آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  إتجاهات الإصلاح

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    التعليم و المناهج

  •     

في رحيل عبد الوهاب المسيري : التحول الأخير (1938 م - 2008م)

عبد الرحمن حللي


ارتحل إلى رحاب الله مطلع هذا الشهر المفكر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري، خاتماً بذلك مسيرة طويلة من التحولات المعرفية التي تعكس شخصية كانت حتى رحيلها لا تؤمن بالسكون والاستسلام، فقلمه لم يجف، وروحه لم تستلم لمرض ظل يقاومه حتى اللحظة الأخيرة، وجسده لم يرتح يوماً من شدة جلده على التجوال والرحيل والعمل.

كُتب وسيكتب عن تجربة عبد الوهاب المسيري الكثيرة فهي غنية وثرية، لكني سأسجل بعض الإضاءات عن شخصيته من زوايا لمستها في صحبة قصيرة معه عند زيارته الوحيدة لمدينة حلب قبل عام من رحيله، فقد لمست فيها أن له من اسمه نصيباً كبيراً، فقد وهبه الله همة عالية وأنواعاً من الإبداع في فنون متعددة، كما كان دائم المسير والرحيل، سواء في رحلاته الفكرية وتحولاته المعرفية، أم في تجواله في أرجاء العالم.

كرمته دار الفكر بدمشق عام 2007، واستضافته على هامش التكريم كلية الشريعة بجامعة حلب يوم 26/4/2007م، ليحاضر عن :" القيم الإنسانية بين الإسلام والعولمة"، فتجوَّل يومها في المدينة القديمة واستمتع بعراقة المدينة، وقف أمام باب قلعة حلب متكئاً على عكازه محدقاً النظر في ارتفاعها، وهو يسبر دقة تقييمي لقدرته على الصعود إليها، وشكك في كلامي وتردد كثيراً قائلاً إن نفسه تلح عليه أن يصعد إليها، ليستمتع بجمالها وجمال المدينة، وكانت زوجته بصحبته وكان يحبها ويعترف بفضلها في كل مناسبة، وكانت تثنيه عن المغامرة، فاقتنع بسبب الإعياء ومحاضرته في المساء، واكتفى بالتمتع بما يحمله عمرانها من معان وقيم ودلالات، هذه العزيمة والإلحاح فسرت الجلد الذي تحلى به، واستطاع من خلاله إنجاز ما أنجز من موسوعات وأعمال علمية وأدبية.

تجواله في الأسواق القديمة وما يلفت نظره فيها، كشف عن جانب من هواياته وذوقه الفني، كان يبحث عن ساعة قديمة تعلق في العنق مشترطاً أن تكون قديمة وليست تقليداً، وعن تحف أصيلة ذات دلالة، ذكرني تجواله في حلب، بتجوال آخر في مدينة اسطنبول، حيث كان يشارك في مؤتمر هناك فاختلس من الوقت ما يزور فيه أسواق التحف ليبحث عن آثار وتحف ومعالم يهودية، وعند سؤالي له عن الغاية من هذا الطلب بعينه، فذكر أنه يجمع من كل بلد يزوره شيئاً من رموز اليهود وما يشير إلى دينهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد جسد من خلال ما جمعه في منزله ما يؤكد رؤيته أن اليهود في العالم مختلفين وليسوا عرقاً واحداً، وأنهم كانوا أبناء البيئة التي عاشوا فيها.

لقد حول المسيري بيته إلى متحف يجمع فيه آثاراً ورموزاً ولوحات من العالم، تحمل دلالات فنية ورمزية وعلمية في آن واحد، وكل ذلك بما يخدم رؤيته وذوقه الفني الذي يشمل فنوناً أخرى كان يتابعها، ومنها السينما.

هذا ولا يفارق أي جانب من حياته البعد الفكاهي الذي يوظفه في إيصال أفكاره، حتى إنه أفرد النكتة السياسية باهتمام خاص، وظفه في نضاله السياسي، هذا فضلاً عن البعد الأدبي في أعماله، فقد كتب قصصاً للأطفال، وكان أول من أدخل الجمل في قصص الأطفال كرمز مألوف للطفل العربي، وعل ما يتمتع به صبر وجلد دفعه لهذا الاختيار.

في المساء كان موعد المسيري مع مثقفي مدينة حلب، التي كانت مدينة جدَّته كما ذكر، وكانت دهشته أنه وجد بين الحضور أصدقاء له من جيله لم يرهم منذ سنوات، كما وجد قراء له من الأجيال الشابة قرأت أعماله وهي تحرص على مناقشته أو الحصول على توقيعه على بعض كتبه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الفكرة التي يحرص على إيصالها ودقة القضايا التي يشتغل عليها.

إن أعمال المسيري الفكرية تمثل حلقة من حلقات الحركة الفكرية العربية في العقود الأخيرة، وتمثل أعماله البحثية –لاسيما موسوعته الشهيرة عن اليهودية- نموذجاً لإنتاج العلماء الرهبان الذين أصبح من النادر وجود أمثالهم في الجامعات العربية، وأهم ما يستحق الاحترام والتقدير في شخصية المسيري هو الجرأة الفكرية والصراحة والصرامة في النقد والنقد الذاتي، وهذا لا يتأتى إلا من الرجل المفكر الذي يهتم بعمق الفكرة ويسبر محتواها ومصاديقها، فالمسيري اليساري لم يكن عابداً لصنم اليسار آنذاك، ومساره إلى الاتجاه الإسلامي لم يحوله إلى رجل حركي أو داعية، فظل إلى آخر لحظة محترماً لدوره كمفكر يصوغ رؤيته ملتزماً ما وصل إليه من إيمان بالقرآن والمطلق والغيب، دون أن يتحول إلى مفت أو داعية، مع مشاركته المستمرة في النقاش الإسلامي حول القضايا الكلية الراهنة، وهو إذ أدرك ما آلت إليه شخصية من احترام مختلف الأطياف الفكرية والاجتماعية فقد استجاب لأن يكون رافعاً للشأن العام وذا دور مقاوم في تحريك القضايا التي يؤمن بها.

لقد تحول المسيري إلى عالم الآخرة وكان سيظل متحولاً إلى أن يصل إلى هذا التحول الأخير، فمواهب المسيري تجعل دمه يغلي دائماً فلا يهدأ، حتى في صراعه مع المرض الذي أصاب دمه، فلم يستسلم له، لكنه كان مؤمناً أنه سيستسلم لقدر الله وسيستجيب لنداء التحول إلى عالم الآخرة الذي آمن به، بعد يأس من المادية المقيتة التي لم تجب عن أسئلته.


تاريخ النشر : 13-07-2008

6352 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com