آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

الإرهاب.. مفهومه وأحكامه في الشريعة الإسلامية

وائل حمدوش


الإرهاب مفهومه وأحكامه في الشريعة الإسلامية دراسة فقهية مقارنة 
 ياسر لطفي العلي 
رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة دمشق.   
2008

أدى التكاثر المرعب لظاهرة العنف إلى ظهور العديد من الدراسات التي حاولت استشراف أسبابه والعمل على سد منافذه، فكأنما العنف قد غدا قدرا محتوما على كثير من الأبرياء، وتحول إلى وجبة يومية تلتهم الآلاف من البشر بمسوغات عدة. ولا شك أن نصيب الأسد من الاتهامات بالإرهاب قد ناله المسلمون، سواء أسهموا بذلك أم ألصق ذلك بهم، فلقد وصم المجتمع الإسلامي ومن ورائه النصوص التشريعية بأنها محمية حقيقية لتفريخ الإرهاب وتخريج الإرهابيين. 
شكلت تلك الأسباب الحادي الأساس للباحث (ياسر لطفي العلي) لخوض هذا الباحث والكشف عن الموقف الشرعي السليم والمقنع من تلك الممارسات والأعمال. 

الإرهاب.. الحد والمفهوم 

يمر الباحث إلى تحديد معنى الإرهاب من خلال المعجم العربي، مبينا أن معنى (رهب) الجذر قد تمحور حول الخوف والذعر والخشية، ولكن لم تكن مفردة الإرهاب تستخدم حاملة معنى جذرها اللغوي إلا عند الزبيدي؛ فيقول: الإرهاب "بالكسر الإزعاج والإخافة"، وهو المكان الوحيد الذي وردت فيه منسجمة مع المعنى اللغوي لجذرها الثلاثي الذي تعود إليه. (ص 25). 
ولاستكمال التحديد المصطلحي لمعنى الإرهاب كان لا بد من الوقوف عند معنى الإرهاب في نصوص الوحي وخاصة القرآن، الذي ظلمت بعض نصوصه – من قبل مسلمين وغيرهم - وذلك لاستثمار العديد من المفردات التي ترجع إلى الجذر الثلاثي لمفردة الإرهاب في التنظير لتهمة الإسلام بالإرهاب، أو لاستثمار ذلك في القيام بالعديد من الأعمال الإرهابية. 
ويرى الباحث أن دراسة المعنى الذي تحتويه مفردة (رهب) في القرآن تنعزل تماما عن المعنى العرفي الذي اكتسبته اليوم، وخاصة قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال 60)، فهذه الآية "تحدثت عن وجوب التجهيز والإعداد للسلاح... وقد ربطت الآية بين الترهيب والإعداد فجعلت الغاية المرجوة من إعداد المستطاع من القوة إرهاب عدو الله وعدو المؤمنين" (ص 37)؛ لأن الضمير في {ترهبون به} يعود إلى الإعداد لا القوة، وقد رجح ذلك أكثر المفسرين، وبالتالي لم يقصد من الترهيب هنا الفعل والاعتداء والتقتيل، بل قصد منه التخويف فقط، فهو "ترهيب وقائي" (ص 39). 
ويدرس الباحث مفهوم الإرهاب قرآنيا ليسحب البساط من تحت المؤولة الذين أولوا نصوص القرآن كما أرادوا، ولكن برغم النتيجة التي خرج بها حول مفهوم الإرهاب قرآنيا فإنه من غير الخافي أن أحد مقاصد الإعداد هو الاستعمال، فمن الممكن قرآنيا استعمالها (أي هذه الأسلحة) في القتل، ولكن ضمن شروط لا يجوز تجاوزها. 
وكذلك لا تخرج مفردة الإرهاب في استعمال الفقهاء "عن الحقيقة اللغوية للمفردة من معاني الفزع والخوف بحيث لا تتفق مع المعنى الشائع والعرفي لهذه المفردة" (ص 47). 
والسؤال الذي يرد في هذا الصدد: ما هو المعنى الشائع والمرفوض الذي تحيل إليه ونحن لم نحدد بعد مفهوم الإرهاب، وأي نوع من الأعمال الشائعة تقصد؟. 
وإذا ما انتقلنا إلى مفهوم الإرهاب في القانون الوضعي، الذي تكاثرت فيه التعريفات، وتداخل في تعريفه الأيديولوجي والسياسي والقانوني والبراغماتي؛ فإن الباحث يرى أن معظم من عرف الإرهاب سقط في فخ الخلفيات "الثقافية والسياسية والأيديولوجية التي يؤمن بها ذلك الفقيه" (ص 57)، فلم توجد الجدية من هؤلاء الباحثين لصياغة حل لذلك، فضلا عن كون معظم التعاريف لم تصغ بطريقة عامة "يمكن أن تستوعب كل جزئياتها المتعددة والمتغيرة بآن واحد، وذلك من خلال رؤية تهتم بالجوهر والماهية لا بالوصف والرسم، ولا تستبعد في نفس الوقت نقاط التمايز والافتراق بين هذه المفردة وغيرها من المفاهيم الأخرى" (ص 60). 
ويرى الباحث أن أكثر التعريفات توفيقا هو ذلك التعريف الذي صاغه عدد كبير من القانونيين المختصين والأكاديميين تحت عنوان: "مفهوم الإرهاب والمقاومة رؤية عربية إسلامية"، وقد عرفوا الإرهاب بأنه "استخدام غير مشروع للعنف أو تهديد باستخدامه ببواعث غير مشروعة يبث الرعب بين الناس ويعرض حياة الأبرياء للخطر، سواء أقامت به دولة أم مجموعة أم فرد، وذلك لتحقيق مصالح غير مشروعة، وهو بذلك يختلف كليا عن حالات اللجوء إلى القوة المسلحة في إطار المقاومة المشروعة" (ص 64)، وعلى الرغم من اعتراف الباحث بجودة التعريف، فإنه برأيه لم يصب عين الحقيقة. 
ومن ثم يقترح الباحث تعريفا يرى أنه جامع مانع لمفهوم الإرهاب وهو: "خلق حالة عامة من الرعب وعدم الأمن من خلال ممارسات غير مشروعة للعنف بأنواعه وصوره المختلفة، لتحقيق أهداف مشروعة وغير مشروعة" (ص 75). 
ومما يميز التعريف – بحسب الباحث - أنه "يحتوي على عناصر منضبطة وقابلة للقياس" (ص 75)، فلقد عبر "بحالة عامة من الرعب" لأهميتها في التعريف ومحوريتها، وهي "تمييز العمل الإرهابي عن غيره" (ص 75)، لكن هذا القيد المميز للإرهاب تدخل فيه الحروب التي تخلق حالة عامة من الرعب، وكذلك تدخل فيه الحرابة، وقتال الفتنة وقتال البغاة، فأين "المحورية والتمييز" في هذا القيد؟، وربما تأتي قيمة هذا القيد في أنه يخرج الجرائم العادية والشخصية من دائرة العمل الإرهابي. 
لكن ما هو الفارق الذي تجاوز به هذا التعريف التعريف السابق؟. لقد ذكر الباحث في التعريف قيد "الممارسات غير المشروعة بأنواعها وصورها" وهو ما يوازيه في التعريف السابق "استخدام غير مشروع للعنف أو تهديد باستخدامه". ولئن قيل بأنه لم يشر إلى الأنواع والصور المتعددة كما فعل الباحث هنا، ولكنه أطلق ولم يقيد الإرهاب بصورة معينة، وذلك يعني شموله لأي صورة أو نوع، بل أضاف التعريف السابق فكرة "التهديد بالاستعمال" وذلك يتطابق مع الرؤية القرآنية التي توصل إليها العلي "الترهيب الوقائي"، ولربما هو لا يرى الإرهاب إلا في الفعل دون مطلق التهديد فقط، فلا إرهاب سلبيا عنده. 
يذكر الباحث قيد الباعث سواء كان مشروعا أو غير مشروع، وهو بذلك يشير إلى مسألة مهمة، لم يتطرق لها التعريف السابق الذي اقتصر على الغرض غير المشروع؛ فاهتمامه كان منصبا على الفعل، فما دام الفعل غير مشروع فلا يجوز البناء عليه ولو كان الغرض مشروعا، في حين قيد التعريف السابق عدم مشروعية الفعل في حال الغرض غير المشروع فقط. 
ومن الواضح أن تعريف الباحث لم يتطرق إلى أداة الفعل غير المشروع، وكذلك التعريف السابق وإن ألمح لها بقوله "تهديد باستخدامه"، وكان ينبغي ذكر وسيلة العمل غير المشروع، كما ذكرت غايته، لأن الغاية أو الوسيلة قد تكون غرضا غير مشروع، وقد يخلق التهديد باستخدام القوة دون استخدامها حقيقة حالة من الرعب. ومعلوم أهمية الأداة في تحديد مقدار الجريمة وكونها الأساس في التفريق بين العمد وشبهه، وهي ضرورية كشرط من الشروط لتحديد طبيعة العمل الإرهابي. 
وإذا عدنا إلى قيد "المشروعية" في كلا التعريفين، فما القانون المعول عليه في عدم المشروعية؟ هل هو القانون الإسلامي، أم غيره، ولعل الباحث يقصد هنا بعدم المشروعية عدمها من وجهة النظر الإسلامية، ولكن كان يجب اقتراح تعريف دولي عام يراعي هذه الحالة التي تصبغ العالم كله، ولا يقتصر التعريف على وجهة النظر الإسلامية فقط؛ ذلك أن صعوبة التعامل مع قيد "المشروعية" تضاهي صعوبة مفهوم الإرهاب نفسه، وهي النقطة الخلافية الأساس في تعريف الإرهاب، فالإرهاب وعدم المشروعية وجهان لمشكلة واحدة، فما هو إرهاب غير مشروع عند الولايات المتحدة قد يكون مشروعا عند المسلمين وبالتالي لا يكون إرهابا. إذن فنقطة المشروعية هي النقطة الخلافية الأهم التي تحتاج إلى تفصيل. 
وإذا أردنا التطبيق على هذا التعريف، ومعرفة ماصدقاته لوجدنا أن كثيرا من الأعمال غير الإرهابية تندرج تحته مما أخرجه الباحث من مفهوم الإرهاب، فمثلا البغاة يعدون إرهابيين تحت هذا التعريف؛ لأنهم يخلقون حالة عامة من الرعب بأفعال غير مشروعة لغايات أيا كانت. وكذلك يشمل التعريف الحرابة، والحروب بين الدول. ولئن كان الباحث قد رأى نقاط اجتماع بين البغي والحرابة من جهة وبين الإرهاب من جهة أخرى فإنه أشار إلى نقاط تمايز بينهما، غير أن هذا التعريف ينطبق انطباقا أوليا عليهما. فإذا افترضنا أن تعريف الباحث هذا مقدمة أولى؛ فإن التاريخ يمدنا بمقدمة أخرى مفادها أن معاوية وعائشة وجمهور كبير من الصحابة كانوا باغين على علي - رضي الله عنهم أجمعين - لنخرج بنتيجة مفادها أن قسما كبيرا من الصحابة كان إرهابيا، ولا سيما أن الباحث قد رأى نقاط توافق بين الإرهاب والبغي، مع أن البغاة متأولة وقد يكون تأويلهم صحيحا، على عكس الإرهاب المتفق على عدم مشروعيته، وبعبارة أخرى: قد يكون التعريف جامعا لكنه غير مانع. 

الإرهاب.. التكييف الفقهي والحكم الشرعي

لا يمكن الحديث عن تكييف العمل الإرهابي تمهيدا لبناء حكم عليه ما لم نتحدث عن الأسس العامة التي يقوم الجهاد المشروع عليها، ويتخلف العمل الإرهابي عنها، وهذه الركائز - على تعددها - تشكل المادة التي يتقوى عليها المشرعون والمؤولون على حد سواء. 
1- آية السيف ودعوى النسخ: 
أول هذه الأسس: هو دعوى النسخ في آيات الجهاد، وقد ارتكزت الآراء الفقهية في "تحديد ماهية وطبيعة الجهاد على مقولة النسخ، والتي تتضمن دعوى تثبت نسخ آيات الجهاد لبعضها البعض... وتتمحور هذه الدعوى حول نص قرآني عرف بين العلماء بآية السيف" (ص 171)، وهو قول الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة 5)، فهذه الآية - حسب رأيهم - نسخت آيات الجهاد السابقة التي تدل على التدرج في الجهاد، وبالتالي فإن "عدم الإيمان بالله والكفر باعث على استحلال دم الإنسان وإباحة قتله... محيلين بذلك عشرات الآيات في القرآن إلى التاريخ" (ص 171)، وقد نسخت هذه الآية - حسب بعض العلماء - ما يقارب من مائة وأربع وعشرين آية. 
وقد أثار ذلك استهجان كثير من العلماء فرفضوا ذلك، في حين رأى بعض آخر أن العلاقة بين آي القرآن تندرج تحت النسء وليس النسخ، وهذا ما رجحه الباحث ، فرأى ضعف ما لهج به كثير من المفسرين، فهذه الآية "من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم ثم يُنتَقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر" (ص 174)، وقد أيد هذا كثير من العلماء. كما أن الحكم بالنسخ والتوسع فيه يلغي أكثر من مائة آية، فإذا تكرر النسخ في أكثر من آية عملنا بأربع آيات أو خمس من كل القرآن الكريم. ودعوى النسخ هذه كان لها كبير الأثر في تخصيص علة الجهاد بهذا النص فقط وبالتالي تعليل الجهاد بمجرد الكفر. 

2- علة الجهاد وسبب القتال: 
ولننتقل إلى علة الجهاد وسبب القتال في الإسلام، وهو المقدمة الثانية من مقدمات العلاقة بين المسلمين والكافرين. فما هي علة الجهاد؟ هل هي حربية المقاتلين وعدوانهم أم مجرد كفرهم؛ بحيث متى وجد الكفر وجد الجهاد ووجدت الحرب. 
حاول كثير من الباحثين المعاصرين – انتصارا منهم لعدالة الإسلام، حسب ما يرون - حصر علة الجهاد في الحربية، فرأوا أن جمهور الفقهاء عللوا الجهاد بالحربية، في حين علله الشافعية فقط بالكفر، واستدلوا على ذلك بالأحاديث النبوية التي تحرم قتل الأطفال النساء والشيوخ، إذ لا تتأتى منهم الحربية. وقد استثمر هؤلاء الباحثون هذا الرأي من كلام الفقهاء عمن يجوز قتلهم ومن لا يجوز في المعركة. وقد تنبه الباحث إلى خلطهم وفند مقولاتهم في ذلك، فهم أتوا بالدليل إلى مسألة أخرى غير محل الباحث؛ فالفقهاء إذ تحدثوا عمن يجوز قتلهم ومن لا يجوز قتلهم كان ذلك في قلب الحرب أي بعد بدء المعركة، في حين أننا ندرس هنا قضية علة بدء القتال أصلا، فهم استعاروا تلك الأدلة لهذه المسألة. 

والحق أن هذه المغالطة سار عليها الكثير من العلماء من غير تنبه، والسؤال هنا: ما هي أسباب البدء بالقتال، ومن ثم – وهو سؤال آخر - من الذين يجوز قتلهم ومن الذين لا يجوز قتلهم؟. 
يرى الباحث أن جماهير الفقهاء ترى الكفر سببا للقتال (وليس القتل) وذلك من خلال استقراء أقوالهم بجواز بدء الكافرين بالقتال حتى وإن لم يبدؤونا به، ووجوب الجهاد عينا وكفاية بحيث يجب الخروج إلى العدو، وكذلك حديث الفقهاء عن أقل المرات التي يمارس فيها الجهاد في العام الواحد، وذلك يعني - حسب الباحث- "أن الأصل في العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين الأمة غير الإسلامية من منظور الفقهاء يقوم على الحرب والقتال، وأما السلم فهو أمر استثنائي" (ص 191). لكن ما يضاف إلى ذلك أن نظرة الفقهاء هذه لم تكن أمرا محكما لا نقاش فيه، إذ إنهم كثيرا ما ينصون على التفويض للإمام بما يرى فيه مصلحة الأمة، فيدخلون بذلك قسما من أحكام الجهاد في حيز السياسة الشرعية. 
لكن هذه النظرة - وفق الباحث- يجب أن تفهم ضمن سياقها التاريخي "إذ من المحتمل أن تكون تلك الرؤية جاءت تعبيرا وتوصيفا للعلاقة التي كانت سائدة بين الأمة الإسلامية والأمم غير الإسلامية، وأن هذه العلاقة كانت في الحالات الطبيعية وبصورة مستمرة تتسم بصورة من صور الاعتداء... وهذا يعني أن الفقهاء كانوا يؤصلون أحكامهم تلك بناء على حالة الاعتداء الواقعة – حقيقة أو حكما-، أي أن كل كافر في تلك الفترة هو في الأصل معتد ومحارب للأمة الإسلامية" (ص 192-193)، ولكن يبقى احتمال الكفر سببا أرجح للجهاد، حسب استقراء الباحث للفقهاء. 
ويرفض الباحث الاختباء خلف آراء الفقهاء هذه، والتسليم بنتائجها دون العودة إلى نصوص الوحي؛ إذ هي المقياس ولا سيما في حالة تعدد الاتجاهات وتنوع الآراء. ثم يستعرض كل الآيات التي عنيت ببيان علة الجهاد القتالي، وكذلك يستعرض كل الأحاديث في هذا السياق محاولا الوصول إلى علة الجهاد في خطوة مهمة للتواصل مع مصادر الأحكام دون الوقوف عند الحواجز الفقهية. فيرى الباحث أن بعض النصوص معلل "بحصول الظلم" (ص 199)، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج 39)، وبعضها معلل "بوقوع القتال والاعتداء من المشركين" (ص 200)، {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190)، واستقرأ كل الآيات والأحاديث في هذا الباب لاستخراج العلل من جميع النصوص القرآنية والنبوية، فرأى أن هذه النصوص تجتمع على معاني إزالة الاعتداء وما يكتنفه من ظلم وأذى، ومنع الاضطهاد الديني بحيث يسمح للمسلمين بممارسة شعائرهم. 
فهذه المعاني هي التي أشارت إليها نصوص الوحي والتي تشكل علة الجهاد القتالي، وليس الكفر فقط، وإلا فإننا مضطرون في حال اعتماد الكفر سببا إلى عدم قبول أي نتيجة للحرب سوى الإسلام؛ فإما الإسلام أو القتل، وكذلك لن يكون من الجائز أخذ الجزية؛ لأن وصف الكفر يبقي مع أخذها. وبما أن الشارع جعل الجزية إحدى الغايات التي ينتهي عندها الجهاد فقد دل ذلك على عدم علية الكفر للجهاد. (ص 203). 
ولعل ما يذهب إليه الباحث هنا هو الرأي السديد، وخاصة بعد أن درس كل ما يتعلق بعلة الجهاد من نصوص وآراء فقهية في عملية استقرائية مهمة لاستنتاج علة الجهاد، فما قعده الفقهاء كان بناء على الحالة التي كانت سائدة في زمنهم، والتي كانت الحروب هي الصيغة الأساس بين الدول، فكانت الحروب وسائل الإعلام الوحيدة، وكانت الهدنة أحسن الاحتمالات التي ليس فوقها خيارات أفضل كالتعايش السلمي والحرية الدينية وما إلى ذلك من المصطلحات المعاصرة، لذا وجب أن نفهم موقف الفقهاء ضمن الظرف التاريخي. 

3- التقسيم الإسلامي للمعمورة وأثره في علاقة المسلمين بغيرهم: 
دفع تصور الفقهاء (التاريخي) للأرض وتقسيمها إلى دار حرب ودار إسلام إلى خلق حالة معاصرة أسقطت التقسيم الفقهي القديم على الواقع المعاصر، واستثمرته في تقسيم العالم اليوم إلى "فسطاطين" وذلك لممارسة الجهاد المفروض كما رأوا، ولا شك أن تقسيم المسلمين للمعمورة له كبير الأثر في تأصيل "العلاقات الدولية وفق رؤية إسلامية" (ص 214)، وسيمكننا ذلك من فهم المغالطات التي أدت إلى استشراء العنف في العالم تحت ذرائع من هذا القبيل، وبناء على فهوم مغلوطة للآراء الفقهية. 
قسم الفقهاء الأرض إلى "دار إسلام" تشمل كل أرض ظهرت فيها أحكام الإسلام، وخضعت لسلطان الدولة الإسلامية، وبذلك تكون دار الصلح قسما من دار الإسلام عند معظم الفقهاء وذلك لخضوعها لسلطة الدولة الإسلامية. و"دار حرب" تشمل كل من لم تمتد له سلطة الدولة الإسلامية مما يسيطر عليه أهل الكفر، وهذا التقسيم هو الشائع. وأضاف له الإمام محمد بن الحسن الشيباني "دار الموادعة" التي عقد أهلها هدنة مع المسلمين ولم تدخل تحت سلطان الدولة الإسلامية. 
وبالعودة إلى أصل هذا التقسيم يرى الباحث أن تقسيم الفقهاء تاريخي التأثر واقعي النزعة، وخاصة أنه افتقد إلى أي نص صريح من نصوص الوحي يحدد "المعنى المراد منها ويضع المعايير الخاصة بها" (ص 218). وللوصول إلى حقيقة التقسيم ينبغي الاستفادة من التجارب الفقهية السابقة، مع مراعاة ظرفها التاريخي الذي نشأت فيه ومنحها هذه التسمية. ولعل دار الكفر أو دار الشرك كانت دائما دار حرب في مقابل دار الإسلام فاستحقت هذا الوصف في زمنها، فضلا عن أن هذه التقسيمات عامة يندرج تحتها - عند الفقهاء - تسميات أخرى متضمنة، فدار الإسلام تشمل دار الصلح، ودار الموادعة مندرجة في دار الحرب. 
ومن المرجح لدينا أن هذه القسمة الثنائية كانت محكومة بالجهاد والدعوة اللذين يتعاملان مع هذه الثنائية، فإما جهاد وسير إلى دار الشرك والكفر والموادعة بعد الهدنة، وإما سلام وأمن في دار الإسلام وما اندرج تحتها من دار الصلح، فالتقسيم هذا كان من هذا الباب فقط. 
ويعاود الباحث قراءة النص الشرعي بصورة جديدة متحررا من الرواسب التاريخية ليستشرف العلل الحقيقية، فيقترح تقسيم العالم إلى دار (الاستجابة) التي تعلو فيها كلمة الله، ودار (الدعوة) التي يبغى طلبها بالرسالة ونشر تعاليم الإسلام. 
لكن ما يؤخذ على هذا التقسيم أنه سيعيدنا إلى التقسيم السابق بصورة ما، وقد نقع في المأزق ذاته ولكن بتسميات أخر. فما هي شروط الدعوة؟ ومتى تستعمل القوة؟ لا شك أننا سنعود إلى شروط الجهاد وسنطبقها تماما كما كنا نطبقها عند (دار الحرب)، فتصبح دار الحرب هي نفسها دار الدعوة ولكن بتسمية جديدة، ولن تعفينا التسمية المحببة والسلمية من التجاوزات التي ستظل موصولة بشروط الجهاد عند الفقهاء، وبكونه ممارسا في دار الدعوة. 
والمشكل أننا اليوم في مئات الدور ولسنا في دارين، نحن اليوم نعيش زمن الدولة القومية والقطرية والكيانات الصغيرة، وعلينا أن نتعامل مع الموضوع من هذه الناحية، فنتحرر من مفاهيم الخليفة ودار الإسلام ودار الحرب؛ لأن الدور الإسلامية اليوم عشرات ودور الكفر مئات، فعلينا أن نبحث عن رؤية جديدة تتوافق والواقع القائم، يتحدد من خلالها شروط الجهاد الذي ارتبط تقسيم الأرض به، وذلك بما لا يخدش القانون الدولي ويجعل المسلمين ناكثي العهد أو خارج التاريخ. وما أكثر الظروف المواتية لإبلاغ الدعوة دون إراقة قطرة دم واحدة، إذ هي ضرورة تقدر بقدرها ويلجأ لها عند الحاجة كما كان الحال سابقا، وهذا ما أكد عليه الباحث مرارا وتكرارا، فعلينا أن نفهم الحياة بصورتها الحالية وليس بصورتها الماضية. 

4- التترس والضرورة ودورهما في تبرير الأعمال العنفية: 
تطرح فكرة التترس والضرورة كتبرير شرعي لقتل الأبرياء في سياق القيام بأعمال العنف، فلقد تحدث الفقهاء عن جواز ضرب الكفار إذا تترسوا بجماعة من المسلمين حتى وإن أصاب المسلمون هذا الترس المسلم، ولكن يرى الباحث أن هناك فرقا كبيرا بين صورة التترس عند الفقهاء وصوره المطروحة اليوم، وخاصة أن الأسلحة اليوم على تطورها تفتك بعدد كبير من الأبرياء ربما يفوق عدد المذنبين. 
والتترس وحالة الضرورة - التي تبيح قتل الأبرياء إذا تترس بهم أهل الكفر - اللذان تحدث عنهما الفقهاء كانا ضمن شروط، فرأوا أن حرمة الترس تسقط عندما تكون المصلحة "ضرورة قطعية وكلية" (ص 256)، فمعنى كونها ضرورية أنها تمخضت وسيلة لضرب العدو، ومعنى كونها كلية أي يخشى على قاعدة الإسلام من استئصالها، بحيث إن لم نضرب الترس ضربنا العدو وانهزم جمهور المسلمين، ومعنى كونها قطعية أن المصلحة المرجوة من ضرب الترس محققة قطعا لا ظنا. 
فهل التترس الذي يتحدث عنه اليوم كان ضمن هذه الشروط، وهل مصلحته كلية قطعية ضرورية؟. "إن أي تطبيق لمسألة التترس في وقتنا الراهن دون الالتفات لتلك الشروط والقيود... سيؤدي إلى مخالفة مقصود الشارع وإلى ارتكاب محظور منهي عنه" (ص 259). 
وبناء على المقدمات السابقة ولأجل تحليل هذه الأعمال الإرهابية وفك الاشتباك بينها وبين الجهاد يرى الباحث أن "الكثير من الأعمال الإرهابية المنتشرة في زماننا تعد من أخطر مظاهر الحرابة أو الإفساد في الأرض، خصوصا وأن كلا من الإفساد في الأرض والأعمال الإرهابية يقومان على الاعتداء على الأبرياء دونما حق مشروع... وعلى هذا الأساس تطبق كل عقوبة من العقوبات المذكورة في هذه الآية {أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة 33)، على مرتكبي الأعمال الإرهابية" (ص 292). هذا إن كان المنفذون من المسلمين لأن الآية تحدثت عن المسلمين الذين يرتكبون هذه الأعمال، أما غير المسلمين فلهم أحكام خاصة في حالة الاعتداء على المسلمين (ص 293). 

أشكال من العنف.. بين الجهاد المفروض والإرهاب المرفوض 
يختتم الباحث رسالته بفصل تطبيقي يتحدث فيه عن صور يدعى فيها الجهاد أو يدعى فيها الإرهاب وهي ليست كذلك. 
أول هذه النماذج التي أوردها الباحث كانت حول حيازة أسلحة الدمار الشامل واستخدامها، وذهب إلى أن نصوص القرآن تدفع إلى إعداد العدة "العسكرية المناسبة بكل أنواعها، والمناسبة للزمان والمكان المتغير" (ص 315)؛ لأن الردع للعدو لا يتحقق في كل زمن إلا بأسلحة هذا الزمن؛ ما يعني جواز حيازتها. ولكن هناك فرق بين حيازتها واستخدامها، ويخطئ – حسب الباحث- من يعلل لجواز استخدامها بالأقوال الفقهية التي تجيز استخدام السموم والنار ووضعها على الرماح والسهام، وجواز إلقاء الأفاعي على العدو، وتخريب بيوته وشجره... إذ الفرق بين هذه الأسلحة وأسلحة الدمار الشامل كبير جدا، فخطر أسلحة الدمار الشامل يفوق هذه الأسلحة بكثير، فمن الممكن لهذه الأسلحة أن تدمر البشرية كلها، فضلا عن أن تلك الأسلحة أجازها الفقهاء في حال الضرورة فقط، وحال المماثلة في الاعتداء، لذا لا يجوز استخدام هذه الأسلحة على العموم إلا في حالات المماثلة التي تشترط سبق استخدامها من العدو{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة 194)، فلقد شرطت الآية سبق الاعتداء في المماثلة. كذلك ينبغي تحقق المماثلة في الخسارة وهذا من الصعوبة بمكان، فلا يجوز أن تطال هذه الأسلحة أناسا لا قبل لهم بالحرب، كما لا ينبغي أن يطول أثرها المسلمين، وإن حصل المقصود بالسلاح الأخف فلا داعي للسلاح الأمضى. 
ثم يتحدث الباحث عن صور عديدة أخرى منها حرمة قتل السفراء والدبلوماسيين، حيث إن "ممارسة الإرهاب عليهم سواء بقتلهم أو خطفهم أو الاعتداء عليهم وإيذائهم هو أمر محظور ومحرم بعرف الشريعة الإسلامية" (ص 355)، ويعلل ويبرهن لذلك. 
كما يطرح قضية المغامرة بالنفس، ويصل إلى أنها استشهاد إذا تحققت بالعديد من الشروط، وهي أن "يكون ذلك بقصد إعزاز دين الله.. وأن تخلص النية" (ص 378)، وأن تكون هذه الأعمال على سبيل الاستثناء حالة الضرورة، فإذا تحصل المقصود بوسائل أقل وجب اتباعها، وأن تراعى في حالة الإقدام على هذه العمليات قواعد الجهاد وآدابه، واستحضار الشروط السابقة التي تحدثنا فيها عن العلاقة بين المسلمين وغيرهم. 

رؤية تقييمية ختامية 

لقد قدم الباحث بحق مقاربة بل مقاربات رائعة في صورة العلاقة بين المسلمين وغيرهم تضبط كل الأفعال المنتجة عن ذلك، ولقد احتوت الرسالة على الكثير من المسائل، وشكلت موسوعة في علاقة المسلم بغيره، وليست مجرد وجهة نظر أو رسالة في الإرهاب وحكمه فقط، فلقد درس الباحث كل ما يتعلق بالموضوع من قريب أو بعيد، ولو رحنا نستقصي ذلك لاحتجنا إلى صفحات مضاعفة لهذه الصفحات. 
حقيقة كانت جرأة الباحث محل إعجاب، فلم يختبئ خلف الأقوال الفقهية السابقة ويقبلها عموما، بل كان يغوص إلى عمق النصوص بنفسه لاكتشاف العلل الحاكمة، فكان منهجه جديرا بالتقدير بحيث لم يهمل الماضي ولم يستسلم له، كما لم يفتن بدعوات الحداثة وبريق الجدة، وكان دائم التأكيد على مرجعية النصوص وتصديرها في اقتباس الأحكام، فكان يعرض أقوال الفقهاء كاملة ثم يعود إلى النصوص ليحاكمها. 
وبكلمة أخيرة في هذا الموضوع، من غير الخافي أننا إن أردنا البحث عن المشكلة الحقيقية الثاوية في تعريف الإرهاب، فلن نجدها مشكلة معرفية؛ فأمريكا ومن التف حولها لا يعانون من عدم معرفة الإسلام، وأنهم بمجرد معرفة الإسلام حقا سيقدمون الاعتذار بحجة أنهم لم يعرفوه حقا، فالحق في ذلك بين، والمشكلة سياسية بالدرجة الأولى تستخدم بحسن نية أو بخبث كل ما يؤيد طرحها. ولقد أشار الباحث إلى أن المشكلة الأساس التي يعاني منها موضوع الإرهاب هي عدم الرغبة الجدية في تحديد مفهومه لأسباب شتى.


تاريخ النشر : 06-05-2008

6461 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com