آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

القراءات القرآنية.. إشكالية النقد.. قراءة في كتاب السبعة لابن مجاهد

محمد الحسين مليطان


( 1 )

اكتسبت كثير من الآراء والأفكار ووجهات النظر قداسة حصينة؛ باعتبارها نصوصا تراثية، أدت في بعض الأحيان إلى الإلقاء بالمحاولين تجاوز هذه الحصانة إلى أرصفة التجهيل والتخطئة، والرمي بالجهالة، وربما وصلت في أزمنة ما إلى الإقصاء نهائيا خارج منظومة الأمة الإسلامية، باتهام هذه المحاولات النقدية وأصحابها بالزندقة تارة، وبالكفر تارات أخرى.

إعادة قراءة التراث تتأسس على الشعور بوجود أزمة معرفية، وتتوسل الوعي بأهمية إعادة قراءة التراث، باعتباره الملهم الأول لإيجاد الحلول لكافة الأزمات التي تخص الوجدان الإنساني ومتطلباته المعرفية، كما أنه من المهم اليقين بأن هذه المراجعات النقدية للتراث لا تقتصر على التراث العربي والإسلامي وحده ولكنها حالة تاريخية مهمة تمر بها أمم الأرض جميعا، فالانفتاح الرهيب الذي يعيشه العالم الآن، سمح بتداول المعرفة الإنسانية بلا حدود، وبلا شروط، فضلا عن الاختيار، وفض الخواتيم المحرمة، وانتهاك المقدسات التراثية، وأصبح العالم الإنساني جاهزا - تقريبا - لقراءة مغايرة للقراءات النمطية السائدة، وهو في هذه القراءات الجديدة إما مؤكدا على السابق، وإما مضيفا إليه، وإما مخالفا ومعيدا صياغة المقولات التراثية، وهو ما يؤدي إلى "إنتاج معرفة جديدة بالنص المقروء سواء كان هذا النص نصا أدبيا أو فلسفيا أو دينيا أو نقديا أو سياسيا...إلخ"([1]).

وتأسيسا على أن الموقف من التراث لا يعني الموقف من الهوية، أو التاريخ، أو الماضي بكل أبعاده، وإنما هو - في الحقيقة - موقف من الواقع والحاضر، فإن هذه الدراسة / القراءة تنحو نحو إعادة قراءة النصوص التي مارست (نقد القراءات)، خاصة في التراث النحوي، التي وصلت إلى درجة التصريح بالقول: "ولا نسلم تواتر القراءات"([2])، و"أن دعوى التواتر باطلة"([3]).. تلك النصوص التي اعتبرها كثيرون نصوصا جريئة إلى أنها قد توقع في الكفر، مما أسهم في ظهور تيار محافظ، في رد فعل طبيعي عند المساس بالثوابت، أو ما حل محل الثوابت. وزيادة في التعبئة المعنوية أطلقت الألقاب المشجعة، والحماسية، كـ(حماة العقيدة) و(حماة القرآن) على كل من تصدى لناقدي القراءات، ونال منهم، وقد قام بهذا الدور كثيرون، تتبعوا كثيرا من المواقف النقدية الساخنة، وردوا عليها، بدافع حماية القرآن، والعقيدة، بالإضافة إلى حماية الأجيال اللاحقة من كتابات نقاد القراءات القرآنية؛ لأن هذه الكتابات - حسب أبي حيان - قد تقع بين يدي من لا يحسن هذا الفن؛ فيسيء ظنا بالقراءة وبقارئها، "فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك"([4])؛ لأننا نتعبد بالقرآن، وفي كل الأحوال "لسنا متعبدين بقول نحاة البصرة، ولا غيرهم"([5]).

إشكالية (نقد القراءات) من أخطر إشكاليات التراث الإسلامي، وأشدها تعقيدا، ولذلك فإن الكتابة في هذا الموضوع لا يمكن لها أن تدعي اقتراح الحلول المثالية لهذه الإشكالية، ولا أن تطرح بدائل لعمليات (النقد)، أو آليات (الدفاع)، ولكنها تثير الأسئلة من جديد، وليس بالضرورة أن تقدم الإجابات، كما أن هذه الدراسة تنطلق من الإيمان بأن القراءة السلفية للتراث لا تقدم قراءة معاصرة، "وبالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوى نوع واحد من الفهم للتراث، هو: الفهم التراثي للتراث، التراث يحتويها، وهي لا تستطيع أن تحتويه، لأنها: التراث يكرر نفسه"([6]).

تعكس هذه الدراسة / القراءة - فيما تعكس- حضورا متميزا لهذه القضية في المشهد الثقافي الخاص بالفكر الإسلامي واللغوي على مدى قرون طويلة، ولا تزال قضية نقد القراءات نحويا ضمن قضايا البحث اللغوي المعاصرة المهمة، وهو ما يؤكد أن "إشكالية قراءة التراث إشكالية معرفية واحدة، لا تتبدل بتبدل القارئين، المتزامنين والمتعاقبين، المختلفين والمتفقين، وإنها لا تزال مفتوحة أمام كل مفكر... مثقل بتراثه، مهموم بحاضره، متطلع إلى مستقبله، ليعاود التفكير فيها من الحين إلى الآخر، مادام التراث جزءا من أزمة الذات"([7]).

( 2 )

نَقَدَ: كـ(نَصَرَ)، والنَّقْدُ والتَّنْقَادُ: تَمييزُ الدراهم، وإخراجُ الزَّيْفِ منها، وإِعطَاؤُكَهَا إنسانًا، وأَخْذُهَا: الانْتِقَادُ، ونَاقَدْتُ فُلانًا إذا نَاقَشْتُهُ في الأَمْرِ. ونَقَدَ الشيءَ يَنْقُدُهُ نَقْدًا: إِذَا نَقَرَهُ بِإِصْبَعِهِ، كما تُنْقَرُ الجَوْزَةُ. ونَقَدَ الطَّائرُ الفخَّ يَنْقُدُهُ بِمِنْقَارِهِ: أي يَنْقُرُهُ، والمِنْقَادُ: مِنْقَارُهُ. ونَقَدَ الرجلُ الشيءَ بِنَظَرِهِ يَنْقُدُهُ نَقْدًا، وَنَقَدَ إِلَيهِ: اخْتَلَسَ النَّظَرَ نَحْوَهُ، وما زال فلانٌ يَنْقُدُ بَصَرَهُ إلى الشَّيءِ: إذَا لَمْ يَزَلْ يَنْظُرُ إِلَيهِ، وقد جاء في الأثر: "إِنْ نَقَدْتَ النَّاسَ نَقَدُوكَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ تَرَكُوكَ"([8]) أي: إن عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثله([9]).

فالدلالة المعجمية لمصطلح (النَّقْد) تسمح بأن يحمل ما عناه علماء النحو والقراءات من مصطلح (نقد القراءات) بأنها كانت موضع نظر، وتأمل، ومراجعة، وتمييز جيدها من رديئها، ولم يكن مصطلح (النَّقْد) متناصا مع البحث عن العيوب والمثالب، ولم يكن القصد من مصطلح (نقد القراءات) رفض القراءة وعدم قبولها، فـ(نقد القراءات) هو إعمال الفكر فيها اختيارا، وترجيحا، وتقوية، وتضعيفا، بمبررات وحجج علمية، تنطلق من ثوابت الإيمان بتواتر القرآن، وسلامته من أي نقص، ولا تتأسس على مبدأ الشك في هذه الثوابت، كما قد يتوهم ذلك الانفعاليون.

و(القُرْآن) في اللغة: من قَرَأ، يَقْرَأُ، ويَقْرُؤُ، قَرْءًا، وقِرَاءَةً، وقُرْآنًا.. ومعنى (القُرْآن): الجَمْعُ، وسُمّي قُرآنًا؛ لأنّه يَجْمَعُ السُّوَرَ فَيَضُمُّهَا، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ)([10]) أي: جَمْعَهُ وقِرَاءَتَهُ، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) ([11]) أي: قِرَاءَتَهُ. و(قَرَأْتُ) الشّيءَ (قُرْآنًا): جَمَعْتُهُ، وضَمَمْتُ بَعْضَهُ إلى بَعْضٍ، ومعنى (قَرَأْتُ القُرْآنَ): لَفَظْتُ به مَجْمُوعًا. ورُوِي عن الشّافعي أنه كان يقول: (القُرْآن) اسم، وليس بمهموز، ولم يؤخذ من (قَرَأْتُ)؛ ولكنه اسم لكتاب الله مثل التوراة والإنجيل، ويهمز (قَرَأْتُ)، ولا يهمز (القُرَان). وقال ابن الأثير: الأصل في لفظة (القُرْآن): الجمع، وكُلُّ شيءٍ جَمعتَهُ فقد قَرَأْتَه، وسُمّي (القُرْآن) لأنه جَمَع القِصَصَ، والأمر، والنهي، والوعد، والوعيد، والآيات، والسور، بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغُفْرَان والكُفْرَان([12]).

حاول كثيرون من العلماء([13]) الوصول إلى صياغة تعريف جامع مانع محكم للقرآن، فجمعوا صفاته، وخصائصه، المتميز بها عن غيره، ورصفوها في أبنية سردية، وقفت عند حدود النص القرآني الخارجية، ولم تتسلل إلى أنسجته اللغوية، أو بنياته الدلالية، فاقتصرت تعريفاتهم على حشد المصطلحات: (الكتاب- المعجز- المنزل على محمد- المتلو- المتواتر - المكتوب في المصحف...) إلى غير ذلك من صفات الكتاب الكريم، ولعل التعريف الذي انتخبه علي الجرجاني يعكس ظاهرية هذه المحاولات، ويبرز المهابة التي حالت دون التسلل إلى أبعد من الوصف الشكلاني للقرآن، حيث القُرْآن هو: "المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المكتوب في المصاحف، المنقول عنه نقلا متواترا، بلا شبهة"([14]).

ويجري على (القِرَاءَة) في اللغة ما جرى في لفظ (القُرْآن)، فـ(القِرَاءَة) مفرد: القراءات، وهي مصدر سماعي لـ(قرأ)، لكنها تفترق عن لفظ (القُرْآن) في اصطلاح علوم القرآن والقراءات، فما القراءات إلا علم "به يعرف كيفية النطق بالقرآن"([15])، وبهذا العلم "يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض"([16])، وهي أيضا " مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء، مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم، مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف، أم في نطق هيآتها"([17]).

( 3 )

القرآن (منقول)، والقراءات (علم) و(مذهب)، ولا يحتاج التفريق بين ما هو منقول وما هو مذهب إلى إطالة حديث، فالنقل لا يسمح بتدخل الرأي، ولا يحق للناقل التبديل أو التغيير أو الاختيار، أما في المذهب فله كل ذلك وأكثر، ولذلك فإن علماء القراءات يؤكدون على أن "الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على خط المصاحف والكتب"([18]) حرصا على ألا يتم التداخل والخلط بين المصطلحين.

قال الزركشي: "واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان.

فالقرآن: هو الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز.

والقراءات: هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف، أو كيفيتها، من تخفيف، وتثقيل، وغيرهما"([19]).

والتفريق بين القرآن والقراءات دفعت إليه إشكالية تتعلق بتواتر القراءات؛ فعلماء القراءات وعلوم القرآن لم يتفقوا على تواتر القراءات، فالقراءات السبع منها - حسب الزركشي - "متواترة عند الجمهور، وقيل: بل مشهورة....... والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر، فإن إسناد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهى نقل الواحد عن الواحد، لم تكمل شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة، وهذا شيء موجود في كتبهم"([20]).

تواتر القراءات لم يكن مبدأ متفقا عليه عند علماء القراءات وعلوم القرآن، فالمجمع عليه - فقط - هو تواتر القرآن، أما كيفية قراءته فليس من المبادئ المتفق عليها([21])؛ فبعضهم يعتقد أن تواتر القرآن لا يستلزم تواتر القراءات، لأن الاختلاف في كيفية الكلمة لا ينافي الاتفاق على أصلها، وأن الواصل إلينا بواسطة القراء إنما هو خصوصيات قراءاتهم، وأما أصل القرآن فهو واصل إلينا بالتواتر بين المسلمين، وبنقل الخلف عن السلف، ولا دخل للقراء في ذلك أصلا، ولذلك فإن القرآن ثابت التواتر حتى لو فرضنا أن هؤلاء القراء السبعة أو العشرة لم يكونوا موجودين أصلا([22]).

تأسيسا على ذلك فإن "القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن.... حيث يصح أن يكون القرآن متواترا في غير القراءات السبع، أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعا، أو في القدر الذي اتفق عليه عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قراء كانوا، أو غير قراء، بينما تكون القراءات السبع غير متواترة، وذلك في القدر الذي اختلف فيه القراء، ولم يجتمع على روايته عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة، وإن كان احتمالا ينفيه الواقع"([23])

فإذا كانت القراءة تختلف عن القرآن، وتواتر القراءة موطن خلاف، فمن الذي اشترط التواتر في القراءة ؟ وعلى أي تأسيس أسس شرطه هذا ؟.

إن هذا - حسب ابن الجزري - ليس من صنيع المتقدمين، ولم تعرف الأجيال الأولى هذا الشرط، بل إنهم لم يتعرضوا لقضية التواتر أصلاً، وإنما هو ابتداع من جاء بعدهم، "فقد شرط بعض المتأخرين التواتر... ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن"([24]).

وقد تطورت إشكالية تواتر القراءات فيما بعد حتى وصلت مذاهب علماء علوم القرآن والقراءات [القرائيون] في مسألة التواتر إلى خمسة: أولها: أن القراءات ليست متواترة بل هي آحاد. وثانيها: أن القراءات العشر فيها المتواتر وغيره. وثالثها: أنها متواترة فيما ليس من قبيل الأداء. ورابعها: أن القراءات السبع متواترة عن القراء لا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخامسها: أن القراءات العشر متواترة إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم([25]).

إن ما عقّد خيوط هذه الإشكالية هو الاعتقاد السائد لدى كثير من المتأخرين بأن القول بعدم تواتر القراءات يجر إلى القول بعدم تواتر القرآن، مع أنه لا تكاد تجدُ ذكرا لهذا المصطلح في هذا المقام في كتب السابقين، وإنما تجد مصطلحات مثل: قراءة العامة، أو القراءة المشهورة، ففي كتاب (السبعة) لابن مجاهد - مثلا - لا يوجد ذكر لمصطلح (التواتر)، مع كونه المرجع الأقدم في علم القراءات، وفي هذا الكتاب صاغ ابن مجاهد فكرة (السبعة) التي استقدسها كثير من المتأخرين، من القرائيين، ومن النحويين، ومن المفسرين، وغيرهم، وباتت منطقة منزهة عن التقول فيها ولو بكتاب بيّن([26]).

لم يكن ابن مجاهد أول من قام بجمع القراءات في كتاب، وليس آخر من فعل ذلك، فأول من جمع القراءات في كتاب هو أبو عبيد القاسم بن سلام وحصرهم في خمسة وعشرين قارئا مع القراء السبعة، الذين اقتصر ابن مجاهد على قراءاتهم في كتابه، وهذه القراءات لم تكن معروفة في مصر وشمال أفريقيا والأندلس حتى أواخر المائة الرابعة، ولم تكن كل قراءة من هذه القراءات مقتصرة على راويين - كما هو شائع اليوم - فالحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني وصل بالقراءات السبعة إلى أكثر من خمسمائة رواية وطريق، وكتب أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري كتابا سماه: (التلخيص في القراءات الثماني)، وزاد آخرون في عدد الروايات والطرق، حتى وصلت عند أبي القاسم عيسى بن عبد العزيز الإسكندري إلى سبعة آلاف رواية وطريق، جمعها في كتاب سماه (الجامع الأكبر والبحر الأزخر)([27]).

إن جمع القراءات وحصرها في القراء السبعة الذين ذكرهم ابن مجاهد لم يكن محل إجماع بين علماء القراءات وعلوم القرآن؛ بل إن هناك نخبة منهم كالإمام أبي العباس المهدوي، والإمام أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي انتقدت هذا التصنيف، وعابت هذا الحصر؛ فمنهم من اعترض على القراء السبعة من حيث العدد، باعتباره "أشكل على العامة؛ حتى جهلوا ما لم يسعهم جهله، وأوهم كل من قلّ نظره أن هذه هي المذكورة في الخبر النبوي لا غير، وأكد وهم اللاحق السابق، وليته إذ اقتصر، نقص عن السبعة، أو زاد، ليزيل هذه الشبهة"([28]).

ومنهم من اعترض على القراء السبعة أنفسهم باعتبارهم ليسوا النخبة من جمهور القراء الغفير، مؤكدا أن هناك من الأئمة "أكثر من سبعين، ممن هو أعلى رتبة، وأجل قدرا، من هؤلاء السبعة"([29]).

وقللّ آخرون من قيمة بعض القراء السبعة الذين ذكرهم ابن مجاهد في كتابه، بحجة أن جماعة من العلماء قد تركوا في مؤلفاتهم "ذكرَ بعض هؤلاء السبعة، واطّرحهم.. قد ترك أبو حاتم وغيرُه ذكرَ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وزاد نحو عشرين رجلا من الأئمة، ممن هو فوق هؤلاء السبعة، وكذلك فعل أبو عبيد، وإسماعيل القاضي"([30]).

وشكك بعضهم في اختيار ابن مجاهد بعض القراء الكوفيين، وشطبه من قائمة السبعة آخرين بصريين، مشيرا إلى وجود دوافع أخرى - سياسية وغيرها- كامنة وراء هذا التصنيف، يقصدون بذلك الكسائي الذي ألحقه ابن مجاهد بالسبعة في أيام المأمون، حيث كان يعقوب الحضرمي هو القارئ السابع حسب اختيار ابن مجاهد وتصنيفه، لكنه فضّل فيما بعد إثبات الكسائي في موضع يعقوب([31]).

لم يكن ابن مجاهد يعني بـ(السبعة) أكثر من كونهم نخبة القراء الذين عرفهم، حسب معاييره الخاصة، هذه المعايير التي قد تتفق مع معايير الآخرين، وقد لا تتفق معها، فاختلاف القراءات - حسب ابن مجاهد - توسعة ورحمة للمسلمين، وليس تضييقا عليهم وتشديدا، وهؤلاء القراء ليسوا سوى بشر، يجري عليهم ما يجري على بقية البشر من الخطأ، والسهو، والتفاوت في الإتقان، فـ"حملة القرآن متفاضلون في حمله، ولنقلة الحروف منازل في نقل حروفه..... فمن حملة القرآن:

- المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعيب القراءات، المنتقد للآثار، فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القرآن في كل مصر من أمصار المسلمين.

- ومنهم من يعرب، ولا يلحن، ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته، ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه.

- ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، لا يعرف الإعراب، ولا غيره، فذلك الحافظ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده، فيضيع الإعراب لشدة تشابهه، وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة؛ لأنه لا يعتمد على علم بالعربية، ولا بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه وسماعه، وقد ينسى الحافظ، فيضيع السماع، وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره، ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقا، فيحمل ذلك عنه، وقد نسيه، ووهم فيه، وجسر على لزومه، والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ على من نسى، وضيع الإعراب، ودخلته الشبهة، فتوهم، فذلك لا يقلد القراءة، ولا يحتج بنقله.

- ومنهم من يعرب قراءته، ويبصر المعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات، واختلاف الناس، والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب، إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية، لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا"([32]).

ومن هذه الفئات انتخب ابن مجاهد (السبعة)، مما يؤكد أن هؤلاء (السبعة) ليسوا - وحدهم- من تحمل مسؤولية نقل القرآن إلى الأجيال اللاحقة؛ وإنما هم أفضل النقلة، مما يدعم القول بالتفريق بين (الحفاظ) الناقلين القرآن من جيل إلى جيل، وبين (القراء) المتقنين المتفننين في أداء القرآن، ويدعم - أيضا- القول بأن القراءة: فعل نخبويّ، بينما الحفظ والنقل: فعل عاميّ أمميّ.

هذه المقالة مدعومة من ابن مجاهد نفسه، الذي يؤكد أن القراء اختاروا من الحفاظ ومن القراء ما استحسنوه في قراءاتهم، متوسلين بمبدأ الانتخاب، لا مبدأ التسليم والانقياد، ومما حكاه ابن مجاهد من اختيارات القراء:

1- يقول ابن مجاهد: " حدثني الحسن بن أبي مهران قال: حدثنا أحمد بن يزيد عن عيسى ابن مينا قالون قال: كان أهل المدينة لا يهمزون، حتى همز ابن جندب، فهمزوا: (مستهزئون) و(استهزئ)([33]).

2- حدثني محمد بن الفرج قال: حدثنا محمد بن إسحق المسيبي، عن أبيه، عن نافع، أنه قال: أدركت هؤلاء الأئمة الخمسة([34])، وغيرهم ممن سمى فلم يحفظ أبي أسماءهم، قال نافع: فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد فتركته، حتى ألفت هذه القراءة في هذه الحروف([35]).

3- وكان علي بن حمزة الكسائي قد قرأ على حمزة، ونظر في وجوه القراءات، وكانت العربية علمه، وصناعته، واختار من قراءة حمزة، وقراءة غيره قراءة متوسطة، غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة([36]).

4- وأما البصرة، فقام بالقراءة بها بعد التابعين جماعة، منهم: أبو عمرو بن العلاء...... قال أبو بكر: وكان مقدما في عصره، عالما بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللغة، إمام الناس في العربية، وكان مع علمه باللغة، وفقهه بالعربية، متمسكا بالآثار، لا يكاد يخالف في اختياره ما جاء عن الأئمة قبله([37]).

5- ... وحدثونا عن وهب بن جرير قال: قال لي شعبة: تمسك بقراءة أبي عمرو، فإنها ستصير للناس إسنادا. حدثني محمد بن عيسى بن حيان قال: حدثنا نصر بن علي قال: قال لي أبي: قال لي شعبة: انظر ما يقرأ به أبو عمرو مما يختار لنفسه فاكتبه، فإنهسيصير للناس إسنادا([38]).

6- ... وكان أبو عمرو حسن الاختيار، سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل([39]).

وقد أثبت بعض المؤرخين أن هذا النهج في الاختيار بين القراءات كان منهج ابن مجاهد نفسه، فقد قرأ ابن مجاهد على قنبل المكي، لكنه انفرد عن قنبل بعشرة أحرف، لم يتابعه عليها([40]).

ولعل هذا ما جعل بعض علماء القراءات يمنعون القراءة اعتمادا على القياس المطلق، الذي ليس له أصل في القراءة يرجع إليه، ولا في الأداء ما يعتمد عليه، ولكنهم يسمحون للقراء النخبة بالقراءة بالقياس، متى توفرت متطلباته، فيسمح لهم بالرجوع إلى القياس عند عدم النص، وغموض وجه الأداء، وقد لا يكون قياسا "على الوجه الاصطلاحي، إذ هو في الحقيقة نسبة جزئي إلى كلي، كمثل ما اختير في تخفيف بعض الهمزات لأهل الأداء، وفي إثبات البسملة وعدمها لبعض القراء، ونقل (كِتَابِيَهْ إِنِّي) وإدغام (مَالِيَهْ هَلَكَ) قياسا عليه، وكذلك قياس (قَالَ رَجُلَانِ) و(قَالَ رَجُلٌ) على (قَالَ رَبِّ) في الإدغام.... مما لا يخالف نصا، ولا يرد إجماعا، ولا أصلا، مع أنه قليل جدا"([41]).

هذا.. مع إقرار كثير من المتأخرين أن "أئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية؛ بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية، إذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة، يلزم قبولها، والمصير إليها"([42]). في المقام نفسه يؤكد ابن الجزري أن "جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة..... جمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأصول أصّلوها، وأركان فصّلوها، وهانحن... نعول كما عولوا عليها"([43])، وعلى الرغم من يقين ابن الجزري أن هذه الأصول مؤصّلة، وهذه الأركان مفصّلة على يد علماء القراءات، فإنه يعلن الإصرار على أنه سوف يعول - كما عولوا- عليها، وهذا التعويل يحتاج إلى رصيد من التبرير حتى يكون ملزما لغيره باتباعه، وإلا فإنه سوف يظل مجرد اختيار خاص به، لا يمكن حمل القراء الآخرين عليه.

( 4 )

بعد بحث إحصائي (كمبيوتري) لكتاب (السبعة) لابن مجاهد لم تظهر نتائجه موقفا منسجما مع موقف أكثر المتأخرين المحافظين ومطابقا له في قضية تنزيه القراءات عن التقييم؛ بل إن هذه النتائج أظهرت أن ابن مجاهد وصف بعض القراء وقراءاتهم بـ(الخطأ) تارة، و(الوهم) تارة، و(الغلط) أو (اللحن) تارات أخرى، وتظهر النتائج أيضا أنه روى مثل هذه الأوصاف عن غيره دون اعتراض، أو توجيه؛ مما يدعم القول بأن ابن مجاهد كان لا يعتقد حصانة القراء والقراءات من التقييم، ونزاهتهم عن التقويم، وقد جاءت هذه النتائج كما هو مبين في الجدول الآتي:

الوصف

مرات تكراره

الخطأ

6

الوهم

9

الغلط

33

اللحن

1

الضعف

0

وفيما يأتي نماذج من هذه الانتقادات:

1- (الخطأ) الذي وصم به ابن مجاهد بعض القراءات:

‌أ- "قوله: (أَنْبِئْهُمْ) ([44])... كلهم قرأ (أَنْبِئْهُمْ) بالهمز، وضم الهاء، إلا ما حدثني أحمد بن محمد بن بكر عن هشام بن عمار عن أصحابه، عن ابن عامر (أَنْبيهِمْ) بكسر الهاء، وينبغي أن تكون غير مهموزة؛ لأنه لا يجوز كسر الهاء مع الهمز؛ فتكون مثل: (عَلَيهِمْ) و(إِلَيهِمْ)، وزعم الأخفش الدمشقي عن ابن ذكوان بإسناده عن يحيى بن الحارث عن ابن عامر (أَنْبِئْهِمْ) مهموزة، مكسورة الهاء، وهو خطأ في العربية"([45]).

‌ب- "روى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يكسر الشين من (شُيُوخًا)([46])وحدها، ويضم الباقي، قال أبو بكر: وهذا خطأ"([47]).

‌ج- "قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) ([48]) قرأ ابن عامر وحده (كُنْ فَيَكُونَ) نصبا، وهذا خطأ في العربية، وقرأ الباقون رفعا"([49]).

2- (الوهم) الذي وصم به ابن مجاهد بعض القراء والقراءات:

‌أ- "قرأ ابن عامر وحده (كُنْ فَيَكُونَ)(

6975 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com