آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

العجز عن الإدراك إدراك

أبو يعرب المرزوقي


تمهيد:

من يسمع الشيخ وجوقه يظن الدفاع عن العقل والعلم الهدف الأول والأخير للفرقة التي أسسوها. ومن يسمع إليهم سيتوهم الدين في خطر لأني نفيت دور العقل في طور ما وراء العقل خلطا بين التجاوز النقدي للوثوقية الميتافيزيقية وما يفهمون من عموميات فكر ما بعد الحداثة. ها نحن إذن في حضرة أبطال يتصدون للذود عن الأول بإطلاق قدرات الثاني: إنها عقلانية القرون الوسطى الميتافيزيقية تعود في القرن الحادي والعشرين. لذلك فقد رأيت أن أفضل عنوان يمكن أن يساعد على فهم القصد مما يتصورونه هجوما على العقل يعرض العقائد للخطر هو حكمة الصديق " العجز عن الإدراك إدراك"[1].

ويمكن أن نعتبر هذه المحاولة مجرد تحليل لهذه الحكمة ليس لفكر الشيخ سعيد فودة فيها إلا دور العينة الممثلة لضديدها: وبضدها تعرف الأشياء. لذلك ومرة أخرى سأسمح لنفسي بشكر الشيخ وجماعته للداعي الذي وفروه حتى أعالج ما كنت قد أجلته إلى حين وآن الآن أوان علاجه دون إبطاء رغم أن الكثير من محاولاتي السابقة شرعت بعد في العمل المتقدم على هذه المجادلة كما نبينه بنصين انتخبناهما [2] من عملين سابقين لبيان طبيعة التجاوز الخلدوني التيمي للفكر الكلامي الفلسفي التقليدي لنقله من علم الكلام إلى كلام العلم وطبيعة أخذ فكرهما منطلقا مع المحافظة على موقفي النقدي من أعمالهما.

إن عنوان "إنارات" الذي وسمت به تعليقي على آراء الشيخ البوطي أرائه في  سهمي من الحوارية التي دارت بينه وبيني حول أزمة أصول الفقه[3] لم يعد مناسبا إذ يبدو غير مفيد في الكلام مع من يزايد في العقلانية وفي الغيرة على الأمة. فالشيخ البوطي حتى وإن جاء في تعليقه ما يقارب القول بخروجي من الملة[4] لم يزايد علي في العقلانية ولا في الحرص على الأمة بل بقي كلامه متزنا لكونه صادرا عن تقوى صادقة من عالم حقيقي في مجاله وبحدود تصوراته له. فهو لم يبدأ كلامه بدرس في عقيدة الجماعة ولم يزعم تعليمي الإسلام ولم ينسبني إلى فرقة سبق له أن كفرها ولم يزعم أنه بطل السنة والجماعة. فكان بسمْته الخلقي وبما عرف عنه من روية رافضا أن يتحول  إلى رئيس فرقة تحارب الفرق الأخرى ولم يجند من طلبته ثلة تشبه "حليقي الرؤوس" يوظفهم في ملاعب الجدل للتصفيق والرقص بمناسبة كل تفوه ينبس به. لذلك فحالة الحوار مع الشيخ البوطي لا تقبل المقارنة بحالة الكلام مع هذا الشيخ وجماعته.

وليس معنى ذلك أن الحوار مستحيل بل هو ممكن بشرط أن يصحبه  توضيح لعلل امتناع الفهم من قبل  من لم يخرج من أفق فكر يختلف بالكيف وليس بالكم عما يجري في الفكرين الفلسفي والديني اللذين يبدوان محدين من العقلانية لتعين جوهر العقلانية المدركة لحدود العقل أي بلغة الصديق الفكرين اللذين فهما مدلول "العجز عن الإدراك إدراك".  وتلك هي العلة التي جعلتني أرفض الجدل المباشر مع الجماعة من البداية(المحاولة الأولى) بل فضلت أسلوب العلاج النسقي لقضايا العقلانية المدركة لحدود العقل دون تبادل الردود  إلا بصورة عرضية. وعلى نفس النهج أواصل عملي في هذه المحاولة: لن أرد مباشرة على أحد بل الرد يكون بالقصد الثاني خلال علاج المسائل التي تعني مشروع الإصلاح المتواصل منذ نزول القرآن إلى يوم الدين.

وحتى لا يفهم القراء أن وعد الشيخ بتغيير أسلوبه دال على أوبة من رد فعل مشروع على عدوان صدر مني فأجبره على ما سلف منه فإني سأذكر بسرعة في هذه المقدمة بمعطيات القضية ليتبينوا أن الشيخ بقي كما بدأ بخلاف وعده الحالي بل هو ازداد غرقا في رد الفعل حتى إنه بدأ رده بدرس في الإسلام ليعلمنا أصول ديننا فضلا عن تعليمنا الفلسفة والمنطق فجزاه الله خيرا عن الجميع. ولأذكر بما سعيت إليه في المقال الأول الذي رد عليه الشيخ[5] فاتحا الرد بما سماه طليعة ومتكلما عن القنابل والكر والفر ومقدما النصائح التربوية في شكل ملاحق وخاتما إياه بما يمكن أن يسمى بنفس الاستعارة الحربيةمؤخرة بعد أن سقط القلب والجناحين في ما لا يقبل الوصف من الرفعة العلمية والسمو الخلقي: بات الملك مكشوفا كما يقال في الشطرنج.

ولحسن حظنا فقد جمع أحد المصفقين للأستاذ نصوص الشيخ واعتبر نصوصي ضميمة ألحقها بها فجزاه الله خيرا. فلعل هذا الجمع يبين للقراء كيف كان أسلوب الشيخ من البداية وكيف هو لا يزال إلى الغاية التي إذا كنت قد فهمت لن تتوقف إلا يوم فراقه الدنيا بعد عمر طويل. وها أنا أكتب ما لا أعطيه وظيفة إناراتي على تعليق الشيخ البوطي بل ما يفيده عنوان المحاولة: بيان أهمية الموقف الذي أدافع عنه باستعارة عبارة للصديق حول دلالة العجز عن الإدراك من حيث هو أساس العقل والعقد في آن. فلست غافلا على أن الظلمات قل أن يبددها نور مهما كان ساطعا. الوعد بالتخلي عن أسلوب الردود السابقة لا يكون صادقا إذا ناقضه نفس النص الذي أعلنه: بدأ بدرس في العقيدة وانتهى بتقريرات يظنها هجوا وهي في ما صح منها عين المدح مرة أخرى وحتى في ما لا يصح لأنها ذم لصاحبها !  إنه يبشر ولا يحاور ! إنه ينذر غيره ولا يحرر فكره. ويحق له أن ينذر وأن يبشر فلعله قد ظن أن إخراجه إياي من الملة وصف لواقع فألزم نفسه بأن يعالجه: لذلك فهو قد صار قائد ضمائر !

والمعلوم أن دعواي في ما أحاول المشاركة فيه أساسها أن هذا الإصلاح ليس مشروعا شخصيا بل هو مشروع متصل لم يتوقف منذ نزول القرآن حتى وإن اقتصر همي على بعض علامات طريقه اخترت منها الغزالي وابن تيمية وابن خلدون. ذلك أن المرء مهما حاول لا يمكن في حياته القصيرة أن يختص في كل شيء: لذلك فعمل هؤلاء الثلاثة (عملهم الفلسفي وليس كل عملهم) مع اليسير من العلم بالأصلين أعني القرآن والسنة يكفياني ولا أحتاج إلى الأسماء التي سماه المتكلمون المعاصرون وآباؤهم من المتكلمين الماضين[6].  واتصال المشروع سيبين للقراء أن همي النظري ذو الصلة المباشرة بشروط النهوض لا يمكن أن يلتقي بهم الشيخ المقصور على مضغ غير واع لتاريخ شبه علم مات منذ قرون-ككل العلوم التي لم تتجاوز نفسها إلى شروط تواصل الحياة بسبب تكلس فكر أصحابها وخلطهم بين تأسيس شروط سلطانهم والبحث العلمي الذي هو سلطان المعرفة والأمم سلطانهما الحقيقي-كما أبين لاحقا بعلاجات سريعة حول أهم النقاط التي يتعالم فيها الشيخ والتي سأجعلها موضوعا لواحدة من المسائل التي يحتوي عليها هذا العمل.

والمعلوم أن غالب المسلمين لا يخفى عنهم من أين يأتي الخطر الذي يهدد الإسلام بتنويم المسلمين وإبعادهم عن شروط القيام الفاعل. فهو لا يعاني إلا ممن يزعمون أنفسهم حراسه الحريصين عليه خلطا بين تصوراتهم والإسلام وبين مصالحهم ومصلحة الإسلام أعني أولئك الذين يريدون إبقاء فكر الأمة ميتا وإخراج قواها الحية من العصر بإحياء الثرثرة الكلامية والفقهية (عند المتكلمين باسم التأصيل التراثي) والصوفية وحتى الفلسفية الوسيطة (عند المتكلمين باسم التحديث التراثي) بدائل من الإبداع في مجالات القيم الذوقية والرزقية والنظرية والعملية والوجودية أعني ما يتقوم منه نسيج العمران كما يصفه القرآن الكريم[7].

ولنبدأ العلاج الفعلي في هذه المحاولة. فكما أسلفت لن أجادل بمنطق رد الفعل بل سأرتب المسائل التي أثارها الشيخ بصورة تدرجها في مشروع الإصلاح الذي أسعى إلى الإدلاء بدلوي فيه بما يوفقني الله إليه تاركا اختبار ما وعد به الشيخ من تغيير في الأسلوب إلى غاية المحاولة بعد أن يتبين للجميع علل عدم فهم الشيخ طبيعة الرهان الذي يدور حوله مصير الأمة في العالم الحالي. فما يقدمه باسم العلم وما يدعي أنه علمني إياه لو كان حقا مطلعا على علوم العصر وليس مقتصرا فكره على محفوظات القرون الوسطى[8]لاستحى من نفسه ولفهم أن محاولاتي متقدمة على ما يتصور نفسه علة كافية ليكون مؤثرا في ما أفكر فيه: بيان محاولات فكرنا التحرر من العوائق التي حالت دون فهم الثورة القرآنية في العقل والدين وشرطه فهم عبارة الصديق التي هي أفضل تفسير للآية السابعة من آل عمران.

وسأتبع الخطة التالية موزعا ما له دلالة من اعتراضات الشيخ فودة على صنفين صنف يغلب عليه الوجه الكلامي وصنف يغلب عليه الوجه الفلسفي أدرجهما في مسألتين أعم هما ما أسعى إليه في محاولتي المشاركة المتواضعة في مشروع الإصلاح حتى يكون للعلاج منهج واضح فلا تتوالى القضايا بمنطق فيض الخاطر:

1-هدف المسألة الأولى: تحليل الوجه الباطن من المرض الذي تعاني منه حضارتنا لأبين دعواي التي تقول إن الفنون التي أسست لهذا السلطان الوسيط قد ماتت جميعا وأن هذا السلطان زائل لا محالة وأن السعي إلى توجيه شباب الأمة إلى هذه العلوم الزائفة بديلا مما يمكن أن يكون ما كان أصحابها يسعون إليه في محاولاتهم الأولى المتلعثمة قبل أن تحل محلها علوم راشدة ألغت الحاجة إليها هو عين الهروب من المسؤولية التاريخية للاستئناف التاريخي الكوني الذي تسعى إليه الأمة. وبهذه المسألة ألحق اعتراضات الشيخ الكلامية على ما قدمناه في محاولاتنا السابقة.

2-هدف المسألة الثانية: بيان تكوينية الطاغوتين الكلامي والفلسفي وشروط التحرر منهما بمعناهما التقليدي أعني الدغمائي لما له من صلة بعلل التخلف الفكري في مستويي الهم الفكري الإنساني عامة أعني الفكر من حيث هو أداة لتحقيق شروط الاستخلاف في الدنيا وتلك هي وظيفة العمل من حيث هو عبادة لتعمير الدنيا والفكر من حيث هو غاية الاستخلاف المعد للحياة الروحية مدخلا للآخرة وتلك هي وظيفة العلم من حيث هو عبادة لتعمير الآخرة. وبها نلحق اعتراضات الشيخ الفلسفية والمنطقية على ما قدمناه في محاولاتنا السابقة.

3-هدف المسألة الثالثة: علاج مسألة الحرية النظرية والعملية فلسفيا والحرية العقدية والشرعية دينيا وشروطها القرآنية مركزين خاصة على شرط تحرير المؤمنين من الاستبداد الروحي المستعبد للإنسان بتبليد الأذهان وقتل الوجدان قتلا يسر حلفه مع الاستبداد المادي المستعبد للأبدان: وحال الأمة منذ قرون ليست إلا ثمرة هذه العلوم المزعومة وابن خلدون وابن تيمية والغزالي كانوا أول من ثار عليها لاكتشافهم المصائب الناتجة عنها ومحاولة تقديم البديل دون جدوى.

4-هدف المسألة الرابعة: محاولة العلاج الفلسفي لأم المسائل التي جعلت أمة تعدادها ربع الإنسانية حاليا تعجز بمجموعها على مضاهاة جماعة تعدادها أقل من واحد في المليون من سكان المعمورة في كل مجالات الإبداع الخمسة كما نبين إن شاء الله. وفيها نحدد نتائج الاستبداد الروحي والاستبداد المادي لنعين شروط التخلص منهما فنقترح حلولا تمكن من إصلاح صورة العمران بوجهيها ومادته بوجهيها.

5-هدف المسألة الأخيرة: اختبار وعد الشيخ بالتغيير الأسلوبي وبيان أنه نموذج التعين التام لأعراض المرض الذي أقعد حضارتنا بدراسة التلاعب الأسلوبي في خطاب السعاة إلى تأسيس سلطان ديني في الإسلام لإفساد ثورة القرآن التي حررتنا من السلطة الروحية الوسيطة. والكلام في هذا الوجه الظاهر يثبت أن الشيخ لم يستطع الوفاء بما وعد به من تغيير في الأسلوب ولم ينتقل إلى الحوار الهادئ حول علل التخلف الذي يعاني منه فكرنا وارتباط ذلك بحربه على الخروج من الظلمات.

وستكون خاتمة البحث ثمرة لتعليقنا السريع على وعد الشيخ وتقريراته في  ذيل بحثه ومؤخرة جيشه الذي انفرط عقده حتى ولو لم تظهر شروخ القلعة بعد. ويكون ذلك برهانا على أنها بمضموناتها تمثل أعراض المرض الذي تعاني منه الأمة لكونها إسقاطات للأدواء التي أفضل وصف لها حددته الآية السابعة من آل عمران. وشروخ أسطورته ستتسع بالتدريج لأنه لا يمكن لشباب في القرن الحادي والعشرين أن يبقى لمدة طويلة متعلقا بالبحث في كيفية الاستواء على العرش خاصة إذا أدرك دلالة الحكمة القائلة "العجز عن الإدراك إدراك" ففهم قصد الصديق رضي الله عنه.

والله أعلم.

 

                                      المسألة الأولى: أمراض الحضارة الإسلامية وصلتها بقضايا الكلام

ما الوجه الباطن من هذا المرض الذي تعاني منه حضارتنا؟ إنه الفنون التي أسست لهذا السلطان الوسيط بين المؤمن وربه السلطان الذي ألغى كل شروط عمل القيم القرآنية في التاريخ الفعلي حتى لم يبق من الإسلام عند المسلمين إلا الاسم. والحمد لله أنها قد ماتت جميعا وأن هذا السلطان زائل لا محالة وأن السعي إلى توجيه شباب الأمة إلى هذه العلوم الزائفة بديلا مما يمكن أن يكون ما كان أصحاب هذه العلوم يسعون إليه في محاولاتهم الأولى المتلعثمة قبل أن تحل محلها علوم راشدة ألغت الحاجة إليها هو عين الهروب من المسؤولية التاريخية للاستئناف التاريخي الكوني الذي تسعى إليه الأمة.

هل الناطقون باسم الإسلام في عصرنا سواء كانوا ممن يدعي الكلام باسم أصول الدين أو باسم أصول الفقه أو باسم التجربة الصوفية أو باسم المعرفة الفلسفية بمعاني هذه الفنون الأربعة كما مورست في العصر الوسيط أو ممن يتكلم  باسم هذه الفنون جميعا يميزون بين التاريخ لعلوم لم يعد لها وجود وممارسة علوم حية بحياة علاجها لمشاكل العمران الإنساني الحية ؟ هل يدركون أن نسبتها إلى ما يمكن أن يكون بديلا منها  ليست من جنس نسبة علم الهيأة القديم إلى علم الفلك الحديث فحسب بل هي من جنس نسبة التنجيم إليه ؟

ومع ذلك فلست أرفض هذه الفنون لذاتها حتى لو ظنها أصحابها علوما حية وليست تاريخا لعلوم ماتت بل إني أرفضها بسبب تحويلهم إياها إلى كلام باسم الإسلام ينطقون به نطق السلطة الروحية التي أعادت الكنسية إليه ولا يكتفون بالكلام عن تجاربهم الخاصة. لو لم يجعلوا تجاربهم الخاصة بدائل من المرجعية بدائل تلغي ممارسة المسلمين الحية للعلاقة المباشرة بها وتزيل كل محاولة للتجربة  الروحية التي هي عين التدين والتعبد والحرية الخلقية لما كان لي معهم كلام.

فهم يختلقون صيغا تلغي شروط الحياة الروحية  الفطرية التي تقتضي الصلة المباشرة بالمرجعية ذاتها لتكون جزءا من الحياة الفطرية المباشرة في الممارسات اليومية للمسلم. لذلك فإن هذه الصيغ قد جعلت المسلمين يحيون الأخلاق والقيم بالوكالة أعني بتوسط صائغي العقائد والشرائع والطرق والفلسفات. فكان ذلك وأدا دائما لثمرة التدين الأساسية في حياة المسلمين: لم يعد الإسلام بمرجعيتيه جوهر كيانهم الروحي والوجودي في لحظات تطورهم التاريخية المختلفة بإطلاق عما يمكن أن تكون هذه العلوم الميتة قد كانت مناسبة له وكافية لعلاجه في البعض منها[9]. وإذن فما أرفض هذه الفنون لأجله هو أنها صارت فنونا غير ذات موضوع ومن ثم فهي موضوع تاريخ لممارسة توقفت صلتها بالحياة بل هي ليست حتى تاريخا بالمعنى العلمي لكلمة التاريخ[10].

إن التاريخ لصيغ العقائد وأصولها الكلامية والتاريخ للفقه وأصوله والتاريخ للطرق الصوفية وأصولها والتاريخ للفلسفة الوسيطة وأصولها من الاختصاصات الأكاديمية التي لا تخلو منها جامعة في العالم المتحضر. لكنه تاريخ لممارسات انتهت وحان لمجتمعاتنا أن تمارس البدائل منها ممارسة حية ومنها يمكن أن تعود الحياة إلى ما انقطع من تاريخنا الحي حتى يجبر الكسر بين عصرين يفصل بينهما كسر وهوة سحيقة أولهما سرعان ما طوته ظلمات الانحطاط (ثورة الصدر) والثاني منهما لم يبدأ بعد (ثورة الاستئناف) لما يتسم به الانحطاط من قوة ممانعة.

فلنتكلم إذن في الفنون الأربعة التي تسمى علوما ويتكلم باسمها من يزعم نفسه من حماة الإسلام والبيضة والتي أنفي عنها استئهال صفة العلم وأكتفي باعتبارها لم تتجاوز منزلة الفن وقد يصبح ما كانت إرهاصات له علوما: إنها صنفان كلاهما مزدوج والصنف الأول يغلب عليه الوجه النظري والصنف الثاني يغلب عليه الوجه العملي.

فأما الصنف الأول فهو: 1-فن أصول الدين 2-وفن الإلهيات.

وأما الصنف الثاني فهو: 3-فن أصول الفقه 4-وفن الذوقيات.

1-فن أصول الدين: ولنبدأ بأهم هذه الفنون في سلم المعارف الإسلامية. فلا وجود لأمر اسمه أصول الدين تصاغ في وصفة كلية للعقيدة تكون بديلا من نص القرآن وسنة الرسول إلا في عقول أصحابها. وإذا تجاوزت هذه المنزلة الفكرية تعبيرا عن فهم أصحابها صارت محاولة لفرض فهم معين للقرآن والسنة على المؤمنين ليكونوا تابعين لتجارب أصحاب هذه الصيغ. لو قال أصحابها إنها فهمهم لأصول العقيدة كما وردت في القرآن لما ناقشهم أحد ولاعتبرنا ذلك اجتهادهم الشخصي في التعبير عن تجربتهم الروحية وفهمهم للنص القرآني والسنة المحمدية. أما أن يزعموا أن ذلك هو العقيدة الإسلامية التي على الجميع أن يتبعها فإن النتيجة لن تكون إلا ما نبه إليه الرسول: تكون ما ينيف على السبعين فرقة والبقية معلومة. علما وأن الفرقة الناجية هي الأغلبية الساحقة التي لا تفهم هذه البدع أو التي تفهم أنها لا تعني شيئا إلا لأصحابها ومن ثم ففكرها لم يتلطخ بها فبقي وجدانها سليما وتلك هي علة نجاتها ومعناها.

2-فن الإلهيات: ولنثن بأهم هذه الفنون في سلم المعارف الفلسفية. فما قلناه عن أصول الدين يقال مثله عن الإلهيات ومن ثم فلا حاجة للإطالة والتكرار. وللحقيقة فإن الفيلسوفين المؤسسين للإلهيات أعني أفلاطون وأرسطو لم يزعما أبدا أنها علم بل هي عندهما من مجال التأسيس الجدلي لشروط النظر والعمل وهي من جنس "هذا ما رجح لدي" فكانت فرضيات تأسيسية لأنساق فكرهم وليست حقائق علمية نهائية إلا عند مفكري عصر الانحطاط اليوناني الذي ورثه علم الكلام المسيحي الشرقي وعلم الكلام الإسلامي من بعده. إنها ليست من جنس "هذه هي الحقيقة". لكن ذلك لم يبق كذلك بل إن التخلف الذي أصاب الفكر اليوناني المتأخر والذي ورث العرب منه خليطا أعده العهد الهلنستي خليطا من الفلسفة والكلام المسيحي أفسد هذه النظرة فجعل الميتافيزيقا تصبح معدودة من العلوم بل من أصح العلوم في حين أنها فرضيات جدلية لا غير. والمهم أن الفلسفة والكلام أصبحا متمازجين في الحضارة الشرقية والغربية على حد سواء: وذلك هو أكبر أدواء العقل الإنساني لأنه أفسد الوجدان والفرقان في آن. وهذا صحيح إلى الآن. الفلسفة الغربية الحالية كلام مسيحي متخف.

3-فن أصول الفقه: ولنثلث بثاني العلوم الإسلامية في ترتيب الشرف بين العلوم. وهذا أمر لن نطيل الكلام فيه لأننا عالجناه في الحوار مع الشيخ البوطي. فلا وجود لأصول فقه كذلك من الأصل ثم خاصة بعد أن صارت كل المجتمعات الإسلامية ممارستها الحقوقية والقانونية خاضعة للتشريع الوضعي الذي تحدده سلطها التشريعية وأحزابها ولم يبق من أصول الفقه إلا تاريخه أو التحيلات التي تستعملها بعض الأنظمة لإضفاء الشرعية الشكلية على تشريعاتها الوضعية. ويمكن أن يعود لأصول الفقه شروط الحياة أعني الممارسة الحقوقية العملية والنظرية أي لو أن المسلمين صارت لهم حياة حرة تعود فيها وظيفة التشريع الحر للأمة فلا تبقى حكرا على المتسلطين من الأمراء والعلماء. أما المقابلة السخيفة بين شرع الله وشرع الأمة فهي مغالطة مقصودة أم وهم في أذهان من لا يفهم معنى شرع الله: فشرع الله لا يتحقق في التاريخ إلا إذا جعلته أمة شرعها بمعنى "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فتكون الأمة الصالحة أداة تحقيق شرع الله.الشرع السماوي مشروط بالاستخلاف الذي يجعل الأمة المستخلفة بشرعها الأرضي محققة للشرع السماوي: الأمة تشرع لنفسها بأن تختار التشريع السماوي مرجعا لتشريعها سواء في ما فيه نصوص فيكون تشريعها هو إجماعها على فهم معين لها أو في ما ليس فيه نصوص فيكون تشريعها هو إجماعها على ما تراه ملائما لأخلاق القرآن والسنة فتعمله من دون حاجة لقياس فقيه يصبح مستبدا بإرادة الأمة بمجرد الزعم انه يفهم شرع الله دون سواه.

وفي كل الحالات فالتشريعان يكونان متطابقين بمقتضى حصر العصمة في إجماع الأمة وليس في إجماع العلماء والأمراء. وإجماع الأمة ممكن التحقيق وهو معنى الشرعية الشورية أو الديموقراطية بمعناها القرآني[11] لأن ما يشير إليه المعترض القائل بالعصمة من امتناع المشاركة الجماعية سخافة وحل الغزالي القائل بالاختيار مع تركه للصدف لم يعد ضروريا بل يمكن تنظيم الاختيار المعبر حقا عن الحرية (فضائح الباطنية). وبذلك يكون الحائل الحقيقي دون تحقيق شرع الله ليس شرع الناس سواء كان مباشرا أو بالإنابة الحرة بل هو شرع من يزعم تمثيل شرع الله بديلا من الناس أعني العلماء والأمراء. فالأولون استبدوا باسم علم زائف والثانون استبدوا باسم عنف جارف: كلاهما ظن ما عنده كاف ليستبد بجعله مغنيا عن الأصلين (القرآن السنة) ومن ثم فقد أُلغى خيار الأمة المنظم والصريح لتعيين من تراه صالحا من العلماء ومن الأمراء لتوليته أمرها الذي هو شورى بينها. وبذلك فالعلماء والأمراء ألغوا فرض العين (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التشريع الإجماعي في كل مجالات الحياة وليس في السياسة وحدها) فجعلوه فرض كفاية ومن ثم فهم قد نفوا ما حددته الآيات من 104 إلى 110 من آل عمران: من تحديد الخيرية الإنشائي (104) إلى تحديدها الخبري (110).

4-فن الذوقيات: ولنختم بالفن المشترك بين علوم الملة وعلوم الفلسفة أعني الذوقيات: فهو الفن الذي برزت فيه للعيان كل عيوب الفنون الثلاثة السابقة لأنه جوهرها الحقيقي أعني ما تؤول إليه من تحريف وصفت علتية الآية السابعة من آل عمران أعني تحويل الدين إلى أداة تسلط على الشعوب بدل حقيقته التي لأجلها وجد أي عين التحرير من كل سلطان عدى العبودية لله. ذلك أنه لا وجود لعلم الذوقيات بل الكلام عنها نفسه لا ينبغي أن يعدو الاعتراف باستحالة علمها لأنها من الوجدانيات. وسواء انطلقنا من الفكر الديني أو من الفكر الفلسفي فإن هذا النوع من المعرفة هو بالذات مدلول حكمة الصديق" العجز عن الإدراك إدراك" إذا فهم حقا وكان سويا. لكن إدراك هذه الاستحالة انقلب-بمفعول فتوة إبليس- في أغلب الحالات إلى ضده: فيصبح شطحا وإدعاء للعلم المتجاوز حتى للوحي.

وهو يصبح كذلك لأنه يجمع كل ما تعجز دونه الفنون الثلاثة المتقدمة عليه فيجعله مجال كلامه زاعما أن له حلا له اكتشفه بالحدس الذوقي مغن عن الدليل. لذلك تجده عندئذ يصبح مصبها جميعا بشرط أن تكون قد تخلت عن حكمة الصديق فصارت عكس علامتي تبين الرشد من الغي: فهي تصبح إيمانا بالطاغوت الذي هو الإنسان المصنَّم أو المتأله (فتوة إبليس التي تجعل الجبة ليس فيها إلا الله) وكفرا بالله لأن تأليه الإنسان تأنيس للإله وهو ذروة وحدة الوجود الحلولية التي بدأنا كتابنا في شروط نهضة العرب والمسلمين بدحضها ممثلة بالمثالية الألمانية ورأسها كنط الذي زعم الشيخ بفهم السقيم أني تابع له ! ومن زعم أن الله حل فيه لن نعجب من أن يسعى إلى استعباد غيره: فكل الخلق عبيد لله وهو الله وإذن فهم عبيد له !

ورغم التواصل بين هذه الفنون الأربعة والتكامل بين زوجيها النظريين ثم بين زوجيها العمليين فإننا سنكتفي بالفنين النظريين أعني يما يدور عليه الكلام هنا لأن الفنين العمليين عالجناهما في غير موضع. سنتكلم على الزوج النظري أعني الفلسفة والكلام بعد تحليل دقيق لتجاوزهما الخلدوني (لعل قصيري النظر يدركون أن الدليل الذي يطالبون به لا يكون بمجرد الشاهد بل بعرض النظرية التي تضفي عليه المعنى الذي قصده صاحبه). فكل الأدواء الصادرة عنهما قبل الثورة النقدية التيمية الخلدونية نعلمها منذ أن دحض ابن خلدون الميتافيزيقا من حيث مطلوباتها المشتركة مع الكلام:"أما ما كان منها من الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا. ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه"[12].

وهذا هو الكلام السلبي[13] عند ابن خلدون وابن تيمية وأبي حامد عودة منهم جميعا إلى الموقف السلفي ولكن على أسس نظرية علمية وليس بمجرد الرفض الفطري المستند إلى بادئ الرأي أعني الكلام الذي يبين امتناع الكلام وهو من ثم فلسفة نقدية وليس فلسفة ميتافيزيقية ولا علم كلام ميتافيزيقي من جنس ما يقول به صانعو صيغ العقائد كالتي بدأ بها الشيخ درسه الموجه إلينا في هذا الرد المكذب للوعد الذي تصدره الوعد بتغيير أسلوب الحوار. وحتى لا يطول الكلام في المسألة سأكتفي بما حصل عند أحد هؤلاء العلماء عندما كان القصد التحرر من علم الكلام وليس الكلام في ما لا يمكن الكلام فيه بعلم. فلن أضيع الوقت في الكلام عن المواقف من الكلام لأن كلام هذه الفرقة في الأمر من المماحكة لكأنهم ينتظرون مني أن أكتب لهم رسالة أورد فيها الدليل المعتمد على القيل والقال وليس على مقومات نسق فكري ابن تيمية وابن خلدون مقوماته التي تجعل كل عملهما الفكري مشروطا بالتحرر من آفة الكلام.

فلو اقتصر الكلام على ما تسمونه الدفاع عن العقيدة ضد أعدائها لما سمى علما بل لكان مجرد كلام دفاعي ضد مهاجم بنفس السلاح. فلا مهاجم العقيدة بقائل قولا علميا ولا الراد عليه كذلك: كلاهما يعرض إيديولوجته ويرد على ضديدتها. وأقصى ما يصل إليه الكلام عندئذ هو الفعل السلبي للرد على نفي الإيمان بالعقل أي إنه تحييد للعقل بالعقل في مجال الإيمان وهو على مزاياه النسبية لا يعد علما. فلا ينبغي له أن يدعي أنه علم بل هو جدل نقدي إذا لم يتجاوز هذا الموقف. ولا بأس منه لأنه يحد من عاهة المتكلمين في العقائد ببيان امتناع الكلام فيها كما يبين النص الذي أوردناه أعلاه. وهو ما لم يتجاوزه الفكر النقدي إلى الآن خاصة بعد أن تبين أن ابن خلدون مثله مثل ابن تيمية يشترط في المعرفة العلمية لعالم الشهادة الاحتكام إلى المحسوسية الممكنة أو التجربة الممكنة فينفي من ثم بصورة جذرية معرفة عالم الغيب لانعدام هذا المعيار المحتكم إليه.

الخلاف هو حول الكلام الموجب: أي الكلام الذي تسمونه علم أصول العقيدة بمعنى إثبات وجود الله وخلود النفس وخلق العالم إلى غير ذلك من المسائل بالعقل. فهذا ما لو قال به أحد لانتهى إلى نفي الحاجة إلى النبوة ولقال أمرا لا يمكنه الوفاء به. والكلام الموجب الذي تسمونه تصحيح العقائد هو صوغها بالمنطق الصناعي وهو ما أسميه عقائد ما أتى الله بها من سلطان بل هي أوثان سماها المتكلمون وآباؤهم الفلاسفة الدجمائيون لأنه يؤدي إلى نظارات يصنعها البعض ويريد أن يلبسها لغيره حتى يرى المعتقدات بعينيه. وذلك هو معنى السلطة الكنسية مصدر كل الوسائط بين الضمائر والمعبود الأوحد. وهو أمر فضلا عن امتناعه عقلا ضار خلقيا: لأنه يجعل سرائر البشر بيد البعض منهم فيصبح البعض للبعض أرباباولما كان الله قد قال "ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون" (آل عمران80)" فحري بنا أن نستنتج بأنه ينهانا عن اتخاذ أوثان العلماء أي صيغهم للعقائد أربابا لئلا نكفر !

وحتى نحلل المسألة بدقة علمية فلننطلق من ملاحظتين تتعلقان بتصور ابن خلدون لشروط تجاوز علم الكلام والتخلص من الكلام في مسائل عالم الغيب[14] التي تجمعها مسألة المتشابه بالمصطلح القرآني: وكلتا الملاحظتين تكررت في فصل التوحيد وفي فصل كشف الغطاء عن المتشابه في القرآن والسنة من الباب السادس من المقدمة.

فأما الملاحظة الأولى فتقبل القراءة الشرطية رغم صيغتها التقريرية في ظاهر النص بمقتضى صلتها بثانيتهما كما سنرى. وللإشارتين علاقة وطيدة بالدور الذي ننسبه إليه في القفزة النوعية التي حدثت في نظريات التفسير والتأويل عند المسلمين بفضله وبفضل ابن تيمية. فهو أولا يشير إلى أن علم الكلام أصبح الآن عديم الفائدة للجماعة بعد أن استقرت العقيدة: "وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزيه الباري عن الكثير من إيهاماته وإطلاقاته. ولقد سأل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم من المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء ؟ فقيل قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب"[15]

وقراءة هذه الإشارة شرطيا يعني أنه إذا كان علم الكلام مجرد دفاع عن العقيدة وكانت العقيدة قد استقرت فلا فائدة منه بعد ذلك عدى تمرين المتعلم على الجدال. وهذا يعني أن ابن خلدون لم يكن راضيا عن انحطاط الفكر الديني النظري إلى منزلة علم الكلام المقصور على الدور الدفاعي. لكن هذه القراءة تبدو تحكمية لو اقتصرنا فيها على هذه الجملة لأنه يبدو من التحكم أن تُقلب الخبرية إلى شرطية.

ما دفعنا إلى ذلك ليس التحكم بل قرينة الإشارة الثانية. ففي فصل التوحيد بالذات الذي هو عادة موضوع علم الكلام-بعد أن قال بعدم فائدته !- قدم ابن خلدون حلا نظريا لم يسبق إليه لتأسيس العقيدة على البحث النظري العميق لعلاقة أدلة الوجود الإلهي بخاصية عقلية إنسانية فكان حله منافيا تمام المنافاة لمقدمتي الميتافيزيقا وعلم الكلام مقدمتيهما الأساسيتين اللتين ظلتا سائدتين إلى حدود سيطرة حلول النقد الكنطي بل وإلى الآن.

فلو كان ابن خلدون فعلا يعتقد أن ما شغل الكلام محله من فكر فلسفي نقدي للكلام في الإلهيات هو الذي ينبغي النهي عنه وليس انحطاطه في شكل علم الكلام لما قدم حلا للمسائل الكلامية من منطلق غير معهود في علم كلام عصره وفي فلسفته. لذلك فهو يفعل من منطلق فلسفة نظرية جديدة يمكن وصفها قبل الأوان بالفلسفة النقدية لكونها قد حققت قفزة نوعية هي التي نعتبرها ثورة خلدونية حقيقية تضاهي ثورة ابن تيمية التي وصفنا في غير موضع. وهي في الحقيقة مكملة لها لأنها خالية مما شاب كلام ابن تيمية من صراع كلامي اضطره إليه عصره وعدم مشاركته خصائص الأسلوب الخلدوني الناتجة عن تجربته الدبلوماسية. وهذا الحل هو اعتبار الإيمان بوجود الله:

1- ليس ناتجا عن التدليل العقلي بالتعليل السببي لحدوث العالم كما يرى الفلاسفة وأخذه عنهم بعض المتكلمة لاحقا.

2- ولا هو ناتجا عن التدليل العقلي بالترجيح الجهوي له عن العدم كما شاع عند المتكلمين  وأخذه عنهم بعض الفلاسفة لاحقا.

والحل الثوري الذي يقترحه ابن خلدون مقابل لذلك تمام المقابلة فهو:

 1- عين حاجة العقل البشري للتخلص من اللجوء إلى قطع التسلسل السببي قطعا تحكميا لعدم وجود غاية للتسلسل عقلا بخلاف ما يزعم الفلاسفة.

 2- وعين حاجته للتخلص من اللجوء إلى قطع الترجيح الجهوي قطعا تحكميا لعدم وجود  مرجح مقبول عقلا كذلك بخلاف ما يزعم المتكلمون.

فيكون الإيمان ليس ناتجا عن الاستدلال بالتعليل السببي وقطعه بل عن نفي التعليل العقلي بالسببية وهو ليس ناتجا عن الاستدلال  بالترجيح الجهوي بل عننفي الترجيح العقلي بجهات الوجود ومن ثم فهو قفز وجودي مطلق إلى العلة الحرة الخالقة للتحرر من سلاسل التعليل أصلا سواء كان التعليل سببيا أو جهويا. يقول ابن خلدون:" فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا (استعمال برهان هنا لا ينبغي أن يفهم منها الدليل العقلي بل البرهان بالمعنى القرآني بدليل كلمة يكشف الواردة بعدها مباشرة بدل يثبت أو يبرهن أو يدلل) عن التوحيد على أقرب الطرق والمآخد ثم نرجع إلى تحقيق علم الكلام (....) فنقول: اعلم أن الحوادث في عالم الكائن
تاريخ النشر : 05-08-2008

6652 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com