آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  فلسفة التجديد

قضايا التجديد    |    إتجاهات الإصلاح    |    التعليم و المناهج

  •     

في الحاجة لفهم التناقض الأساسي للعصر

عز الدين العزماني


التناقض الأساسي مفهوم مركزي في التصور الجدلي للتاريخ؛ أي جدل الطبيعة والإنسان في التصور الغربي أساسا، غير أننا يمكن أن نستبدل بهذا الاستعمال الدلالي استعمالا آخر يندرج في قلب البحث عن الدلالة الأنطولوجية للتاريخ، التي تعتبر التاريخ تعبيرا عن جدل الغيب والطبيعة والإنسان، وتعتبر الغيب (أنطولوجيا التاريخ) محور هذا الجدل.
إن التفكير في إعادة النظر في دلالة التناقض الأساسي، يستبطن في العمق تحولا جوهريا في طبيعة التناقض الأساسي للعصر المتعين تاريخيا.
إن التناقض الأساسي اليوم ليس تناقضا اقتصاديا بين البورجوازية والطبقة الكادحة، كما أنه ليس فقط تناقضا سياسيا بين السلطوية والرعايا، بل هو في العمق تناقض شامل يشمل جميع هذه المستويات لينكشف في تناقض أساسي بين "المعنى" و"اللامعنى"، إنه في النهاية نتاج لسيرورة الحداثة في أبعادها السياسية والاقتصادية وما ولدته من إشكاليات "العقلانية الأداتية" و"الاستهلاك العدمي" و"الاستلاب الوجودي" وغيرها من تعبيرات الحداثة التاريخية المدمرة.

خطاب النهضة والتناقض بين الأنا والآخر:
لقد حاولت النخبة العربية استيعاب مفهوم التناقض الأساسي ضمن أدبيات النهضة، سواء في التقدير العقلاني للأزمة، أو في طرح الحل التاريخي لها.
غير أن الصراع التاريخي الذي حكم العلاقة بين الماركسية والليبيرالية أسهم في تأجيل النظر الوجودي وتبجيل النظر المادي للتناقض في الوضع العربي دونما التفكير في الإمكانات التي يتيحها المرجع الإسلامي في الحل.
فكيف فسرت النخبة العربية التناقض الأساسي ضمن السياق التاريخي العربي الإسلامي؟
لقد طرح الخطاب النهضوي العربي في بداياته التناقض الأساسي في العلاقة مع الغرب (المتفوق ماديا في المخيال العربي)، أ لم يعبر شكيب أرسلان عن رؤيته تلك في سؤاله المعروف: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ 
إنه استفهام تاريخي دال على حقيقة الإحساس بالتأخر التاريخي، مما يحتم التفكير في تناقض أساسي بين الأنا (التخلف) والآخر (الغرب المتقدم)، غير أن روادا آخرين لمشروع النهضة انتبهوا إلى ضرورة التحديد الوظيفي للتناقض الأساسي من داخل قراءة ثنائية؛ تجمع بين قراءة التراث وقراءة الغرب، ومن هذا المنظور طرحت ثلاث تناقضات؛ تناقض بين العلم والجهل عبرت عنه أدبيات محمد عبده، وتناقض بين الوحدة والتجزئة عبرت عنه أدبيات الأفغاني، ثم تناقض بين الدولة والمجتمع عبرت عنه أدبيات الكواكبي.
من هذا المنظور يمكن استخلاص النمذجة التاريخية للنهضة والتقدم؛ العلم، الوحدة، العدل والحرية.
وهنا يطرح علينا استشكال أساسي: إذا كانت محاولة التحديد الوظيفي للتناقض الأساسي قد طرحت بهذا الشكل، فلماذا لم تنتقل هذه المحاولة إلى مستوى استدعاء منظومة القيم المرجعية لأجل مأسسة مشروع النهضة.
الحقيقة أن القضية لا تتوقف عند هذا التوصيف، لأن الاستعمار سيساهم عميقا في تأجيل عمليات الوصل التاريخي بين منظومة القيم المرجعية وسيرورة الواقع المتعين، إذ سيكون لسؤال التحرير الوطني عميق الأثر في رؤى النهوض بعد اشتداد أزماته واستعصائها.
ولذلك لم تكن رؤية النهوض مستصحبة للتناقض في أبعاده المركبة، والتي يتداخل فيها الداخل مع الخارج، بحيث أن العلاقة مع وقائع الحربين العالميتين كانت علاقة تبعية، ولم تطرح على أمتنا أسئلة انحدار الفكر الإنساني وتمركزه حول فلسفة "الإنسان ذي البعد الواحد" كما طرحها رواد الفكر الإنساني في الغرب خاصة مدرسة فرانكفورت (هوركايمر، فروم، أدورنو، ماركيوز)، وأيضا المدرسة الوجودية التي عبرت عن قلق وجودي للغرب من جراء النتائج العكسية للحداثة التاريخية.
صحيح أن المدرسة الوجودية ستجد بعض تعبيراتها في الفلسفة العربية، إلا أنها لم تكن عميقة الأثر في الوعي العربي بحكم نزوعها التأملي، خاصة وأن زمن الحروب والاستعمار فرض وضعا تاريخيا استلزم إجابات عملية، الأمر الذي سيجعل من أسئلة الماهية والمعنى أسئلة مفارقة للحس التاريخي العربي، وهو ما سيأصل عمليا في مرحلة "خروج" الاستعمار من البلاد العربية.
لقد تبلور في سياق ما بعد الاستعمار المباشر للأمة، صراع خيارات في طريق بناء الدولة الوطنية، مما سيولد أزمة النخبة بشكل بارز، إذ بدل تأسيس ما أسميه "التراكم التاريخي الخلاق" لعصر النهضة انطلاقا من التوافق التاريخي حول منظومة القيم المرجعية للأمة، سيتجه كل تأويل للتناقض إلى بناء خياره التاريخي عمليا ومؤسساتيا.
مما سيحول جدل التأويلات وصراع الخيارات إلى تناقض أساسي بين المكونات الأساسية للمجتمعات العربية، إذ سينزع العلمانيون للدفاع عن العقلانية وفصل الدين عن الحياة، وسينزع اليسار إلى الدفاع عن العدالة الاجتماعية باعتباره قيمة مركزية، وسيتجه القوميون إلى الدفاع عن قيمة الوحدة لضمان مركزية اللغة في الوجود المشترك للعرب، في حين سينشد الإصلاحيون الإسلاميون إلى الدفاع عن الإسلام باعتباره حلا لمشكلات الأمة وأزماتها المركبة، مما سيجعل الصراع التاريخي بين الفاعلين الأساسيين للأمة صراعا حول منظومة القيم المرجعية المأصولة في الهوية العربية؛ أي صراع بين قيم العقلانية والوحدة والعدالة والهوية، مما سيولد ثلاث أزمات في النظام العربي، أزمة هوية وأزمة نموذج وأزمة اتجاه.
لقد حاولت بعض أدبيات الفكر العربي الراهن أن تجيب عن هذه الإشكالية من خلال مقولة "الكتلة التاريخية" التي تجمع بين الفاعلين الأساسيين في الأمة من خلال توافق تاريخي عقلاني، وهو ما سيتجلى بشكل جوهري في أدبيات مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي الإسلامي.
لكن ما هي مقومات النقاش الفكري التي يقترحها الخطاب الإسلامي في هذا الاتجاه؟.

الخطاب الإسلامي والتناقض الهوياتي
يمكن القول أن الخطاب الإسلامي حول النهضة، قد انتقل جذريا من تصور التناقض بين الحاكمية والعلمانية (شعار الإسلام هو الحل مع الشيخ حسن البنا)، إلى تصور التناقض بين الإيمان والجاهلية (شعار الإيمان الشعوري عند سيد قطب)، غير أن هذا التناقض الأساسي في التصورين لم يكن معزولا عن سياقات تشكله، وأيضا لم يكن ليغيب أبعاد التغيير الكبرى، ألم يتحدث الشيخ حسن البنا عن مركزية بناء الإنسان؟ 
ثم ألم يشر سيد قطب إلى العدالة الاجتماعية باعتبارها مطلبا جوهريا في التجديد السياسي والنضال المجتمعي للإنسانية جمعاء؟
غير أنه بعد التحولات التي دفعت بها العولمة منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ستؤسس لوضع تاريخي جديد؛ غياب نموذج تفسيري لحقيقة التناقض الأساسي خاصة بعد انهيار النموذج الماركسي، حيث الليبيرالية متعينة تاريخيا وليست تفسيرا لهذا الوضع الجديد.
إن هذا الوضع التاريخي هو الذي يفسر خطاب النهايات مع بداية تسعينيات القرن المنصرم؛ نهاية الفلسفة، نهاية التاريخ، نهاية العقل، نهاية الإنسان، نهاية الإيديولوجيا.
لكن أعتقد أن أفضل تعبير لهذا الوضع التاريخي هو ذاك الذي أطلقه المفكر العربي زكي العايدي حينما تحدث عن "عالم بدون معنى".
لقد صار الطرح الليبيرالي يمثل "بنية الواقع" مما أدى إلى نهاية زمنه التفسيري، وهو ما عبر عنه هابرماس في تعبيره الشهير: "الحداثة مشروع لم يكتمل".
ولذلك أعتقد بأن أدبيات "الليبرالية الجديدة" هي محاولة فاشلة لاستيعاب التناقضات الكامنة في النموذج الليبيرالي الحاكم للنظام الدولي، كما أن استعادة الليبرالية كفعل يعبر عن عجز نظري وفلسفي لدى الليبراليين الجدد في الاستعادة المطلقة للخبرة الغربية لعلاج مشكلات العصر المتعينة، وهو ما يتجلى بشكل صارخ في مقولة "الصراع الحضاري" التي حاول من خلالها هنتنغتون أن يصور لنا تناقضا تاريخيا بين الغرب والإسلام حول منظومة القيم التي ينبغي أن تحكم العالم اليوم.

التناقض بين المعنى واللامعنى وسؤال "ما العمل؟"
لقد وعى "الخطاب الإسلامي الجديد" هذا الوضع التاريخي المعقد، فصار إلى العناية بمركزية القيم المرجعية في تفسير التناقض الأساسي للعصر، مما يسمح بتقديم إجابة وجودية على "قلق العصر"، بين الحاجة للمعنى وتيارات العولمة الهادمة للمعنى.
ولذلك صار لازما على رواد النهضة صياغة فلسفة الإسلام وفق هذا الأفق الحضاري الكبير، فتصير النهضة "طاقة روحية وأخلاقية وفكرية تنطلق من "الذاتية" الإسلامية في تفاعلها الجدلي مع إنسانية الإنسان وعصرانية الحضارة".
من هذا المنظور أعتقد أن مقولة "الإرهاب" في الوعي الغربي هي تكثيف لحالة عدم فهم الإنسان الغربي لتصور المسلمين للتناقض التاريخي للعصر، فهو تعبير عن "مطلب" الفهم، وإن كانت تجلياته تبدو دموية في السياق السياسي، بسبب خوف الغرب من حاكمية نظام القيم الإسلامية.
إن الحاجة ماسة اليوم لطرح مشروع النهضة بشكل يستوعب التناقض الأساسي للعصر بين المعنى واللامعنى، من خلال:
ـ تأسيس حوار حضاري خلاق، حوار أفكار وفلسفات لا حوار أديان، يؤسس لاستعادة حقيقة المرجعية النهائية في تصورات الإنسان المعاصر.
ـ الانخراط في دينامية العودة إلى الذات مع أحرار العالم والأمة، من خلال مشروع جبهوي يتجاوز الدوائر الضيقة في التفكير والتدبير. 
ـ تأسيس علاقة مع جميع الفاعلين تقوم على أرضية المواطنة، التي تعتمد الوطن فضاء للفعل الحضاري الذي يساعد على تدبير الاختلاف، و"المجتمع المدني" فضاء للفعل التاريخي المشترك، والدولة فضاء مؤسساتيا لحفظ أمن الجماعة الوطنية.
وأعتقد أن أبعاد المنظومة العلائقية التي نقترحها ينبغي أن تتجلى في مجمل مستويات المشروع النهضوي:
ـ حامل اجتماعي يتأسس على قاعدة الحوار الجبهوي الممتد حضاريا.
ـ حامل سياسي يستوعب حقيقة المواطنة وينطلق من الشرع الإسلامي باعتباره تحقق لمصالح العباد.
ـ حامل ثقافي ينطلق من منظومة القيم المرجعية الإسلامية في بناء الشخصية الإنسانية، تدينا وتفكيرا وسلوكا، فتكون الثقافة حاملة لمعاني بناء الإنسان.
ـ حامل فكري قاعدته الفلسفية تنطلق من "المدرسة القرآنية"، وقاعدته العملية تنطلق من أساس المقاومة باعتباره إجابة عن التناقض الوجودي بين الحق والباطل، وتناقض تاريخي واجتماعي بين العدل والظلم.
إن إستيعاب التناقض الأساسي للعصر بين المعنى واللامعنى يتطلب من المسلمين قيادة جهود العودة إلى الدين، من خلال رفض كل قراءة تكفيرية، والعناية بكل قراءة كان محورها النص، دونما تشكيك في مشروعيتها.

 

تاريخ النشر : 24-04-2008

6169 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com