آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

مستقبل الإسلام: الإمكانيات والتحديات والآفاق

هشام منوّر


لم يكن (الإسلام) بوصفه ديناً ومنظومة حضارية حية ليحوز كل هذا الاهتمام والمتابعة لولا احتواؤه على عناصر ومقومات ذاتية تؤهله لتبوء هذه الرتبة المتقدمة، سواء بين الأديان السماوية أو بين الشرائع والمنظومات الوضعية. وقد عرفت الدراسات والأبحاث المتناولة للإسلام إثر انهيار المنظومة الشيوعية تزايداً مطرداً لجهة بلورة رؤية واضحة عن البديل الحضاري أو التحدي الجديد الذي بات (الإسلام) يشكله للمنظومة الغربية برمتها.

وإذا كانت الدوافع السياسية والاقتصادية قد لعبت دوراً مهماً في تضخيم الجوانب السلبية من حياة المسلمين الذين يضمهم في الغالب الأعم دول العالم النامي أصلاً، ووسمها وإلحاقها تالياً بدينهم، فإن التركيز على الدوافع السياسية والاقتصادية ينبغي ألا يبخس من حق (الإسلام) ومقوماته الذاتية التي آلت أخيراً إلى تبوئه المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد الأتباع.

في ضوء المعطيات المتقدمة، يطرح هذا الكتاب حوارية ذات موضوع شديد التعقيد والوعورة، ويتعلق باستشراف مستقبل الإسلام في كل من الغرب والشرق، في ظل التحديات التي يواجهها داخلياً وخارجياً، وفي ضوء المعطيات والمقومات القائمة ومدى قدرة المؤثرات والظروف المحيطة على تحفيز أو تثبيط الاندفاعة الكبيرة التي يشهدها نمو المعتنقين للإسلام اليوم.

عبد المجيد الشرفي ومحددات افتتاحية

يعترف (الشرفي) في مفتتح بحثه بكون السؤال عن المستقبل بالنسبة للفكر الإسلامي هو سؤالا جديدا لكون المسلمين قد قضوا قروناً عدة وهم يترقبون قيام الساعة ويرصدون علاماتها وأماراتها. مما ولّد نظرة تشاؤمية حيال تتابع الأزمان ومدى سوئها لمجرد ابتعادها عن زمن الرسالة الطهوري، دون أن ينكر خطورة استشراف مستقبل الإسلام ودخوله في النهاية في خانة الغيب. ثم يضع محددات لعمله الاستشرافي، فيقصي في ابتداء حديثه عن الإسلام "نصوصه التأسيسية وقيمه المميزة باعتبارها غير خاضعة في حد ذاتها للمؤثرات التاريخية، وسنهتم بالمقابل بطرق فهم تلك النصوص وتأويلها ووضعها في سياقها أو عزلها عنه، وبتمثل تلك القيم في أوضاع معينة مرتقبة" (ص15).

ثم لا يلبث (الشرفي) أن يضعنا في سياق الفروقات والاختلافات التاريخية بين عصور الإسلام الأولى وعصرنا الراهن بما حققته الكشوف العلمية من إنجازات أفضت إلى تحولات عميقة، معتبراً أن من أهم نتاجاتها تراجع رتبة (الدين) عن أن يكون العمدة في تفسير الظواهر الاجتماعية والطبيعية، وتبوء (الإنسان) لمحور العلوم والمعارف والاكتشافات، وما ينبني على ذلك من تبعات على المسلمين أن يتقبلوها ويتعاملوا معها.

نقد العلوم الإسلامية: علم التفسير

  على الرغم من تأكيد (الشرفي) على محورية النص القرآني ومرجعيته بالنسبة للمسلمين، فإنه يعتبر أن هذا النص " لا يقرأ قراءة مباشرة بقدر ما يقرأ عبر نصوص ثوان تدون تأويلاته وتوظيفاته التاريخية المتعددة" (ص26). ويذهب مع البحوث اللسانية الحديثة إلى التأكيد على أن كل نص "مهما بدا معناه واضحاً وصريحاً إنما يخضع فهمه لمواصفات اللغة التي كتب بها ولقواعدها، ولكنه يخضع كذلك عند قراءته لشخصية القارئ وثقافته، مثلما يخضع للظروف التاريخية التي تتم فيها القراءة" (ص27). نافياً في النهاية وجود قراءة "بريئة" للقرآن الكريم تتجاوز جميع المعطيات المتقدمة.

ويحاول (الشرفي) التدليل على أثر صدمة الحداثة بالنسبة لعلم التفسير من خلال سرد أسماء تفاسير حديثة حاولت "تحيين" هذا الفن حتى يتماشى مع معطيات العصر على حد زعمه (تفاسير الشيخ محمد عبده وطنطاوي جوهري وابن عاشور ومتولي الشعراوي وغيرها)، إلا أنه يرجع فشلها في تبوء مرتبة متقدمة إزاء التفاسير القديمة إلى تقيدها "بالأسيجة التي وصفها العلماء المسلمون في القديم وجمعوها فيما يسمى ب(علوم القرآن)" (ص28). مطالباً بمراجعة عدد من "المسلمات" قبل الإقدام على عملية تفسير القرآن، من قبيل إصرار المفسر على وجود معنى وحيد للنص القرآني ووجوب اكتشافه من قبل المفسر بواسطة أدوات علوم القرآن (وكأن أحداً من المفسرين يزعم ذلك!؟) وأن يتبنى المفسر عقلية كونه طارحاً لتأويل شخصي مدعم بالأدلة دون أن ينفي بقية التأويلات، مؤكداً على ضرورة استبعاد مقولات علم الكلام في التعامل مع النص القرآني، وتوظيف علم الاجتماع واللسانيات وغيرها من العلوم الحديثة في تفسير النص القرآني، واعتماد الوحدة الموضوعية للآيات والسور بدلاً من تشظي التفسير وإضاعة المغزى في خضم التفسير الجزئي للآية، مستبشراً أن المستقبل في     ضوء مقترحاته التي بات كثير منها في حيز التطبيق سيكون "لتأويلية (هرمنوطيقا) جديدة تفسح المجال لقراءة النص القرآني قراءات متعددة تستجيب لحاجات المؤمنين إلى معان متناغمة مع ظروفهم المستجدة" (ص33).

نقد علم الكلام والدعوة إلى تجاوز مقولاته

يبني (الشرفي) مواقفه من علم الكلام على ما يعتبره "اتفاقاً" بين الدارسين على مواجهة علم الكلام لأزمة مصداقية حقيقية، ليسبر أغوار الحلول المقدمة لتأسيس علم كلام جديد يوفق بين المقولات الكلاسيكية والنظريات الفلسفية الحديثة. ويبحث في مدى تأثر نشأة علم الكلام تاريخياً بعوامل " الانتقال الطبيعي من الإيمان العفوي المبكر إلى مرحلة الإيمان المعقلن الباحث عن الأدلة والبراهين..(و) صلته بالظروف السياسية التي شهدت تناحر الصحابة وتقاتل المسلمين على الحكم...والاحتكاك بالفلسفة اليونانية ومقولاتها المنطقية والفيزيائية" (ص36-37). ليدعو إلى تقديم المعطى الإيماني يما يناسب ما سماه "المعقولية الحديثة العقلانية وحدها" (ص37) وتوظيف مكتسبات العلوم الحديثة في تعزيز حجج وبراهين هذا العلم.

ويرى أن ارتباط علم الكلام بالسياسة "لم يجن منه الدين سوى التدجين والتبعية، وحال دون أن تظهر في أوساط المسلمين طوال حياتهم نظرية في النظام السياسي وفي مؤسساته" (ص38). كما أنه يدعو إلى ثورة معرفية تتجاوز الفلسفة اليونانية إلى مقولات عصر الأنوار بمدارسها العديدة. ويتوقع (الشرفي) أن ينفك علم الكلام مستقبلاً عن التمحور حول الله عز وجل، والانطلاق من (الإنسان) ومعرفة حاجاته وتلبيتها ليماشي النزعة الغربية الوضعية في محورة الإنسان في مختلف الميادين والعلوم الحديثة!؟.

نقد الطقوس (العبادات)

  ينطلق (الشرفي) في هذا المبحث من تسمية علم الاجتماع للشعائر والعبادات التي لا يكاد يخلو منها أي دين "بالطقوس" ليبني على مقدمته الخاطئة تلك واقعاً قد يكون صواباً، وهو تضخم ممارسة هذه العبادات عبر تطاول التاريخ الإسلامي على يد الفقهاء ومن سماهم "بالمتطرفين في المقدس" (ص47). وفي طرح ملتبس يصف أداء العبادات في عصر النبوة بالمرونة والسعة في مقابل ما تعرفه حالياً من حدود وتشديد مقونن. ويرى أن المسلم اليوم "يعيش نوعاً من انفصام الشخصية بسبب عدم الملاءمة بين أشكال من العبادة على صلة متينة بنمط الاجتماع التقليدي...وسلوك تتحكم فيه مقتضيات الاجتماع الحديث ومتطلبات الآلة الإنتاجية العصرية وإكراهات الواقع المعقد في الحواضر الكبرى" (ص49).

وبزعم اعتماده على المرونة والعودة إلى روح العبادة وتقديمها على الأداء الشكلي، ينسف (الشرفي) بالنسبة للصلاة على سبيل المثال، أي إلزام بعدد أو كيفية في ظل عدم نص القرآن على ذلك، وعدم قناعته بكفاية السنة النبوية في تقريرها  على الرغم من اعتبارها ذات صبغة معيارية ملزمة عند الفقهاء، وهو ما عده في حاجة إلى النقد والمراجعة. ثم يستكمل منطقه العجيب في جميع العبادات في الإسلام لينسف أشكالها وحدودها المعروفة بحجة عدم ملاءمتها وضرورة تجديد الفقه الإسلامي.

علم أصول الفقه

يرى (الشرفي) أن نقد الأصول الأربعة لهذا العلم وتطعيمها بأصول تكميلية قديمة أو حديثة لا يوفر مخرجاً من المآزق التي باتت تعاني منها منظومة أصول الفقه التقليدية. وعليه، فإن نقده لهذا العلم يتناول ما يعتبره "مسلمات" يعاني منها العقل الأصولي من قبيل هيمنة المباحث اللغوية على فصوله، وبالتالي ضعف أهميتها، من وجهة نظره، في ضوء مقاربته الجديدة للنص القرآني ومستقبل علم التفسير.

إلا أن نقده اللاذع والعنيف يكاد يكون منصباً على الأصل الثاني للتشريع الإسلامي (السنة المطهرة) في محاولة منه للحد من تأثيرها ومكانتها ورمزيتها من خلال التشكيك في طرق وصولها وورودها إلينا (الآحاد)، واختلاف معايير وضوابط الجرح والتعديل المتناولة لرواتها. ليرى بعد ذلك أن الأصل الثالث (الإجماع) مجرد "أصل نظري أكثر مما هو عملي" (ص62). لا يكاد يكون متحققاً عبر العصور. ومركزاً على قضية إلزامية الإجماع للعصور التالية له وعدم جواز نسخه بآخر "في حين أن التمثيلية النيابية والاستفتاء الشعبي ومؤسسات المجتمع المدني في عصرنا تفسح المجال رغم نقائصها وعيوبها لإبراز ما يحظى بالقبول لدى الأغلبية"(ص63) في دعوة منه لاستبدال الإجماع بالنظم والأساليب السياسية الحديثة وفي خلط عجيب بين الدين والسياسة. فيما يعدّ الأصل الرابع (القياس) افتئاتاً على حق المشرع في التشريع، وتنازلاً من قبل الفقهاء عن دورهم في الاجتهاد للوقائع الطارئة، ليخلص من ذلك كله إلى اتهام أصول الفقه برمته بكونه "ذا وظيفة تبريرية لاختيارات أملتها ظروف المجتمعات الإسلامية في عصر التدوين ونشأة المذاهب الفقهية" (ص69).

علمنة المجتمعات الإسلامية

 لا يجد (الشرفي) حرجاً من التصريح بأن محاولته لنقد علم أصول الفقه سوف تفضي إلى القضاء عليه ونسفه من أصله بحجة أن الإسلام لن يخسر شيئاً بتخلصه منه!؟، وكونه من وجهة نظره مجرد أحكام بشرية اصطبغت بالدين. ليتجه بعد ذلك إلى تدعيم القول بوجوب التحول نحو العلمانية التي فهمت خطأ في بلادنا، وكونها النتيجة الاجتماعية "الحتمية" التي تسير إليها المجتمعات الإسلامية برمتها. إلا أنه يعترف باستعصاء مجالات الأسرة والسياسة والحدود على العلمنة حتى الآن. والتي لن تصمد في النهاية أمام الضغوط الدولية المستحكمة الدافعة باتجاه تبني المجتمعات المسلمة لنظم وقيم جديدة (حقوق الإنسان) بما يعنيه ذلك من مراجعة لأحكام الحدود وحد الردة بالذات، والتخلي عن "وهم" أسلمة المجتمع وتجاوز التراث الذي يعده أحد عوامل التراجع والعجز عن النهوض، داعياً إلى التخلي عن النظر إلى التاريخ الإسلامي على أنه تاريخ مثالي، ليحطم آخر ما تبقى من تشريعات الإسلام بدعوته إلى تجاوز الجهاد بمفهومه الديني الذي ما عاد مقبولاً، واستبداله بالدفاع عن الوطن وحدود الدولة السيادية.

مستقبل الإسلام وارتباطه بالتطورات العالمية: (مراد هوفمان)

يرى الدبلوماسي الألماني (هوفمان) أن الإسلام بحكم كونه ديناً لا أيديولوجيا "فإن مصيره على الصعيد العالمي يعتمد إلى حد كبير على مستوى التدين واتجاهاته إجمالاً" (ص118). ففي الوقت الذي عانت فيه الكنيسة في أوروبا من عقلانية كانط وانتقاده للكنائس المسيحية وعقائدها ورجالاتها، فإنه ظلّ مع أقرانه مؤمناً بوجود خالق دون الالتزام بأي دين. لكن القرن العشرين ما لبث أن استعاض عن (الدين) بالأيديولوجيا (الفاشية والستالينية والنازية والماوية) مما أدى إلى سلسلة متفاقمة من الأزمات الأخلاقية والفكرية ونشوء ما سمي بالعدمية والنسبية. وأفضى أخيراً إلى عودة الناس إلى التدين في القرن الواحد والعشرين، واجتياح موجة دينية أرجاء العالم، لكن لصالح الخروج من الكنائس المسيحية وباتجاه الإسلام.

ويرد (هوفمان) سرّ ثبات ما اعتبره (كمية التدين الإجمالية) إلى ظهور الفيزياء الكمية الجديدة، والتي عدّت ثورة ضد الفيزياء النيوتينية التقليدية وما أسفرت عنها من نتائج أحدثها عباقرة الرياضيات والفيزياء لا الكهنوت من أمثال (ماكس بلانك وأينشتاين وهايزنبرغ وغيرهم). إذ "أخذ العالم في القرن العشرين يفقد صفته الثنائية (المادية والروحية) وصفته المادية التحتية، واخذ يعود إلى صفته الأفلاطونية أو الروحية البحتة" (ص129). الأمر الذي أدى إلى أن يتبنى فلاسفة حداثيون "رؤية صوفية عن العالم بفضل النتائج التي توصلوا إليها عقلياً" (ص131). ومن أبرز هؤلاء (هايدغر ولودفيغ ويتغينشتاين وفريتجوف كابرا).

وفيما يؤكد (هوفمان) على أهمية عامل سرعة التحولات والحركة في ذيوع الإسلام وانتشاره، فإنه يتوجس خيفة على مصير الإسلام بسبب العنف الذي يمارس ضد الأبرياء باسم الإسلام، وما يسمى بالحرب على الإرهاب في العالم وانتشار ظاهرة التطرف بين بعض أتباعه.

تأثيرات وتطورات مستقبلية

 يربط (هوفمان) بين مستقبل الإسلام وقدرة أبنائه على تكوين حكومة ذات معايير إسلامية (ملتزمة بالشورى على أقل تقدير)، مستشهداً بالتاريخ الإسلامي الحافل بمثل تلك المقولات والممارسات الشوروية لحكومات المسلمين، دون أن يغفل أهمية تطويع وإدخال الديمقراطية "ليس بوصفها أيديولوجيا، بل إجراءات فعالة في السيطرة على الحكومة" (ص150). مؤكداً في الوقت ذاته على تلازم ذلك مع إطلاق الحريات المدنية وحماية حقوق الإنسان مع التركيز على حقوق المرأة بالذات، داعياً المسلمين إلى عدم الانخداع بمظاهر مساواة المرأة بالرجل في الغرب فيظل امتهانها وتسليعها في ميادين السياسة والعلوم والأعمال.

تحديات الإسلام في الغرب غير المسلم

يؤكد (هوفمان) على اختلاف التحديات التي يواجهها المسلمون خارج العالم الإسلامي عن تلك التي يواجهها نظراؤهم داخله، ويركز على ما سماه (شرك العرقية) لينبه على خطورة تقوقع المسلمين المهاجرين في كانتونات عرقية أو طائفية أو مذهبية في الغرب الذي هاجروا إليه لأسباب سياسية أو اقتصادية. محذراً من آثار عدم اندماجهم في مجتمعاتهم ومن الخلافات التي نقلوها معهم من بلدانهم الأصلية. كما يحذر من انتشار ظاهرة اعتزام معظم المهاجرين العودة إلى أوطانهم بمجرد تحقيقهم لقدر كاف من المال وقضاء بقية أعمارهم في مسقط رأسهم، وتضحيتهم بمواطنيتهم (الأتراك بالذات) بما يشكله ذلك من قطيعة نفسية وفكرية عن المجتمع الذي باتوا يشكلون جزءاً من نسيجه.

ويضيف إلى جملة التحديات التي تواجه مسلمي الغرب كلاً من الإعلام الذي لا يتوانى عن الكيد وانتقاد الإسلام والمسلمين، والذاكرة الجمعية لتاريخ الحروب الصليبية خلال القرون الوسطى وأثر في تعزيز مشاعر الخوف والتوجس لدى الغربيين، وصعوبة الاندماج بالنسبة للمسلمين، فضلاً عن تهمة الإرهاب التي باتت الذريعة المثلى لاضطهادهم والانتقاص من حقوقهم المدنية. وهو إذ يؤكد على خطورة تحدي ما سماه (شرك التمثل) والذوبان الذي يقدم للمسلمين بوصفه مخرجاً منجياً ومغرياً، فإنه يشير إلى محاولة بعض المسلمين مواجهة ذلك بتطوير نموذج (الإسلام الأوروبي) المجرد من كل ما لا يريده الغرب من الإسلام، دون أن يتحمس له، فيما يصر غالبية المسلمين على تحقيق الاندماج والتمتع بحقوق المواطنة مع الاحتفاظ بخصائصهم الاجتماعية، وحملهم لرسالة إنقاذ المجتمع الغربي من الدمار الذاتي بسبب الإباحية الأخلاقية. فيما يميز في هذا السياق بين المسلمين في أوروبا وأمريكا، ويثني على تفهم المسلمين الأمريكيين لهذه المهمة وتقبلها أكثر من نظرائهم الأوروبيين.

استشراف مستقبل الإسلام

يعتبر (هوفمان) أن حقبة تراجع الدين بمفهومه العام قد بدأت بالانحسار بسبب فشل الأيديولوجيات الأخرى في ملء فراغ الأديان، لكنه بالمقابل يتوقع أ يكون الإسلام المرشح الأبرز للإفادة من هذا التوجه العالمي بحكم ممانعته وقدرته على مواجهة التحديات الكبرى حتى الآن. في الوقت الذي تخسر فيه الكنائس في الغرب أعضاءها ونفوذها، مدعماً ما يقوله بإحصائيات عن أعداد المرتادين للمساجد والكنائس في أوروبا على حد سواء.

وفي لفتة ذكية، يميز (هوفمان) بين الإسلام الأمريكي والأوروبي، ففي الوقت الذي يؤكد فيه على دخول موجات هائلة من الأفارقة الأمريكيين في الإسلام من خلال مؤسسات مشهورة (أمة الإسلام) (مجموعة فرخان) (ICNA) ويسيطر عليها مسلمو شبه القارة الهندية، و(ISNA) ويديرها العرب، فإنه يتوقع تزايد توسع انتشار الإسلام في أمريكا "لأن المسلمين الأمريكيين يظلون أمريكيين أي ديناميين، منظمين متعاونين، كرماء مالياً ومتفائلين" (ص175). في الوقت الذي لا يبدي فيه التفاؤل ذاته إزاء مسلمي أوروبا الذين وعلى العكس من نظرائهم الأمريكيين لم يأتوا طلبة، بل غالبيتهم عمال غير مهرة ولا يتقنون لغة التواصل مع مجتمعاتهم. فضلاً عن صعوبة التواصل بين منظماتهم في بلدان لا تزال ذات منزع قومي ولا تسمح لهم بالتواصل عبر القارة إلا بصعوبة. يضاف إلى ذلك عقبة اللغة الانكليزية التي لا يتقنها معظم المهاجرين، وسعي الحكومات الأوروبية إلى التدخل في شؤونهم، وتنامي مناخ معاد في أوروبا (عدا بريطانيا) لقضية الحجاب.

دور المسلمين الغربيين

  يربط (هوفمان) مستقبل الإسلام على مستوى العالم بظهور دور فعال للمسلمين الغربيين بالذات. إذ لا يتوانى عن اتهام المسلمين ذوي الثقافة الإسلامية المتوارثة بممارسة الخرافات والانحرافات، فيما "الذين اعتنقوا الإسلام من الغربيين مثلوا الإسلام ديناً أنزله الله على أساس القرآن والأحاديث الصحيحة دون أي صفة ثقافية معه على نقيض المسلمين المهاجرين إلى أوروبا" (ص183). وتبدو نزعة المركزية الغربية واضحة عندما ينصح (هوفمان) (المسلمين الشرقيين) بالتعلم من المسلمين الجدد (الغربيين) وخصوصاً فيما يتعلق بنظرتهم الأصيلة إلى الإسلام.

ويرى في قضايا العلم الحديث (الموت الدماغي والأمومة البديلة، والاستنساخ، واختيار الجنس) تحدياً على المسلمين الغربيين مواجهته وإيجاد الحلول لها قبل نظرائهم الشرقيين الذين لا تشكل لهم تحدياً بالحجم ذاته، آملاً في ضوء التطورات التي يعرفها المسلمون في الغرب بزوال الجاليات المسلمة المختلفة لغوياً وعرقياً، وظهور أمة عالمية حقاً بما يؤدي لاحقاً إلى تبادل مثمر بين المسلمين في الشرق والغرب بعد أن يتجاوزوا قضية الخلافة وضرورة الانتماء إلى مركز سياسي واحد، في الوقت الذي تحسد فيه الديانات الأخرى المسلمين على توقد انتمائهم إلى أمة واحدة فعلياً.

تعقيب (الشرفي) على بحث (هوفمان)

 في تعقيبه على بحث (هوفمان) يحاول (الشرفي) بيان أوجه التمايز بين مقاربته لاستشراف مستقبل الإسلام من موقع الباحث الأكاديمي، وبين مقاربة (هوفمان) إلي يتناول الموضوع بنفس "رجل سياسي ينظر إلى الظواهر من زاوية المؤمن بقضية والمدافع عنها في وجه مخالفيها" (ص202). ورغم ما أعلنه من اتفاقه مع هوفمان في عدد من النقاط، إلا أنه لم يلبث أن يتقمص هوية (المدافع) عن قضايا ومسلمات النظام في تونس، فيما يخص كلاً من (بورقيبة) و(الغنوشي)، رافضاً رأي هوفمان في كل منهما، ومعترضاً على كون الخلفاء الأربعة قد جاؤوا عن طريق الانتخاب، وأن الأنظمة السياسية العربية قد فشلت برامجها السياسية والاقتصادية الأمر الذي علل به هوفمان صعود شعار (الإسلام هو الحال).

إلا أن خلافه الأساسي مع هوفمان انصب على رفضه لربط مستقبل الإسلام بمدى تدين المسلمين، ويربطه هو بمحتوى هذا التدين ونوعيته (ص210). والتي يفسرها بقبول المسلمين لمزايا التنوير والحداثة التي لا تتعارض، من وجهة نظره، مع جوهر الإسلام وتعاليمه. ملاحظاً تركيز هوفمان على دور مسلمي الغرب في مستقبل الإسلام، في الوقت الذي يعيش فيه معظم المسلمين في الشرق من العالم.

تعقيب (هوفمان) على بحث (الشرفي)

تبدو حنكة (هوفمان) السياسية في محاولته إبداء "تفهمه" إزاء مقاربة (الشرفي)، فهو يفرغ تلك المقاربة من الشرعية الدينية أولاً من خلال وصفه بعالم الاجتماع لا أكثر، ومن ثم من الصدقية والعلمية تالياً من خلال التلميح إلى النظام السياسي الذي يتبعه بلده تونس، وما هو معروف عنه من اتباع سياسات علمانية علانية. وعليه، لم يفاجأ (هوفمان) بتمجيد (الشرفي) للثورة الفرنسية ومنجزاتها التي تجاوزها الغرب نفسه، كما لم يجد غضاضة في هجوم الشرفي على المؤسسات الدينية بتمظهراتها المتنوعة. ورغم كل ما يظهره من توافق جزئي مع أفكار الشرفي، إلا أنه يتهمه بأنه "راديكالي واضح من خلال إقصائه مقادير كبيرة من القانون الإسلامي، لأنه لا يميز بين العقيدة والعبادة والمعاملات" (ص235)، مهاجماً تطرف زميله في الكتاب في نسف الإسلام من جذوره لمواكبة الحداثة الغربية.

بين احتمالات العلمنة والتدين يمضي مستقبل الإسلام وفق رؤيتي الكتاب، ورغم المآخذ الكثيرة التي تضمنتا مقاربتا الكتاب، لجهة تطرف الرغبة المحمومة في علمنة الإسلام وأهله، أو تعزيز الثقافة الروحية لدى المسلمين. وبين تركيز كل طرف على مجتمعه وتجاهل الطرف الآخر من العالم، يبقى مستقبل الإسلام شأناً من الصعب التكهن بملامحه وآفاقه ومستقبله مهما كانت الجهود المبذولة في هذا الشأن.


تاريخ النشر : 10-08-2008

6336 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com