ورث علماء الإسلام ومفكروه في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تَرِكةً تاريخية ثقيلة من تخبطٍ عقدي، وجمود فقهي، وتعصب مذهبي، وتأخر علمي وتربوي، وكسادٍ اقتصادي، وفسادٍ واستبدادٍ سياسي، واحتلال أجنبي لكثير من الأقاليم، و عاشوا هم أنفسُهم أحداثاً تاريخية عصيبةً، وداميةً يمكن أن نصفها بأنها أحداثٌ استراتيجية ارتهنت لحسابها، بشكلٍ أو بآخر، مجمل أحوال الأمة الإسلامية منذ ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.
فقد شهدوا بأم أعينهم كيف تخلخلتْ وتهاوتْ، بفعل العوامل الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، مقومات، وأركان، وبنيان دولة الإسلام في ذلك الوقت (الدولة العثمانية)، وما أدى إليه هذا السقوط من دويٍّ هائل هزَّ أركان المجتمعات الإسلامية التي كانت منضوية تحت لواء هذه الدولة، الأمر الذي أدَّى إلى فتح الباب على مصراعيه للقوى الأوربية لاستكمال ما بدؤوا به من قضمٍ، واستتباعٍ، واحتلالٍ لِما تبقى منأجزاء العالم الإسلامي آنذاك.
إزاء هذه التَرِكة التاريخية، والتحولات الخطيرة، شمَّر عددٌ من رجال الإصلاح عن سواعد الجدِّ، وخاضوا بكل ما يستطيعون من قوةٍ، كلٌ حسب رؤيته وظروفه، ومرجعيته الخاصة به، معركةَ إصلاح، وإنهاض الأمة، وتجديدها من داخلها، كي تستطيع بسواعد أبنائها، وجهودهم المخلصة أن تستعيد روحها الإسلامية الحقَّة، وشخصيتها الحضارية الفذَّة، وتمتلك من جديد القدرة على الفعل التاريخي، وكي تتمكن في نهاية الأمر من دفع الاحتلال الأجنبي عن أراضيها، وتحقيق استقلالها، وسيادتها الفعلية الناجزة على كل الصُعُد والمستويات في حياتها، وتعود من جديد إلى مسرح التاريخ لتستأنف دورها الإنساني،والحضاري المتميِّز على مستوى العالم بأسره.
ولعل أهم محور استقطب جهود مفكري الإصلاح في تلك المرحلة التاريخية كانمحور الإصلاح الديني، أي إصلاح فهم العقيدة الإسلامية على اعتبار أنَّ هذا الإصلاح هو المدخل الضروري لإصلاح التفكير الإسلامي عموماً. ومن ورائه، وعلى إثره تبدأ عمليات إصلاح الواقع في المجتمعات الإسلامية، وقد مشى في رِكاب الدعوة إلى هذا الإصلاحالدعوةُ إلى فتح أبواب الاجتهاد الفقهي، واستئناف العمل به كخيار ضروري لتجديد عقل الأمة العملي، ومواجهة الوقائع المتجددة التي لم يسبق لها نظير في السابق، ومُعايرتها بنصوص الإسلام، وأصوله، ومقاصده الثابتة.
لذلك فقد شهد الفكر الإسلامي في تلك الفترة عدة محاولات متفاوتة الأهمية، والقيمة في سبيل هذا الإصلاح[1]، ولعل محاولة الشيخ محمد عبده (1849ـ 1905م) في كتابه "رسالة التوحيد" هي إحدى أبرز هذه المحاولات التي تستحق شيئاً من الدراسة والتحليل.
ـ رؤية الشيخ محمد عبده الإصلاحية:
حدد محمد عبده أهداف، وغايات مشروعه الإصلاحي في أمور ثلاثة:
أولاً: تجديد فهم الدين بعيداً عن قبضة الصورة الجامدة، والمتكلسة التي آل إليها حاله إبان مرحلة الانحطاط الحضاري التي حاصرت فيه روح الاجتهاد، والإبداع، وأبعدته عن التفاعل الرشيد مع الواقع، ومكتسبات العقل العلمي، فقد دعا محمد عبده إلى: "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة، قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لِترُدّ من شططه، وتقلِّل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يُعدّ صديقاً للعلم، باعثاً على البحث في أسرار الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً في التعويل عليها في أدب النفس، وإصلاح العمل"[2]
ثانياً: الإصلاح اللغوي، حيث أولى محمد عبده دراسة اللغة العربية، ومناهج التعامل معها عناية خاصة، وذلك بوصفها أحد المقومات الكبرى للأمة إلى جانب دينها، وأخلاقها، وموروثها الحضاري والتاريخي، بالإضافة إلى أن تجديد أساليب دراستها، وأساليب التعامل بها يعطي دفعة قوية لإصلاح وتجديد الفكر الديني نفسه، نظراً لأن نصوص الدين نفسها موجودة، ومحفوظة باللغة العربية. لذلك فقد دعا إلى إدخال إصلاحات جوهرية على أساليب تعليم قواعدها وآدابها، وأساليب الكتابة فيها، وتأليف مجامع لغوية لمتابعة شؤونها، ووضع معاجم لغوية، ومعاجم علمية، والتأليف في ميدان الدراسات البيانية، والدراسات النقدية[3].
ثالثاً: الإصلاح السياسي الذي وصفه عبده بأنه "الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية [أي المسلمين]، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة"[4].
وهكذا يمكن أن نلاحظ أن جهود عبده الإصلاحية كان تدور حول محورين رئيسين، هما: الإصلاح الديني، والإصلاح السياسي.
وفي الحقيقة، فإنَّ محمد عبده، بعد اشتراكه في الثورة العُرابية (1882م)، ونفيه خارج مصر، وبسبب الأحوال السياسية المترديّة التي كانت تعيشها مصر، والعالم الإسلامي في عهده، وبسبب تطور آفاقه المعرفية أيضاً، قد اقتنع بضرورة إعطاء الأولوية للإصلاح الديني، وحشد كل الجهود له، على اعتبار أنَّ الإصلاح السياسي، على أهميته، ما هو إلا ثمرة طبيعية تجنيها الأمة عندما تَسْلَم عقيدتها ـ التي تشكِّل في حقيقة الأمر النواة الحية والصلبة، والمقوِّمة لوجودها الحضاري، والمبدعة لاجتماعها التاريخي ـ من البدع والانحرافات الطارئة عليها، فإذا لم تحقق الأمة متطلبات الإصلاح الديني المنشود، فلا أمل في تحقيق وجوه الإصلاح الأخرى، فها هو يقول: " أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يُقدّره، وليد الله بعد ذلك تُدبره، لأني عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراسٍ تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يُعنى به الآن "[5].
ويوضح في مكان آخر المقصود بهذه الغراس، بقوله: "إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم [ المصلحون ] إنما هو تصحيح الاعتقاد، وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع، تبعتها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية، دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة..."[6]. وهو لا يرى أنَّ مجرد استبدال حكومة "صالحة" مكان حكومة "فاسدة" يمكن أن يحل مشكلة المجتمعات المتخلفة، بل السبيل إلى ذلك هو البدء ببناء، وتأهيل وعي وسلوك أفراد الأمة عن طريق التربية والتعليم، وبهذا تتولد قدرتهم الذاتية على بناء حكومة رشيدة.
ومن هنا، نرى أن الإصلاح الديني، وأساسه ومنطلقه إصلاح فهم العقيدة، هو جوهر مشروع محمد عبده الإصلاحي، وبإمكاننا في ضوء هذه الحقيقة أن نتعامل مع كل مؤلفاته، على الرغم من تعدد عناوينها، من هذه الزاوية، أي زاوية العمل على إصلاح فهم المسلمين لعقيدتهم، وربط هذا الفهم بالواقع الجديد من أجل دعوتهم ودفعهم إلى تغييره، وإصلاحه من كافة الوجوه.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن هاجس محمد عبده في دراسته قضايا ومسائل العقيدة والتوحيد كان هاجسا إصلاحياً تغييرياً، ولم يكن هاجساً معرفياً محضاً، مثل معظم علماء الكلام من قبله، على الأقل في العهود المتأخرة.
وقبل أن أختم حديثي عن رؤية محمد عبده الإصلاحية، تجدر الإشارة إلى تأثره، ولو بشكل غير مباشر، في صياغة رؤيته الإصلاحية هذه، بحركة الإصلاح الديني البروتستانتية، وفي الحقيقة، فإن اطلاع عبده على معطيات هذه الحركة كان بشكل أساسي عن طريق شيخه جمال الدين الأفغاني الذي كان معجباً بهذه الحركة الدينية المسيحية لدرجةِ أنه كان يعتقد أنه لا نهوض للأمة الإسلامية إذا لم تنبعث فيها حركة دينية إسلامية تسير على غرار هذه الحركة في أفكارها الرئيسة المتمثلة في الثورة على سلطة رجال الكنيسة المحتكرين لتفسير الدين، والعودة إلى النص المقدس، بعد التحقق من مدى صحته التاريخية، بشكل مباشر ومحاولة فهمه بكل حرية ودون الاضطرار إلى الاستعانة بما كتبه آباء الكنيسة حول هذا النص، على اعتبار أن كل ما كتبوه حوله ما هو إلا فكر بشري يحتمل الخطأ والصواب، بالإضافة إلى أنه مرتبط بزمانه ومكانه، وبالتالي لا يملك أية سلطة قدسية مُلزمة لبقية المؤمنين بهذا النص في كل العصور.[7] ولقد كان من أسباب إعجاب الأفغاني المفرِط هذا بهذه الحركة المسيحية هو اعتقاده أن حركة الإصلاح البروتستانتية حققت في مجال الدين المسيحي جوهر ما جاء به الإسلام من منهج في التعامل مع نصوص الدين، وإلغاء لأي سلطة دينية تتحكم في فهم هذه النصوص، وأن البروتستانتية عموماً تقترب من الإسلام قُرباً يجعل من تحول المسيحي البروتستانتي إلى الإسلام أمراً ممكناً، إذا ما عُرض عليه الإسلام بشكل صحيح وسليم[8].
وهنا يجب أن نقول: إن اعتقاد الأفغاني، وحماسه هذا كان في غير مكانه، لأن شروط انبثاق البروتستانتية لم تكن موجودة في يوم من الأيام في تاريخ الإسلام وحضارته، فلم يشهد الإسلام كما شهدت المسيحية طبقة رسمية مخصوصة من رجال الدين تحتكر تفسير وفهم الكتاب والسنة، بل ترك الإسلام باب تفسيرهما، وفهمهما مفتوحاً أمام كل من استكمل شرائط الكفاءة العلمية اللازمة لمثل هذا التفسير والفهم، وما تعدُّد المدارس الفكرية والمذاهب الدينية في وجهٍ من الوجوه إلا نتيجة لهذه الحرية في فهم النصوص الدينية. هذا بالإضافة إلى أن الحضارة الإسلامية لم تشهد حالة العداء الشديد للعلم واضطهاد العلماء، ولم يعرف تاريخها أبدأ صكوك الغفران، والحرمان التي كان يصدرها زعماء الكنيسة، ولم يعرف الجمع بين السلطتين الزمنية، والروحية في يد أحدٍ من الناس كما كان يفعل باباوات الكنيسة الكاثوليكية، ولم يعرف ذلك التحالف المقدس الذي شهدته المسيحية بين رجال الإكليروس، وبين رجال الإقطاع، والأمراء المتحكمين بأقوات الناس ومصائرهم[9]. لذلك فإني أنظر إلى مطالبة الأفغاني بحركة إسلامية تستلهم خطوات الإصلاح البروتستانتي على أنها مغالطة علمية وتاريخية وقع فيها الأفغاني بسبب حماسه المنقطع النظير لتجديد الفكر الإسلامي، وأحوال العالم الإسلامي في عصره، بأية طريقة، وبأي ثمن. وبالطبع فإن هذا الحماس لا يبرر له هذه المغالطة لأنه لا أمل بتجديد الفكر الإسلامي تجديداً حقيقياً ومثمراً إلا إذا انطلق هذا التجديد من داخل الإسلام، ومن داخل معطياته الخاصة به، المنطلقِة أساساً من ثوابت هذه الأمة، ومعاييرها الخالدة في الكتاب والسنة، وهويتها الثقافية، وتجربتها التاريخية، وشخصيتها الحضارية التي تكونت عبر تاريخها الطويل. وكل محاولة للتجديد لا تراعي قانون التجديد الداخلي هذا محكومٌ عليها بالفشل والتلاشي، هذا مع التنبيه إلى أن ظاهرة التأثر الفكري هي ظاهرة طبيعية في تاريخ الفكر الإنساني، فإن الفكر الذي يطلع، ويتعامل مع الأفكار الأخرى، هو فكر حيوي فاعل وقوي، بشرط أن يحتفظ الفكر المتأثِّر بمعايير مركزه الحضاري الذي ينتمي إليه، ويقوم في الآن نفسه بتكييف كل الأفكار التي يتأثر بها مع معايير هذا المركز.
وهنا تجب الإشارة إلى أن الشيخ محمد عبده، وعلى الرغم من تأثره بأفكار شيخه بشكل عام حول حركة الإصلاح البروتستانتية[10]، فقد احتفظ لنفسه بحق قراءتها قراءة نقدية، وبذلك استطاع الوقوف على بعض عيوبها التاريخية والمعرفية. وهو بهذه القراءة يكون قد تجاوز موقف أستاذه الموسوم بالانفعالية واللاتاريخية. فها هو يقول في كتابه "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية " معلِّقا على حركة الإصلاح البروتستانتية هذه: "... استمرت عقوبة الموت قانوناً يُحكم به على كل من يخالف معتقد الطائفة [يقصد الطائفة البروتسانتية]... كان لوثر أشد الناس إنكاراً على من ينظر في فلسفة أرسطو، وكان ذلك المصلح يلقب هذا الفيلسوف بالخنزير الدنِس الكذاب... وكان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف بـ "المعلم الأول" فتأملْ الفرق بين الفريقين ! ... ولهذا لم يكن مذهب الإصلاح أخف وطأة على العلم، ولا أفضل معاملة من الكاثوليك، لأن كلا المذهبين يرجع إلى طبيعة واحدة، ولم يكن لأهل النظر العقلي في كلا الملتين إلا القتل، وسفك الدماء "[11].
وفي الحقيقة، فإن كلام محمد عبده هذا لا يلغي تأثره بوجه من الوجوه بروح، ومبادىء دعوة الإصلاح البروتستانتية، ولكن ما أحببت أن أشير إليه هنا، هو أن احتفاظ محمد عبده لنفسه، وفكره بموقف نقدي إزاء هذه الحركة، حماه من الانزلاق وراء التبشير لهذه الحركة، ولأفكارها بطريقة غير علمية، وغير تاريخية كما فعل شيخه الأفغاني. وبهذا يكون محمد عبده قد شكَّل بموقفه هذا خطوة مهمة في إطار الفكر الإسلامي الحديث نحو الانعتاق من دائرة التأثر السلبي بالحضارة الغربية، وساهم في تمهيد السبيل لانبثاق جيل من العلماء والمفكرين المسلمين الذين تعاملوا مع الغرب، وتاريخه، وثقافته بمنهج علمي نقدي تاريخي متشبثين في الوقت نفسه بشكل علمي بمنظومة معايير ومرجعيات هذه الأمة، ومتواصلين بشكل حي وفعال مع أنويتها الثقافية والحضارية الخاصة بها[12].
ـ أسلوب محمد عبده ومنهجه في كتابه " رسالة التوحيد ":
قبل أن أتعرض لذكر شيءٍ من ملامح أسلوب محمد عبده ومنهجه في رسالته، تجب الإشارة إلى السياق العام والخاص الذي كتب فيه عبده رسالته تلك، لأن معرفة السياقين تساعدنا على فهم اختيار عبده لأسلوبه، وتفسر لنا في الوقت نفسه عناصر المنهج الذي أخذ نفسه به في كتابه.
أما السياق العام الذي كتب فيه عبده رسالته، أي المرحلة التاريخية التي عاشها العالم الإسلامي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي، فأهم معالمه أن الأمة الإسلامية كانت تشهد حالة من الجهل، والضعف، والتمزق الداخلي، وتشهد في الوقت نفسه حالة استكبار، وهيمنة من الغرب الأوروبي المتقدم علمياً، ومادياً، وعسكرياً. فأراد محمد عبده أن يعمل مع غيره من علماء العصر، ومصلحيه لمواجهة هذه الحالة المزدوجة، من خلال العمل على جمع كلمة المسلمين، واستعادة وحدتهم السياسية حتى لا يبتلعهم الغرب، ويمحوهم من لوح الوجود المادي والمعنوي. ونظراً لأن محمد عبده كان يعتقد ـ كما أشرت إلى ذلك سابقاً ـ أنه لا صلاح لواقع المسلمين إلا بإصلاح فهمهم لعقيدتهم التي هي مناط أمرهم، ومنشأ وجودهم، لذلك اتجه إلى تقديم العقيدة الإسلامية بطريقة، ومنهج جامع وموحِّد، متجاهلا الخلاف والاختلاف ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ومعرضاً عن كثير من المسائل التي فرقت الأمة إلى شيع ومذاهب متنافرة، اعتقاداً منه أن تحقيق الوحدة العقدية للأمة، سيسهم ويمهد السبيل لتحقيق وحدتهم السياسية المنشودة.
وأما السياق الخاص المتعلق بمحمد عبده نفسه، والذي يفسِّر لنا بشكل خاص أسلوبه الواضح، والمختصر، والبسيط، والمباشر، والتربوي في الكتابة، فهو أن محتويات، ومادة هذا الكتاب كانت في الأصل عبارة عن دروس دينية ألقاها عبده على طلبة المدرسة السلطانية في بيروت عام ( 1885م) بعد إبعاده عن مصر. ولكنه لمَّا عاد إلى وطنه، وشعر بالحاجة الماسة إلى تأليف كتاب في العقيدة عاد إلى دروسه القديمة الأولى، وقام بتنقيحها وتعديلها، والزيادة عليها، وإعادة صياغة بعض مباحثها لتتناسب مع مستوى القراء العاديين من جمهور المسلمين، ثم دفعها إلى مطبعة بولاق لتخرج للناس أول مرة عام (1897م)[13]. وبهذا نلاحظ بأن نص هذه الرسالة كان في الأصل نصاً شفهياً ثم تحوّل إلى نص مكتوب، توجَّه به صاحبه إلى جمهور الطلاب أولاً، ثم إلى عموم الناس من ذوي الثقافة المحدودة بعد ذلك، وبكلمة أخرى توجه برسالته هذه إلى الجمهور العريض من المسلمين، مبتعدا ًفي الوقت نفسه عن حاجات، وغايات النخبة المثقفة من مثل هذه الكتب.
والآن يمكن في ضوء هذين السياقين أن أشير بإيجاز إلى أهم ملامح أسلوب عبده، ومنهجه في كتابه معتمداً بشكل رئيس على ما كتبه هو بنفسه في مقدمة رسالته[14]:
ـ استخدم عبده في عرض أفكاره أسلوبا لغوياً واضحاً سهلاً، من حيث مفرداته وتراكيبه. وأسلوبه هذا ينسجم مع دعوته لإصلاح أساليب اللغة العربية السائدة في عصره، والتي كانت بسبب القيود الثقيلة التي تُلزم نفسها بها تحول بين القارىء وبين الفهم الواضح والدقيق لما تحمله من معاني وأفكار. وهنا يجب أن نتذكر أن كتابه هذا كان في الأصل دروساً في مدرسة دينية، الأمر الذي أجبره على أن تكون عبارته واضحة ودقيقة، وإلا كان سيفشل في عمله كمعلم. ومن المعروف أن عبده كان من أبرع، وأنجح مدرسي عصره[15].
ـ لم يلجأ عبده في كتابه هذا إلى حشد المصطلحات الكلامية المعروفة في مصنفات علم الكلام، بل اكتفى بالقليل والضروري منها، عوناً منه للطالب والقارىء على الوصول إلى معاني كتابه بسهولة حتى ولو لم يكن له اطلاع كاف، ومسبق على مسائل علم الكلام، ومصطلحاته الخاصة به، وبذلك استطاع عبده أن يوسع من دائرة قرَّاء رسالته، وأن يعمم الفائدة منها، ويجعلها سائغة التناول والفهم من قبل عامة المسلمين، وخاصتهم على السواء، ونلاحظ في أسلوبه هذا الهم الإصلاحي عنده، إذ إنه معني بالدرجة الأولى بإصلاح فهم المسلمين لعقيدتهم أكثر من اعتنائه بعرض، ومناقشة قضايا ومسائل العقيدة بصورة وأسلوب علمي معقد يمنع عامة المسلمين من الاستفادة منها.
ـ انتهج عبده في رسالته منهج السلف في تناول مسائل العقيدة أي المنهج القائم على التسليم بظاهر النصوص المتعلقة بالعقيدة دون تجريد ولا تشبيه وتحديد، من دون أن يسدد سهام النقد، واللوم لمنهج الخلف القائم على منهجية الاستدلال العقلي على العقائد، بل نراه في رسالته يُسند للعقل دورا كبيراً في فهم العقائد، وتثبيتها في النفوس إذا أُحسن استخدامه في النظر في الكون والموجودات[16].
ـ لم يهتم عبده أثناء عرضه لمسائل علم الكلام إلا بالمسائل التي صحت الأدلة، وبهذا المنهج جنَّب محمد عبده نفسه الخوض في مسائل كثيرة انشغل بها متأخرو المتكلمين (مثل:الزمان، الحركة، السكون..)، وهي لا تستند إلى دليل نصي صحيح، ولا دليل عقلي صريح، وبذلك أراح العقل الإسلامي من التضخم المبالغ فيه الذي أصاب مدونة علم الكلام في عهوده المتأخرة، عهود التقليد والتكرار.
ـ لم يتطرق عبده لعدد من المسائل الكلامية التي كانت تشغل حيزاً كبيراً في اهتمامات المتكلمين من قبله: الإمامة، حكم مرتكب الكبيرة، عذاب القبر، خروج الدجال...، وأغلب الظن أنه تعمَّد عدم ذكر هذه المسائل لأنها مسائل إشكالية سبَّبت خلافات عديدة بين المسلمين في الماضي، وهو بسبب هاجسه التوحيدي الإصلاحي لا يريد استعادة هذه الخلافات، ويريد في مقابل ذلك الاكتفاء بالقدر الأدنى والكافي والبسيط المفهوم والمقبول من قبل الجميع من المسائل العقدية، لأن قوة العقيدة وقدرتها على الانتشار مرتبطة بشكل كبير ببساطة ووضوح وفعالية مبادئها، على أمل أن يجتمع المسلمون حولها بعيداً عن كل المسائل التي فرّقتهم، ومزقت وحدتهم. ونلاحظ هنا أنه عندما اضطر على خلاف منهجه إلى ذكر مسألتين كلاميتين مختلف فيهما "رؤية الله U يوم القيامة"، و" الكرامات" تعرّض لهما بكلمات موجزة محدودة، وبروح توفيقية، متجاهلاً خلافات المتكلمين العميقة في هاتين المسألتين، ومُظهراً توافق المتكلمين في هاتين المسألتين من حيث النتيجة والمآل.
وفي الحقيقة فإن الأمر لم يكن كذلك في أي يوم من الأيام، ولكن حرصه على توحيد المسلمين، والارتفاع بهم عن جملة هذه الخلافات، وآثارها السيئة هو الذي دفعه إلى انتهاج هذه النزعة التوفيقية القافزة فوق بعض حقائق تاريخ علم الكلام.
ـ تصور محمد عبده لتاريخ علم الكلام ومدارسه:
حاول محمد عبده أن يقدم لقرائه في مقدمة رسالته[17] تأريخا موجزاً لعلم الكلام متخذاً من هذا التأريخ وسيلة ضرورية للفت الأنظار إلى حقيقة هذا العلم، ومراحل تكونه، وتشكّل مدارسه عبر التاريخ، ودور الأحداث التاريخية والسياسية في ظهور الفرق، والطوائف الدينية، ومشيراً في الوقت نفسه إلى الأخطاء المنهجية التي أصابت فهم العقيدة والدين ليصل من خلال ذلك كله إلى المساهمة في تشكيل وعي علمي تاريخي للمسلم في العصر الحديث يساعده على التمييز بين الدين نفسه المحفوظ في نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، وبين الفكر العقدي الديني الذي يبقى في أحسن حالاته محاولات، واجتهادات بشرية لفهم العقيدة، واستيعاب مقتضياتها، وهذه الاجتهادات هي آراء غير معصومة وتبقى عرضة للخطأ والصواب شأنها شأن أي فكر بشري آخر. والمعيار العلمي الوحيد الذي توزن به هذه الاجتهادات هو مدى قربها من حقيقة النصوص، ومدى قدرتها على استخدام العقل بشكل علمي في فهم هذه النصوص بعيداً عن طرفي الإفراط والتفريط، وبعيداً عن قبضة أهواء النفوس، وضغوطات أهل السلطة ومصالحها.
بدأ محمد عبده حديثه عن تاريخ علم الكلام بالحديث عن دور رسول الله r في تبيين العقائد، ورد الشبهات عنها فقد كان عليه الصلاة والسلام "المرجع في الحيرة والسراج في ظلمات الشبهة "[18] وكذلك فعل بعده أميرا المؤمنين أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما حيث كان الناس في زمنهما يفهمون عقيدتهم من خلال "إشارات الكتاب، ونصوصه، يعتقدون بالتنزيه، ويفوضون فيما يوهم التشبيه، ويرون أن له معنىً غير ما يُفهمه ظاهر اللفظ"[19] .
واستمر الأمر على هذا المنهج السديد حتى حلَّت بالإسلام، وأهله فتنة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، التي فتحت الأبواب لرياح النزاع والشقاق بين المسلمين بسبب الصراع على الخلافة، ومحاولة الاستئثار بها حتى أدت إلى مقتل الخليفة الراشد علي كرم الله وجهه، وانتقال السلطان والحكم إلى بني أمية، وظهور فرقتي الشيعة والخوارج في أتون هذه الأحداث الدامية. غير أن شيئاً من هذه الأحداث الجسيمة، والفتن الرهيبة التي أصابت وحدة المسلمين، لم يتمكن من إيقاف سيل الدعوة الإسلامية، ولم يستطع أن "يحجب ضياء القرآن عن الأطراف المتنائية عن مثار النزاع، وكان الناس يدخلون فيه [ الإسلام ] أفواجاً ن الفرس والسوريين، ومنْ جاورهم والمصريين والإفريقيين ومنْ يليهم، واستراح جمهور عظيم من العمل في الدفاع عن سلطان الإسلام، وآن لهم أن يشتغلوا في أصول العقائد والأحكام بما هداهم إليه سير القرآن اشتغالا يُحرَص فيه على النقل، ولا يُهمل فيه اعتبار العقل، ولا يُغض فيه من نظر الفكر"[20] وهكذا ظهر علماء مخلصون انتهجوا هذا المنهج السديد الجامع بين النقل والعقل، من أمثال الحسن البصري (110هـ). ولكن لم يدم هذا الأمر طويلاً على ما هو عليه من الصفاء والرشد، بل ثارت في وجه الإسلام أعاصير من الشبهات أثارها رجالٌ دخلوا الإسلام دون أن يتمكنوا من سبر معانيه، والوقوف على حقائقه، وحاولوا في الوقت نفسه فهمه، وتأويله وَفق معتقداتهم التي كانوا عليها قبل الإسلام. وكانت أول مسألة اختلف فيها المسلمون بسبب هذه الشبهات القادمة إليهم من غيرهم، مسألة الاختيار، واستقلال الإنسان بإرادته، وأفعاله الاختيارية. ثم امتد الخلاف ليصل إلى سلطة العقل في معرفة الأحكام الدينية حتى ما كان منها فروعا وعبادات[21].
وفي خضم هذه الأسئلة، ومحاولة الإجابة عليها، ظهرت في تاريخ الإسلام مدرسة المعتزلة التي أبلت في الدفاع عن عقائد الإسلام بلاءً حسناً، ووقفت سداً منيعاً في وجه تسرّب الكثير من الخرافات، والأساطير إلى بنيتها الداخلية. ولكن وبسبب اعتماد المعتزلة على العقل كثيراً، وبسبب حماسهم الشديد للرد على ما يَرد على الإسلام من شبهات، أقبلوا على دراسة كتب الفلسفة اليونانية التي تُرجمت في أيامهم، وأخذوا منها "ما لاقَ بعقولهم، وظنوا من التقوى أن تُؤيَد العقائد بما أثبته العلم بدون تفرقة بين ما كان راجعاً إلى أوليات العقل [العقل الكوني]، وما كان سراباً في نظر الوهم، فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق حتى على أصل من أصول النظر، ولجّوا في ذلك حتى صارت شيعهم تُعد بالعشرات، وأيدتهم الدولة العباسية، وهي في ريعان القوة، فغلب رأيهم، وابتدأ علماؤهم يؤلفون الكتب، فأخذ المتمسكون بمذاهب السلف يناضلون بقوة اليقين، وإن لم يكن لهم عضد من الحاكمين"[22]. ثم أشار محمد عبده إلى فتنة خلق القرآن الكريم، وما حدث فيها من إهانةٍ لرجالٍ من أهل العلم والتقوى، وسفكٍ لدماء كثيرة بغير حق نتيجة لفرض المعتزلة رأيهم مستعينين بقوة الدولة العباسية التي كانت تناصرهم في ذلك الوقت[23].
ثم أشار محمد عبده في مقابل تطرّف المعتزلة إلى تطرف بعض مَنْ يواحههم من العلماء الآخرين، ودعوتهم إلى الاكتفاء بظاهر نصوص الشرع، مستبعدين أية محاولة لاستخدام الرأي والنظر في مسائل العقيدة والدين، وهكذا تشكَّل النزاع في الفكر الإسلامي آنذاك في ضوء نقيضين لا يأتلفان: تفسير عقلاني تجريدي، وتفسير دوغمائي منغلق على نفسه. ثم أشار عبده إلى ظهور فِرق الباطنية، ولجأت إلى التأويل المتعسِّف البعيد عن روح الإسلام ومقاصده، وقد أدى كل ذلك إلى تفرُّق المسلمين، وتشرذمهم إلى مذاهب، وشيع كثيرة "إلى أن جاء الشيخ أبو الحسن الأشعري في أوائل القرن الرابع، وسلك مسلكه المعروف، وسطاً بين موفف السلف، وتطرف مَنْ خالفهم، وأخذ يقرر العقيدة على أصول النظر.."[24] .
وبفضل هذا المنهج الجامع، والوسطي تمكن الأشعري، وأتباعه من صياغة أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، واستطاعوا إيقاف قوتين عظيمتين "قوة الواقفين عند الظواهر، وقوة الغالين في الجري خلف ما تزينه الخواطر، ولم يبق من أولئك، وهؤلاء بعد قرنين إلا فئات قليلة في أطراف البلاد الإسلامية"[25].
وهنا نلاحظ استحسان محمد عبده لمنهج الأشعري (ت 324هـ)، وطريقته في تناول قضايا العقيدة، وإقراره بأن للأشعري ومنهجه دوراً حاسماً في جمع الأمة على منهج وسطي جامع معتدل. وهذه الملاحظة تُظهر لنا خطأ منْ يحاول أن يُقدِّم محمد عبده على أنه رأس مدرسة الاعتزال الجديدة في العصر الحديث[26]. والحق أن محمد عبده قد أنصف المعتزلة عندما أشار إلى دورهم، وجهودهم الفكرية الحميدة في دراسة العقيدة الإسلامية، والدفاع عنها في وجه الشبهات التي أثارها المجوس، وأهل الكتاب في زمنهم، ولكنه قد عاب عليهم إفراطهم في استخدام العقل، والاستعانة بقوة الدولة لفرض آرائهم على الناس.
وفي الوقت نفسه فقد أنصف عبده الأشاعرة أيضاً بالإشادة بمنهجهم الوسطي المعتدل، ولكنه انتقد أيضا متأخري الأشاعرة لأنهم وقعوا بما وقع فيه المعتزلة عندما خلطوا الفلسفة، ومصطلحاتها بقضايا الدين والتوحيد ومسائلهما، ولأنهم حوَّلوا دراسة العقيدة إلى شكلٍ أجوف من الدراسة التقليدية الشكلية القائمة على التقليد والحفظ، الأمر الذي أدى إلى وقف تيار علم الكلام عن التقدُّم والازدهار[27].
وقد تطرق محمد عبده أثناء حديثه عن تاريخ علم الكلام إلى الفلسفة والفلاسفة الذين ظهروا في ظل الحضارة الإسلامية، وأكد أن الفلسفة باعتبارها محاولة لتحصيل "العلم والوفاء بما تندفع إليه رغبة العقل من كشف مجهول أو استكناه معقول"[28] فهي أمر مقبولٌ بل مستحسنٌ لِما فيها من "تقوية أركان النظام البشري بما يكشفون من مساتير الأسرار المكنونة في ضمائر الكون، مما أباح الله لنا أن نتناوله بعقولنا وأفكارنا في قوله {خلق لكم ما في الأرض جميعا} [ البقرة:29 ]، إذ لم يستثنِ من ذلك ظاهراً وخفياً، وما كان عاقل من عقلاء المسلمين ليأخذ عليهم الطريق أو يضع العقبات في سبيلهم إلى ما هُدوا إليه، بعدما رفع القرآن من شأن العقل، وما وضعه من المكانة له، بحيث ينتهي إليه أمر السعادة، والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع، وبعد ما صحَّ من قوله عليه السلام: ( أنتم أعلم بأمور دنياكم )، وبعد ما سنَّ لنا في غزوة بدر من سنّةٍ الأخذ بما صدق من التجارب، وصحَّ من الآراء "[29].
لكن مشكلة معظم فلاسفة المسلمين في نظر عبده أنهم وقعوا أسرى لمسلمات الفلسفة اليونانية، وقصروا معظم جهودهم على تقليدها من غير أن يفطنوا إلى مابين الروح الإسلامية التوحيدية، وبين الروح الهيلينية الوثنية من خلافٍ لايمكن تجاوزه. هذا بالإضافة إلى أنهم انجرفوا إلى ما لا ينبغي لهم من إخضاع الدين، ومسائله لمناهجهم في النظر، وبالتالي وقعوا في أخطاء أثارت عليهم عاصفةً من الاحتجاجات، ذهبت بريحهم، وسقطت "منزلتهم من النفوس، ونبذتهم العامة، ولم تحفل بهم الخاصة، وذهب الزمان بما كان ينتظر العالم الإسلامي من سعيهم"[30].
ومن هنا نفهم أن محمد عبده يقبل الفلسفة، ويشجعها، بل يقدِّم لها المشروعية الدينية الكاملة ـ كما فعل من قبل ابن رشد في كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ـ باعتبارها منهجا عقلياً لمعرفة الحقيقة، ودراسة الكون، واكتشاف أسراره بشرطين لا غِنى عنهما، أولهما ضرورة ابتعادها عن تقليد الآخرين تقليداً أعمى، وبشكل خاص تجنب إغراء النموذج اليوناني في التفلسف طريقةً، ومنهجاً، ومشكلاتٍ. وثانيهما: ضرورة اجتناب الخوض في مسائل الدين، فهذا الأمر يعود الحسم فيه إلى الدين ونصوصه، ومنهجه الخاص في تناول هذه المسائل[31].
وفي خاتمة تاريخ محمد عبده لعلم الكلام، أشار إلى ما ينبغي، من وجهة نظره، أن يكون عليه الموقف من هذا العلم، عندما قال: "والذي علينا اعتقاده، أن الدين الإسلامي، دينُ توحيد في العقائد، لا دين تفريق في القواعد، العقل من أشد أعوانه، والنقل من أقوى أركانه، وما وراء ذلك فنزغاتٌ من شياطين، أو شهواتُ سلاطين، والقرآن شاهدٌ على كلٍ بعمله، قاضٍ عليه في صوابه وخطله "[32].
وهنا نلاحظ البعد الإصلاحي في حرص محمد عبده على إشاعة الوحدة بين المسلمين، وحثهم على الجمع بين مقتضيات النقل الصحيح، والعقل السليم، والابتعاد عن ضغط الأهواء النفسية والفكرية، والإكراهات السياسية التي يمكن أن تبعد المسلمين عن هذا المنهج الجامع بين ركني النقل والعقل مع الاحتفاظ بأولوية النقل الثابت الصحيح على العقل في خاتمة المطاف.
ـ مفهوم التوحيد عند محمد عبده:
يحتل مفهوم التوحيد مركز الصدارة في "رسالة التوحيد"، وهذا الاهتمام أمر مفهوم وطبيعي إذا عرفنا أن التوحيد هو جوهر العقيدة الإسلامية، وهو الغاية العظمى، والمقصد الأسمى من بعثة الرسول r، ورسالة الإسلام كلها، يقول محمد عبده مُعرِّفاً التوحيد، وموضحاً أهميته القصوى: "أصل معنى التوحيد، اعتقاد أن الله واحد لا شريك له، وسُمِّي هذا العلم (علم التوحيد) به نسميةً له بأهم أجزائه. وهو إثبات الوحدة لله في الذات، والفعل في خلقه الأكوان، وأول وحده مرجع كل كون، ومنتهى قصده، وهذا المطلب كان الغاية العظمى من بعثة النبي r، كما تشهد به آ
تاريخ النشر : 28-07-2008
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.