آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

طليعة الرد على مقالة المرزوقي "النكوص إلى عقلية الفرق الكلامية"

سعيد فودة


تمهيدفي بيان حقيقة علم الكلام والحاجة إليه

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد...

فإن هذه الشريعة جاءت كاملة لتكمل الإنسان إذا عمل بها، وهي ترفعه في مدارج الكمال اللائق به، وهو أقلُّ من أن يماثل كمال الله تعالى بأي وجهٍ من الوجوه،ولذلك جعلها الله تعالى باقية إلى يوم الدين، ومعنى بقائها، ليس استمرار وجودها، وحفظ الكتاب، بل استمرار تعلق تكاليفها بالبشر كذلك.

وقد جاء دينُ الإسلام لتصويب الانحراف الذي كان حاصلاً في تصورات البشر لهذا الوجود، وتصحيح اعتقادهم في خالق الوجود، ولهذا فقد كان جانب النقد واضحاً ظاهراً في الدين الإسلامي نفسه، فجزء مهمٌّ من كونه للهداية العامة، أنه يحاور الآخرين ويجادلهم، ويبرهن لهم على المقولات التي يبينها لهم، وذلك من أجل فتح الأبواب أمامهم للوصول إلى الهدى واختياره لمن شاء.

ولذلك فإنَّ العلماء فهموا أن من حقيقة كون الدين هادياً، أن يكون محاوراً، ومبرهناً، ومرشداً، ومقنعاً، فكل سبيل صحيح يتوصل به إلى الهداية فقد اتخذه الدين سبيلا، وما هذا إلا لكمال هذه الشريعة الخاتمة.

وإنما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق أجمعين؛ لأنه كان متأهلاً -بما جعله الله تعالى فيه من كمالات خاصة له- لأن يحمل هذا الدين كله، ويوصله على ما هو عليه، على أبلغ وجه وأكمله، وما كان أحد ليستطيع حمل الدين كله إلا من بلغ في الكمال درجة نبينا الحبيب، ولذا فقد عكست تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام الكمالات التي يرشد إليها الدين على أبلغ وجه، فبين وأرشد، وجادل وناقش بالتي هي أحسن، وبرهن للناس على صحة العقائد وبطلان ما يعتقدون مما يخالف ما جاء في الدين الخاتم.

ولذلك فقد ناقش عليه الصلاة والسلام الوثنيين والدهريين والنصارى واليهود وغيرهم ممن انحرف جزئياً أو كلياً عن مسار هذا الدين.

وكذلك فعل أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، بفارق أن الكمالات كلها قد اجتمعت في النبي الخاتم، ولا يطيق أحد –منفرداً- بعد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوم بالدور نفسه الذي قام به نبينا الحبيب، ولذلك فقد أحسن النبي عليه الصلاة والسلام تعليم أصحابه ليتمكنوا بمجموعهم من حمل الدين على أكمل وجه ممكن لائق بهم، ولذلك تفرقت كمالات النبي عليه الصلاة والسلام بين أصحابه وأتباعه، فحمل كل منهم بعض ما حمله النبي عليه السلام، ليحصل بمجموعهم ما تقوم به الهداية على أفضل وجه، وزاد عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بما اختصه الله تعالى به من خصائص ومعارف لا تجوز لأحد غيره، وذلك إلى يوم الدين.

ولهذا السبب رأينا من الصحابة من يكون فقيهاً ومعلماً، ومنهم من يكون قارئاً للقرآن مقرئاً، ومنهم من يكون قائداً، ومنهم من يكون عالماً مدافعاً عن الدين والتوحيد أمام من يواجهه أو ينحرف عنه...وهكذا.

وقد تتابع العلماءُ على هذا النحو كابراً عن كابر، يأخذ المتقدمون منهم عمَّن تقدمهم، ثم يبلغون ذلك إلى من يلحق بهم، ليتم بذلك البلاغ وإقامة الحجة.

ولذلك ظهر بعد ذلك علماء متخصصون في الفقه، وعلماء متخصصون في القراءات، وعلماء متخصصون في العلم بالتوحيد والدفاع عن أصول الدين، وعلماء متخصصون بحمل حديث النبي عليه السلام، وعلماء قائمون بالعمل الصالح وتربية الخلق وإرشادهم إلى سواء الطريق، وقد يحيط بعض علماء الأمة الإسلامية بمجموعةٍ من العلوم ولكن أحداً لن يقوم بمقام النبي عليه الصلاة والسلام أبداً في حمل أركان الدين وفروعه، والقيام الكامل بحق الشريعة على أبلغ وجه، فهذا فضل من الله تعالى اختصَّ به خير خلقه.

ومن هنا فقد تيقَّن علماء أهل السنة أن من الضروري أن يقوم مجموعة منهم بحمل مسؤولية البيان لأصول الدين للمنتمين إليه، والقيام بالاستدلال عليها، لأن الدليل يقوم أصلاً بوظيفة الإرشاد، وتحمل مسؤولية عبء الدفاع عن مفاهيم الدين الإسلامي وعقائده، والرد على من يخالفها أصولاً أو فروعاً، وتقويم من ينحرف عن الجادة والصواب من المنتمين إلى هذا الدين، ومواصلة الرد على المخالفين لأصوله من أهل الأديان الأخرى التي حُرِّفَتْ، والأديان التي وضعها البشر من عند أنفسهم، والفلسفات والتصورات التي اخترعوها من عند أنفسهم.

ولذلك فإن ظهور علم يسمى بعلم أصول الدين أو علم التوحيد، أو علم الكلام، أو غير ذلك من الأسماء التي اشتهر بها، كان أمراً ضرورياً، كضرورة ظهور علم خاص بالفقه العملي وعلم القراءات وعلم التاريخ وعلم النحو، وعلم أصول الفقه، وهكذا.

هذا هو جوهر المعنى الذي من أجله ظهر علم الكلام عند أهل السنة، فهو استئناف للجهود التي كان يقوم بها الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته من بعده، ومن أخذ عنهم واهتدى بهديهم، وسيبقى ذلك إلى يوم الدين بإذن الله تعالى.

وفي الحقيقة، إن علم الكلام ضروري للمسلمين، ولا أعتقد أحداً يتصوره على وجهه، وينكر فضله وقيمته، ولذلك فإن علماءنا قاموا بحمل كلمات وردت عن بعض المتقدمين في التنفير من هذا العلم على ما تكلم به المخالفون غير المتقنين لأصول الدين حقيقة، فتكلموا بكلام بعضه حق وبعضه باطل، وخلطوا الأمور.

وعلم الكلام هو عبارة عن جهود من بعض العلماء المنتمين إلى الإسلام الذين لا يخالفونه في ضروري من ضروريات الدين، لإثبات عقائد الدين وأصوله الكبرى على حسب الوسع والفهم الحاصل لديهم، فهو إذن ليس علماً منزلاً حتى يطالب هؤلاء المشتغلون بعدم الخطأ فيه، فإنه يوجد المخطئ فيهم والمصيب، ومن حق أيِّ واحد أن يدافع عما يعتقد أنه الفهم الحق لهذا الدين، ومن حق غيره ممن يخالفه أن يردَّ عليه.

وهذا النزاع في الحقيقة واقع بالضرورة العادية، ولا يمكن أن يتخلص منه النوع الإنساني، فلا يتصور عقلاً بحكم العادة أن يزول الخلاف من بين الناس في أصول الأفكار والأديان التي ينتمون إليها، ولا يمكن أن يطالب بعض الناس بعدم بيان ما يعتقدون، أو أن يطالبوا بعدم الدفاع عما يقولون به، بل إن اندفاع الواحد للدفاع عن معتقده أمر طبيعي لا يجوز ادعاء السعي لإزالته من الأفراد عموماً.

ولوجود الاختلاف المصرَّح به في الآيات الكريمة بين الناس، وأنهم لا يزالون مختلفين، كان لابدَّ من أن تقوم طائفة من العلماء بواجب البيان والدفاع والرد، وقد نصَّ القرآن على وجود طائفة عمتها الرحمة لم تختلف في الدين، فهؤلاء هم الذين يقومون بتقويم الرد والدفاع عن العقائد الحقة المذكورة في الدين.

ومن هنا فقد قام علماء الكلام بواجبهم في الدفاع عن الدين، أمام هجمات الملحدين والمخالفين من أهل الأديان السماوية الأخرى، ومن الدهريين، ومن الوثنيين، فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ، ونحن نعتقد بأن الدين الحق قد وفق إليه أهل السنة وظلوا عليه قائمين بالدفاع عن حياضه أمام المخالفين، وهم الذين مشى جماهير علماء المسلمين وراءهم من متكلمي أهل السنة، وذلك بعد زوال الغبش الحاصل لظروف تاريخية بين أصل علم الكلام وبين كلام طائفة معينة من الذين لم يرتضِ السلفُ كلامهم.

ومن هؤلاء المتكلمين إمام أهل السنة الإمام الأشعري، وتلامذته ومن سار على طريقته ونهجه في الدفاع عن عقائد الدين لا عن آرائه الشخصية كما يتوهم المتوهمون، ولذلك فإنهم إذا رأوا بعض أقواله تخالف الصواب فإنهم يخالفونه لأن مرجعهم في النظر إنما هو الأدلة القائمة من الدين والعقل، لا مجرد كلام الأشعري نفسِه، فلا يقول أهل السنة بعصمة الإمام.

وظهر من بعده بعد أن قام بدوره العظيم في نصرة أهل السنة كبار العلماء مثل ابن مجاهد وأبي الحسن الباهلي والباقلاني وابن فورك وأبي إسحق الإسفراييني والبغدادي والإمام الجويني والغزالي والشهرستاني والرازي والآمدي والعضد الإيجي والتفتازاني والبيضاوي، ومشى على درب هؤلاء العديد من متأخري المتكلمين وحراس العقيدة مثل الإمام السنوسي والعقباني والبيجوري والأمير، وامتد نظامهم مع ما واجههم من هجمات عنيفة إلى هذا الزمان الذي نحن فيه، فظهر من أواخر المتكلمين الشيخ العطار والعدوي والشيخ ابن علان والشيخ مصطفى صبري والكوثري، وما زالت السلسلة لم تنقطع، والجهود قائمة، وإن واجهت علم الكلام في العصور الأخيرة هجمات عنيفة من المرتدين على أعقابهم ومن المنخدعين بالحضارة والفلسفات الغربية، ومن بعض الزائغين الذين لم يفهموا حقيقة الدور الكبير لعلم الكلام، ومن بعض الذين حسنت طوياتهم لكنهم لم يكن عندهم كبير إلمام بهذا العلم لصعوبته ودقته وابتعادهم عن تعلمه فتأثروا بالدعايات المنفرة منه المبغضة فيه، فزعموا أن لا حاجة لنا إليه.

وهكذا فإنا نستطيع عبر تتبع تاريخي سهل أن نرى أن خط سير علم الكلام انتقل من قوة إلى ضعف، ومن ضعف إلى قوة، شأنه كشأن سائر العلوم الإسلامية، بل العلوم الإنسانية.

فلعلم الكلام غاية وموضوع وهدف وفائدة، وما يزال العديد من الناس يعملون لإنهاض هذا العلم الشريف، وإعادة فعاليته إلى المجتمعات عبر ممارسة دورهم الريادي الواجب في نقد الأفكار المعاصرة الطارئة على الملة، والخارجة عن أصول الشريعة، الواردة على الأمة الإسلامية من الشرق والغرب.

وما يزال هناك العديد من طلاب هذا العلم تشرئبُّ قلوبهم إلى نفحات منه، ويتطلعون إلى من يعلمهم مبادئه لإيقانهم بأن كبار العلماء ممن ذكرناهم ومن لم نذكرهم ما كانوا ليهتموا هذا الاهتمام العظيم بهذا العلم إلا لجلالة قدره، وعظيم أثره، وظهور فائدته.

فأما الذين ينكرونه من أصله فسوف يضطرهم هذا الموقف إما إلى القدح في هؤلاء العلماء الأجلاء، وإما إلى إنكار العديد من المبادئ التي تقوم عليها القواعد الدينية، ولذا فإننا نرى بعض الخائضين فيما لا يعقلون يتهمون علم الكلام، ومن ثمَّ فإنهم يتهمون العلماء العظام الذين بنوا أركان هذا العلم بأنهم السبب الرئيس في تخلف الأمة الإسلامية والعربية، فهؤلاء سوف يضطر اضطراراً إلى الوقوع في هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم، وسوف يضطر إلى اتهامهم بأنهم أخذوا من الشرق والغرب، وزادوا في الإسلام ما ليس فيه، وسوف ينسى أن هذا الاتهام قد يكون أولى بأن ينسب إليه هو وخاصة في هذا العصر الذي انحرفت فيه أفئدة الناس إلى إنجازات الغرب الذي يعتقدون ظلماً منهم بأنها دائماً في مصلحة العلم وأنها مبنية على اليقين.

وبعضُ الناس يعرفون قيمة علم الكلام لكنهم يريدون تحديثه أو تقريبه إلى الناس بدفع عجلته إلى مناقشة الإشكالات التي طرأت على الأمة الإسلامية والتشكيكات التي تَـرِدُ عليهم من المخالفين، فهؤلاء نحن نشدُّ على أيديهم ونقول لهم إنا إلى هذا الهدف سائرون، ولكن عجلة التجديد لن يقوم بها فرد من الأفراد، ولن تأتي نتيجة جهد واحد في عصر قد انقطعت فيه السبل، ولكن التجديد الحقيقي سيكون أثره ظاهرا نتيجة تراكم الجهود وتوالي الهمم على حمل هذا المهمِّ.

فنحن بحاجة إلى دفع طليعة حاذقة من شباب الأمة من ذوي القدرات المتميزة إلى الاهتمام أكثر باستيفاء علوم المتقدمين، والتمكن في علوم الغرب والشرق في هذا الزمان، حتى يمكن لهم أن ينتجوا الجديد النافع، الذي لا يكون غريباً كل الغرابة إلى حدِّ النقض لما قدمه علماؤنا المتقدمون الأخيار، فنحن نبغي أن نبني لا أن نهدم، ولا يصح الاندفاع نحو الغرب فنستعير منهم كل ما يصدرونه من أفكار، لأنا قد علمنا منهم بالتجربة القاطعة أنهم أصحاب صرعات فكرية، فكل فترة ينجزون فيها فكرة فإنهم يصورونها على أنها القاطعة التي ستهدم كل ما يليها من أفكار أو فلسفات، ولا يغتر بهذا النمط من التصرفات إلا خفيف العلم والعقل.

والمتكلمون لا يأنفون من الاطلاع على إنتاجات الأمم في مجال المعرفة، بل إنهم أولى الناس من المسلمين بأن يقوموا بذلك، ومَنْ غيرهم قادر على محاكمة الآراء الكلية، والحكم عليها بناء على نقد صحيح وتصور محيط؟! ولكنهم يتمهلون كثيراً قبل أن يستعيروا أمراً منتجاً من الغرب أو من الشرق ليوظفوه في بنائهم الاستدلالي، ومع ذلك فإن فعلوه، فإنهم يضعون كل شيء في موضعه، فلا يقولون عن الظني إنه قطعي لمجرد موافقته أهواءهم، ولا يقولون عن القطعي إنه ليس بقطعي لمجرد رغبتهم في التحبب من المخالفين.

وقد أكون قد استطردت في هذا التمهيد الذي ما أردتُ منه إلا لفت الأنظار لكي تحظى بتصور أقرب إلى الصحة عن علم الكلام.

فلنرجع إلى تلخيص الكلام مع الدكتور الذي اندفع بصورة غريبة للرد!

خُلاصاتٌ من الردِّ على د. أبي يعرب المرزوقي

سنحاول هنا أن نوجز بعض التوجيهات العامة لما ورد في مقال الدكتور المرزوقي.

لقد وقع الدكتور المرزوقي في إشكال عظيم عندما زعم أن علم الكلام هو أهم سبب أدى إلى التخلف عند العرب والمسلمين منذ نشأته وإلى هذا الزمان، فبهذا يكون قد وقع في ذمِّ علمٍ صرَّح أكابر العلماء أنه علم أصول الدين، واشتغل فيه علماء الأمة الإسلامية.

وبهذا يكون قد خلط بين علم الكلام كما تحقق على يد أهل السنة (الماتريدية والأشعري، ومن تبعهما ومشى على طريقتها من علماء الأمة كالباقلاني والجويني وابن فورك والغزالي والرازي...الخ)، وبين علم الكلام الخاص بكل فرقة من فرق الإسلاميين كالمعتزلة والإباضية والزيدية والشيعة والكرامية والمجسمة ونحوهم، وهذا يستلزم أنه عمَّمَ الذمَّ على جميع هؤلاء العلماء، وزعم أنهم سبب تخلف الأمة!! وبذلك يعمُّ ذمه الخلفاء والسلاطين الذين دعموا هذه التوجهات والدول الإسلامية التي رعتها عبر الأزمنة والأمكنة، فلك أن تتخيل بعد ذلك ما هو القدر الذي يتبرأ منه هذا الكاتب، ويزعم أنهم هم سبب تخلف الأمة.

ومن ضمن تعميمه السابق اشتمل موقفه على الحكم على الغزالي أبي حامد حجة الإسلام بأنه أحد أهم أسباب التخلف الحاصل للأمة، هذا على التحقيق، ونحن نعلم أنه زعم أن الإمام الغزالي قد ذمَّ علم الكلام، لكن التحقيق الذي لا ريب فيه أن الغزالي وقف موقفاً من العلم بحيث جعله كالدواء الذي لا يتناوله كل إنسان، أو كالطبيب الذي لا يحتاجه إلا المريض، ولذلك ذمَّ اشتغال العوام بعلم الكلام، وظلَّ يحض على تعلُّمِ الكلام وتعليمه حتى بعد أن عاد من جولته وخلوته، ولعلَّ الدكتور قد اختلط عليه الأمر من بعض عبارات ذكرها الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) تدلُّ على أن علم الكلام لا يبلغه مقصوده، فظنَّ أن هذا دالٌّ على ذمه لها العلم على سبيل الكلية.

وكذلك فقد ظلم ابنَ خلدون لما زعم أنه يذمُّ علم الكلام وأنه لا فائدة فيه، وقد بينا في ردِّنا هذا بطلان هذا القول، وأن موقف ابن خلدون لا يختلف مطلقاً عن موقف سائر علماء الإسلام من أهل السنة الأشاعرة، ولا عن موقف الغزالي من هذا العلم.

وأمَّا ابن تيمية فقد نسَبَ إليه الكاتب أنه ليس بمتكلِّم، والحقيقة التي لا ريب فيها أنَّ ابن تيمية متكلم على طريقة بعض الفرق الإسلامية، وهم الكرامية وطوائف من بعض المجسمة، مع بعض إضافات خاصّة ولمسات مميزة من عنده.

والسبب الذي من أجله زعم الكاتب أن ابن خلدون وابن تيمية فوق الفرق الإسلامية، أنه يعتبرهما أصحاب مشاريع نظرية وعملية تقود إلى النهضة على حسب تصوره، فلو كانا منتميين إلى أفكار سابقة لهما، كالأشاعرة بالنسبة لابن خلدون، ولغيرهم كما في شأن ابن تيمية، لتهافت حكم الكاتب السابق بكون علم الكلام كله سبب التخلف منذ نشأته وإلى هذا الزمان.

فحكمه عليهما إذن حكم غائيٌّ، وليس حكماً عِلْمياً.

وقد وقع الكاتب في مغالطات في شأن ابن تيمية فزعم أنه لا يريد إلا معارضة الفرق الأخرى التي يناقشها ويجادلها، وأنه لا يريد بالأدلة التي يذكرها إلا إثبات إمكان ما ينفيه النافون، وليس من طريقة ابن تيمية أن يسعى إلى إثبات صفات الله تعالى بالعقل!! لأنه إن فعل ذلك صار متكلماً مثل غيره من المتكلمين!! كيف وهو أعلى منهم وفوق جميع المذاهب!

وهذه أغلوطة شنيعة صدرت منه، فابن تيمية ليس مجرَّد ما زعم الكاتب، بل يسعى بكل جهده إلى إثبات صفات الله تعالى على حسب اعتقاده بالعقل كما بالنقل، وهو يعارض المتكلمين من الأشاعرة ليحاول إثبات إمكان ما ينفونه على الله تعالى ولإثباته من بعدُ بالعقل، فهو إذن على قانون الدكتور متكلم مثل غيره وصاحب مذهب يقع بين المذاهب الأخرى، وليس فوق المذاهب كما يحلو لِـوَهْمِ الكاتب أن يصوِّرَه له.

وقد وقع الكاتب في مغالطات وتهافتات عديدة في أثناء نقده، فزعم أن القضية الشخصية لا يصح أن تكون إحدى مقدمات القياس، لأنها ليست بكلية ولا جزئية، وهو وهم من عنده، ووقع في تجاوزات عديدة في كيفية فهمه للقضية الحملية الموجبة، والقاعدة التي ذكرناها في "تدعيم المنطق" من أن الموجبة تستلزم إثبات الموضوع، وزعم أن المحمول قد يثبت قبل الموضوع، وقد يبقى مع عدم الموضوع، مع أنه يعلم أنه لا معنى لتسمية المفهوم محمولاً إلا أنه منسوب إلى غيره ومحمول عليه، وكذلك لا معنى لتسمية الأمر أنه موضوع إلا أنه موضوعُ محمولٍ حمِلَ عليه، وزعم غير ذلك من المزاعم التي تبين أنه قد تسرع مجانباً للصواب في الفنَّ الذي هو من أخصِّ الفنون إليه! فهو يخلط في الاعتبارات والجهات التي ذكرها مناطقة الإسلام، ولذلك لم ينتبه إلى الخلط الحاصل عنده.

وقد ظهر لنا تماماً أنه لا يعرف العديد من وجوه التقدّم الذي حصل على أيدي مناطقة الإسلام من المتكلمين وغيرهم والإضافات والتدقيقات التي أضافوها على صورة المنطق التي وصلتهم من أرسطو، ولذلك فهو دائماً يحيل إلى مناطقة غربيين ويزعم دائماً ذلك الوهم العالق في أذهان العديدين من أهل هذا الزمان بأن العلوم القديمة كلّها قد تجاوزها العلم، ونسي هذا الكاتب المحترم أنَّ من الصعب أن تظهر علوم جديدة كل الجدِّة على ما يتعلق بالإنسان وحقيقته وحقيقة فهمه، بحيث تخالف في أحكامها كلَّ المخالفة لما قرره المتقدمون خاصة ما قرره علماء الإسلام.

وقد تعجبت كثيرا لما قرأت طريقة علاجه لمسألة القضية الشخصية ومحاولته الغريبة للزعم بأنَّ عبارة "أنا كلي" تساوي عبارة "كلي أنا" وهذه بالتبع مساوية للقضية الكلية.

ويظهر لنا أن الكاتب الفاضل ربما يقول بعدم إمكان البرهنة على عقائد الإسلام، بل إنه يتلقاها تلقياً من الشريعة والنقل، ولا مجال للبرهنة عليها، ويبني ذلك كله على عدم تفريقه بين البديهي والمسلَّمات بالتواضع.

والحقيقة أن طريقة كلامه في غير موضع تدل على أنه لا يعرف تماماً الفرق بين الكلي عند الأشاعرة والكلي عند غيرهم، فيتصور أن الكلي موجود في الخارج، ويعتقد أنَّ التصور الكلي الحاصل في العقل يجب أن يكون ثابتاً دائماً، بمعنى أنه لا يجوز تغيير تصورنا عن ما في الخارج، وكأنه يعتقد أن العلم عند هؤلاء يحصل دفعة واحدة وأنه غير قابل للتكامل، ولذلك ينسب إليهم ما صرَّحوا بنفيه من وجود الماهيات الثابتة في الخارج، وينسب إليهم في أثناء كلامه قولهم بالإيجاب على الله تعالى وأن أفعاله تابعة لثبوت الماهيات في نفسها، وكل ذلك قد ثبت عند جماهير الأشاعرة نفيه وتكاثرت مناقشاتهم ونقدهم له.

وهو يزعم أنَّ ابن تيمية قائل فقط بالاشتراك اللفظي بين الخالق والمخلوق، يريد بذلك أن يتوصل إلى طريقة ليبرئه من التجسيم والتشبيه، ولا يعرف الكاتب الفاضل أن ابن تيمية لا يقول بذلك، بل إنه يتوصل بكل صراحة من الوضع اللغوي إلى إثبات حقيقة ما يدل عليه اللفظ إلى الله تعالى، ولذلك يثبت لله تعالى الحدَّ والمقدار (=القدر) والحركة (=النقلة) وحلول الحوادث في ذاته...الخ، وهذا هو عين التشبيه، ولعل الكاتب قد خلط بين ما علق بذهنه من ثقافته القديمة من كتب الأشاعرة وبين ما جدَّ عليه من تأثُّر بابن تيمية، ولأن قراءته لابن تيمية لم تكمل بعد، ولم يعرف إلا جانباً منها، فقد صار ينسب له آلياً بعض ما يعتقده هو في نفسه أو يغلب على ظنه أنه لا يخالفه!!والحقيقة أن الاشتراك اللفظي هو حقيقة مذهب الأشاعرة، ولذلك ينزهون الله تعالى عن الاشتراك في الوجوديات مع المخلوقات.

وقد ظهر لنا الخلط العجيب المتوغل في كلام الدكتور الفاضل في غير موضع، سيطلع عليه القارئ الفاضل بعينه عند قراءته لما كتبناه.

ومما استغربتُ منه ما زعمه الدكتور من أن البحث في هذه المسائل لا يقصد منه إلا إحياء الحزازات الماضية!! يريد أن هذه المسائل قد ماتت منذ زمان في صدور الناس! ومن أخبرك أيها الباحث عن نهضة الأمة أن المسلمين قد نسوا هذه المذاهب؟ وهل تتصور أن تنسى هذه المذاهب التي عاشت بها الأمة، لقرون عديدة بمجرد أن يكتب كاتب من هناك أو من هناك عبارات شوهاء غير مبنية على فهم ولا عقل كل هذه الأصول الراسخة في قلوب الناس؟ أقول ذلك وأنا أعرف أن من أصول تلك الأفكار الموجودة في قلوب المسلمين عامة أصولاً غير صحيحة، ومنها ما هو صحيح، ولكن من الأدلة الواضحة على ابتعاد الكتور الفاضل عن معرفة واقع أمته التي يسعى كما يزعم إلى إحيائها وإنهاضها، تصوُّره أن تلك الأفكار قد ماتت.

وكم يذكرني تصريحه هذا بما قاله جورج قرم في كتابه الجديد عن مشكلة الدين! وأن العديد من المفكرين كانوا يتصورون أن الأديان قد ماتت في القرن الماضي بما انبعث فيه من الحركات الملحدة والقومية والاشتراكية والعلمانية وغيرها، فتفاجأ الجميع بظهور الكلام على الأديان والفرق والمذاهب ظهوراً قويَّاً في هذا القرن!

إنَّ طريقة إصلاح ما هو موجد في قرارات النفوس، لا يكون بتجاهل وجوده، بل بمعالجته بشتى الطرق، أمَّا طريقة الإرهاب والهجوم والاتهام التي واجهتنا بها فلا تفيد.

وليتأمل القارئ في طريقته العجيبة في فهم كلامي عند مناقشتي لابن تيمية في "تدعيم المنطق"، فهو لم يقرأ أصلاً –كما يظهر- بقية الكلام! والقِسْمُ الذي قرأه منه لم يفهمه على وجهه، ونسب إليَّ ما لم أقل به، بل نسب إلى ابن تيمية ما لا يقول به، فراجِعْهُ في موضعه، وتأمَّل في كلامه لتزداد تعجباً من هذا الدكتور كيف يقع في تلك المغالطات الهائلة، وعند ذاك فقط تعرف لماذا تعجب مما قرأه لي، فهو إنما تعجب من الفهم الحاصل له في ذهنه، لا مما تدلُّ عليه كلماتي بالفعل.

وأمَّا كلامه على الوجود والكمال والترابط الحاصل بينهما فإنما يبعث على الاستغراب فقط.

وأما نقده لكلامنا على كوجيتو الديكارتي فسنترك التعليق عليه هنا ونترك القارئ الكريم ليتابع ما جرى في موضعه من نقدنا لمقاله!

وبعد ذلك كله فقد صرَّح الدكتور الفاضل بقوله بالقدم النوعي، وأن كلام الله تعالى فعل من أفعاله، وأن القرآن قديم بالنوع، من جهة وأنه غير قديم بالنوع من جهة أخرى!!

وقد حاول بطريقة أقل ما يقال فيها إنها ساذجة، البرهنة على أن علم الكلام لا يفيد البرهان مطلقاً، بل إن ما نثبته بقضاياه نستطيع أن ننفيه، وكأنه ظنَّ أن كل عبارة ألقاها واحد من الناس حسب اعتقاده لصحتها ولو بدون برهان، فإنها تصبح صالحة لتكون مقدمة برهان كذلك، وأن هذه المقدمات توضع وضعاً إرادياً من الإنسان، ولذلك فإنك تستطيع أن تثبت ما تنفي. فهو يتصور علمَ الكلام تصوراً ساذجاً، هذا أقل ما يمكن أن يقال، ولا نشك أن هذا الموقف صادر عن اعتقاده بأن قضايا الاعتقاد لا يمكن البرهان عليها، بل هي تؤخذ مسلمات إما من النقل، أو بوضع الإنسان، وهذا مذهب خطير هو أصل العلمانية المعاصرة، وأصل نفي حقية الأديان.

ولا أريد في هذه الطليعة أن ألخص جميع مقاصد هذا الردِّ بل ما سعيت إليه إنما هو لفت أنظار القراء إلى مقدار المغالطات التي وقع فيها هذا الدكتور الفاضل في مقالة لا تتعدى صفحاتٍ.

والهدفُ من هذا كلِّه ليس مجرّد التشنيع عليه أو على غيره، فإن النقدَ عندنا وعلى طريقتنا لا يراد به مجرد التشنيع والاتهام والقدح في الغايات كما فعل الدكتور، ولا اتهام المخالف بأنه متواطئ على تدمير الإسلام وإثارة الفتن الطائفية كما قال، ولا غير ذلك مما تفوَّه به من إعادة الكلام على نحو فلك بطليموس وغيره من الأفكار التي حصل القطع ببطلانها، لا نريد من نقدنا له أيـَّـاً من ذلك كله، كما أراد، بل كما فعل، بل غاية ما نريد التنبيه عليه هو ضرورة إعادة بناء الفكر المعاصر للأمة الإسلامية والعربية على البحث العلمي الخالي عن الغايات والأهداف الغائية العملية –خاصة في مثل هذه المواضيع-، بل محاولة تسليط البحث على أصول المسائل، وتجريد النظر فيها، ولا يجوز للباحث خاصة من كان على طريقة الدكتور أن يقطع لنفسه بالصواب، وعلى غيره بالخطأ، وهو يزعم أن العلوم والتصورات إنما هي عملية لتساعد الإنسان على النظر وتحسين معرفته وتقويم أحكامه، فهذا الموقف لا يناسبه القطع كما فعل هو.

ومع ذلك كلِّه فإنَّا ندعو الله تعالى أن يهدينا وإياه إلى طريق الصواب، وأن ينزهنا وإياه عن مجرّد السعي للمشاغبة والتشغيب، والمعارضة والتعريض، وأن يجعلنا في بحثنا ساعين إلى الوصول إلى الصَّواب برحمته ومنه وكرمه.

ونصلي ونسلم على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم واستنَّ بسنتهم إلى يوم الدين، ندعو الله تعالى أن يجعلنا منهم ويغفر لنا خطيئاتنا ويرشدنا إلى أقوم سبيل.

ولنشرع الآن في بيان التزييفات والمغالطات التي وقع فيها الدكتور أبو يعرب المرزوقي

موقف د. المرزوقي من علم الكلام وتجنيه على بعض العلماء

سمَّى الدكتور مقالته بالاسم التالي " النكوص([1]) إلى عقلية الفرق الكلامية"

قال د. أبو يعرب:

(تمهيد: كنت منذ أمد بعيد مقتنعا بما انتهى إليه الغزالي ومن بعده ابن تيمية وابن خلدون من أن علم الكلام لا طائل من ورائه علميا، وبأن ضرره على العقيدة أولا وعلى وحدة الأمة ثانيا ضرر لا يقدر).

أقول:

يبدو أن كاتب المقال -الدكتور أبو يعرب المرزوقي- بارعٌ في نسبة الأقوال لمن لا يقول بها، ولا يظهر لي من سببٍ لذلك إلا استغراقه في مخيلته التي تُـحْسِنُ اختراع العوالم بحسب ما يحبه صاحبها! ولنشرع في تحليل عبارته هذه ونقدها.

أما أنَّ الغزالي يرفض علم الكلام، فما هذا إلا وهم في مخيلة الكاتب كما قلنا، ويبدو أنه تأثر بتفسير بعض الكتاب الذين مالوا إلى هذا الرأي أيضاً: إما لعدم قدرتهم على فهم كلام الإمام الغزالي في كتاب المنقذ، أو لميلهم إلى مذهبٍ لا تستوي أركانه في حال اعترافهم بعلم الكلام، مثل ابن تيمية عشيق كاتب المقال، وغيره ممن مال إلى طريقة الكشف في بناء العلوم، وتأييد المذاهب.

وكذلك فنحن لا يمكن أن نوافق الكاتب على أن الغزالي رحمه الله قد قال بعدم فائدة علم الكلام، بل إن غاية ما قاله رحمه الله إنَّ علم الكلام يفي بمراد القوم على حسب غايتهم، ولم ينفِ نفعه نفياً مطلقاً، لكنه كان في (المنقذ من الضلال) يبحث عن طريقة تجعله أقرب في السلوك إلى استحضار الله تعالى في أعماله، ومن الطبيعي أن يميل لتحقيق هذه الغاية التي لا نخالفه فيها إلى طريقة التصوف.

ولو كان كما يزعم العديد من الناس قد نفى مذهب أهل السنة وراء ظهره، لما تقيَّد في تصوفه بأركان هذا المذهب، بل إننا نراه لم يزل متمسكاً به حاضَّاً الناسَ على التمسك به، ولما رجع من سفره، عكف على تدريس عين العقائد التي كان يدرسها قبل سفره، وقد بينت هذا الأمر بياناً كافياً في (قراءة جديدة للمنقذ من الضلال).

وكذلك فإننا لا يمكن أن نوافق الكاتب الفذَّ في زعمه أن ابن خلدون قد أنكر فائدة علم الكلام، فلم يقل ابن خلدون: إن علم الكلام لا طائل علمياً وراءه كما زعم الكاتب! بل قال في مقدمته:"لكن فائدته-أي علم الكلام- في آحاد الناس وطلبة العلم معتبرة، إذ لا يحسن بحامل السنَّة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها"اهـ.

ولعل الكاتب لم يفهم كلام ابن خلدون الذي ذكره قبل هذه العبارة، وها نحن نذكرها هنا لكي نوضحها له.

قال ابن خلدون: "وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروريٍّ لهذا العهد على طالب العلم، إذ الملحدة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كَفَونا شأنهم فيما كتبوا ودوَّنوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، وأما الآن فلم يبقَ منها إلا كلامٌ تنزَّه الباري عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته، ولقد سئل الجنيد رحمه الله، عن قوم مرَّ بهم من المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقصِ. فقال: "نفيُ العيب حيث يستحيل العيب عيبٌ."اهـ.

وكلام ابن خلدون كما هو واضح، لا يفيد ما فهمه الكاتب! بل يفيد عكسه تماماً، فهو يصرح بفائدة علم الكلام، إلا أنه يقول إن العصر الذي تسكن فيه القلوب على العقائد السليمة –وليست هي قطعاً عقائد ابن تيمية بحسب ابن خلدون، وليفرح بذلك الكاتب عاشق ابن تيمية!- فلا داعي للاشتغال بعلم الكلام.

ولعلَّ الكاتب لم ينتبه إلى تقييد ابن خلدون لحكمه بالعهد والزمان الذي يعيش فيه، والسبب في ذلك الموقف الذي يقول به ابن خلدون أنَّ الأئمة كفَونا هذا الأمر، فأبادوا البدعة، وقمعوا المبتدعة! حتى لم يبق من كلامهم إلا كلام تنزه الباري عن كثير من إيهاماته.

هذا هو موقف ابن خلدون من علم الكلام، فهل موقفه هذا يغاير موقف سائر أهل السنة؟ وهل يخالف موقف أكابر الأشاعرة الذين ينبذهم الكاتب ويفضل عليهم ابن تيمية؟!

إن العارف بأقل قدرٍ من علم الكلام يعلم تماماً أن موقف ابن خلدون موافق تماماً لموقف الأشاعرة عموماً، ولا نريد الإتيان باستشهادات على ذلك فالأمر أوضح من أن يحتاج للتوضيح.

ويبدو لي أن الكاتب لم يطلع كفاية على آراء المتكلمين، أو اندفع متحمساً وراء ما بناه بخياله، فتغاضى عقلُه عن العديد من الحقائق، وهذا ما دفعه إلى اتخاذ مواقف عجيبة.

وأنا أظنُّ أن هذا الزمان الذي نعيش فيه، لم تحلَّ بعد الإشكالات العديدة التي يوردها الملحدون ومخالفو الأديان، فضلاً عن مخالفي أهل السنة، ولما يزُل أثرها عن قلوب العديد من المنتمين إلى الإسلام، ولم نرَ نتاجاً مهماً كفاية لمدَّعي التفلسف والتعالي عن علم الكلام في هذا الشأن، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن منع هؤلاء للناس عن قراءة علم الكلام سوف يفضي إلى نتائج سيئة على الدين نفسه.

وأما ابن تيمية، فيحلو للكاتب أن يأتي ببعض العبارات التي لا داعي لها في الحوار في هذا المقام، إذ إن الكاتب –كما يبدو لنا- ينقصه الكثير لكي يفهم ابن تيمية! كما ينقصه الكثير لكي يفهم فكر أهل السنة وما قاموا به من جليل أعمالهم.

أما رأي الكاتب العتيد في ابن تيمية وموقفه من علم الكلام، فهو قد أضحكني جدّاً، وتصورت نفسي أمام وهابيٍّ ساذج لم يجد تعليلاً لخوض ابن تيمية في علم الكلام (في الإلهيات والنبوات والسمعيات) على أشد ما يكون من التفصيل، مع علمِ هذا الوهابي التيمي بنبذ السلف –كما أقرَّه ابن تيمية نفسه- في أذهان هؤلاء المساكين، إلا أن يقول: إن ابن تيمية لم يخض في علم الكلام إلا مُضطَّراً، ولم يتبع طريق الاحتجاج إلا مضطَّراً لمقارعة الخصوم بطريقتهم التي خاضوا فيها، وإلا فابن تيمية لا يقول بعلم الكلام، بل لا يقول إلا بالكتاب والسنة، فعلم الكلام منبوذ متهمٌ بشتى التهم والنقائص عند هؤلاء، وابن تيمية منزَّهٌ في مكان عليٍّ، فيستحيل أن يكون ابن تيمية قد خاض في علم الكلام معتقدا فائدته!

هذا هو بالضبط خلاصة موقف الدكتور الكاتب، لخصناه له ولغيره، وهو قريبٌ جدَّاً من موقف ابن رشد عندما كان يعلِّلُ بعضَ أحكام أرسطو المخالفة للشريعة، فقد كان يلجأ لأمور وتعليلات مخالفة للشريعة نفسها لكي ينزه أرسطو محبوبه عن مخالفة مسألة أخرى، فيخرج من مأزق ليقع في مأزق، وهكذا هو شأن من يتبى موقف ابن تيمية –كهذا الكاتب الدكتور- فسوف نرى في كم مأزق وقع في مقاله هذا فقط، أما في كتبه الأخرى فحدِّثْ ولا حرج.

خلاصة الكلام في ابن تيمية وعلم الكلام، أن علم الكلام هو –كما عرَّفه المتكلمون- الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة القطعية، نقلية وعقلية، ويكون الحجاج عن العقائد إثباتا وردا للشبه، ويدخل في ذلك المتكلم المبتدع وغير المبتدع، فيدخل في المتكلم المبتدع نحوُ ابن تيمية، والمعتزلة والشيعة، وفي غير المبتدع الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم.

قال الإمام التفتازاني في تهذيب الكلام: فقال:"الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية".اهـ


تاريخ النشر : 22-06-2008

6829 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com