آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

عبدالوهاب المسيري ولعنة الغرب

رضوان السيد


كانت أول مرة قابلت فيها الدكتور عبدالوهاب المسيري في أحد المؤتمرات في برلين الغربية عام 1983. وكان موضوع المؤتمر: الحوار الإسلامي - المسيحي وعلاقات الشرق بالغرب. ولأن حرب أفغانستان كانت في أوْجها آنذاك، وقد بدأ الغرب كله يمتدح"المجاهدين المسلمين" الذين يكافحون ضد الاحتلال، ويعملون من أجل الحرية، فقد أعددتُ بحسب طبعي في المشاكسة آنذاك مداخلة طويلة في الأصولية الجهادية، وخطأ الغرب في "التحالُف" معها واتخاذها أداة لمصارعة الاتحاد السوفياتي، واعتبارها ممثِّلة الإسلام الصحيح. ذلك أن الأصولية توشك أن تتحول الى انشقاق في الإسلام، وهي بالتالي ستتسبب بمتاعب كبيرة للمسلمين والغربيين على حد سواء! وتصادف أن كان الدَور في المحاضرة في اليوم الأول على الدكتور المسيري، الذي كان وقتها لا يزال أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة في مصر، وقد بدأ يصنع لنفسه اسماً بتفسير الظاهرة الصهيونية وعلائقها باليهود وبأوروبا وبالمسيحية. على أن أستاذنا المسيري، كما كنت أسميه، اختار التحدث عن "الغرب والاغتراب" بالمفهوم الماركسي لذلك، مُضيفاً إليه تبهيرات الوجوديين وعلى الخصوص اليساريين الجدد من نُقّاد الاستعمار، والعاملين على التفكيك الأنثروبولوجي للعلوم الإمبريالية التي أنشأتها "المركزية الغربية"! وهالَني ذلك بعد الضجة الشعبوية التي كان يُثيرها كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" الصادر عام 1978. وكان سعيد قد أخبرني أنه في صدد تأليف كتاب أشمل عن الموضوع بعنوان: "الامبريالية والثقافة"! وهكذا أعرضت عن إلقاء محاضرتي في الأصولية، وكيف تُسيء الى العلاقات بين الإسلام والمسيحية، وبين الشرق والغرب، وأقبلت على قراءة وظائف نقد الثقافة الغربية لدى اليسار الجديد، من أعداء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معاً! واختتمت بالقول موجِّهاً الكلام الى المسيري: أفهمُ أن نحمل جميعاً على إمبريالية الغرب والولايات المتحدة على الخصوص وحرب نجومها، وعلى الاتحاد السوفياتي وبخاصة بعد تدخله في أفغانستان. لكنني لا أفهم هذه الحملة الشعواء على الثقافة الغربية، وعلى العقلانية الغربية، بحجة أنهما شرٌّ مطلق، وقد أنتجتا ظواهر وممارسات الإمبريالية والصهيونية، ولولا بقية من تماسُك لقلت لنا يا دكتور مسيري ما يقوله الإسلاميون الشعبوانيون من أن الحضارة الغربية هي نتاج اليهود والأشرار الثلاثةماركس وفرويد ودوركايم! وظن المسيري أنه سيُسكتُني بذكر إدوارد سعيد والاستشراق، فقاطعني قائلاً: لا تُسَخِّف الأمر، وأنت العالِم بالإسلاميات، ألم تقرأ ما كتبه إدوارد سعيد في الاستشراق عن الصورة أو الصور التي صنعتها الثقافة الغربية للشرق والإسلام، تبريراً لاستعماره؟! وأجبته: أُطروحة سعيد مثل أطروحتك، وهو في الاستشراق تناول جانباً منها في مجال معيّن، وقد بشرني من قريب أنه سيُصدر كتاباً شاملاً في الأمر. ونقد الاستشراق مفيد، وكشف الحساب بين حضارتين أو ثقافتين في حِقَب تأزُّم مهمة جليلة وضرورية. لكنّ هناك فرقاً بين النقد الداخلي للخطابات الإمبريالية المكشوفة والمستترة، وبين إدانة الثقافة الغربية، وهي ثقافة العالم وثقافتنا نحن أيضاً لأننا جزء منه! وأنت تعرف أن أكثر من أفاد من كتاب سعيد هم الأصوليون الإسلاميون، وأكثر من يفيد من لعن الثقافة الغربية هم يمينيو ريغان الجدد الذين يكرهون الليبرالية والعقلانية أكثر مما تكرههما أنت يا رجل، أستاذ الأدب الإنكليزي في الجامعة! وفي جلسة خاصة تلت المؤتمر تابعت النقاش مع الدكتور المسيري، وهو عارف كبير بالفعل بالثقافات الفرعية والتقاليد الهامشية والسرية في الحضارة الغربية. قلت له: قد يكون الكلام الذي تقوله عن الحضارة الغربية صحيحاً كله. وقد قرأته بالفعل عشرات المرات في السنوات الأخيرة، وبأقلام دارسين كبار تائبين أو مراجعين أو متراجعين. لكن المعرفة غير الأيديولوجيا كما ذكرت، وشبابنا محتاجون الى المعرفة احتياجاً شديداً. وما نفعله نحن في مجالنا الثقافي، تحت وطأة الأسلمة الصاعدة بعد الثورة الإسلامية في إيران، هو استغلال قدرة الحضارة الغربية على ممارسة النقد الذاتي نقضاً وتطويراً وتصحيحاً ومراجعة، للعن تلك الحضارة، ووضع سلاح في أيدي شبابنا الثائرين الآن على كل ما هو غربي، بحجة شرور الإمبريالية من جهة، واكتشاف محاسن الإسلام من جهة ثانية!

وبالفعل ما ان جاءت التسعينات من القرن الماضي، حتى كان نجم عبدالوهاب المسيري قد كسف كل الشموس الأخرى، وفي ثلاثة مجالات: شرور الثقافة الغربية والتيارات التغريبية فيها، والصهيونية باعتبارها ظاهرة قوية جداً في الحضارة الغربية، والإسلام السياسي باعتباره ظاهرة احتجاجية وأصالية مهمة لبناء عالم جديد غير العالم المشوَّه الذي بناه الغرب في ديارنا!

وإذا كانت كتب إدوارد سعيد تعرض معارف منتقاة تخترقها وتقودها أيديولوجيا معينة، لا تصل الى حدود الإدانة الشاملة للغرب وثقافته، فإن كتب المسيري هي كتب مخلوطة. بمعنى أنه يعرض مزيجاً من المعلومات والاكتشافات والنتائج السريعة والطريفة التي تُدهش أنصاف المثقفين. بيد أن الأيديولوجيا التي تخترقها أكثر شمولية وتحدداًالإسلام والإسلام الأصولي بالذات باعتباره البديل لتلك الحضارة الغاربة. ولذلك فقد أمكن شباب الإسلاميين وكهولهم استخدام كتب المسيري أكثر بكثير مما أمكنهم استخدام كتب سعيد. فما كان عند سعيد بديل جاهز، ولا كان مهجوساً بشرور الغرب. وكانت لديه قضية محددة هي قضية فلسطين، تبدأ بها كلماته وتنتهي إليها. ثم إن سعيداً كان مسيّساً أكثر من المسيري، وإن يكن ذلك في الوعي وليس في التصرف والتحزُّب. وهو لذلك عرف أن اللجوء الى الأصولية الإسلامية لا يخدم القضية التي هو في صددها. وقد كان المحيطون به والمؤثرون فيه - وبخاصة في فترة مرضه - غير أصوليين أو لنقل إنهم كانوا ولا يزالون علمانيين وليبراليين ولهم علاقات قوية بالليبراليين اليهود وغيرهم من أعداء بوش والمحافظين الجدد. ولذلك، فإن سعيد انزلق لسانه مرة فقال إن "حماس" هي الوجه الآخر للصهيونية!

والأمر مختلف لدى عبدالوهاب المسيري الأقل تسيُّساً في البدء، والأكثر براءة وطهورية. لقد اعتقد أنه يقوم بمهمة تطهيرية للثقافة العربية والإسلامية من أوضار الغرب وشروره. وأسهم النجاح الذي أحاط بكتبه - بعد تبنّي "دار الشروق" المصرية الشهيرة لها - في دفعه الى الأمام، وقطع خط الرجوع والنقد عليه. وقد اختلط في مصر في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي نزوعان اثنان: النزوع الاحتجاجي الإسلامي المتحول الى "مذهب متكامل"، والسخط من جانب المثقفين القوميين واليساريين على نظام الحكم، واعتبارهم أن الدولة المصرية العريقة سائرة الى انهيار. لذا ومن دون بحث في مسار وأفكار وتصورات كل من التيارين، قام تحالف بينهما له عنوانان: الحملة على السياسات الأميركية والإسرائيلية، والحملة على السياسات أو اللاسياسات من جانب الدولة المصرية. ولأن القوميين واليساريين ما عادوا يملكون مشروعاً وبخاصة بعد الحرب الباردة، فقد صبّ هذا النزوع الاحتجاجي كله في مصلحة الإسلاميين المنظّمين، وبخاصة "الإخوان المسلمين" وتفرعاتهم. وما صار المسيري حزبياً إسلامياً بالفعل، لكنه صار كذلك في الخطاب. وكما سبق القول، فإن الرجل لديه نزوع طهوري وبراءة من نوع ما. ولذا فقد ترك العلمانية واليسار والليبرالية بالفعل، وقال بالبديل الإسلامي، من دون أن تفارقه شكوكه الصغيرة في جدوى الدولة الدينية أو إمكانها. وقد كان مضنياً في الحديث معه، كما مع سائر الإسلاميين الكبار، المجادلة في مفهومهم للدولة. إذ يقبلون على شتم دولة هذا الحاكم أو ذاك، والاستشهاد على طُهر الدولة الأخرى بالآيات القرآنية، وسيرة عمر بن الخطاب! فإذا قلت لهم إن النقاش هنا في طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، وليس في التمدُّح، أصرّوا على أن الدولة في الإسلام مدنية، وإنما الكلام في المرجعية، أما الانتخابات فلا بأس بها، وإن يكن "الجمهور" أداة طيِّعة في متناول وسائل الإعلام! وهذه هي النظرة الى الجمهور، وستون في المئة منه معهم، فكيف لو كان ضدهم!

لكن الدكتور عبدالوهاب المسيري لا يمكن تلخيصه بالبراءة والاحتجاجية اللتين أوصلتاه الى البديل الإسلامي، فقد كتب الرجل في السبعينات في الأدب الإنكليزي كتابات متميزة. ونشر موسوعة عن اليهودية والصهيونية، مفيدة جداً في المعرفة والتنوير والبُعد عن الخرافة والأسطورية في تقدير الظواهر. على أن الأهم من ذلك كله، عمله في السنوات الخمس الأخيرة مع حركة "كفاية" المصرية المعارضة. وهي حركة ليبرالية، لا تريد أن تكون حزباً، وتضم تيارات شتى. لكن الغالب عليها هو الطابع الليبرالي، والقول بالديموقراطية والمحاسبة ومكافحة الفساد. وفي العامين الأخيرين صار المسيري - الذي أهاض جناحه المرض الخبيث - أميناً عاماً للحركة ومتحدثاً باسمها. وكما في أيام اليسار الجديد في أوروبا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، نزل الشيخ السبعيني الى الشارع وحمل اليافطات، ودعا الى الديموقراطية وحقوق الإنسان، والانتخابات النزيهة والحرة. فهل راجع نفسه وأُطروحاته؟ سمعته يقول إن البديل الإسلامي هو بديل من الناحية الثقافية والفكرية العامة. أما في الجانب السياسي، فهناك أعراف وأساليب حديثة لا بد من اتباعها! وهكذا فإن الراحل المسيري ظل طهورياً ونزيهاً على طريقته وبخاصة في الاندماج والذوبان في "بحر الجمهور". لكن "بحر الجمهور" مع الإسلاميين - الذين عمل معهم من دون أن ينضم إليهم -، وليس مع حركة "كفايةذات النزوع النخبوي والليبرالي. وقد التقى فيها من جديد وبعد افتراق لأكثر من عقدين، رفاقه القدامى من الشيوعيين المركزيين واليساريين الجدد. ثم لماذا هذا التدقيق وفحص الدم مع الدكتور المسيري، الذي يبقى علامة من علامات هذه المرحلة الخطيرة والمختلطة في حياة أمتنا واجتماعنا الثقافي والسياسي؟ إنها صدمة الغرب (أو الإصابة بالغرب، بحسب تعبير جلال آل أحمد) التي أعمت الأبصار، وضلّلت البصائر. ولله الأمر من قبل ومن بعد


تاريخ النشر : 13-07-2008

6338 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com