الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين وبعد،
كنت قد بدأت الردَّ بطريقة غير التي أنوي الآن التزامَها، وربما كانت الطريقة المعزوفُ عنها متأثرة بما خلفه الأسلوب الهابط الذي كتب به الدكتور، خاصة فيما افتراه في تحليله النفسي والسياسي والعلاقات المزعومة مع أمريكا وإسرائيل والشيعة وأعداء الأمة والتطلع إلى الثروة! فتعساً لهكذا فلسفة ينتج عنها مثل هذا التحليل، وتعساً لشخص يدعو إلى التجديد في الدين ونبذ أسباب الفرقة، وهو يمارس هذا النوع من التعسُّف والافتراء، وتعساً لشخص يزعم أنه ملتزم بالدين يَقْوَى على أن ينطق بتلك التهم في حق من خالفه في مجرد مسائل علمية.
ولما أعدت النظر قلت في نفسي لعلَّ النعرة العصبية التي يتسم بها الدكتور قد ألهبت النار في قلبه ونفسه فبادر إلى ما خرج منه، إذ ما تصور أن أحدا في نحو نصف عمره! يُظهر له هذا الكمَّ الهائل من الأغاليط في مقالة هائجة كتبها ظانا نفسَه قد جدد أصول الدين فيها، وخاصة أنه يتكلم بعدة ألسنة ويطلع على الجديد من العلوم المعاصرة! وينوي البدء في مشروع تجديد الدين وإكمال مشروع([1]) الإمام أبي حامد الغزاليِّ! ثم إذا به يتفاجأ بتهافت مقولاته وادعاءاته هكذا.... فالتمست له من هذه الناحية عذرا ما، ولم أعذره فيما نسبه إليَّ من أباطيل لا أنوي جعلها محل إنكار لتهافتها في نفسها، ولظهور كذبها عند المنصفين، ولتعالينا عن الرد على الظلم والافتراء بمثله، فقد تركنا الأمر إلى خالق الخلق، هو يقتص لنا ممن نسب إلينا ما لم نلابسه بل ما نعاديه! ويأخذ بحقنا ممن ظلمنا.
ولهذا، -ولملاحظتي تكراره أنه ما أراد إلا النصيحة([2])، والتعاون- فقد تنزلت عن ذلك المقام وأعدت النظر بعدما قطعت شوطا في الرد، وعزمت على أن أهتم أصالة بالأمور التي تبدو علمية أو لها ملابسة بذلك. وقررتُ أن ألتزم تجنبَ ما يعوق الإنصاف، وتحفيز النعرات واستفزاز بواطن الآفات([3])، فإنَّ علماءنا من أهل السنة قد نصوا على ذلك في كتب البحث والنظر.
ولضيق نفسي من تطويل الكلام معه فسوف ألتزم الإيجاز بلا إخلال بحول الله.
ومع أن كلام الدكتور فيه الكثير من الكلام المكرر والتهويلات غير اللائقة، والمغالطات المكشوفة، فأكثر من نصف كتابته تتعلق بأشخاص وأهواء نفسية مع تحاذق في الكلام بما لا ينبغي، وتعليل لموهوم بما لا يفي، ولضيق وقتنا عن تتبع تلك الترهات، ولما تجرُّ إليه من المنازعات التي لا تليق بنا، فقد عزفنا عن تلك الطريقة.
أولا: بيان خلاصة مذهب أهل السنة في هذه المسائل([4])
ما يطلق عليه حقائق الأشياء بملاحظة الخارج، يصدق على أمور، الذوات القائمة بنفسها (سواء كانت لنفسها أو لا)، والأعراض الوجودية الحادثة القائمة بالذوات، والنسب الثابتة بين ما مضى.
والإنسان لا يخلو إما أن يزعم القدرة على اكتناه حقائق الذوات القائمة بنفسها، ويلزمه معرفة ما سوى ذلك، أو لا، فإما أن يعرف الأعراض فقط، ويلزمه إمكان معرفة النسب، أو يزعم معرفة النسب فقط، أو ينكر ذلك كله.
ونسبة الذات إلى الخارج هو المقصود بالوجود بمعنى الكون، وهو ليس عين حقيقة الذات بل نسبة لها، وإنما حقيقُتها عينُها الثابتة في الخارج([5]).
وحقائق الأشياء ثابتة عند أهل السنة، لا بالمعنى المقابل للتغير، كما يتوهم بعض القاصرين، بل بما ينفي النسبية المطلقة والعندية.
ولا يقول أهل الحق بوجود الكليات من حيث هي كذلك في الخارج، وأما في العقل، فالتصورات الكلية ثابتة، على الأرجح، ومعنى كليتها عدم منع نفس مفهومها من صدقها على كثيرين، فالمطابقة عندهم ليست مرآتية، بل صدقية، لا كما يتوهم بعض الفلاسفة.
وأهل الحقِّ يثبتون إمكان العلم بحقائق الأشياء، ولا يجزمون بتحقق حصول ذلك في الجميع بل في البعض، فيشمل العلم بالنسب والأعراض دون الذوات ومن جهة الكون لا الكنه فإن فيه نظراً.
وما يكفي لتحقق المعرفة هو حصول أحكام ونسب صادقة على الأمر في نفسه، فلا يقولون باشتراط وجود الماهيات في العقل أو عنده لحصول العلم، ولا يشترطون إدراكا تاما للحقيقة القائمة على ما هي عليه في نفس الأمر.
وحقيقة الله تعالى عند أهل الحقِّ مغايرة ومخالفة لحقيقة المخلوقات، وحقيقة صفاته ليست كحقيقة صفات المخلوقات وكذلك حقيقة أفعاله.
وأحد أسباب العلم للبشر هو العقل وهو صفة المخلوق أو هيئة راسخة فيه([6])، وقد جعله الله تعالى سببا عاديا لمعرفة نوع من الحقائق؛ فيمكن معه العلم بالنسب والأعراض ويشمل ذلك الوجود بمعنى الكون ولو في حق الله تعالى([7]).
والعلم البديهي (تصديقا كان أو تصوراً) مستند إلى الحقايق الوجودية –من جهة ما-، ولذلك فالإنسان الموجود المدرك لوجوده غير المغالط وغير المعاند يُبْدَهُ في بعض الأحيان بمعلومات لا يمكنه التخلي عنها ولا سبيل إلى إنكارها بلسانه إلا المعاندة أو التغافل، ككون الشيء هو ما دام هو، وامتناع التناقض أي الجمع بين النفي والإيجاب. وقال أهل الحقِّ بتصورات بديهية وتصديقات بديهية قطعا للدور والتسلسل المفضيين للسفسطة.
وفرقوا بين البداهة وبين ما يفترضه الواحد بإرادته أو يجعله جعلا، بأنها لازمة لأصل الوجود، ولا برهان نظريا عليها، فبرهانها([8]) بعرضها على أصل وجودك، ومنه خاصية كونك عاقلا، فلا تستطيع معارضة استحالة التناقض إلا بعناد أو جهل، ويستحيل بناء علم صادق على ما في الخارج بناء على فرض وجود التناقض([9]) فيه وإن توهم بعض المتفلسفة إمكان ذلك أو حصوله!
وقوانين الاستحالة والجواز والإمكان تابعة لأصل الوجود من حيث عاكس من بعض حيثياته للأمر في نفسه، فالممكن حال كونه موجوداً، يبقى في نفسه حاصلا على وصفه الثابت له في نفس الأمر([10])، فما لا يمكن تعقل انتفائه واجب لذاته، إما بالبداهة أو بالنظر، وما لا يمكن تعقل وجوده كذلك فهو محال، وما لا يمنع الوجود والانتفاء لذاته فهو الممكن لذاته([11]). ولا يكون الأمر في نفسه ممكنا بجعل الله تعالى إياه كذلك، وليس يكون الأمر في نفسه واجبا بجعل الله تعالى إياه كذلك، ولا يكون الممتنع في نفسه ممتنعاً بالإرادة والجعل، فهذه أحكام ذاتية لا جعلية([12]).
والله تعالى عندما جعل العقل، أعطاه القدرة قابلية على استكناه قدر من الحقائق ولو من جهة ما ولو باللوازم، وجعل له سبيلا لذلك([13])، ولا يخرج عن قدرة الإله أن يخلق العلم مباشرة في نفس عبد يختاره، ولكنه أجرى عادته على أن يخلق العلم في النفس عقيب النظر الصحيح، والعلم المخلوق لله تعالى كاشف عن ذاته([14]) وعن متعلَّقه.
فانتفى التماثل بين علم الإنسان وعلم الخالق من حيث الكنه، ومن حيث الطريق، فلا سبب لعلم الله تعالى كما لا يماثل علمُه علمَ المخلوقات، فانتفى التشابه والتماثل بذلك مع ثبوت الأحكام في رتبتي الوجود.
وعندما نقول إن الله تعالى يعلم امتناع اجتماع النقيضين، ونقول في الوقت نفسه، يعلمه الإنسان كذلك، فهذا التماثل في الحكم الثابت للعلم، لا يستلزم التماثل ولا التشابه في العلم الإلهي والعلم الإنسان من حيث الحقيقة والكنه، ولا من حيث شمول المتعلقات، ولا يستلزم إثبات سببٍ وطريقةٍ لثبوت العلم لله تعالى. وهذا مثال على المقصود عند الأشاعرة بالاشتراك اللفظي.
ويستدل العقل -على ما لم يشاهده الإنسان بحواسه الباطنة والظاهرة- بما أودع الله تعالى فيه من قدرة قابلة لذلك، ليدرك ما لم يعلم، وهذا ما يسمى بالنظر والتدبر والتفكير، والنظر عند أهل الحق ينتج علما إذا صحت أركانه ولو في الإلهيات من الجهة التي ذكرناها([15]).
وخالفوا من زعمَ أنه لا يمكن الوصول إلى اليقين العلمي لا التحكمي في الإلهيات([16])، وبعض الغافلين يظنون أن هذا القول لم يطرأ إلا على يد بعض الفلاسفة المحدثين([17])، لكنه مقول به منذ القدم كما نصَّ عليه علماؤنا في متون كتبهم([18])، وردوا عليهم في كتب الكلام.
وبناء على ذلك، فقد أسسوا علم التوحيد، لإثبات ما يمكن إثباته بالعقل والنقل في حق الله تعالى، والرد على ما ينسب إليه مما لا يليق به جلَّ شأنه. ولم يشترطوا لإقامة العلم بالإلهيات أن يكون بالعقل فقط كما زعم بعض الجهلة! بل أوجبوا جواز ذلك وحصوله بالنقل أيضا، ولو في بعض المواضع التي لا تؤدي إلى دور مردود. ووضعوا قانونا لما يستدل عليه بالعقل والنقل، وما يستدل عليه بالعقل فقط، وما يستدل عليه بالنقل فقط([19])، وفي جميع هذه الجهات يمكن الوصول إلى أدلة قاطعة عندهم لا مجرد ظنون وخطابات وشعر كما يتوهم البعض([20]).
وهذا الكلام موافق لما ثبت بالقرآن الكريم الذي جاء فيه إثبات الحجج والبراهين من الأنبياء على أقوامهم، في باب الإلهيات، وأما ما زعمه البعض من أن الإلهيات لا يمكن البرهان عليها، فهو مخالف للكتاب العزيز في ذلك ومما جاء فيه (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(الأنعام:83)، فما الحجة غير البرهان. وفي أيِّ شيء كان إبراهيم عليه السلام يتكلم مع قومه، ألم يكن يتكلم في أحكام الإله من الوحدانية وعدم المشاهبة للمخلوقات. وكذلك لما حاج من ادعى الألوهية، وطالبه بالإتيان بالشمس من المغرب بناء على وجوب عموم قدرة الإله، وقد ادعى خصمه الألوهية فطالبه بمقتضاها، وإن مخالفة الكفار بالإتيان بالبرهان تنافي دعوى من يزعم عدم إمكان البرهان على مطالب الألوهية. وما معنى تكرار قول الله تعالى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) رداً على كثير من الدعاوى الباطلة في باب الإلهيات، أيأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بأمر مستحيل في نفسه!!
وما فائدة النظر الذي طالبنا به الكتاب العزيز إن لم يكن من أجل إقامة الحجة والبرهان.
وليت شعري ما الفارق بين من نفى البراهين في هذا المقام، وزعم المسلمات والمواضعات فقط، المبنية على تحكم، وبين الملحدين من العلمانيين المنكرين للألوهية والأديان للسبب نفسه، ولذلك فقد قال العديد من العلماء إن هذا الموقف، وهو أساس الموقف المذهب التجريبي الوضعي مع خليط آخر من بعض المذاهب السفسطائية العديدة المعاصرة، وهذا هو الطريق الواسع المفضي إلى الإلحاد([21]).
ثانيا: تحليل د.أبي يعرب لمذهب ابن تيمية
اهتم ابن تيمية في كتبه أساسا بالعقيدة التي يعتقد بها، وهي عقيدة التجسيم والتشبيه، وخلاصتها تدور حول ذات الله تعالى وأفعاله، وقد كتب أغلب ما كتب ليثبت أن الله تعالى موصوف بالحد والجهة والحركة والنقلة وحلول الحوادث بذاته ...الخ.
هذا هو الهدف الأساس في أعمال ابن تيمية([22]).
ولكنه في أثناء ذلك، اضطر إلى أن يتكلم في أمور عارضة وخارجة عن مقصده، رأى أن مخالفيه أو من يخالفهم هو يقولون بها، ويعتمدون عليها، وهي عبارة عن طرق نظرية وفكرية، ولذلك اضطر لأن يتكلم على تلك الأمور، ويخوض فيها.
- ومن هذه المباحث كلامه في الحقيقة والمجاز.
- كلامه في المنطق، وفائدته، وما ينسبه إلى مخالفيه من أنهم يثبتون الكليات في الخارج، من حيث ما هي كذلك، وفي أثناء مناقشته لمن يعارضهم في هذا الباب صدرت منه مقولات هي أقرب ما تكون إلى المنطق الاسمي الذي تجلى في الزمن المعاصر على يد بعض علماء الغرب.
- كلامه في بعض الأدلة العقلية التي إذا صحت بطل مذهبه، كدلالة قيام الحادث في الذات على حدوثها، وأن الموجود هل من شرطه أن يكون جسما لكي يتحقق خارجا، ونحو ذلك.
- وتكلم في نظرية المعرفة، وأسباب العلم المعتبرة، كالحس والعقل والخيال، وأعاد العقل إلى الحس والخيال، بمعنى أنه اشترط للشيء لكي يكون علما أو يصح أن يعلم أن يكون مما يمكن أن يحسَّ أو يتخيل. وهذا هو جوهر الطريقة التجريبية الوضعية التي تنفي كل ما يخرج عن مدى التجربة الممكنة.
إذن بحث ابن تيمية العقائدي قاده بالضرورة إلى البحث في بعض الأسس المنهجية والنظرية بحسب حاجته لذلك، وهذا أمر طبيعي، بل إننا قد بينا ذلك كله في بعض كتبنا التي أصدرناها منذ حوالي عشر سنوات.
إذن يوجد تلازم بين ما يعتقد به من عقائد، وبين هذه المقولات التي يقول بها، فكل من يقول بتلك العقائد لابد قائل بهذه الطرق المعرفية، إذ لا يمكنه تصحيح القول بالعقائد إلا بهذه الطريقة. ولكن الأمر لا ينعكس، فليس كل من قال بهذه الطريقة، فهو قائل بتلك العقائد، إذ إن هذه الطريقة لا ينبني عليها إلا أمور معينة:
-أما من يؤمن بالإله، فإنه يضطر اضطرارا إذا أراد أن يلتزم هذه الطريقة من النظر والفكر
إما إلى إثبات أن الله تعالى جسم كالأجسام ومماثل ومشابه للمخلوقات. ومع أن ابن تيمية حاول الادعاء أنه يمكنه إثبات وجود الله تعالى بأدلة عقلية، إلا أن هذا غير صحيح، والأدلة ليست بأدلة أصلا، وإن قامت فهي تثبت بالضرورة جسمية الله تعالى ومشابهته للمخلوقات، وهذا مخالف تماما لما صُرِّح به في الشريعة. ولذلك يصرح دائما في كتبه بأنه لا موجود إلا جسم أو قائم بجسم، ويعمم ذلك القول على الممكنات والواجب، وبعض أصحابه وأتباعه يفهمون ذلك وبعضهم لا يفهمون. وأما د. أبو يعرب فيظهر لي أنه غريب تماما عن هذه المباحث، فهو كأنه دخل بلدا غريبة عنه، ولذلك تراه يتخابط عند الكلام على مسائل محددة ومشخصة بعينها، فهو لا يملك أن يتكلم إلا في العموميات الخيالية والافتراضات الإبداعية من عنده.
وإما إلى البحث عن طريق آخر لإثبات الإله كالقول بالمعرفة المسبقة به، وعدم الحاجة إلى الأدلة على إثبات الإله. فيلجأ إلى أمور يخالف بها حذاق هذه الطريقة من الفلاسفة والمجسمة معا.وهذا هو أصل إشكال أبي يعرب. ولعله حتى الآن لا يتصوره تصورا تاما لأنه لا يعرف ولا يصدق بعد بأن ابن تيمية مجسم، ولذلك تراه في مقالته الأخيرة والأولى يحاول افتراض بعض التأويلات والتقريبات لتصوير مذهب الرجل بغير صورة التشبيه. ولن يستطيع إلى ذلك سبيلا.
- أما من يعتقد بأنه لا وجود إلا للمحسوسات وللمجربات، ولا يعتقد بالإله، فإنه لا يمكنه إثبات الإله بناء على هذه الطريقة من النظر والفكر. بل هي تسدُّ طريق إثبات وجود الله على الحقيقة، وإن زعم ابن تيمية خلاف ذلك.
فقد عرفنا الآن وضع د. أبي يعرب في هذه الإشكالية.
نفي البرهان العقلي على العقائد
ولذلك فقد رأيناه في هذه المقالة والتي سبقتها قد تخابط كثيرا عندما شرع يقرر كلام ابن تيمية: في كلام الله وما زعمه من أنه مخلوق، وما نسبه إلى ابن تيمية من أنه لا يريد البرهان على وجود الله وصفاته بالعقل، بل غاية ما يريده إنما هو معارضة خصومه فيما يقولون. وقد نقلت له نصا واحدا فقط من ابن تيمية يصرح فيه أنه يقول بإثبات الصفات بالعقل، ويسعى إلى إقامة ذلك وتنجيزه فعلا على طريقته ملتزما جميع اللوازم التي أشرنا إليها.
وقد رأينا د. أبا يعرب لم يلتفت إلى هذا الأمر بل أهمله تماما وكأنا لم نذكره، وكأنه لم يعتمد عليه ولم يزعمه دعوى عريضة في مقالته السابقة، بل صرنا نراه يحاول التنصل مما قاله في بعض المواضع، مدعيا أنه لم يرد ذلك الأمر إلا بالعرض، وهذا تناقض، لأنه إنما اعتمد على نحو هذه المقولات ليعارضنا في خلافنا مع ابن تيمية وطائفته.
يعني إن د. أبا يعرب زعم أن ابن تيمية لا يريد أساسا إلا معارضة الخصوم، وليس من مذهبه ولا طريقته أن يثبت الصفات وإلا لصار متكلما مثلهم، وابن تيمية أعلى من أن يكون متكلما لأنه فيلسوف لا متكلم.
هذا هو خلاصة دعواه الهزيلة التي أبطلناها له بما عزف عن مجرد الالتفات إليه وإعادة النظر فيه.
ولكنا نرى إرهاصات التفلت من مقولات ابن تيمية إن ثبتت عنده في المستقبل في بعض كلامه الحالي، لأنه يقول إن جهة اهتمامه بابن تيمية ليست هي الناحية العقائدية بل المنهجية التي سلكها في نقد الأسس التي تبنى عليها المعارف (في المنطق والعقل..إن بقي ثمة ما يسمى عقلاً عنده).
ونحن نتوقع للدكتور أبي يعرب أن يقع في تناقضات واضحة مع ابن تيمية في هذا المجال، بيان ذلك كما يأتي:
فهو إن أصرَّ على دعواه أن ابن تيمية لا يوافق على الاستدلال العقلي على العقائد (الذات والصفات والأفعال والنبوات...) فسوف يصطدم -عندما يخوض في تفاصيل المسائل إن جرؤ على ذلك!- مع ابن تيمية وأتباعه في هذا الزمان وفي كل زمان، وإن غير رأيه ذلك فسوف يتناقض مع ما قاله هنا. وعلى الأول إن أصرَّ على رأيه المزعوم، فسوف ينتهي به المطاف مع من يوافقه على رأيه -إذن لا بدَّ أو يوافقه على ذلك أناس يغترون به وبأقواله- إلى أن يصير فرقة جديدة من الفرق المنتسبة إلى الإسلام، ويصبح ديكا حقيقيا تامَّ التديُّك! وسوف يحصل تعارض في جوانب عديدة بين هذا الديك ودجاجاته، مع الديك الأصلي الذي تفقه عن بيضة إحدى دجاجاته ودجاجاته اللاتي يتظاهرن باسمه في هذا الزمان([23]).
ونرى هذا التناقض قد بدأ ظهوره في هذا الرد المزعوم، فقد صرَّح في بعض المواضع أن ابن تيمية قد وقع في بدعة أيضا عندما صاغ العقائد بصورة مذهبية خاصة، وإن حاول أن يعتذر له بأنه كان مضطرا لذلك بحسب زمنه([24]).
والباعث للدكتور إلى هذا القول ليس هروبه من التأثر بالكنيسة الشرقية أو الغربية على حسب زعمه، بل الحقيقة الظاهرة للعيان أنه لا يريد للعقائد أن تصير معيارا بين الناس، ولا يريد لها إلا أن تكون بين الإنسان وبين ربه([25])، فليعتقد كل واحد بما شاء إذن وكما يشاء، ولا يجوز لواحد أن يعترض على غيره في اعتقاد مطلقا، ولا أن يصحح له خطأه فيها، لأنه لا يوجد ضرر مطلقا في الاعتقاد عنده مهما كان صورته. وإن صحَّ هذا الفهم فليقل لنا الدكتور المحترم كيف يفترق عن العلمانية –المعاصرة الممهدة للإلحاد- التي يطلق عليها اسم التنوير أحيانا وأسماء أخر أحيانا أخرى!
وهناك وهم آخر راسخ في ذهن د. أبي يعرب، وهو أنه يظن أنه الوحيد الذي فهم ما فهم من ابن تيمية، من أنه لا يقول إلا بما في حدود الحس والتجربة الممكنة، وما يؤول إليه منطقه من قرب إلى الاسمية والتجريبية والوضعية المعاصرة، ولذلك تراه يعلي صوتَه بذلك في كل آن، والحقيقة أنا صرَّحنا بذلك في العديد من المواضع في الكاشف الصغير وفي غيره من الكتب، والدروس، وقد قال بذلك غير أبي يعرب من الكتاب المعاصرين، والسابقين الذين ألفوا في منطق ابن تيمية. ولكن د. أبا يعرب يصرُّ دائما على أنه لا يعلم الناس إلا من خلاله.
ولذلك فإنه يعتقد عدم علمنا بجهل الوهابية ومن ينتسب إلى ابن تيمية بحقيقة الرجل، أعني ابن تيمية، والحال: إنا أعلنا منذ زمان بعيد وما زلنا نقول إن الوهابية ما زالوا بعيدين أشواطا عديدة عن فهم ابن تيمية وآلات مذهبه الذي يقول به، نعم هناك بعض منهم يعرف تماما مقالته ومذهبه ويلتزم بها، ولكن هؤلاء قليلون في مقابل الجاهلين به ممن ينتسبون إليه، ويقاتلون من أجله على جهل!
ولكن أبا يعرب لا يعرف أيضا حقيقة اعتقاد ابن تمية ولا أهمية عنده لذلك، كما قلنا له في الرد الأول، لأنه لا يهمه عقيدة أي فرقة من الفرق الإسلامية، بل إنه لا يهمه أساس العقائد التي يفرَّق بناء عليها بين الإسلام وبين غيره من الأديان الحالية.
فالدعوة التي يقوم بها د. أبو يعرب والفكر الذي يروج له، سيساعد –في النهاية- من جهة على معرفة ابن تيمية ومن جهة أخرى سوف تكون عاملا على انشقاق بعض أتباع ابن تيمية عن نصرته وابتعادهم عنه، وإن لم يحدث ذلك الآن فسوف يحدث في المستقبل حالما يتمكنون من معرفة مقالته([26]).
وكذلك فإن من سيفهم حقيقة مقالة أبي يعرب، ويتمسك بها، فلن يمكنه أن يتمسك بكامل مذهب ابن تيمية لما يوجد من تعارض أظهرنا بعض أصوله، كما لن يتمكن أبو يعرب نفسه من ذلك. بل ربما لن يتمكن من التمسك بأي مذهب إسلامي مطلقا! كما يصرح د. أبو يعرب نفسه!
التجسيم والتشبيه
لقد اتضح عند العقلاء أن التجسيم لا يكون فقط بالتصريح الواضح بالجسمية، بل بإثبات لوازم الجسمية لله تعالى، فإن من لوازمها الحد والامتداد في الأبعاد، ونحو ذلك، وكذلك التشبيه فليس من شروط نسبته لواحد أن يصرح به تصريحا واضحا فقط، بل إن أثبت لوازمه القريبة الواضحة غير المنفكة، فهو مشبه وإن أنكر ذلك، فمن قال بحلول الحوادث في الله تعالى، ومن قال إن صفاته الوجودية حادثة، أو أنه يتحرك كالأجسام وباقي المخلوقات من مكان إلى مكان، وهكذا، فإنه مشبه وإن لم يعترف بذلك بلسانه.
والمشكلة عند المرزوقي أنه لا يريد أن يلتفت –ولعله لا يعرف حتى الآن- إلى أن ابن تيمية يثبت –صراحة- تلك اللوازم، ولذلك يستغرب ممن نسب إليه التشبيه أو التجسيم.والحقيقة أن مذهب التجسيم لازم للمرزوقي أيضا –حسب نظريته في المعرفة- فضلا عن ابن تيمية لو كان عارفا، ولعله يعرف فيعترف قريبا.
وقد ظهر للناس أجمعين أنه لا يعرف مذهب ابن تيمية العقائدي ولا يهتم بذلك على الأقل حتى الآن، ولذلك تراه يخلط في كلامه على القدم النوعي وقدم القرآن الشخصي، أو قوله بمخلوقية القرآن، ولا يعلم أنه يتخابط مع ابن تيمية في كثير من كلامه من حيث يظن أنه ينصره ويسوغ له!
ابن خلدون والغزالي
وموقفهما من علم الكلام
لن يستطيع د. المرزوقي ولا غيره أن يأتي بدليل واحد على أن الغزالي قد ذمَّ علمَ الكلام ذماً مطلقاً في حق جميع الناس، أو أنه نفى فائدته كذلك، وكذلك في حقِّ ابن خلدون.
ولذلك فإنَّ من يوهم الناسَ اعتماده على رأي الغزالي في ذلك أو على رأي ابن خلدون، فإنه واهم قطعا، وسوف يضطر إما إلى التعنت في التأويل –إذا أحضر نصاً لهما- ويلجأ إلى الكلام البارد المطول الذي يسقم النفسَ عند قراءته، ويمل القلب، أو إلى إطلاق الكلام إطلاقا والابتعاد عن استجلاب الشواهد من كلامهما خوفا من الوقوع في التناقض الواضح.
والحقيقة أن غاية ما يقوله هذان العالمان موافق لما يقوله غيرهما، من أن عامة الناس بحاجة إلى علم الكلام إلى قدر معين، وتنتفي الحاجة –عند هؤلاء- إليه عند بيان العقائد وانتهاء البدعة والمبتدعة، واضمحلال الشبه والتشكيكات الصادرة من الملحدة.
أما طلاب العلم والعلماء فيحتاجون إليه على قدر الحفاظ على أركان الدين، والتمهيد لتأسيس طلاب علم –يصبحون علماءَ- ليقوموا بهذه المهمة عند شيوع الفتن والشكوك.ولذلك فإن الغزالي وغيره يقول بأن معرفة علم الكلام بهذا القدر فرض كفاية لا فرض عين.
وهذا هو موقف علماء الإسلام قاطبة.
ولما كتب كتاب إلجام العوام، لم يكن يقصد أكثر من ذلك.
وأما التجاؤه إلى التصوف فلأنه رحمه الله تعالى بعد تصويب اعتقاده في الله تعالى ومعرفته المحق من المبطل في العقائد، بواسطة علم الكلام، أراد أن يطرق سبيل الإخلاص والعمل الباعث على الطمأنينة والتعبد وهذا هو طريق التصوف، والصوفية من قبله ومن بعده، يجمعون بين العلم والعمل، ولم يكن هو رحمه الله شاذا من بينهم إلا عند من لا يعلم أحوالهم. فلم يكن تصوف الغزالي رجوعا عن الكلام ولا رجوعا عن العقائد، ولو صح ذلك لوجب عليه أن يعلن عن ذلك في كتبه، ولكنا رأيناه قد استمر في الحضِّ على ما كتبه أولاً وعلى الطلب من الناس الرجوع إليه، فكيف يستقيم للزاعمين أن ينسبوا إليه خلاف ذلك إلا بوهم قائم فيهم، أو غاية يسعون إليها!
البديهيات
لقد بينا سابقا أن المقدمات البديهية لا سلطان للنفس عليها، ولا هي متوقفة على الإرادة والتواضع، بل هي لازمة لأصل التعقل، ولكن المعاندين يتكلفون إنكارها لما تنتابهم من شهوات.
ومن أبطل البديهيات من أصلها تعذر عنده البرهان على العقائد مطلقا، وهذه سمة السفسطائية المنكرين للعقائد، وهي سمة بارزة على وجوه العديد من فلاسفة هذا العصر، ولذلك ينادون بعدم فائدة أي علم برهاني على وجود الله تعالى وصفاته، فلا حجة لهم على ما يزعمون أنهم يعتقدون به، إنما هي مسلمات ومصادرات ومواضعات([27]).
ولا يهمنا إن كان البعض لا يقول بالبداهة، فنحن نقول بها، وعدم قولهم بها، سفسطة، ودعواه أن العلم الحديث قد أثبت ذلك، فلا معنى له، لأنه إن كانت هذه بديهيات فلا معنى لإثبات عكسها، وإن لم توجد بداهات فلا معنى لقوله بالبرهان على أنه ليست ببديهيات!
وأما زعمه أن هذا من مكتشفات العلم الحديث أو العصر الحديث([28]) فلا معنى له، إن هو إلا تهويل لا يمرُّ إلا على السذج، فلا معنى لقوله إن العلم الحديث قد اكتشف تلك الأمور، فوصف الحديث في هذا المقام غير مؤثر، لأن الإنسان قديما وحديثا، وجد من أفراده من قال بهذا الرأي الكاسد، وهؤلاء هم المعاندون أو السفسطائية، والقائلون بذلك الرأي في العصر الحديث لم يقولوا به إلا لذلك. والقضية برمتها لا علاقة للعلم التجريبي بها سواء كان قديماً أو حديثاً إنما هي قضية فلسفية وكلامية لو كان يدرك الفرق. وكلامه يذكر بتبجح العلمانيين والماديين الذين ما رأيناهم يعرفون من العلم إلا اسمه.
وكما يزعم بعضهم أنه لا دليل على إثبات وجود الله تعالى، فيوجد بعض الناس ما يزالون قائلين بانه هناك برهان على عدم وجود الله، وأما نحن فنقول بأن البرهان ثابت على وجود الله تعالى. وبعض هؤلاء القائلين مصيب وبعضهم مخطئ، لا يوجد ميزة لواحد على الآخر بوصفه بأنه موافق للعلم الحديث وغيره لا، بل مجرد ادعاء هذا الوصف فهو مبني على سفسطة ظاهرة، ومغالطة مكشوفة. لأن العلم الحديث من حيث هو مستند إلى التجربة العلمية والقياس ليس من شأنه أن ينصر قولاً من هذه الأقوال لأن هذه المسألة ليست من مسائله ولا آلة لديه للكشف عن الحق في نفسه فيها.
والحاصل أن واحدا من هذه الأقوال هو الحق وغيره الباطل.والحق والباطل لا يقاسان بميزان الزمان الحديث والقديم، بل يقاس هذا بالبرهان إلا عند م
تاريخ النشر : 05-08-2008
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.