تمتلئ الأدبيات الإسلامية، خاصة أدبيات الأخلاق والزهد، بمفاهيم صارت جزءاً من العقل الجمعي للمسلمين، خاصة عامتهم وعوامهم، رغم كون هذه "المفاهيم" لا تعدو كونها آراء ومواقف و وجهات نظر لبعض العلماء والزهاد، ضمن سياق اجتماعي وتاريخي معين، ويمكن فهمها -وحتى التعاطف معها -ضمن سياقها وظروف نشأتها ، ولكن الإشكالية تنشأ عند إخراج هذه المفاهيم من سياقها المحيط بها، ووضعها في "خانة المطلق" من المفاهيم، وهو الحاصل حالياً للأسف.
أتحدث عن ثقافة لا أجد مناصاً من تسميتها بثقافة " تمجيد الفقر"، وهي تملأ كتب الأخلاق والزهد، وتتسرب من الكتب إلى المنابر ومن المنابر إلى مفاهيم الناس وعقولهم ورؤيتهم للحياة – ويحدث ذلك منذ قرون حتى صارت هذه المفاهيم محصنة داخل اللاوعي والوعي الجمعيين، وصارت تشكل جزءاً من بديهيات الرؤية الإسلامية، رغم أنها لا تعدو أن تكون، كما ذكرنا، مفاهيم نتجت ضمن سياق تاريخي معين.
بذور هذه الثقافة، بدأت أولاً في زهد معتدل وليس بعيداً عن النص الديني، وحتى هذا الزهد، كان ضمن سياقه التاريخي أقرب ما يكون إلى الموقف السياسي – الاجتماعي، المعارض لسلطة سياسية بالغت – من جهتها – في الترف وأفحشت فيه،و حاولت شراء ذمم كل من يعارضها عبر العطايا والهبات – وهكذا يمكن فهم طبيعة "زهد" أئمة من أمثال الحسن البصري – حيث لا يمكن فصل زهده عن مواقفه السياسية المعارضة عموماً، ويمكن اعتبار زهده هنا، نوعاً من المعارضة الاجتماعية لنمط حياة مبالغ في الترف كان يتم بتكريسه عبر السلطة. لكن هذا "الزهد" – كان معتدلاً تماماً، ولا يمكن أن نجد فيه أثراً لتمجيد "الفقر" كما سنلاحظ لاحقاً.بل و يمكن اعتبار رسالته الشهيرة الى الخليفة "عمر بن عبد العزيز" نموذجا واضحا على زهد في الدنيا هو في حقيقته "بيان للمعارضة" كان اكبر من مجرد رؤية سياسية، بل امتزج مع الجانب الاجتماعي بوضوح.
والذي حدث ، بالتدريج ، أن هذا المفهوم انفصل تماماً عن سياقه ودوره الإيجابي ضمن هذا هذا السياق – وتحول ليصير بمثابة "رؤية مطلقة للعالم" – متقوياً بمهابة وسطوة أسماء الأئمة والعلماء الذين أسهموا فيه( الذين لا نقلل من احترامهم بكل الاحوال)، ومتداخلاً مع ازدياد تعقيد الظروف الاجتماعية والسياسية – ويمكن أن نقارن بين زهد الحسن البصري، الذي كان الاعتدال جوهره، وكان خالياً تماماً من "تمجيد الفقر" – وبين ما تراكم لاحقاً عبر القرون التالية من تمجيد للفقر وتغني بفضائله المطلقة!
ينبغي هنا أن نوضح أمرين: الأمر الأول أن النصوص الدينية بريئة تماماً من هذه الثقافة، بل ومناقضة لها. لا نقول ذلك كموقف دفاعي ولكن انطلاقاً من النص القرآني الذي يجب أن يكون المدخلَ لفهم ما سواه، فالنص القرآني يحدد أن {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ} [البقرة: 2/268] – فهل يمكن أن تكون دعوة الشيطان إيجابية؟.. كل النصوص القرآنية الأخرى التي يرد فيها "الفقر" أو "الفقراء"– لا تخرج عن كونها تحض على مساعدتهم، أو أنها تتحدث عن فقر الإنسانية المطلق إلى الله – وهو أمر يخرج عن موضوعنا تماماً. أما الأحاديث النبوية، فتقسم إلى قسمين؛ قسم صحيح وثابت، ولن نجد هنا أي تناقض مع النص القرآني – مثل استعاذته عليه الصلاة والسلام من الفقر في الدعاء المعروف (متفق عليه) وكون الحج والعمرة ينفيان الفقر (النَّسائي) – وهل يمكن أن يتعوذ عليه الصلاة والسلام بالله تعالى إلا إذا كان شراً مما يستعاذ منه؟ وهل يمكن أن يمسح الحج الفقرَ إلا إذا كان أمراً مما يجب مسحه؟..
على الجانب الآخر، نرى كمّاً هائلاً من الأحاديث الضعيفة – وحتى الموضوعة – التي تمجّد الفقر وتروج له، وتناقض ما صح من أحاديث، وما ثبت من مقاصد، وللأسف فقد حدث التساهل مع هذه الأحاديث أحياناً – لأنها اعتبرت من احاديث فضائل الأعمال، التي يتساهل في الضعيف منها، وأحياناً للسبب ذاته التي تم اختراعها من أجله: تمجيد الفقر باعتبار أن هذا التمجيد سيسهل التعايش مع واقع صعب. ولهذا سنرى امتلاء سلسلة الأحاديث الضعيفة بأحاديث من هذا النوع: (الفقر أزين على خد المؤمن من العذار على خد الفرس!) و (تحفة المؤمن في الدنيا الفقر!) و (الفقر شين عند الناس وزين عند الله يوم القيامة!). وغيرها مما لا يصح ولا يعقل من المفاهيم – وقد تراكم ذلك حتى وصل ذروته عند الإمام الغزالي الذي نجده قد "أرشف" لتمجيد الفقر، وكتب في فضل الفقر وفي مدحه في "الإحياء".. حيث اعتبر أن الفقر هو من "المنجيات" واحتوى على عيارات مثل "إذا رأيتم الفقير فقولوا مرحباً بشعار الصالحين" – و "الفقر بركة والغنى شؤم"! وينقل الامام الغزالي " أن الجنيد وبعض الخواص والأكثرون ذهبوا إلى تفضيل الفقر فقال ابن عطاء: الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر – ويقال إن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة"!، إلى أن يصل بحسم (لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر).
إن ثقافة" تمجيد الفقر" هذه التي خلفت لنا إرثاً طويلاً ( و حياً) من مبالغات كهذه، لا يمكن أن تعزل عن سياقها الذي أنشأها، فالإمام الغزالي وغيره، لم يكونوا هنا (سبباً) بقدر ما كانوا مرآة عرضت لحال مجتمع فضل التعايش مع الأمر الواقع، والقبول بالانحطاط – وكرس لذلك نصوصاً دينية تساعده على تقبل الأمر، بدلاً من العمل على تغيير الواقع وتجاوزه..
و الذي لا شك فيه ان ثقافة كهذه، تنتج أخلاقا سلبيا او محايدة ، ترى في العالم مكانا لا يستحق الالتفات اليه، و لا حتى من أجل الاصلاح.. وهي الاخلاق المناقضة تماما للثقافة الاولى التي انتجت جيلا كان مشبعا بروح فتح العالم بدلا من الزهد فيه.. وكان من الواضح مع سيادة ثقافة تمجيد الفقر ان ذلك يعكس تخلي المسلمين تدريجيا عن دورهم الريادي في قيادة العالم..
و هذه الثقافة ليست تراثا عابرا مر و انقضى- انها ليست في بطون الكتب والمراجع فحسب ، بل قائمة في عقل جمعي لا يزال يتغذى منها عبر المنابر ودروس الوعظ التي قد لا يلتفت خطباؤها كثيرا لسلبية هذا النوع من الاخلاق بل و قد يعتبرونها أيضا من فضائل الاعمال..
و الذي لا أشك فيه ان عمر بن الخطاب لو اطلع على هذه الثقافة و لو رأى مروجيها لتعامل معهم بدرته الشهيرة.. و لقال لهم كما قال لسواهم :أمتّم علينا ديننا..!
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.