال بين طرفين تتضمّن إعلاما-رسالة- خفيا سريا,و إذا كان الإعلام لا يتحقّق في أيّ عمليّة اتّصال إلا من خلال شفرة خاصة, فمن الضروري أن يكون مفهوم الشفرة متضمنا في مفهوم الوحي,و لابد أن تكون هذه الشفرة المستخدمة في عمليّة الاتّصال و الإعلام شفرة مشتركة بين المرسل و المتقبّل, أي بين طرفي عمليّة الاتّصال/الوحي .[26] إن هذا المفهوم الذي يقدمه نصر حامد,هو مفهوم يستثمر مفاهيم المنهج السيميوطيقي (علم العلامات) [27]و قد استغل خاصة نموذج رومان ياكبسون لأجل تقديم هذا التعريف للوحي :
السياق –الرسالة
المرسل المتلقي[28]
الصلة -الشفرة
لو ننظر في الكلمة المفتاح في التعريف السابق لوجدناها :الشفرة Code و الشفرة معناها ) نظام من الإشارات-أو من العلامات أو الرموز- تستخدم,من خلال عرف مسبق متفق عليه, لنقل معلومة من نقطة-مصدر-إلى نقطة وصول.[29](فعمليّة الاتّصال أيا كان نوعها يجب أن تتم على ) أساس تواطؤ ثقافي ما أو تراث ثقافي يوحد بين جماعة من الجماعات الاجتماعية. ([30] من ثم تبرز الإحالة دائما إلى الواقع, إلى نظام الثقافة السائد الذي من خلاله تستمد الشفرة قيمتها و مفهومها, بمعنى أن كلّ عمليّة اتّصال لا تنفك تتنزّل ضمن إطار اجتماعي/ثقافي ,تكتسب منه مشروعيتها,وهو العرف, بهذا نعود إلى نقطة البدء و هو النمط الإمبيريقي الذي يجد شرعيته في الواقع,و بذلك ربط نصر حامد الشفرة بعالم الواقع الخارجي[31]
هذا التفسير يشير إلى إمكانيّة عمليّة الاتّصال/الوحي بين المرسل و المتقبّل لاشتراكهما في مرتبة الوجود و في الرابط الثقافي : اللغة و الشفرة المحققة لعمليّة الاتّصال, هذا المستوى الأول من الوحي ممكن الوقوع و نسلّم معه بإمكانيّته و ببداهة وقوعه, لكن إذا انتقلنا من هذا الحقل الواقعي-الإمبيريقي إلى الحقل الديني قصد إبانة مفهوم الوحي النبوي, فإن المهمّة تغدو أعقد ,لأنها وطء في غابة من الموانع التي تراكمت عبر العصور لاعتبارات دينية/ثقافية حفت بالمصطلح فجعلته ممتنعا عن المراجعة والتغيير,حيث أُلبس رداء القداسة فاكتسب شرعية خفية, وهذا يؤدي بك جبرا أن تقوم بحفرياتك المعرفية وفي أفق منظورك كلّ تلك التصورات الحافة التي لا محيد عنها في الفكر السلفي لأنها تستند إلى حرفية نصوصية،و خاصة أنّها تتعلّق بشرعيّة النصّ التأسيسي للحضارة الإسلاميّة.
الإشكالية هنا, تكمن في تلك المعارف الجاهزة التي وفدت علينا من الماضي, فلا نحيد عنها قيد أنملة انصياعا و احتراما لسلطة الدين علينا و التي نقرّ بمشروعيّتها الروحيّة و العقديّة و المعرفيّة, لكن نصر حامد شقّ "عصا الطاعة" معرفيا/إبستمولوجيا في هذا الحقل,من خلال طرح نوع من الأسئلة رآها مفيدة في مجاله هذا, أي مجال معالجة المفاهيم "المقدسة" محاولا النفاذ إلى الجديد من أرضية القديم,لأن التراث الديني ككتلة يختلف عن العلم كأداة-كما يذهب إلى ذلك عبد الهادي عبد الرحمن في كتابه سلطة النص- إن هذا يحيلنا إلى تناول مفهوم الوحي عند باحثنا قصد السير قدما في تحرير النصّ القرآني من الارتهانات الطقوسيّة التي تمنعه من الاحتكاك بالواقع الأرضي-الحقيقي, فمعلوم أنه في المنظومة السلفية/الأشعرية نجد أن مفهوم الوحي هو مفهوم مفارق,أي أنّ p الله يَصْطَفِي مِنَ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاس. [32]i لذلك يعتبر الوحي من حيث منشأه و نزوله و مصدره هو الله,أي أن حركته كائنة من فوق إلى أسفل, و نزوله كان في معظمه ابتداء و ليس استجابة لواقع فرض هذا النوع من الوحي,من ثم فالوحي له وجود خطي/سابق في اللوح المحفوظ ثم ابتدأ نزوله عبر ملك الوحي جبريل.قال تعالى p نَزَل بِهِ الرُوحُ ا
تاريخ النشر : 20-04-2008
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.