يعتبر موضوع الحياة والبحث عن السعادة من كبرى القضايا في تاريخ الفكر والآداب البشرية، والغاية من الحلم بالمدينة الفاضلة عند أفلاطون والفارابي قديماً أو من نصوص "فلاسفة الحياة" والروائيين والشعراء العالميين هو الوصول إلى السعادة الإنسانية، فمع بداية القرن الجديد والحرب في منطقة الشرق الإسلامي والتطورات العلمية في مجالي الجينوم " البيولوجيا" والثورة الرقمية طُرح السؤال: هل ستتم عسكرتنا كلياً؟ بمعنى أن الاكتشافات العلمية والتنظيمات التقنية الجديدة والمزيد من المراقبة يؤدي إلى التضييق على الحريات الفردية والجماعية وحريات الدول والمؤسسات؟ أم العكس أي إلى مزيد من الحريات والوصول إلى مجتمعات السعادة التي حلم بها الأوائل؟
منذ خمسين سنة كانت تشغل بال الفيلسوف والرياضي البريطاني برتراند راسل هذه الهواجس ـ حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1950 وكتب في السجن أشهر كتبه "مقدمة لفلسفة الرياضيات" وانتهى المطاف به في أمريكا ـ حيث حصر السعادة في الصّحة الجيدة والتحصين من الحاجة والعلاقة مع الآخرين الجيدة والنجاح في العمل، كما فكّر في مستقبل البشرية إذا ما توجّهت نحو صناعة "البشر" بعد أن مرّت بتجربة صناعة " القنبلة النووية"، تأمل راسل المجتمعات في أجواء الحرب والصراع بين الشيوعية والرأسمالية، وكان من أكبر المناهضين للحرب واعتبر أن المعضلة الأساسية في العالم الحديث تكمن في نفسية الأفراد وفي مكر الأهواء الفردية، وإذا ما تمّ إدراك أن سعادة كل إنسان مترابطة مع سعادة جاره فبإمكان العالم أن يغدو أكثر سعادة من أي عالم عرفته البشرية ، هنا الخير ـ حسبه ـ تكفله التربية أساساً التي تعلم الصداقة وحبّ الآخر.
سيشكل موضوع الحياة والعلاقة مع الآخرين مساحة واسعة من الكتابة الفكرية والجمالية في العقدين الأخيرين وبعد أحداث 11 سبتمبر سيغدو الخوف من ألآت هاجساً جديداً عند بعض المفكرين مع ما يلازم ذلك من عودة الحرب في شكلها البيولوجي والمعلوماتي الجديدين، وهنا سيكون للخلاف حول تفسير الظاهرة حضوره فـأوليفييه روا الفرنسي في دراساته عن الظاهرة الإسلامية ومنها "أوهام 11 سبتمبر" يحاول أن يطرح تحليلاً مختلفاً، فالحركات الجذرية الراديكالية حسبه نبتت في بلدان تؤيدها واشنطن وحليفة لها، ويرى الحلّ في تنمية "إسلام ليبرالي معتدل" ويتوقع مزيداً من التدهور إذا بقيت القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، في حين يرى صاحب "نهاية التاريخ" فرنسيس فوكوياما في كتابه الجديد عن "مابعد البشري" أنّ التطورات التي ستحصل مستقبلاً تؤدي إلى اختفاء معنى القيم والسعادة بالمفهوم التقليدي وسنكون رهائن لتكنولوجيات جديدة التي ستخلق تنافساً اجتماعياً من نوع آخر، وهنا يرى ضرورة تدخل الدولة وصياغة قوانين جديدة تحمي إنسانية الإنسان وتحرّره من اغترابية لم تعهدها الإنسانية سابقاً.
تساوقاً مع فكرة العلاقة مع الآخر يرى هانز جورج غادمير من كبار فلاسفة التأويل المعاصرين في محاضراته "بداية الفلسفة" عام 1967 أن مواجهة اللايقين والافتقار إلى الثقة بالذات عند المواطن الغربي وكذلك هيمنة التنظيم التقني والعلمي تستدعي أمرين: العودة إلى بداية الفلسفة الإغريقية التي تعتبر بداية الثقافة الغربية والتي هي مفعمة بالحياة والشعور بالانطلاق، والمكافحة من أجل تأسيس ارتباطات بأنواع أخرى من الثقافات، أي الثقافات التي ليس لها أصول في الثقافة الغربية، وهو نفس ما كان يشغل زميله وقرينه في المنهج والرؤية بول ريكور صاحب العبارة الثلاثية الذهبية المشهور : " نحو حياة جيدة "رغيدة" ـ مع ومن أجل ـ الآخرين في مؤسسات عادلة" .
قد تختلف أحلامنا نحن العرب والشعوب الضعيفة عن هؤلاء ولكننا نلتقي في إنسانية السعادة والأمل في الخير والسلم والحوار والصداقة، فـابن رشد حصر الأدلة القرآنية في دليلي العناية والرعاية وهما مرتبطان بالإنسان، أي أن الغاية من الأحكام الفقهية والتشريعات هي الإعلاء من قيمة إنسانية الإنسان وجعله سعيداً وهو ما حاول تطويرهمحمد عبده أكثر من الذين تبنوا ابن رشد من المفكرين العرب المعاصرين أو الذين يطرحون قضايا الآخر والحوار والتسامح خارج سياقاتها التي نبتت فيها.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.