1-العمل السياسي و المعيارية الفقهية
لا زال النقاش حول المشاركة السياسية للمسلمين في البلدان الغربية ينحو في بعض الأوساط منحى الكلام عن حلية ذلك أو حرمته.أي أن المسألة لا زال ينظر إليها من منظور معياري فقهي كأنها نازلة فقهية من نوازل الأحوال الشخصية أو التعبدية ، و أن الحكم عليها لن يخرج عن القول بحليتها مطلقا أو بشروط أو بحرمتها مطلقا أو وفق استثناءات .و يذكرنا هذا النقاش كله بنقاش آخر، لم يعد له وجود إلا في الأوساط التي يخيل للمرء أن علاقتها بهذه الأرض و بمعايش خلق الله و عباده كمثل علاقة أهل المريخ بالمشاكل السياسية لأهل كوكب الزهرة ، ألا وهو موضوع الإقامة في ديار غير ديار الإسلام و حلية ذلك من حرمته .إنه لواضح من خلال طبيعة السجال الذي دار حول هذين الموضوعين أنه لا زال هناك من لا يعي أن من الظواهر الاجتماعية و الإنسانية ما يتطلب إعمال النظر و التحليل و بذل الفكر و التأمل المعرفي لا القول المعياري و الحكم القانوني .فإعمال ثنائية الحلال و الحرام في غير موضعها استسهال و كسل معرفي يفقر الفكر الإسلامي و يرمي به بعيدا عن الإشكالات الحقيقية التي ينتظر منه اقتحامها و الخوض فيها.
يذكرنا هذا الاستسهال ببعض المواقف الاختزالية لبعض قدمائنا رحمهم الله. ففي الوقت الذي بذل فيه ابن تيمية مثلا جهدا عظيما و جبارا لفهم المنطق الأرسطي حتى يدلي بدلوه في نقده و تجاوزه اختزل ابن الصلاح موقفه من هذا المنطق بفتوى بسيطة و صريحة و محددة وهي حرمة الاشتغال بالمنطق.و في الوقت الذي أجهد إمام الحرمين أبو المعالي و الغزالي و البغدادي و غيرهم أنفسهم و بذلوا طاقاتهم المعرفية و الذهنية لإيجاد المخارج المعرفية للمآزق الابستمولوجية الكلامية و بسط إشكالاتها فضل صاحب "المغني" ابن قدامة أن يصدر فتوى تكون فصل مقال في رسالته "تحريم النظر في كتب الكلام" ..و في الوقت الذي كان فيه رحالة عظماء أمثال ابن جبير و ابن فضلان و ابن بطوطة يجوبون الأرض و يلتقون بشعوبها و يدونون ذلك في كناشات أنتربولوجية بالغة القيمة، فضل بعضهم اختصار القول و تحريم الإقامة في ديار الكفر أو دخولها.و هكذا فإزاء مواضيع و ظواهر مثل هذه لا يتطلب الأمر إخراج العدة الفقهية و البداية في التفريع و التقييس و السبر و التقسيم بل إن الأمر يتطلب حينئذ التوجه إلى واقع الظاهرة و النظر إليه ثم فهمه وتحليله . و النظر و الفهم و التحليل لا يقاس بمعيار الحلال و الحرام بل بمعيار الصواب و الخطأ أو المناسب و غير المناسب و شتان بين المعيارين .
2-تأسيس حزب إسلامي :الواقع و الأوهام
يتنادى كثير من الفاعلين المسلمين على الساحة الغربية إلى ضرورة تكوين هيئات حزبية إسلامية في المجتمعات الغربية و الدخول في غمار الانتخابات تحت يافطة حزب إسلامي .يعلل هذا التيار دعوته بوجود أحزاب مسيحية كثيرة في أوروبا لا تخفي اعتناقها للدين المسيحي بل و استلهام كثيرا من أطروحاتها منه على الأقل على المستوى القيمي . فما الذي يمنع إذن من إيجاد أحزاب إسلامية تعلن بصراحة اعتناقها للإسلام ليس بالضرورة كدين بل كثقافة أيضا؟ ما الذي يمنع من ذلك ما دامت هناك أحزاب كثيرة لا تخفي نعت "المسيحي " من عناوينها كالحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا أو الحزب الاشتراكي المسيحي (سابقا) في بلجيكا و غيرهما كثير ، و ما المانع أيضا إذا كان القانون يجيز ذلك؟ .و يضيف ممثلو هذا التيار القول إنه ما دام القانون يخول هذا الإمكان فمن الضروري لإسماع صوت المسلمين في هذه المجتمعات من اتخاذ هذه الخطوة.لا يكتفي البعض الآخر عند هذا الحد بل يذهب إلى القول إن التصويت على أحزاب لائكية تحتوي برامجها على أطروحات مخالفة جذريا للإسلام كإباحة المثلية الجنسية مثلا يصبح "محرما" في ظل وجود أحزاب إسلامية بل و في ظل وجود الإمكانية القانونية و السياسية لإنشاء هذه الأحزاب تماما كبطلان التيمم عند التيقن من إمكانية الحصول على الماء.
نشير أولا أن بعض المسلمين قد أوجدوا فعلا بعض الأحزاب في بعض البلدان الغربية كبلجيكا و فرنسا و بريطانيا مثلا. ففي بلجيكا تأسست أربع أحزاب إسلامية و قد حدث أن تقدمت ثلاث أحزاب إسلامية في آن واحد في إحدى الانتخابات.و قد كان نفس الأمر في بريطانيا. ماذا كانت النتيجة ؟ حتى لا نظلم القائلين بهذا الرأي لا بد من التنبيه إلى أن مؤسسي هذه الأحزاب ليسوا من المؤثرين في الأوساط الاجتماعية الإسلامية إضافة إلى أنه قد شابت حركاتهم السياسية غوغائية و تخبط كبيرين ، لهذا فالحكم على تجربتهم يبقى نسبيا و لا يمكن أن نحاجج به أصحاب الرأي الداعي إلى تأسيس أحزاب إسلامية.
لكن هذا لا يمنعنا من إبداء ملاحظات أساسية حول هذه التجربة:
أولا: لم يهرع المسلمون في بلجيكا و فرنسا مثلا إلى التصويت أفواجا أفواجا أو حتى التعاطف مع هذا الحزب الإسلامي أو ذاك بل و لم يبد السواد الأعظم منهم اهتماما يذكر ، و هذا إضافة إلى انه يفند المزاعم اليمينية المتطرفة التي ترمي المسلمين بالطائفية أو التمركز الاثني فهو دال على لا واقعية هذا الخيار و تخبطه .
ثانيا: اعتقد البعض أن الجانب القانوني من تأسيس الحزب هو أهم شيء و أنه يكفي الوجود القانوني إلى جانب برنامج بغض النظر عن جديته و واقعيته حتى يكون هذا الحزب حقيقيا و قادرا على الوصول إلى أهدافه .و لعمري إنه لفهم بعيد و عدم إدراك جلي لطبيعة الحزب السياسي في المجتمعات الغربية .طبعا لا يوجد حزب يولد قويا إلا إذا كانت مكوناته و مؤسسوه ذوو حظوة و مكانة سياسية بنيت في أحزاب قوية و ذات تاريخ معقول و هذا ما نشهده في كثير من الحالات فحزب كاديما في إسرائيل مثلا لم يدخل الساحة السياسية قويا بسبب برنامجه القوي أو لأفكاره النيرة بل لان لوبيات مصالح كثيرة التقت فيه ، لوبيات و قوى لها تأثير فعلي على الواقع و لها وزنها السياسي الذي يخولها لذلك.لكن مع ذلك إن الحزب الذي يروم جديا العمل السياسي لابد على الأقل أن يكون لمؤسسيه رصيدا من السمعة السياسية و الاجتماعية و وزنا فعليا داخل الساحة السياسية ، أما أن يجتمع أفراد لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد و يقررون إطلاق حزب سياسي بدون رصيد شعبي و اجتماعي و سياسي فهذا ما يخالف منطق الواقع و العمل السياسي لا ريب. و هذا ما حصل مع الأحزاب السياسية الإسلامية في بلجيكا و بريطانيا و فرنسا.و ما يدل على ذلك هو اندثار بعضها في فترة قياسية و انكفاء بعضها الآخر بعد الاصطدام بالواقع.
من جهة أخرى ظهر جليا أن هذه الأحزاب كانت تتوجه لمسلمي هذه المجتمعات و كانت تعنيهم هم و تستدر أصواتهم هم و لم تستطع أن تبلور خطابا لكل المواطنين البلجيكيين أو الانجليز .. رغم جهود بعضها في التنصيص على ذلك داخل برامجها .
ما الذي يقلق في هذه الدعوة ؟
إن المسلمين في الغرب في السنوات العشرين الأخيرة ،كما هو معلوم، ترسخت لديهم قناعة بأن عليهم الحذر من العيش على هامش المجتمع الذين هم جزء منه و عليهم الانخراط الكامل في الحياة الاجتماعية المحيطة بهم لأنهم بكل بساطة أصبحوا مواطنين كامل المواطنة ،على الأقل هذا هو المفترض بعد اتجاه أغلبهم إلى التجنس بجنسيات البلد الذين يعيشون فيه.و يشكل البحث عن المشتركات و المترادفات الثقافية أهم مضامين هذه المواطنة المنشودة ، ذلك يعني الابتعاد عن الخيارات الثقافية و السياسية التي قد تنتج آلية للإقصاء الذاتي عن دواليب الحياة الاجتماعية .و أعتقد أن الاتجاه إلى تأسيس أحزاب إسلامية تنضاف إلى قائمة الأحزاب الموجودة على الساحة الأوروبية من شأنه أن ينتج مثل هذه الآلية و يعضدها ، و هذا سر الإحساس بعدم ملائمة وجود مثل هذه الأحزاب .
3-المشاركة داخل الأحزاب الغربية:ما لها و ما عليها
أما فيما يتعلق بالمشاركة السياسية لبعض المسلمين داخل الأحزاب الأوربية فهي و إن كانت المطلوب الذي لا بديل عنه فقد شابتها كثير من الآفات و المزالق التي لا مناص من الاعتراف بها.
فهناك أولا كثير من المتسلقين الذين لا تخلو منهم أمة و لا طائفة ملأوا الأحزاب و لسان طموحهم لا يكاد يخفى على خاف ، و بعضهم للأسف قد أعاد إنتاج نفس الآليات الانتهازية المستعملة في بلاد ال 99 بالمائة من إقامة الولائم و إجزال العطاء و الوعود الأسطورية و الأخطر من ذلك استغلال المساجد للدعاية بشكل مباشر أو غير مباشر، مع أن الأحزاب التي ينتمون إليها ما تفتأ تحذر من استغلال الدين في السياسة و تستسهل اتهام بعض المرشحين من المسلمين "المتدينين" بذلك.
و من التحديات التي تطرح على الفاعلين السياسيين المسلمين الذين يريدون خوض غمار التجربة السياسية في المجتمعات الأوربية هي التساؤل: على أساس ماذا يجب اختيار الحزب الذي من خلاله سيتم هذا النشاط السياسي ؟ هل على أساس البرنامج أم على أساس استعداد هذا الحزب لقضاء المصالح السياسية و الاجتماعية للمسلمين؟ فالذي يحدث أحيانا كثيرة هو أن هناك أحزاب تكون برامجها في الغاية من حيث نشدانها العدالة الاجتماعية و السياسية و من حيث تمثلها للقيم الإنسانية المشتركة و من حيث نبذها للعنصرية و التفرقة العرقية أو الطائفية لكن موقعها هامشي و حجمها لا يمكنها من منافسة الأحزاب التقليدية الكبرى، و من ثم فالأمل في وصولها للحكم يوما ما أوهن من بيت العنكبوت .من جهة أخرى يحدث أيضا أن تكون هناك أحزاب سياسة قوية تكون حظوظها في الوصول إلى الحكم كحظ السمك من ماء البحر ، لكن برامجها بعيدة عن إنصاف الفقراء و لا تنشد العدالة الاجتماعية في شيء أو تتضمن سياسة عدوانية واضحة ضد المهاجرين أو للأديان، و على مستوى السياسة الخارجية تكون محابية للقوى الامبريالية مثل إسرائيل و الولايات المتحدة...إضافة إلى أن الحزب الواحد قد يطوي في برنامجه في نفس الوقت مبادئ لا غبار على اتفاقها مع مقاصد الحياة الإسلامية و مراميها من عدل و حماية للأسرة و الأخلاق و أشياء أخرى يعتبرها المسلمون من أمراض الحضارة المادية من تحرير للحياة الجنسية و دعوة للمثلية الجنسية ...
ففي هذه الحالة كيف يختار المرشح المسلم الحزب الذي سينشط فيه و يخوض معه المعركة الانتخابية؟أعتقد في هذا السياق أنه يجب أن يتوفر الوضوح في أمرين في غاية الأهمية:
- وضوح أهداف العمل السياسي : و هذا يتأتى بطرح أسئلة جوهرية مثل هل إن العمل السياسي أنجع من باقي الأنشطة الاجتماعية الأخرى مثل العمل الاجتماعي و العمل الثقافي ...و هذا السؤال يطرح على المستوى الفردي لأنه من الحماقة بمكان تصور غياب فاعلين سياسيين ممثلين بشكل أو آخر لمختلف الشرائح المسلمة عن الساحة السياسية ..
- وضوح الرؤية بصدد طبيعة العمل السياسي داخل المؤسسات السياسية و النيابية في المجتمعات الغربية. .ينبغي فهم واقع الاحزاب واتجاهاتها و طبيعة علاقتها بالعمل الحزبي و هل توجد أحزاب خيرة مطلقا و أخرى شريرة مطلقا و هل ما زال لثنائية اليمين و اليسار حضور في المشهد السياسي الغربي.
في حالة ما إذا أخذنا بالاعتبار الرأي الذي يرى تلاشي هذه الثنائية فهل معنى ذلك انتفاء الحاجة إلى تحري البرامج و جواز الانتقال من حزب إلى آخر كلما اقتضت المصلحة ذلك ،و لا مانع من ثم إذا اقتضت المصلحة "الجماعية" الانتقال من الحزب الضعيفة حظوظه في الوصول إلى السلطة إلى آخر له حظوظ الأسد ؟
تلك أسئلة لا بد من طرحها و الوعي بمضامين الأجوبة التي قد تتبلور من خلالها .نقول ذلك لأننا كثيرا ما لاحظنا كيف يبدل بعض المرشحين المسلمين الأحزاب التي خاضوا معها الانتخابات أو التي ناضلوا في إطارها سنين عددا كما يبدلون ملابسهم، بل كثيرا ما بدل بعضهم حزبا من أقصى اليسار إلى آخر من أقصى اليمين لمجرد أنه صار في المعارضة . كل ذلك تحت دعوى تحقق مصلحة المسلمين الجماعية مع هذا الحزب القوي أو ذاك ، لكن ألا يتناقض ذلك مع الصفة المبدئية التي يفترض أن يتحلى بها المسلم حتى و هو يمارس نشاطا سياسيا؟ أليس من باب تخليق الفعل السياسي احترام المواثيق و العهود التي من المفترض أنه أقرها و التزم باحترامها عند انخراطه في هذا الحزب أو ذاك؟
من جهة أخرى لا بد من القول إنه من الواقعية الإقرار أن الآفاق قد تنسد تماما في بعض الأحزاب حينما تصبح آلة لإنتاج الوصوليين و الحالمين وبالوجاهة و دعة العيش و في هذه الحالة لا بد من موازنة الأولويات و قراءة الواقع السياسي قراءة متأنية و راشدة.
على صعيد آخر إن من أخطر ما قرأت من فتاوى في مضمار المشاركة السياسية في الديار الغربية هو القول إنه مع تساوي القيمة السياسية و المبدئية و الخلقية لمرشحين اثنين أحدهما مسلم و الآخر ليس مسلما وجب على المسلمين التصويت على المسلم .إن خطورة هذه الفتوى أنها لا تأخذ في عين الاعتبار عامل المواطنة الذي على أساسه تنبني العملية السياسية و أنها تجعل من الانتماء الديني للمرشح وللناخب العامل الحاسم في الاختيار السياسي.إن هذا من شأنه أن يخلق مشكلتين تتناقضان مع أسس الاجتماع البشري في البلدان الغربية:
-إن الانتماء الديني في هذه الحالة هو الذي سيحدد مسار العملية الانتخابية و هو الأمر الذي من شأنه أن يدفع إلى أفق طائفي مافتئ كثير من المفكرين المسلمين في الغرب أنفسهم يحاربونه و يدعون إلى تجنب الوقوع فيه (طارق رمضان على سبيل المثال لا الحصر) .
-إن هذه الفتوى من شأنها أن تزرع الشكوك إزاء الناخبين المسلمين ، لأنه إن كان عليهم اختيار مرشح على أساس ديني فهذا يجعل من العبث بالنسبة للمرشحين غير المسلمين أن يتوجهوا ببرامجهم الانتخابية إليهم أو يأخذوا وجودهم كناخبين بعين الاعتبار .لحسن الحظ إن واقع الحال بعيد عن هذا و إن المسلمين قد بينوا عن نضجهم في كثير من الانتخابات و كانت أصواتهم تذهب لمن يعتقدونه الأصلح سياسيا و لو كان غير مسلم.
أعتقد في هذا السياق أننا يجب أن نكون أمناء مع أنفسنا منسجمين مع ما قررناه في تفكيرنا في مواضع أخرى و نقول الحق النظري و العملي كما أمرنا سبحانه و تعالى "لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى".فكيف نصرح في كتبنا و مقالاتنا و محاضراتنا أن المواطنة تسوي بين بني البشر ثم ندعو من خلال مثل هذه الفتوى و أمثالها أن الانتماء إلى الإسلام هو العامل الحاسم في اختيار المرشح .إننا بذلك نمارس تمييزا لا ريب، و هو تمييز لا ينسجم مع مبدأ المواطنة.
كل ذلك لا ينفي أن أي مواطن من حقه أن يمارس حقوقه السياسية من خلال قناعاته سواء كانت دينية أو غيرها. و هذا واقع. فكثير من المسيحيين المتدينين يصوتون للمرشح الأكثر احتراما للدين أو الأقرب إلى قناعاتهم الدينية و كذلك يفعل المسلمون .لكن ليس من الملائم أن نصوغ فتوى بهذا الشكل تدعو صراحة إلى التمييز بين غير المسلم و المسلم فهذا ينم عن عدم وعي بطبيعة الاجتماع السياسي الغربي و بالتالي عدم تحقيق جيد لمناط الحكم في هذه المسألة.ففي وقت لم يعد من المقبول صد غير المسلمين عن الدخول إلى مساجد الله حيث تنظم دوريا زيارات ثقافية و روحية أيضا في إطار حوار الأديان و يقوم المسلمون بنفس الشيء تجاه الكنائس و المعابد الأخرى ، كيف يجوز لنا إقامة هذا التمييز في السياسة التي تعير بمعيار الصواب و الخطأ و ليس بمعيار الحرام و الحلال ، و الصواب و الخطأ من المشتركات التي يمكن ان يفكر فيها جميع المواطنين دون حتى الحاجة إلى معرفة انتمائهم الديني و الإديولوجي، فالصواب و الخطأ يعرفان بذاتهما ، و مع ذلك لا يمكن لأي أحد أن يدعي معرفتهما بإطلاق، بينما الحلال و الحرام لا يعرفان إلا بمرجعية نصية دينية و كما يعرف أي مسلم مبتدأ لم يلزم الإسلام قط غير المسلمين بحلاله و حرامه .
4-مسألة اللوبي الاسلامي :تعقد الواقع و حسابات السياسة
إذا كانت مسألة اللوبي من المعلوم من "الواقع" بالضرورة في المجتمع الأمريكي فإن المسألة جد حساسة في كثير من الديمقراطيات الأوربية .ففي فرنسا مثلا يعيد هذا المفهوم إلى الأذهان مرحلة تاريخية مقلقة كان اليهود فيها ضحية لهذه التهمة و ضحية لعنصرية كانت تروم تصويرهم في صورة "شيطان" ذو قوة اقتصادية و سياسية يتربص بالفرنسيين ليهيمن عليهم. من ثم لا ينزل مفهوم اللوبي بردا و سلاما على آذان كثير من الأوساط السياسية و الثقافية و الحقوقية في البلاد الأوربية. لكن هذا لا ينفي أن في الواقع لوبيات قد تصغر أو تكبر حسب الفترات التاريخية و هي تتحرك بكل وضوح بمنطق لوبي لا غبار عليه و هذا من عجائب خصوصيات المجتمع الفرنسي .على العموم إن موضوع تشكيل اللوبي مسألة دقيقة و تدور في فلك من التعقيد الفكري و الواقعي لا يجب إغفاله .
فمن جهة أولى و كما يرى الباحث الفرنسي فانسان جيسر رغم محاولة بعض المجموعات الدينية و الاثنية التأثير على القرار السياسي بواسطة لوبي فإنه ثبت أنه لا أحد من الأقليات الاثنية و الدينية نجح في "تحريك" طائفته في اتجاه واحد لان مسألة التجانس المطلق داخل إثنية أو مجموعة دينية هي من الأوهام و الأساطير التي لا توجد إلا في رؤوس البعض.فكل المجموعات تعاني من الانقسامات الاديولوجية و التنظيمية مثل اليهود و الماسونيين الذين طالما اعتقد الناس أنهم أمة واحدة تعمل في الخفاء و تهدد العالم كله..
من جهة ثانية إنه من الادعاء الواهم، في ظل التنوع الفكري و المذهبي و الاديولوجي الذي يعرفه المسلمون ، أن يعتقد البعض الدفع في أفق "صناعة" لوبي يوحد الآراء و الميول حول هذا الاختيار السياسي أو ذاك ،و فوق كل هذا و ذاك هل مطلوب فعلا توجيه المسلمين إلى جهة سياسية واحدة و حملهم على الاقتناع بطرح سياسي واحد ؟ إن ما نلاحظه على صعيد الوجود الإسلامي في الغرب هو بداية تبلور نوع من "الفردانية" في تمثل الإسلام و فهمه ، فإلى جانب جيل من الشباب يجد في الفهم الحرفي السلفي للإسلام ملاذا له من التهميش الاجتماعي و الاقتصادي هناك قطاع كبير من المسلمين يطالبون و بكل وضوح بالحق في "العيش" الفرداني و الشخصي للإسلام أي الحق في فهمه حسب السياق الاجتماعي و المعرفي الذي يعيشونه.و لا ننسى أن هناك كثير من المثقفين المسلمين الذين يعلنون علمانيتهم أو انتماءهم "الثقافي " إلى الإسلام .و في هذا الصدد ننبه أن مسألة الاختلاف الفكري و الديني بين المسلمين ، علمانييهم و متدينيهم، لا بد من تدبيرها وفق سياقات المجتمع الأوربي و لا معنى لنقل المعارك غير الصحية التي تدور رحاها في المجتمعات الإسلامية إلى المجتمع الغربي ، لكن هذا للأسف ما يقوم به بعض المتطرفين العلمانيين و بعض "الإسلاميين" الذين انتفى عندهم الإحساس باختلاف الأمصار و السياق الحضاري الذين يعيشون فيه.
كل ذلك لا ينفي ضرورة العمل على إنضاج الوعي الإسلامي الحضاري عند المسلمين و الدفع في أفق بلورة خطاب إسلامي مستوعب لتعقد الواقع و تشابكه.و هذا في رأينا أجدى من البحث عن لوبي يستطيع "توحيد" للرؤى السياسية لم يجد و لا يجد تحققه حتى في البلاد الإسلامية .
خاتمة
على العموم لا زالت تجربة المشاركة السياسية للمسلمين في البلدان الغربية في بداياتها، و البدايات كما نعلم تعرف دائما تشوشا في الرؤى و تعثرا في الخطوات.ومع ذلك لا يمكننا إنكار كثير من المنجزات التي حققتها بعض المشاركات سواء على صعيد نضج الخطاب أو الحس المواطني و الحضاري الذي اتسمت به.لكن لم يرق ذلك إلى أن يكون ميسما عاما لمشاركة المسلمين السياسية ، فلا زالت هناك اختلالات على صعيد النظر كما على صعيد العمل يجب الوقوف عندها و العمل على بلورة خطاب معرفي مستوعب للأبعاد السياسية و الاجتماعية و الثقافية للواقع الغربي ، و هو عمل لا يمكن أن يتم بمعزل عن النظر النقدي إلى كثير من المقولات التي يحسبها البعض ممثلة للإسلام و الخطاب الإسلامي في حين إنها ناتجة عن الآلية المعرفية النظرية المعطوبة التي يتنادى كثير من المفكرين المسلمين إلى نقدها و تجاوزها.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.