آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الاجتماع والفلسفة  .  المرأة و النسوية

الظاهرة الدينية    |    فلسفة الدين    |    فلسفة الأخلاق    |    قضايا فلسفية    |    الإسلام و الغرب

  •     

المرأة في القرآن الكريم بين الطبيعة والوظيفة

فريدة زمرد


سأعرض هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور: أعرض في الأول للمعنى الإجمالي للآية، من خلال تحديد مفرداتها وسياقيها المقالي والمقامي. وأخصص الثاني للحديث عن طبيعة المرأة في القرآن الكريم بين التمييز والمساواة، والثالث لوظيفة المرأة بين الإطلاق والتقييد. وأركز في بيان كل ذلك على بعض المفاهيم النسائية القرآنية، وأناقش بعض تفسيراتها لأخلص منها إلى المبدأ القرآني التكاملي بين الرجل والمرأة على المستويين معا.

المحور الأول: المعنى الإجمالي للآية:

تقع الآية في المقطع الأخير من سورة آل عمران، وهو يلخص حال أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض، فيجأرون بالدعاء مستجيرين من العذاب، مقرين باختيارهم طريق الإيمان، سائلين الله تعالى الغفران. فتأتي استجابة الله عز وجل لهم: ( أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ). فالآية من خلال هذا السياق مرتبطة بما سبق من دعاء، وفعل "الاستجابة" يؤكد ذلك. والمعنى: أن الله عز وجل يستجيب الدعاء سواء أكان من ذكر أو أنثى. ودلت الآية بذلك على التسوية في حفظ ثواب الأعمال المقدمة من الذكور والإناث. وأما سبب النص على الجنسين معا هاهنا، فيتبين من مقام الآية، أي سبب النزول. 

فقد روى الحاكم عن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سلمة بن أبي سلمة (وهو رجل من ولد أم سلمة) عن أم سلمة رضى الله تعالى عنها قالت: (يا رسول الله لا أسمع الله يذكر النساء في الهجرة بشيء, فنزلت هذه الآية)، رواه الترمذي في سننه، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط البخاري، وأخرج ابن جرير الطبري هذه الرواية في تفسيره من طريقين عن ابن عيينة، وذكر للحديث رواية أخرى عن مجاهد عن أم سلمة قالت: (يا رسول الله يُذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر، فنزلت الآية)[1]. فالآية على هذا نزلت جوابا على سؤال امرأة عن ثواب هجرة النساء، حيث إن القرآن إلى ذلك الحين لم يذكر النساء باللفظ في حديثه عن الهجرة، فجاءت الاستجابة بعدم تضييع ثواب العمل عموما بما في ذلك ثواب الهجرة من الذكر والأنثى، ولذلك جاء تمام الآية يذكر الهجرة: (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ...)

وانطلاقا من قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن لفظ "العمل" جاء مطلقا، فإن معنى الآية يتسع ليدل على أن الله عز وجل لا يضيع أجر العمل: أيَّ عمل كان، ومن أيٍّ كان: (عمل عامل منكم). وأدخلت "من" في قوله (من ذكر أو أنثى) مفسِّرة لا يجوز إسقاطها عند أهل اللغة. واللافت للنظر أنه عبَّرَ في الآية بالأنثى دون سائر الألفاظ الدالة على المرأة، مما هو مستعمل في الخطاب القرآني مثل لفظ المرأة أو النساء أو لفظ الزوج .

لقد استعمل لفظ الأنثى في القرآن الكريم ثلاثين مرة، ولاستعماله في هذا الموضع منها دلالات، من أهمها: التأكيد على الطبيعة الخلقية للمرأة في مقابل الطبيعة الخلقية للرجل. إذ لكل جنس منهما خصائص تميزه عن الآخر. ومع هذا الاختلاف، فهما متفقان من وجوه أخر يدل عليها في الآية قوله تعالى: (لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) بغض النظر عن اختلافكم أجناسا وألوانا. فقدم ما يدل على الاتفاق وهو (منكم) على ما يدل على الاختلاف وهو (من ذكر أو أنثى)، ثم أكد ذلك الاتفاق بالتعليل، وهو قوله: (بعضكم من بعض) الدال على الوحدة والمشاركة في الأصل أو في الدين أو في العمل. 

والسؤال الذي يفرضه ما سبق من دلالات، وهو: هل يقتضي مفهوم الأنوثة تمييزا نوعيا بين المرأة والرجل، بسبب استعماله في مقابل الذكورة، أم يقتضي مساواة نوعية يفرضها قوله: (بعضكم من بعض)؟.

المحور الثاني: طبيعة المرأة بين التمييز والمساواة

لقد جاء صنف مهم من موارد لفظ الأنثى مرتبطا بقضية الخلق الإلهي للكون وللإنسان، وذلك على مستويين: أولهما: يقع ضمن نظرية الخلق والتوالد: حيث يكون الإنسان جزءا من الكائنات الحية، يخضع لنفس قوانينها الكونية، ومنها الخلق من ذكر وأنثى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاُنثَى). وجاء في آية أخرى الإشارة إلى الوحدة بين الجنسين أساسها الخلق من أصل واحد هو الذكر والأنثى. وغايتها التعارف بين الناس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]، فالجنسان متحدان في أصل النشأة وفي الغاية منها، أما نوع العمل الموصل إلى هذه الغاية وكيفية تمثله، فذلك أمر تتباين صوره وتختلف مظاهره بحسب ما يناسب كل إنسان، ثم التفاضل في كل ذلك بالتقوى. 

والثاني: يتعلق بالوظائف البيولوجية حيث تذكر الآيات ما تختص به الأنثى وتختلف به عن الذكر، وهو الحمل والوضع، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنُ انثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر : 11 ]. لذا جاء نفي المساواة بينهما صريحا على لسان امرأة عمران حين وضعت مريم: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى، وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُنثَى) [آل عمران: 36]، وذلك خوفا من عدم إيفائها بالنذر الذي نذرته، بأن يكون ما في بطنها خادما للهيكل، وهي تعلم أن الأنثى ضعيفة لا تقوى على تحمل أعباء هذه الخدمة. 

إن الصورة التي يرسمها القرآن للمرأة من خلال مفهوم الأنثى: تنفي عنها أي تمييز يجعلها أقل قيمة من الرجل، كما تنفي عنها المثلية المطلقة معه. وبذلك تثبت لها خصوصية تتكامل بها مع الرجل، ليشكلا معا لبنة تتناغم مع الكون الذي خلقه الله عز وجل. وهي الصورة المثلى التي أعطت للعالم نموذجا مشرقا غير معهود عن طبيعة المرأة. حيث حظيت في عصور الإسلام بأشرف المراتب وأرقى منازل الكرامة، على الرغم مما نجده أحيانا عند بعض المفسرين من فهم منقوص لبعض المفاهيم النسائية القرآنية. 

ومن ذلك مثلا، تفسيرهم لآية الحلية في سورة الزخرف: (أَوَمَن يَنشَاُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ). بأنها دليل على عجز المرأة وغبائها. قال ابن كثير رحمه الله: (المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي، منذ تكون طفلة، وإذا خاصمت فلا عبارة لها، بل هي عاجزة غبية)[2]. وجاء في أضواء البيان: (الأنثى يجعل لها جميع الناس أنواع الزينة والحلي، وذلك إنما لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة، بخلاف الذكر فجمال ذكورته يكفيه عن الحلي ونحوه)[3].
والحق، أن الآية جزء من مقطع يعرض لموقف العرب في الجاهلية من المرأة واعتقادهم الفاسد بنسبة البنات لله عز وجل، و هو قوله تعالى: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ . وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ . أَوَمَن يَنشَاُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف : 15، 17،16]، فجاءت الآية في نهاية المقطع تحكي استغرابا من نسبة البنات إلى الله عز وجل، وهن ينشأن في الزينة والتنعم، ويتصفن بعدم القدرة على الإبانة في المحاججة. فكان القصد تسفيه فعل الجاهليين. وإلا فإن آيات أخر قد قررت حقيقة ثابتة هي الأصل الذي يجب أن ترد إليه هذه الآية وهي أن صفة (الخصيم المبين) التي سلبتها المرأة في الآية، تعم الإنسان ذكوره وإناثه، قال تعالى في سورة النحل: (خَلَقَ الاِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) [النحل : 4]، وسورة يس: (أَوَلَمْ يَرَ الْاِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) [يس : 76]. على أن فعل التنشئة في القراءة الثانية (أو من ينشَّأ) ـــ وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف وحفص ــ يشير إلى أثر التربية في اكتساب المرأة لبعض صفات النقص، كعدم الإبانة في الخصام، وأنها متى أتيحت لها وسائل التربية والتثقيف التي تتاح للرجل فلن تكون أقل منه في اكتساب هذه المهارة. والأمثلة على هذا كثيرة: فقد كانت عائشة رضي الله عنها عالمة بالطب والتاريخ والفقه وهي ابنة ثمانية عشر عاما. وحاججت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدار المهر، فأقر لها بصحة الرأي.

ومن المصطلحات القرآنية التي سيء فهم طبيعة المرأة على ضوئها: مصطلح الكيد المنسوب للنساء في قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف : 28]، حيث اعتبر الكيد صفة لصيقة بالمرأة سببها طبيعة الشر والاحتيال المركوزة فيها، وذهب بعضهم إلى اعتبار كيد النساء أعظم من كيد الشيطان بناء على مقارنتهم بين قوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)، وقوله في سورة النساء: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء: 75]، وقد حكى هذا الرأي الزمخشري والقرطبي والألوسي وغيرهم[4]. 
غير أن حقيقة الكيد في الاصطلاح القرآني أبعد من ذلك. فقد ورد لفظ الكيد خمسا وثلاثين مرة، خمس منها فقط مرتبط بالنساء، والباقي يأتي فيه الكيد: إما مذموما، إذا نسب إلى الشيطان أو الكفار والمشركين ، وإما محمودا، إذا نسب إلى الله تعالى كما في قوله: (وَأُمْلِي لَهُمُ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) [الأعراف : 183]، أو إلى عباده المؤمنين، ككيد نبي الله إبراهيم لقومه: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) [الأنبياء: 57]. والظاهر من هذه الموارد أن كيد الإنسان ما لم يكن موجها بقيم الصلاح، فهو مذموم، موصوف بالضلال والتباب والخسران والوهن والضعف. ولا يخرج كيد النساء عن هذا الوصف، لأنه كيد إنساني يكون محمودا أو مذموما حسب المقام. فإذا كان كيد امرأة العزيز مذموما فقد كان كيد بلقيس محمودا حين وقت قومها حربا خاسرة وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. وقد كان أول كيد يتعرض له يوسف عليه السلام هو كيد إخوته من الرجال: (قَالَ يَا بُنَيِّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلاِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [يوسف : 5]، فالكيد المذموم في القرآن الكريم هو من وسوسة الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء، أو من الخلخلة في البناء القيمي الذي يستدرجه الإنسان بين جنبيه: ذكرا كان أو أنثى. ومن ثم كان ضعيفا، ولا تناقض بين العظم والضعف لأن الوصف بالعظم بيان لكبر حجمه مع ضعف مصدره، والوصف بالضعف بيان لقيمته وحكم على أثره. ولذلك لم يفلح كيد تلك النسوة مع يوسف عليه السلام بحيث استجاب له ربه (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف : 34]. 
إن وجود بعض التفسيرات الخاطئة بخصوص طبيعة المرأة، عند بعض المفسرين، يرجع إلى تأثرهم بالظروف الاجتماعية والثقافية التي عاشوا فيها، بعد أن اتسعت مساحة البلاد الإسلامية ودخلتها آثار الثقافات التي تفاعلت معها، وبدأت تتسع الشقة قليلا بين المعاني القرآنية وبين تلك المعاني التي أحدثتها تلكم المؤثرات الاجتماعية والنفسية والثقافية. ولكن وجود مثل هذه التفسيرات، فضلا عن طابعه الاجتهادي، لا يقدح في المنظومة التفسيرية الموروثة عن علمائنا، وإنما هي قطرة شائبة في بحر زاخر هيهات أن تكدره!. 
لقد كانت الثقافة السائدة قبل مجيء الإسلام، كما كانت ثقافات أخرى غيرها، ترتكز على مبدأ يجعل المرأة أدنى من الرجل من حيث طبيعتها. وهو مبدأ تمتد أصوله إلى فلسفات وأعراف تشريعية موغلة في القدم. ففي الثقافة اليونانية مهد العقل الفلسفي رأى أرسطو أن المرأة من الناحية البيولوجية تمثل التراب ويمثل الرجل الروح، فالأنثى بطبعها حسب هذا التصور خسارة للبشرية لأنها تمثل انتصار التراب على الروح[5]. لقد هيمن هذا التقليد الأرسطي على صورة المرأة في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية بعدها، وهو ما أكدته عبارات سبينوزا حين قال: إذا احتكمنا إلى الخبرة، فإن تبعية المرأة للرجل ناتجة عن نقصانها الطبعي[6]. وسار على هذه الأحكام رجال الفلسفة الغربية الكبار أمثال روسو وهيجل وكانط، رغم تناقضها مع المبادئ المنطقية والابستمولوجية للعقل الفلسفي الذي دافعوا عنه. 
ثم كان طبيعيا أن تسفر مبادئ حقوق الإنسان التي احتوت عليها تلك الفلسفات مع تطور الأمم المعاصرة عن ردود فعل تبشر بشيء من ملامح تلك الصورة المشرقة التي رسمها القرآن لطبيعة المرأة قبل قرون عديدة. وخاصة الاعتراف بالهوية الآدمية للأنثى[7]. وإقرار خصوصياتها الطبيعية معا. وهو موقف وسطي جاء متناسقا مع المعطيات البيولوجية والنفسية التي تثبت وجود ميزات نسوية خاصة ضمن الانتماء الإنساني العام.

وهكذا فإن تلك الصورة المشرقة التي قدمها القرآن الكريم للمرأة كانت دليلا من أدلة إعجازه الباهر، حيث سبق إلى تأسيس مبدأ التكامل النوعي بين المرأة والرجل، وهو موقف وسط بين التمييز والمساواة النوعيين. وقد بين القرآن الكريم هذا المبدأ من خلال عدد من المفاهيم، وفي مقدمتها ـ فضلا عن مفهوم الأنثى ـ مفهوم "الزوجية" الدال على الاقتران والمقابلة والتكامل. ومفهوم اللباس: الدال على تمام المخالطة والملازمة، ومفهوم السكن الدال على التكامل النفسي، المتمثل في افتقار الرجل إلى الطمأنينة والاستقرار الذي توفره المرأة ،ومفهوما المودة والرحمة، الدالان على الشعور الوجداني المتبادل بينهما.

إن مبدأ التكامل هذا لا ينحصر في ما له علاقة بطبيعة المرأة، بل هو أساس أيضا في بيان حدود وظيفتها بالمعنى الاجتماعي الواسع لكلمة وظيفة. وهذا يؤدي بنا إلى سؤال آخر هو: هل يقتضي التساوي في الثواب تساويا في العمل يلغي خصوصية بعض التكاليف النسائية فتكون المرأة مساوية للرجل في كل الأحكام دون قيد؟ أم أن ذكر الآية للجنسين: الذكر والأنثى هدفه الإشارة إلى بعض الخصوصيات الفاصلة بينهما؟. 

المحور الثالث: وظيفة المرأة بين الإطلاق والتقييد 

إن الآية صريحة في الجمع بين الخصائص الطبيعية والسمات الوظيفية للمرأة، وقد بينا ذلك في تحليلنا للسياقين المقامي والمقالي، حيث جمعت الآية بين لفظ "الأنثى" ولفظ "العمل"، وقررت قاعدة التكامل بعبارة: "بعضكم من بعض" لحل ما قد يرد في هذا المجال من إشكالاتٍ أو من بعض الفهوم الخاطئة لوظيفة المرأة المتداولة في ثقافات مختلفة ومنها الثقافة الإسلامية.

إن نظرة المجتمعات إلى طبيعة المرأة تؤثر على الوظائف التي تسندها إليها. وقد عرفت البشرية تاريخيا مبدأين كبيرين فيما يتعلق بوظيفة المرأة: أحدهما قديم: وهو مبدأ التقييد الوظيفي، والثاني حديث وهو مبدأ الإطلاق الوظيفي. 

أما الأول، فالمقصود به: حصر وظائف المرأة في الإنجاب وخدمة الرجل كما يخدمه عبده. وإن نظرة متفحصة للتاريخ الإنساني لتؤكد لنا هيمنة هذا المبدأ على أمم كثيرة. . بل استمرت بعض تجلياته عند كثير من الفلاسفة الكبار الذين اعتبروا المرأة غير صالحة للعلوم الرفيعة ولا للمشاركة السياسية في المجتمع، كما أكد ذلك هيجل وسبينوزا وغيرهما[8]. 

وأما المبدأ الثاني، وهو مبدأ الإطلاق الوظيفي فقد بني حديثا على أساس مبدأ المساواة المطلقة بين الذكر والأنثى، وازدهر قليلا بمجهودات الوجودية والتفكيكية والبراغماتية، وهو يقضي بأن من حق المرأة إلغاء جميع الوظائف الأنثوية لصالح جميع الوظائف الذكرية، بما في ذلك تعطيل وظائفها البيولوجية الجنسية وتعويضها بالوظائف الجنسية الذكرية[9]. وهذا تطرف يخالف الطبع والعقل والشرع. لذلك بدأت الآن تظهر دعوات من علماء الاجتماع والحقوقيين ودعاة المساواة بين الجنسين أنفسهم إلى اتخاذ مواقف أكثر وسطية واعتدالا، كتلك التي تربط قضية المساواة بين الجنسين بنظرية العدالة المبنية على مبدأين هما: الاستقرار والإجماع، اللذين تضمنهما العائلة ويثبتهما علم النفس الأخلاقي[10]. 

وعلى الرغم من قبول هذه المبادئ العامة لتفسيرات متباينة، فإن هذا البعد العائلي المنظِّم وهذا الإطار الأخلاقي الجامع مهم في شرعنا الحنيف، لأنه يحفظ كرامة المرأة، حتى ولو تحررت وظائفها علميا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. ولقد سبق أن قدم القرآن الكريم مبدأ يحفظ كل ذلك بصورة أنقى وأرقى، وهو مبدأ التكامل الوظيفي. وسأبين ملامحه الأساسية من خلال بعض المفاهيم القرآنية التي قد توحي للبعض بنوع من التمييز ضد المرأة إذا أسيء فهمها، وسأركز على مفاهيم ثلاثة هي: التفاضل والدرجة والقوامة.

أما مفهوم "التفاضل"، الذي ورد بخصوص النساء والرجال في قوله تعالى: (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء: 32]، و في قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنَ أَمْوَالِهِمْ) النساء : 34]، فقد فسر بما خص به الرجل من زيادة في بعض الحقوق الشرعية على المرأة، كزيادة مقدار الإرث، والدية والغنيمة، وكحقه في التعدد في الزواج بخلاف المرأة، وحقه في التطليق ومراجعة مطلقته. 

وباستقراء المفهوم في القرآن ككل. نجد أن فعل التفضيل ورد سبع عشرة مرة، اثنان منها فقط تتعلق بالتفضيل بين الرجال والنساء. بينما يجيء التفضيل عموما على مستويين:

(أحدهما): تفضيل بني آدم على غيرهم من الخلق، تكريما لهم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء : 70]. و(الثاني): تفضيل الناس بعضهم على بعض، وهو على نوعين: تفضيل في ما هو طبيعي متعلق باختلاف الصفات، ويدخل فيه اختلاف التنوع في الألوان والأعراق... فيكون الناس فيها متفاضلين كتفاضل النباتات في الأكل وهي تسقى بماء واحد. ويدخل فيه أيضا التفضيل بين الناس في الرزق. وقد يدخل ضمن هذا النوع تفضيل بني إسرائيل بأن جعل فيهم الأنبياء لتكون الحجة عليهم أقوى. و تفضيل بعض الأنبياء على بعض في بعض الخصوصيات كالمعجزات والمحن والابتلاءات مع المساواة في أصل النبوة، كما في قوله: (ِتلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ... الآية) [البقرة : 251]. 
والنوع الثاني من تفاضل الناس فيما بينهم: هو تفاضل بما يكسبه الإنسان بعمله، وهو ما يقتضي تفاضلا في الثواب أيضا، كما جاء في قوله تعالى بعد ذكر تفاوت الناس في العمل للدنيا أو للآخرة: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء : 21].
بعد هذا البيان، تتضح صورة التفاضل بين النساء والرجال، فهي في ضوء المفهوم ككل تسير وفق السنن الإلهية في الخلق التي لا تقتصر على مجال الإنسان بل تتعداه إلى مجال الطبيعة. وهو ليس تفاضلا جنسيا جوهريا كالتفاضـــل بين بني آدم وباقي المخلوقات، وإنما هو تمايز في الخصائـص بحيث يكمـل بعضها بعضا. وأما في ضوء الآيتين : فقد جاء في الأولى ما يدل على وجود تفاضل متبادل بين الرجال والنساء، يؤكده الجزء المتمم للآية، والذي ذكر فيه فعل الكسب الدال على العمل: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) فدل ذلك على أن هذا التفاضل واقع في ما هو مكتسب. وهذا يبرر النهي الذي صدرت به الآية، لأن الفضل متى كان ناتجا عما استحقه الإنسان بعمله، لم يكن لأحد الحق في الاعتراض عليه. أما الآية الثانية، فإن التفضيل فيها مبني على التنوع الطبيعي، فقد فضل الله الرجل على المرأة في القوة الجسدية، ففرض عليه أمورا لم يفرضها على المرأة، فترتب على ذلك نيله لحقوق لم تنلها المرأة. وهذا المعنى للتفاضل لا يخرج المرأة من دائرته، فهي أيضا وهبت خصائص طبيعية مكنتها من حقوق ليست للرجل، كالحق في أن ينفق عليها الزوج، ولو كانت قادرة على الإنفاق. فالأمر كله لا يخرج عن المفهوم العام للتفاضل الذي يحكمه قانون واحد وسنة واحدة. على أن كل تلك الاعتبارات المادية لا ترفع من قدر الرجل على المرأة ولا المرأة على الرجل، لأن معيار الأفضلية في ميزان القرآن الكريم والسنة الشريفة هو التقوى. فإذا ربطنا ذلك بالآية منطلق الدرس تأكد لدينا المعنى نفسه.
وأما مفهوم الدرجة الذي جاء في قوله عز وجل: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) [البقرة : 226]، فقد فسر بعلو المنزلة وشرف تفضيل الرجل على المرأة في أمور كثيرة، ذكرها الرازي في تفسيره كالعقل والدية وصلاحية الإمامة وقال: (وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل...) [11].

لكن استقراء مفهوم الدرجة في القرآن الكريم والوقوف على سياقه في الآية يعكس دلالات أغنى من ذلك. فقد ورد لفظ الدرجة ثمان عشرة مرة: ثلاث منها ترتبط بالبعد الغيبي حيث ترد في واحدة منها صفة لله عز وجل: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر : 14]، وترد في الأخريين في باب التفاضل بين الأنبياء والرسل، كقوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) [البقرة : 251]، وباقي الموارد الخمسة عشر هو تفاضل بشري، اثنتان منها من باب تفاضل التسخير لغاية الابتلاء، كقوله تعالى: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) [الأنعام 167]، والمواضع الباقية كلها تدور على معنى الجزاء الأخروي الناتج عن قدر التضحية وحسن العمل في الدنيا، كما قال تعالى: (ولكل درجاتُ مما عملوا) [الأنعام : 133 والأحقاف : 18]، وقوله: أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال : 4]. 
وأما سياق الآية فإنها تقع ضمن آيات نزلت بخصوص أحكام الطلاق والعدة والرجعة، وجاء الجزء المتعلق بالتفضيل تابعا لقوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فقدم المثلية على التفضيل بدرجة.
وتفسير الدرجة على ضوء مفهومي "المثلية" و"المعروف" الواردين في الآية يبين أن هذه الدرجة مرتبطة بالأحكام التي ذكرت، فللمرأة الحق بأن لا يراجعها زوجها أثناء العدة ضرارا، إلا إذا كان يريد الإصلاح، وعليها في المقابل ألا تضر الزوج بكتمان الحمل أو دم الحيض إن أراد الزوج مراجعتها, وبهذا تثبت الآية حقوقا وواجبات للمرأة، تتضمن في المقابل حقوقا وواجبات للرجل. وهذا هو مقتضى العدل والتكامل. وهذا التفسير هو الأشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره كما يقول الطبري[12]. ولفظ "المثل" يؤكد هذا فهو لا يدل على المطابقة التامة، بل يدل على الشبيه والنظير، ومعلوم أن الشيء لا يكون شبيها للشيء في جميع صفاته. ومن مقتضيات الفطرة والعقل أنه لا وجود لمثلية في سائر الحقوق والأحوال: أجناسا وأنواعا وأشخاصا[13]. ولهذا جاء لفظ: "المعروف" في الآية ليؤكد على أن جريان هذه الأحكام والأمور يجب أن يكون على مقتضى ما تعارف عليه الناس في علاقاتهم الاجتماعية مما يوافق الفطرة السليمة ولا يتعارض مع أحكام العقل ومقاصد الشرع، ومن ذلك أن المثلية المقصودة هنا ليست مساواة رياضية، وأن جنس الواجب غير جنس الحق في العلاقات بين الناس. ويبدو أن مفهوم "المعروف" عامل محوري في فهم العديد من القضايا التي تثيرها الآيات بشأن العلاقة بين النساء والرجال، فقد تردد ذكر لفظ المعروف في القرآن الكريم ثمانا وثلاثين مرة، نصفها جاء مرتبطا بالنساء وعلاقتهن بالرجال، جلها في سورة البقرة المشتملة على هذه الآيات. وكلها في بيان أحكام الزواج والطلاق وما يرتبط بهما من جزئيات. 
وبناء على معنى المثلية بين الحقوق والواجبات، المقيد بالمعروف، يكون معنى الدرجة، داخلا ضمن هذا الكل، أي يفهم ضمن قاعدة نفي المثلية المطلقة، وذلك أن الرجل عليه من الواجبات ما لا يماثله عند المرأة كالنفقة والمهر، وله أيضا من الحقوق ما لا يماثله عند المرأة، كالحق في مراجعتها إن أراد الخير والصلاح. فإذا كان هذا هو مقتضى المثلية، كانت الدرجة فضلا زائدا فسره ابن عباس رضي الله عنهما بقوله إنها: (إشارة إلى حض الرجال على حسن المعاشرة والتوسع للنساء في المال والخلق) قال ابن عطية معلقا على هذا التفسير: ( وهذا قول حسن بارع) [14]، ومعنى هذا أن الدرجة ليست مزية ذاتية وفضلا في الحقوق، بقدر ما هي مزية خلقية توجب على الرجل حسن المعاشرة. وهذا المعنى الخلقي هو الذي ذكره الطبري بعد أن استقصى الأقوال المأثورة في مفهوم الدرجة وقال: "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس وهو أن الدرجة التي ذكر الله ...في هذا الموضع: الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها وإغضاؤه عنه، وأداء كل الواجب لها عليه"[15]. وكأنه رحمه الله يستحضر المعنى القرآني العام للفظ الدرجة: وهو ما يناله العبد الصالح من درجات عُلَا عند الله ثوابا على إيمانه ومسارعته إلى البر والتقوى.
وضمن هذا السياق يرد مفهوم القوامة. في قوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34]،حيث تثبت الجملة الدالة على سبب القوامة (بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) تفاضلا متبادلا، ومما فضل به الرجال على النساء القوامة الدالة على الحفظ والرعاية المادية والمعنوية، على أن هذا لا يمنع مشاركة المرأة في هذه الرعاية وخاصة تلك التي تدخل ضمن مسؤولياتها طبقا للحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: (...والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)[16]. أما تفسير القوامة بالطاعة، أي طاعة المرأة للرجل، فصحيح إن قيد مفهوم الطاعة "بالمعروف"، على الاصطلاح القرآني، كما قال تعالى: (وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) [الممتحنة 12]. فتصبح الطاعة فعلا تلقائيا متى ترسخت علاقة المودة والسكن والمحبة بين الزوجين. أما إرجاع القوامة إلى المزية الذاتية للرجل أي تميزه النوعي، فلا تنطق به الآية.
إن مفاهيم الدرجة والتفضيل والقوامة والمعروف والطاعة، لو ربطت بغيرها من المفاهيم كالأنثى، والزوجية، والسكن، ونظر إليها على أنها نظام مفهومي مترابط، وأسرة مصطلحية متكاملة، لَحُلَّ إشكالُ التقييد والإطلاق الوظيفيين، ولتأكد أولا: استحالةُ اختزال الفعل النسائي بما هو فعل إنساني في الوظائف البيولوجية، وثانيا: إمكانُ مشاركة المرأة في العمل بمفهومه العام الدال على الفعل الإيجابي الديني والدنيوي. وثالثا: استحالةُ تطبيق مبدأ الإطلاق الوظيفي بإلغاء جميع الوظائف الأنثوية بما فيها الحمل والرضاع، لصالح جميع الوظائف الذكرية، نظرا لاستحالة المثلية المطلقة بين الذكر والأنثى، وتطبيقا لمبدأ التكامل الوظيفي الذي يسهم في إحداث التوازن المطلوب في نظام الأسرة، وفي بناء الأمة ككل. ولذلك لا يجب أن نستغرب من وجود أحكام تشريعية تخص النساء مبنية على خصوصياتهن البيولوجية، لأن تنوع الوظائف تابع لحال المكلف، ذكرا كان أو أنثى، بما في ذلك التنوع داخل فئة الذكور أنفسهم، والإناث أنفسهن. 
والحق، إن تدبير شؤون الأسرة يقع في صلب الفعل النسائي، لأن المرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها. ولكن ذلك لا يمنعها من المشاركة العلمية والاجتماعية والسياسية في إطار المعروف الشرعي والتسابق إلى الخيرات، والتعاون على البر والتقوى اللذين بهما تنال أرفع الدرجات. 
إن سؤال أم سلمة رضي الله عنها عن ذكر النساء في الهجرة يذكرنا بمشاركة المرأة في هذا الفعل السياسي الكبير الذي لم يكن يضاهيه إلا إقبال المرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيعته قائدا للدولة المسلمة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا جَاءكَ الْمُومِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الممتحنة : 12]. مما يدل على أن للمرأة شخصية قانونية مستقلة. ومن ثم فهي عضو فاعل في جميع المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية للأمة، فضلا عن دورها الديني والتربوي الذي يجعل وظائفها المجتمعية واسعة لا تحدها إلا حدود الإيمان والوقار وحسن الخلق. ولعل ذلك من الإشارات اللطيفة التي يوحي بها القرآن الكريم حين يجعل من المرأة مثالا للرجل مؤمنا كانا أو غير مؤمن، قال تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) التحريم آية 10، ثم قال: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون) التحريم آية 11. لذلك، علينا أن ننظر إلى الحقوق والواجبات والطبائع والوظائف، ضمن تصور شمولي يتأسس على الوسطية والاعتدال والتكامل، دون أن ننسى أن القرآن الكريم قد عالج كل هذه القضايا ضمن مفاهيم "العبودية" لله عز وجل، و"الاستخلاف"، و"التقوى"، و"العمل" و"الجزاء". فلا تفهم تلك إلا بهذه، وتلك سمة أخرى من سمات الترابط بين مفاهيم القرآن الكريم.


--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش

[1] ـ جامع البيان للطبري، دار الفكر، بيروت، 1398هـ/ 1978م، مجلد 3، ج 4، ص 143. المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، المجلد الثاني، كتاب التفسير، تفسير سورة آل عمران، رقم الحديث: 3174)، و سنن الترمذي، كتاب التفسير، دار إحياء التراث العربي، حديث رقم: 3023، وأيضا: أسباب النزول، للواحدي، دار الفكر، بيروت، 1414هـ/ 1994م، ص 77. 

[2] ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1969، 4/. ثم استشهد على قوله هذا بمن ذم القرآن موقفهم من ولادة الأنثى، فقال: ( كما قال بعض العرب، وقد بشر ببنت: ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء وبَرها سرقة)، وفي تفسير البيضاوي لقوله تعالى في سورة النساء: (إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً) [النساء : 117] ، اعتبر تأنيث الجمادات راجعا لكونها كالإناث تنفعل ولا تفعل (تفسير البيضاوي: مطبعة مصطفى محمد، مصر، 1/117).

[3] ـ أضواء البيان للشنقيطي، عالم الكتب، بيروت، 1/158

[4] ـ الكشاف للزمخشري: دار الفكر، بيروت، 2/315، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي ومحمود حامد عثمان، دار الحديث، القاهرة، 2002، 5/159، روح المعاني للألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 12/224

[5] ـ كان أفلاطون يرى أن الرجل هو الجنس الأسمى وأن المرأة قد خلقت من الأشرار من الرجال (محاورة طيماوس: 42 أ 

و42 ج) وقدم أرسطو تعليله العلمي لهذه الرؤية في نظريته البيولوجية التي عرضها في كتابه: Histoire des 

animaux (trad. Tricot), Paris, J. Vrin, 1957

[6] ـ B. Spinoza, Traité Politique, texte latin, trad. de P.F. Moreau, index informatique par P.F. Moreau et R. Bouveresse, Répliques, 1979, XI/4

[7] ـ ولكننا أصبحنا من جديد أمام تيارين: 

أحدهما: ذو أصول وجودية وبرغماتية: وهو يدعو إلى إلغاء الهوية النسائية الخاصة لصالح النوع، لأن الصفات التي تفرق بين الجنسين اجتماعية تاريخية وليست طبيعية فطرية، ينظر: 

, 1949 Simone de. Beauvoir. Le Deuxieme Sexe. Paris: Gallimard وأيضا: أصول الفروق بين الجنسين، أورزو لاشوي، ترجمة بوعلي ياسين، دار التنوير، ط 1، بيروت، 1982. 

والثاني: يتبنى مبدأ الماهية الثابتة للنساء، التي تشير إلى وجود خصائص ثابتة تعطي للنساء المميزات والوظائف التاريخية"، ينظر: . Elizabeth Grosz, "Sexual Difference and the Problem of Essentialism", in The Essential Difference Indianapolis: Indiana UP, 1994, 84. . وتشكل هذه الماهية اليوم حسب هذا التيار مصدرا للوحدة السياسية والرؤية البديلة (Feminism/Postmodernism, Susan Bordo, New York: Routledge, 1990, p153 ). 

والحقيقة أن الخلاف بين التيارين عميق جدا، يرجع في جذوره إلى التيارين اليونانيين: تيار الماهية الثابتة الأفلاطوني الأرسطي، وتيار الصراع الأيوني، لكن الجديد أن هذا الخلاف تسلل إلى أعماق نظرية المساواة بين الجنسية، تحت صراعات سياسية وإثنية وثقافية، فقد قادت النساء الأمريكيات من الأصول الأفريقية حركة معارضة نزعة الماهية الثابتة بحجة أنها نزعة تمثل مصالح نساء البيض. ينظر أيضا: Feminist Theory from Margin to Center, bell hooks, Boston: South End P, 1984

وينظر أيضا: Feminism/Postmodernism, Susan Bordo op. cit 

وترى سوزان بوردو S. Bordo أن الاختلاف بين التيارين هو معضلة القرن بالنسبة للمرأة. مما دفع بالبعض الآخر إلى الدعوة إلى الجمع بين الرأيين، على اعتبار أن الانتماء الآدمي للمرأة لا يلغي خصوصياتها النسوية الطبيعية. 

[8] ـ قال هيجل: "النساء ... لسن معمولات للعلوم العليا: الفلسفة وبعض إنتاجات الفن التي تتطلب الكلية".

G. WF Hegel, Phénoménologie de l esprit , Paris, Gallimard (Folio), 1993 ; 161

لذلك رأى كما رأى سبينوزا قبله أن الرجال والنساء لا يمكنهم اقتسام السلطة السياسية ولا الحكم المدني، لأن في ذلك فسادا للدول : XI/4 :8 B. Spinoza, Traité Politique,

[9] ـ وذلك لأن الجنس ليس معطى فطريا كما تؤكد دي بوفوار بل هو مشروع وجودي يتم عبر اختيار فردي حر.

[10] ـ ينظر: John Rawls. A Theory of Justice. (Cambridge, Massachusetts: The Belknap Press of Harvard University, 1971; p 456-457

[11] ـ تفسير الرازي، المطبعة البهية، مصر، ط1، 1938، 6/101

[12] ـ تفسير الطبري: مجلد 2، ج 2، ص 275.

[13] ـ التحرير والتنوير، دار سحنون، تونس، 2/398

[14] ـ المحرر الوجيز لابن عطية، طيعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط1، 1981، 2/275

[15] ـ تفسير الطبري: مجلد 2، ج 2، ص 275.

[16] ـ صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، حديث رقم: 853، تح: مصطفى البغا، دار ابن كثير، اليمامة، 1987.


تاريخ النشر : 05-07-2008

6433 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com