شاركت منذ سنتين في تكريم المفكر المصري عبد الوهاب المسيري إلى جانب زملاء آخرين من الجزائر قدّموا حوله أوراقاً وشهادات، وكان التكريم في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة وحرص على نجاح هذا اللقاء الباحث صاحب مجلة "أوراق فلسفية" عبدالحليم محمود عطية، وقد صدرت الأعمال في كتاب جماعي عن "دار الفكر" السورية، لفت انتباهي ـ رغم مرضه الذي كان يعاني منه ـ التزامه النضالي مع حركة كفاية والمعارضة المصرية في حضور التجمعات والمسيرات، وقد كان يسعى ذهاباً وإياباً بين الحضور السياسي والعلمي، وضلّ يكتب مقالاته السياسية والعلمية في بعض الجرائد العربية إلى حين وفاته وبالخصوص في جريدة "الاتحاد" الإماراتية، ومن أبرز ما كتب موسوعته الفكرية عن "اليهود واليهودية والصهيونية".
لم يكن يرى للفكر والبحث خلوة تبعده عن التزامه السياسي أو النضال من أجل قضايا أمته والدفاع عن الحريات كما أنه لم يخلط الأمور بينهما، فحين يكتب يخلص لمنهجه وطقوس المعرفة والكتابة، وحين يكون في الشارع معارضاً سياسياً أو في المهرجانات الحزبية يتحول تفكيره إلى قوّة بيان وحجّة ضّد السلطة وخصومه السياسيين، كما عرف عنه العداء الشديد لمسألة التطبيع مع إسرائيل.
من الممكن أن نشدّد هنا على بعض خصائص تفكيره في النقاط التالية: ـ كان نقده أكثر لاستخدام المفاهيم من طرف العرب دون التنبه لما تحمله، ولذلك حاول أن يبدع وينحت مفاهيم خاصة به، فبدلاً من كلمة "يهود" أو "الشعب اليهودي" استخدم "الجماعات اليهودية" وأسقط تعبيرات "العبقرية اليهودية" و"المؤامرة اليهودية" واقترح بدل العبارة المترجمة "معاداة السامية" استعمال عبارة "معاداة اليهود"، كما ينتقد كتاب "برتوكولات صهيون" الذ ي راج وطبع عشرات المرات يعطي التصور بالعبقرية اليهودية التي تروجها الحركة الصهيونية عن نفسها، وحاول أن يختصر بعض الجمل الشائعة كـ"يحول إلى وسيلة" وضع مكانها "الحوسلة" هنا قام المسيري بجهد لغوي ولساني وليس ترجمة حرفية للمفاهيم الغربية وهذا ما نحتاج إليه في تقديم نص بالعربية يتميز بالتجديد في المصطلح واللغة والتراكيب. ـ كان سعيه في إبداع المفهوم باللغة العربية هو التحرّر من التحيز أي التحيز للفكر الغربي الذي يراه منذ اليونان إلى هيجل عبداً للطبيعة ويدور حول مركز ذاته ـ وهي مسألة تحتاج للمناقشة ـ، وهنا يضع لنا طريقين إما اختزال ومحو الإنسان في تبعيته للطبيعة والأشياء وهي النزعة الغربية التي كان من نتيجتها الاستعمار وإذلال الشعوب الضعيفة ثم بروز الجماعة الوظيفية الصهيونية بقيام دور تمثيلي ونيابي لتاريخ الاستعمار ثم المرحلة الثالثة الآن الإستراتجية وهي العولمة أو ما يسميه "العلمانية الشاملة"، أما الطريق الثاني فهو الربوبية والتوحيد وهنا العلاقة مع الله وإقامة فصل المسافة وليس الحلول كالطريق الأول، وهو هنا يحاول أن يقدّم خطاباً توحيدياً يختلف عن الجماعات الإسلامية ويستثمر فيه الاجتهادات العقلانية في تراثنا وتراث غيرنا، إذ يستفيد في بعض كتاباته مثلاً من النظرية التواصلية ليورغن هابرماس الألماني ومن طروحات "ما بعد الحداثة" كجاك دريدا. ـ
ـ اختلافه مع بعض المفكرين العرب وتسميتهم بالعلمانيين ليس بمعنى العداء للدين كما نجد ذلك في كتابات الإسلاميين وإنما لكونهم تحيزوا لمناهج غربية ومفاهيم ولم يدركوا أن ترجمة تلك المفاهيم والالتزام بها لن تحررهم من التبعية الفكرية والإيديولوجية، وهنا يحاول المسيري أن يكون متميزاً عن الخطاب الإسلامي التقليدي في تكفير الآخرين ورفض الغرب كلية، بل يحاول أن يقدم خطاباً إسلامياً عقلانياً سميته بـ "الاعتزالية الجديدة" وهي آراء كنا تابعناه منذ سنوات عند علي شريعتي وغيره في الفضاء الشيعي الذي لم يغلق بابه الاجتهادي منذ الملا صدر الدين الشيرازي في القرن السابع عشر.
ظلّ عبدالوهاب المسيري أستاذاً للسياسة كعلم وممارساً لها كمناضل والتفّ حوله شباب يفكر خارج أسوار اللغة الإسلامية الجهادية والوهابية وأسوار العلمانية، فهل يمكن اعتباره طريقاً جديداً في التفكير الإسلامي أم هو تنويع وتغيير في الثوب فقط والمضمون واحد؟.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.