آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

علم التخاطب الإسلامي: دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول في فهم النص

وائل حمدوش


شهد الدرس اللغوي تطوراً كبيراً، ولاسيما عندما بدأت الدراسات اللغوية تنحو منحى العلوم التجريبية، فبدأت اللغة تدرس من ناحية عملية ولم تقتصر دراستها على الناحية النظرية. وقد أفرز هذا النمط الجديد من الدراسة العديد من النظريات في دراسة اللغة، ومن بينها النظرية البراغماتية التي تعنى بدراسة اللغة في حيز الاستعمال وتسلط الضوء على التخاطب باللغة وشروط هذا التخاطب في استعمال اللغة وتفسير الكلام. 
في هذا الكتاب يحاول الدكتور (محمد يونس) قراءة أصول الفقه الإسلامي بأعين لسانية، بهدف "صوغ الأصول والنظريات اللغوية التي تبعثرت أجزاؤها وفروعها في كتب الأصول وغاب عنها السياق النظري الشمولي، والإطار العام الذي يوجه ويفسر تلك الأجزاء والفروع" ص7، فهو يحاول الموازنة بين الدرس الأصولي والدرس اللساني الحديث في قضايا الاستعمال اللغوي وتفسير الخطاب، ومن ثم وضع المنثور اللغوي الأصولي في أطر عامة بالاستفادة من كليات النظر اللسانية، ويطلق يونس على هذه المحاولة الأصولية اللسانية (علم التخاطب الإسلامي) وذلك باعتباره موازياً للبراغماتية التي تعنى بقضية الاستعمال اللغوي والتخاطب. 
يرى يونس أن هناك منهجين مختلفين للتخاطب في الدراسات الأصولية، وهما: منهج الجمهور الذي اتبعه الأشاعرة والأحناف والمعتزلة. والمنهج السلفي الذي كان الحنابلة أبرز من اتبعه، ويعزى عادة إلى السلف وقد ناصره ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية" ص32. 
وهذا التقسيم يمثل زاوية المقاربة المعرفية التي يقدمها يونس، وليس تقسيماً متفقاً عليه بين العلماء، ويقوم هذا التقسيم على أساس وقوف الفريقين من الوضع اللغوي، واستعمال اللغة (أساس النظرية البراغماتية)، وما ينتج عن ذلك في عملية تفسير الكلام وفهمه ودور السياق في العملية الدلالية، وقد درس المؤلف مناهج التخاطب عند الفريقين مستعيناً بأسسها الفلسفية وتطبيقاتها الدلالية. 
فالجمهور (من وجهة نظر يونس) يقولون بالتمييز بين الوضع اللغوي والاستعمال، فالوضع سابق على الاستعمال، في حين يحيد السلفيون الفرق بين الوضع والاستعمال لأن "المواضعات لا توضع بمعزل عن المقامات التخاطبية بل توضع وتعدل وفقاً لتلك المقامات" ص33، ويعني ذلك أن المفردات قبل استعمالها ليس لها وجودي نظري مجرد، وإنما تأخذ معناها في سياق الاستعمال، فهي ليست موضوعة لشيء ومن ثم إن استعملت فيه فهي تستعمل على الحقيقة، وإن تجاوز الاستعمال الوضع فهو استعمال على المجاز، وذلك حسب ما يراه الجمهور، وسنأتي على تفصيل ذلك. 

يتشكل البحث في دراسة مناهج التخاطب الأصولية من أركان أربعة يشكل بعضها مقدمات للأخرى: 
أولاً: مفهوم الوضع والاستعمال. 
ثانياً: منهج الجمهور في (الحمل) وتفسير الكلام. 
ثالثاً: منهج ابن تيمية الذي يشكل الأساس للتفسير السلفي للخطاب. 
رابعا: طرق الدلالة عند الأصوليين.


معضلة الوضع ومفهوم الاستعمال


يطلق الوضع على جعل اللفظ بإزاء المعنى، أو وضع الاسم للدلالة على المسمى، وأما الاستعمال: فهو إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكم وهو الحقيقة أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو المجاز ص59. 
فالوضع نظر والاستعمال تطبيق، وذلك كلفظ (الأسد) فهو موضوع للسبع حقيقة، ويستعمل مجازاً بحيث يطلق على الرجل الشجاع لقرينة الشجاعة المتمثلة في الأسد 
هذه الثنائية الأصولية يقابلها ثنائية مماثلة عند اللسانيين وهي ثنائية اللغة والكلام، فاللغة هي الأنظمة والمفردات في معانيها المعجمية، في حين أن الكلام هو استعمال اللغة بما ينطوي عليه من تصرف في أنظمتها. 
ثم إن الوضع يقوم على أسس منها ما يتعلق بالمفردات ومعانيها المعجمية ومنها ما يتعلق بالأنماط والقواعد النحوية، ولقد صنف الأصوليون –بناء على ذلك- الوضع تصنيفات عدة، فقسموا الوضع إلى الوضع الكلي والوضع الجزئي، والوضع العام والوضع الخاص، وغيره من التقسيمات، هذا من ناحية الوضع المعجمي، أي وضع المفردات للمعاني. 
وأما من ناحية وضع الأنواع التركيبية (القواعد النحوية) فقد وضع واضع اللغة أنواع المركبات (القواعد)، وأما جزئيات الأنواع (أي وضع الجمل التي ينطق بها الناس مركبة) فتركها حيث "وضعت باب الفاعل لإسناد كل فعل إلى من صدر منه" ص52. 
أي وضعت المفردات اللغوية والقواعد العامة التي تحكم عملية التخاطب، ولم توضع الجمل التي نتكلم بها، فمثلاً قولنا: جاء الرجل مسرعاً، وضع واضع اللغة، معاني (جاء، والرجل، ومسرعا) وضعها منفردة، ثم وضع قواعد التركيب، وذلك بحيث يسند الفعل للفاعل والخبر للمبتدأ، ونحن نقوم بتركيب الجملة السابقة فهي من الواضع مفردات وقواعد ومن المتكلمين صياغة وجملة مركبة. 
هذه الملامح العامة لمسألة الوضع، التي ترتكز على لفظ يوضع لمعنى في حالات شتى، وكل ذلك في حالة التجرد عن الاستعمال. 
وأما الاستعمال (استعمال الوضع) فيقوم على الوضع ولكنه قد يتجاوزه في سياق الاستعمال وضروراته. فما ينتمي إلى الوضع هو المفردات المعجمية والقواعد التركيبية وتسمى (الجمل)، وأما ما ينتمي إلى الاستعمال فهو اختيار المتكلم لهذه الألفاظ وهذه القواعد وطريق ربطها ومناسبتها للمقام التخاطبي، ولما كان الاستعمال يعبر عن قصد المخاطب ويحمل تصرفاً في الوضع فهو يسمى (القولات)، فالجمل تقوم على الوضع، والقولات تقوم على الاستعمال ص62-63. 
ويتوسط الاستعمالُ العمليةَ الدلالية فهو لاحق للوضع وسابق لتفسير الكلام من السامع (الحمل). 
ويقوم الاستعمال ليؤدي غرض المتكلم لا ليؤدي الوضع فهو مكتنف لقصد المتكلم من الكلام الذي يفتقده الوضع المجرد، هذا القصد الذي قد يحدث زحزحة في معنى الوضع ولكن ذلك مرهون بنصب قرينة على ذلك، ثم إن هذا القصد ليس من الضروري أن يكون موافقاً للمعنى لأن "المعنى هو المحتوى الحرفي للكلام، في حين أن المراد هو الرسالة التي يبلغها المتكلم ويقصد أن يكشفها السامع لتحدث فيه تأثيراً معيناً، وبناء على ما سبق فإن المعنى محكوم بالوضع والمراد محكوم بالاستعمال" ص62. 
ويرى يونس أن الأصوليين يؤكدون على هذا التفريق بين المعنى والمراد، ولكنني أعتقد أن الأصوليين يفرقون بين المعنى الوضعي والمراد، ويستخدمون مصطلح المعنى مطلقاً للدلالة على ما هو مطلوب من اللفظ أي يستخدمونه بشكل مرادف للمراد، فيقولون معنى ذلك أي دلالة اللفظ والقصد منه. 
وفي البراغماتية الحديثة يلقى التفريق بين المعنى والمراد أهمية كبيرة، ويأخذ الأشكال الآتية: "الهوية sense والفحوى force ومعنى الجملة.. ومعنى القولة..." ص62. 
ثم إن الأمر الآخر المهم في عملية الاستعمال هو القرينة التي توصل إلى قصد المتكلم من بين تراكمات المعاني الوضعية والمجازية، وهذه القرينة لا تقتصر على اللفظ فقط فهي تشتمل على "عناصر لفظية وغير لفظية مرتبطة بالمعنى المراد" ص65، فهي تشتمل على القرينة العقلية، والقرينة الحالية للمتكلم في ثقافته وإشارته ومقامه وما إلى ذلك. وتقوم القرينة عند الأصوليين بأحد دورين: دور صارف (القرينة الصارفة) للفظ عن معناه الظاهر، ودور هادٍ (القرينة الهادية) يدل السامع على مراد المتكلم، ويشترط لهذه القرائن أن تكون مشتهرة بين المتخاطبين، وهذا تأكيد منهم على فكرة (العهد) " التي اكتسبها المتخاطبون عن موضوع الكلام في عملية التخاطب" ص67. 
هذه القضايا الأساسية في مسألة الوضع والاستعمال، وقد وقف منها الجمهور والسلف موقفين متغايرين، فالجمهور أكدوا على وجود الفرق بين الوضع في عالمه المجرد وبين الاستعمال، في حين حيد السلف الفرق بين الوضع والاستعمال فلا يوجد وضع مجرد عن الاستعمال. والسبب الفلسفي لذلك –حسب ما يرى يونس- هو موقفهم من قضية الموضوعات اللغوية وهل وضعت للصورة الذهنية أم أنها وضعت للموجودات الخارجية؟ 
فالجمهور –حسب يونس- يرون وضع الألفاظ للصورة الذهنية ص50، وهذا رأي الفلاسفة المسلمين عموماً، في حين يرى السلف وضعها للموجودات الخارجية، إلا أن هذا الكلام غير دقيق على إطلاقه، فمن يرى وضع الألفاظ للصورة الذهنية هو الرازي وتبعه البيضاوي وبعض العلماء وليس جمهور الأصوليين، ثم إن العلماء تتبعوا الرازي وأولوا قصده كما ورد في البحر المحيط للزركشي: 2/139، وهناك رأي آخر للشيرازي تبعه بعض العلماء عليه وهو وضع الألفاظ للموجودات الخارجية، فلا ينفرد ابن تيمية بالقول في ذلك، وليس الوحيد الذي أعطى السياق والاستعمال هذه المكانة بل كان ذلك بتأكيد الأصوليين جميعهم، فلا أعتقد أن تعليل الوضع فلسفياً كفيل بصناعة منهجين تخاطبيين عند الأصوليين. 

الجمهور ومنهجهم في الحمل 

لقي الحمل (تفسير الكلام وبيانه) في التراث الأصولي اهتماماً كبيراً ولعله العلة التي قام عليها علم أصول الفقه وذلك فيما يتعلق بفهم كلام الله عز وجل، ويشترط الأصوليون شروطاً عامة في الكلام ليصح حمله على معانيه، منها: أن يكون النطق مقصوداً لا عشوائياً، وأن يقصد به مخاطبة السامع، وأن يكون السامع قادراً على فهمه، فضلاً عن شرط (التعاون) بين المتكلمين ليؤدي الخطاب وظيفته، إلا أن التعاون وعلى الرغم من أهميته عند الأصوليين إلا "أنه –حسب يونس- لم يعط الأهمية والمكانة المنهجية التي عزاها إليه (قرايس) في تفسيره البراغماتي لكيفية حدوث التخاطب" ص75، والحق أن تأكيد يونس في مكانه، ففكرة التعاون اللغوية التي طرحها تسهم وبشكل كبير إن وُسع مفهومها في حل العديد من الإشكالات التي اختلف الأصوليون فيها اختلافا كثيرا، وذلك كقضية حمل الكلام على الحقيقة والمجاز في آن واحد، وكقضية عموم المشترك، وغيرها من القضايا المنثورة في كتب الأصوليين. 
يعد الحمل المحطة الأخيرة في سلسلة الدلالة التي تبدأ بالوضع فالاستعمال ومن ثم الحمل، ويقوم الحمل في وظيفته معتمداً على الوضع والاستعمال أي على اللفظ (الوضع) والسياق (الاستعمال)، وحتى يكون الخطاب ناجحاً ويمكن حمله ينبغي على السامع أن يعي العلاقة بين الوضع والاستعمال أي بين ما "تعنيه الكلمات نفسها وما نعنيه نحن بها" ص82، ولا شك أن سياق التخاطب والقرينة يسهمان في ذلك بشكل كبير، وبالنظر إلى العلاقة الدلالية في النصوص الشرعية نجد أن "أهم السمات المميزة للتفكير البراغماتي في علم أصول الفقه معاملة القرآن الكريم والسنة النبوية كاللفظة الواحدة وأن كل جزء من هذه اللفظة ينبغي النظر فيه في ضوء علاقته مع الأجزاء الأخرى" ص86، فالقرآن والسنة يعاملان على أساس أنهما نص واحد يفسر بعضه بعضاً. 
كل ما ذكر يشكل العناصر العامة للحمل، ولكن ما هو أنموذج الجمهور في الحمل؟ وما هي الخطوات التي يمر بها؟ 
يصطلح الدكتور يونس في عملية الحمل التفريق بين أمرين: هما المبادئ والأصول "ومن أهم الفروق بين الأصول والمبادئ أن الأولى أريد بها وصف الخطاب في شكله المثالي (الذي يتفق مع الوضع) في حين قصد بالثانية وصف سلوك المتخاطبين في أثناء التخاطب" ص94، فالعدول عن المبادئ "يولد بعض الأغراض البلاغية [المجاز]، أو ما يدعوه (قرايس) المفاهيم أما انتهاك المبادئ فيؤدي إلى مشاكل في التخاطب [مبدأ صدق المتكلم]" ص94، ولعل تفريق يونس هذا يحل الإشكال عند من يعتبر المجاز كذباً يتنزه الله عنه ويرفض وجود المجاز في القرآن. 
وتقوم أصول الحمل على مبادئ خمسة هي: 
1- مبدأ بيان المتكلم: حيث يقوم المتكلم بإظهار المراد للسامع، ويجمع الأصوليون على أن المقصد من الكلام الإفهام، فلو لم يكن الكلام مفهماً لكانت المخاطبة به عبثاً. 
2- مبدأ صدق المتكلم: فلكي تؤدي اللغة وظيفتها يجب علينا أن نحمل كلام المتكلم على الصدق، ولم يلق هذا المبدأ شرحا وافياً عند الأصوليين، نظراً لقناعتهم المسبقة بصدق كلام الله والرسول (محل التفسير). 
3- مبدأ الإعمال: ونعني به "وصف ما ينبغي أن يفعله المخاطب عندما يتلقى كلام المتكلم، وجوهر هذا المبدأ هو أن السامع يميل إلى جعل الخطاب المتلقَّى والقرائن المناسبة تعمل باستثمارها إلى الحد الأقصى، لأنها المفتاح لمراد المتكلم" ص104-105. وتشكل القاعدتان الأصوليتان التاليتان جوهر هذا المعنى، وهما (إعمال الكلام أولى من إهماله)، و(إن حمل الكلام على فائدة أولى من إلغائه)، فعلى السامع بمجرد سماعه الكلام أن يعمل هذا الكلام، فإن أمكن حمله على الحقيقة حمل عليها وإلا فيجب حمله على المجاز، ولا يجوز إهماله. 
4- مبدأ التبادر: ويستخدم هذا المبدأ "لتحديد أرجح حمل سليم، ويفترض الأصوليون أن الحمل المتبادر أو السابق إلى الذهن هو الحمل الأرجح لأن يكون مطابقاً لقصد المتكلم" ص106، وتتوقف عملية التبادر على السياق، ومعرفة السامع لعادة المتكلم، إضافة إلى القرينة التي استخدمها للإفهام، ويكون الحمل المتبادر أرجح لأَنْ يطابق قصد المتكلم؛ لأنّ كلا المتكلم والسامع له مصلحة في التخاطب والإفهام، إلا أن عملية التبادر ليست عملية عشوائية، تسمح للسامع بظن ما يشاء بل لها مؤهلات لذلك، لذا يقدم الدكتور يونس شروطاً حول التبادر فيقول: "الحمل المتبادر هو الحمل المطابق للأصول" ص107، أي الحمل على الحقيقة وإلا فالحمل على المجاز، كذلك "الحمل المتبادر هو الحمل المطابق للوضع" ص107، و" الحمل المتبادر هو الحمل الأكثر توقعاً" ص107، وذلك يتوقف على السياقات المختلفة التي تغذي هذا التوقع، ثم إن "الحمل المتبادر هو الحمل الأقوى علاقة" ص109، وهنا نعود إلى أهمية القرينة والعلاقة في فهم قصد المتكلم، فالحمل التي تؤيده العلاقة هو الحمل الأرجح. 
5- مبدأ الاستصحاب: يقوم هذا المبدأ على القاعدة الأصولية القائلة (الأصل بقاء ما كان على ما كان)، فالأصل في الكلام الحقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، كما أن العام يترك على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص، وكذلك الحال في مجمل المسائل التي تخضع لمبدأ الاستصحاب، فيجب التمسك بالأصل حتى يرد دليل على خلاف ذلك معززاً بقرينة. 

منهج ابن تيمية في الحمل 

ما سبق كان منهج الحمل عند الجمهور كما حلله المؤلف، وأما منهج الحمل عند ابن تيمية فهو مرتبط –كما أسلفنا- بموقفه من الوضع، إذ لا يرى ابن تيمية فرقاً بين الوضع والاستعمال، فلا توضع الألفاظ مجردة عن أي قيد، وليس هناك "ثمة لفظ مطلق أو معنى مطلق سوى تصوراتنا الذهنية للألفاظ والمعاني الحقيقية التي ليست إلا تصورات مجردة ليس لها وجود حقيقي في العالم الخارجي" ص130، وهو بذلك يدحض المناهج الصورية التي جاء بها الفلاسفة اليونانيون والمسلمون لاكتشاف الحقيقة، فهؤلاء قد خلطوا بين العالم كما هو وافتراضاتهم الذهنية التي صاغوها عنه، وذلك بسبب إهمال تصوراتهم للسياق الخارجي وخصائص الظواهر. 
ما يميز ابن تيمية عن الجمهور في الاستعمال والحمل -حسب رأي يونس-هو التالي: 
1- لا يرى ابن تيمية فرقاً بين الوضع والاستعمال فالمعنى يعتمد على السياق ولا يعتمد على الوضع، وابن تيمية لا ينكر الفرق بين (الجمل) المنسوبة للوضع و(القولات) المنسوبة للاستعمال، ولكنه يصر "على تخطئة أي عملية تتضمن نوعاً من التجريد يقود في نهاية الأمر إلى إهمال الجزئيات المميزة الخاصة بالأفراد" ص131، أي إهمال السمات السياقية، هذه التخطئة تتضمن إهماله الفرق بين " الجمل والقولات وكذلك تحييد الفرق بين كل ثنائية من الثنائتين ذواتي الصلة: ثنائية الوضع والاستعمال" ص132، ولا أعتقد أن الأصوليين كانوا أقل اهتماماً من ابن تيمية في مسألة السياق، كما أن رأي ابن تيمية هذا قام ليناقش به في قضايا الآيات المتشابهة -كالآيات التي تنسب لله يدا، (يد الله فوق أيديهم) سورة الفتح، 10- التي لا يجوز لنا تأويلها لأننا لا نعلم سياقها (أي لا نعلم صفات الله حقيقة، ولا نعلم الهيئة). 

2- الحقيقة والمجاز: أهم قضية خلافية بين ابن تيمية والجمهور فهي عند الجمهور مرتبطة بالوضع والأصل في الكلام الحقيقة، والمجاز بدل عن الحقيقة، في حين يرفض ابن تيمية فكرة الوضع وذلك لأننا نجهل الواضع فيما وضع، وبالتالي نجهل أصل تلك المفردات ولسنا نعرف عنها إلا استعمالها، كما أنه لا يوجد معايير دقيقة للتفريق بين الحقيقة والمجاز، فهو لا ينكر الفكرة من أصلها ولكنه ينكر إمكان التفريق، وفي ضوء ذلك نحن أمام ما يسمى بالحقيقة والمجاز على قدم واحدة فليس أحدهما بأولى من الآخر، ولا يجوز الحمل على الحقيقة في حال انتفاء القرينة، لأن ما يدعى فيه الحقيقة غير مسلم. 
فيساوي ابن تيمية بين المجاز والمشككات، التي تعني: الألفاظ الموضوعة لمعنى كلي مختلف في حاله، فالنور مثلاً يطلق على نور الشمس ونور المصباح على الرغم من اختلافهما، فهو لا يرى اختلافاً جوهرياً بين المشككات والمجاز ليتم وضعها تحت تسميات متعددة، في حين يفرق الجمهور بينهما، فاللفظ موضوع للحقيقة والمجاز على السواء عند ابن تيمية، ص159. 
ويرفض ابن تيمية فكرة التبادر إلى الذهن للتفريق بين الحقيقة والمجاز على أساس أن ما يتبادر هو الحقيقة، لأن التبادر عملية غير منضبطة، وهي محكومة بالسياق، فما يتبادر إلى الذهن في مقام قد لا يتبادر في آخر، وهنا يتساءل يونس لم لا يعد التبادر معياراً للتفريق ولاسيما أن "المتكلمين السليقين في البيئة اللغوية نفسها قادرون عادة على اكتشاف المعاني المتبادرة لمعظم كلمات اللغة" ص154-155. 
غير أنني أعتقد أن طرح يونس غير مقبول –عند ابن تيمية- من ناحيتين: الأولى: أن ابن تيمية يرى أن التبادر عملية شخصية وليست موضوعية، فهي غير منضبطة حتى تحكم مفردات اللغة، ومن ناحية ثانية: يعود يونس إلى فكرة الوضع ولكن بأسلوب مختلف، فيرى أن علماء اللغة قاموا بجمع اللغة وفرقوا بين الحقيقة والمجاز على أساس التبادر، وفي الواقع هم لم يفعلوا أكثر من ذلك، إذ هم لا يدعون أن الواضع قد وضع الألفاظ على الحقيقة والمجاز، لأنهم يقرون بالجهل بواضع اللغة، وما حملهم على تصنيف الحقيقة والمجاز هو التبادر زمن جمعهم للغة العرب، الذي افترضوه وضعاً نسبياً لجهلهم بالوضع الأول. 
بناء على هذه المقدمات فإن أنموذج الحمل عند ابن تيمية يكون كالتالي: 
مبدأ البيان، ومبدأ الصدق، ومبدأ الإعمال، ومن ثم مبدأ التبادر، ولا مكان لمبدأ الاستصحاب، لأن الفكر يقفز مباشرة إلى الدلالة المرادة، دون المرور بالوضع والأصل، ولأنه "لا يمكن أن تكون هناك محامل سليمة بمعزل عن المقامات التخاطبية" ص168. 
فالسامع يذهب –عند الجمهور- إلى المعنى الأصل ليعمله، فإن لم يستطع فيبحث عن المعاني الممكنة، في حين يذهب السامع إلى المعنى المراد مباشرة -عند السلفيين- لذا وحسب رأي يونس "يمكن وصف أنموذج الجمهور بأنه ظني، لأنه يترك المجال مفتوحاً لمحامل أخرى ممكنة، في حين يوصف أنموذج ابن تيمية بأنه قطعي" ص169. 
وبالمقارنة بين الجمهور وابن تيمية في هذه النقاط الخلافية فإنني لا أعتقد أن هذه الأسباب تقوى على جعل ابن تيمية في مذهب يقابل الجمهور، ولاسيما أنه في التقسيم الأصولي الشائع يعد من الجمهور. 
فالأساس الفلسفي ليس منسوباً إلى ابن تيمية فقط، فقد قال به تيار كبير من الأصوليين ابتداء من أبي إسحاق الشيرازي ومن بعده، ثم إن فكرة تحييد الفرق بين الوضع والاستعمال التي قامت على الجهل بالواضع لم تمر من غير إدراك الأصوليين لها، لذا فإنهم عندما يتحدثون عن الوضع يتحدثون عن أمر إجرائي شكلي، يعتمد للتفريق بين الدلالة الأصلية والدلالة الفرعية، ولاسيما أنهم يتحدثون ضمن مخيال يفترض الوضع الذي نزل عليه القرآن (الوضع النسبي) هو الوضع الأول، فقد جمعت اللغة في هذا الزمن وكان بعض الكلام يحمل أكثر من معنى، فما كان متبادراً –كما اقترح يونس- وقتها وُصف بالحقيقة، وما كان غير متبادر وصف بالمجاز، ولاسيما أن الأصوليين متفقون على فقد الواضع، فكيف يتسنى لهم الحديث عن الوضع إن لم يكن من هذا الباب. 
ثم إن ابن تيمية يقر بوجود المجاز في كتابه (المسودة) وهو يتحدث عن الحقيقة والمجاز، ولم يضعهما في المشكك، فهو يتحدث عن تعريف المجاز ووجوهه بالنسبة للوضع كما يراه الجمهور، فيقول في المسودة: "منها أن يستعمل اللفظ في غير ما هو موضوع له نحو الحمار أطلقوه على البليد واسم الأسد أطلق على الرجل الشجاع"، فكيف يتوافق ذلك مع نظريته التي طرحها يونس؟ 
كل ما ذكر عن ابن تيمية في الاستعمال والحمل يندرج في مسألة المجاز المتعلقة بصفات الله، ومعلوم موقف السلف من ذلك، ولا يمتُّ إلى باقي المسائل اللغوية الأخرى بصلة، فلم يُبنَ أنموذج ابن تيمية السياقي على مسألة المشترك، أو الترادف، والعام والخاص وغيرها التي لا يختلف رأيه فيها عن رأي الجمهور ، فصِيغت نظريته من بعض مسائله، لتقدم حلاً لمسألة المجاز وليس لتقدم حلاً عاماً في الحمل (المشترك والترادف..). 
وصفُ يونس لأنموذج الحمل -عند ابن تيمية- على أنه قطعي في حين أن أنموذج الجمهور ظني لا يتناسب مع مقدماته، فإذا كان سبب الظن عند الجمهور عائداً إلى أن هناك معنى أصل ومجاز، ونحن نمر إلى الوضع ومن ثم إلى المراد، وذلك يترك المجال مفتوحاً للاحتمالات، فإن هذا المحذور موجود عند ابن تيمية، ولاسيما أنه عد المجاز من باب المشكك، مما يعني فتح المجال لاحتمالات أخرى، ثم كيف نعرف معنى الشجاعة من وصف إنسان بالأسد من غير أن نمر إلى (الأسد ذو الشجاعة)، وبالتالي نحن لا نقفز مباشرة إلى المراد، بل نقفز إلى وسيط، سمه حقيقة أو أصلاً أو أي أمر آخر، ولكن له دور في العملية لتمام فهم مراد المتكلم، وكأن تحليل الدكتور يونس يوهمنا أن العملية الدلالية أسرع عند ابن تيمية منها عند الجمهور، ولكن هذا في الحقيقة راجع كما يرى ابن تيمية إلى قدرة الشخص في فهم القضايا، بحيث يمكن الاستغناء عن الحد الأوسط عند من يتمتع بسرعة في فهم القضايا ص136، وليس راجعاً إلى إلغاء الحد الأوسط نهائياً. 

الأصوليون وطرق الدلالة 

تحدث الدكتور يونس في الفصل الأخير عن طرق الأصوليين في الدلالة وقارنها –في موازنة رائعة- بطرق اللسانيين، فقسم الدلالة تقسيمين: تقسيم علامي: يهتم بالدليل والعلامة التي يستدل بها، وتقسيم نصي: يرتكز على نوعية النصوص التشريعية في الدلالة ودرجاتها، فهو يعنى بالدلالة بمعنى (المدلول)، ثم إن التصنيف العلامي تم تقسيمه إلى اللغة والعقل، ولكل أقسامه، في حين قُسمت دلالة النص تقسيمين كما هو الشائع في الدراسات الأصولية، طريقة الحنفية وطريقة الجمهور (المتكلمين). 
فطريقة الأحناف نهجت هذه الطريق مراعية القصد من الكلام، فقسمت النصوص بحسب القصد منها، والغرض الذي سيقت له؛ فقسمت إلى عبارة النص وإشارته ودلالة النص ودلالة الاقتضاء، وقسمت من حيث الوضوح والخفاء إلى المحكم والمفسر والنص والظاهر. 
أما المتكلمون فقد قسموا الدلالة إلى منطوق ومفهوم وقسموا المفهوم إلى موافق ومخالف. 
لكن القضية الأهم في هذا السياق هي مسألة مفهوم المخالفة التي أولاها الكاتب أهمية كبيرة، فلقد قابل يونس بين مفهوم المخالفة وبين ما يسميه البراغماتيون المفهوم المتدرج scalar implicuature، ثم تابع هذه المقابلة –الناجحة- في حجية المفهوم وأركانه. 
لا تبدو مسألة مفهوم المخالفة بسيطة عند الأصوليين، فهي مثار خلاف من بدايتها إلى منتهاها، ففي حين ينكر الحنفية أن يكون مفهوم المخالفة من الدلالة اللفظية، يرى الشافعية أنه من الدلالة اللفظية ويستدلون له بكلام العرب، وقد جرى خلاف كبير في حجيته والاستدلال له أو عليه، ولكن كل ما ذكر في الاستدلال هو من قبيل التمثيل، وليس من قبيل الدليل، فنقاش الفريقين قائم على أمثلة يُردُ بها على الفريق الآخر، ولكن من غير وجود نظرية متكاملة حول هذا المفهوم. 
طرح الدكتور يونس مفهوم المخالفة في ثوب لساني يقوم على عدة مبادئ منها: مبدأ بيان المتكلم والإعمال، وهذا يعني أن القيد الذي ذكره المتكلم لا بد له من فائدة، ومن ثم مبدأ الكم الذي يعني أن المتكلم يتكلم على قدر الحاجة، فإذا قال (في الإبل السائمة زكاة) فهذا يعني أن ليس في الإبل غير السائمة زكاة، لأنه "لو كان حكم الإبل السائمة كحكم الإبل غير السائمة لعد المتكلم مطنباً في لفظه، وموجزاً إيجازاً مخلاً في المعنى" ص254. 
كل ما ذكر يدلل على اعتبار الدكتور يونس لمبدأ مفهوم المخالفة ولكن بشروط، بحيث تعد دلالته ضعيفة لا تقوى على معارضة الأدلة الأقوى، فالأصل عند –يونس- أن مفهوم المخالفة حجة إن استوفى الشروط. 
ثم يطرح يونس فكرة المناسبة التي قال بها الجويني ولكن لا يوافقه فيها، فالجويني يرى أن القيد يجب أن يناسب الحكم، حتى يدور معه فينتفي الحكم بانتفائه. 
إلا أن هذه الأسس التي ذكرها يونس محل رد عند الأصوليين ولاسيما الأحناف، فلا ينكر الأحناف الفائدة من القيد، ولكنهم يرفضون –بالمطلق- كون هذا القيد للنفي عن المخالف، فقد يكون القيد لمزيد العناية بالأمر أو لفائدة أخرى. 
كذلك فكرة المناسبة التي طرحها الجويني طرحها على أساس العلية، أي أن يناسب القيد الحكم حتى يدور معه وجوداً وعدماً كما هو الحال في العلة ودورها في الحكم، وأعتقد أن قيد الجويني يدل على بصيرة ثاقبة فهو يربط مفهوم المخالفة بالقياس القائم على العلة، فهو يقصد بالمناسبة معناها الأصولي أي التأثير في الحكم، ولا يقصد المعنى اللغوي، وذلك لان الأصوليين وبخاصة الشافعية يتكلمون عن مفهوم المخالفة وهم يتصورون العلة ودورها في النفي والإثبات. 
وعلى الإجمال، يعد كتاب الدكتور (محمد يونس) خطوة هامة ورائدة في المزاوجة بين علوم اللسانيات وعلم أصول الفقه، وتعد هذه الدراسة متميزة ، سواء في طرحها المستجد للتلاقح الفكري بين العلمين والتي كشفت للباحثين الأصوليين أهمية الدراسات اللسانية ودورها المرتقب في فهم نصوص الوحي، أو سواء في معالجتها التي تطلبت الفهم الدقيق للأصوليين على ضخامة الموروث الأصولي وتنوع مستوياته وأعتقد أن الباحث وفق في ذلك بشكل كبير، أو حتى في الصياغة الجديدة لعلم أصول الفقه، هذه الصياغة التي جمعت المنثور الأصولي في مبادئ عامة، إلا أن هذا العمل يجب أن يتابع وذلك بتأكيد الدكتور يونس الذي يرى أن هذا العمل "ما هو إلا بداية في هذا الطريق" ص305، فعلينا أن نردفه بمحاولات أخرى تزيد من تطور الدرس الأصولي من خلال استفادته من علوم اللغة الحديثة.


* أعد هذا العرض خصيصاً لموقع ببليو إسلام.


تاريخ النشر : 15-06-2008

6778 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com