آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

نحن واللسانيات: انطباعات أوَّليَّة

أحمد الحمدي


[ 1 ]

 " شُـعَـاعْ  ":

*  " قـَــالـُوا: تـَـكَـلَّــمْ حَــتَّـى أرَاكْ !  ". (1).

         خَزَّانات من مَحْمُولات المعاني تتوارد على طاولة أبحاث دارسي العلوم اللِّسَـانية/الحديثة خصوصا، والاجتماعية والإنسانية عموما، بكون اللسان/ اللغة، حامل هُوية الإنسان في أبعاده الدِّلالية، والمدلولية ، رامزا، ومرموزا إليه. وهي ضرب من الرمز، متراوح الدَّلالة.

       لقد شاءت إرادة الله تعالى أن تكون رسالته الخاتمة إلى البشرية وحيا مُشَكَّلا في لغة هي اللغة العربية،  وسواء كان ذلك الوحي معجزا -وهو القران الكريم-، أو غير معجز وهو الحديث النبوي الشريف-(2).فإن هذا اللِّسان أضحى  آلـيـة حكمت بتمظهراتها المعرفية/الابتسمولوجية، تراثنا الإسلامي في قراءة النص القرآني التبِّياني للدور الاستخلافي، والنص النبوي الـمُبِّين لهذا الدور الاستخلافي/التكليفي ! – مُشَخَّصَاً في ختم النبوة بالرسالة المحمدية الخاتمة -.

 

        إنها صيرورة من الإنسان نحو المتعالي والمطلق/الله، نظرا وعملا. بموجبها عرفنا أهمية النـظـر اللساني الآلي/والبشري  في هذا الدور الاسخلافي/التكليفي، الذي انجلى بمشيئة الله – أن يكون هذا اللسان هو الذي اختاره أن يكون جسر التواصل، والحبل السري في هذه العلاقة، علاقة الرب مع المربوب .

        إن عدم إدراك أهمية اللغة ودورها في بناء الأمم، وصياغة شخصيتها، وتشكيل ثقافتها، هو من الطوام الكبرى (3)، وإحدى الجراثيم الخطيرة التي ولابد أن تُقامُ لها عملية قيصرية لاجتثاثها !.

    اللغة وعاء الحركة الإنسانية برمتها، وهي الوسيلة لإجراء معادلات وعمليات الذكاء ، وتشكيل الصور الذهنية، هي محرض التفكير، والاجتهاد والتجديد، ومفتاح الإقلاع الحضاري(4)، لكن هذا البناء المقدس و الشامخ/ النبوي – قرآنا وسنة - الضخم وهذا الميراث الثقافي الهائل ، سوف يبقى محنطا ومغلقا ومسدودا أمامنا إذا لم نملك أحد أهم مفاتيحه- والذي بدونه لن نـلج إلى جنته ولن ندري ما بداخل روضاته . وعندها نخلص إلى نتيجة هي من أوضح الواضحات عند أولي النظر والحجى : " أن من هـجر اللسان، هجر الـقرآن !! ".

        إن فهمنا ، نحن المتكلمين بالعربية – اليوم- ، وجمهرة دارسيها منا ، لطبيعة اللغة ووظيفتها وطرائق دراستها فهم جد متخلف، ومعظم إنتاجنا في الميادين اللغوية قاصر ومقصر، وإنا لنعالج أحيانا مشكلات لغوية خطيرة على جهل بما يراه العلم اللغوي الحديث من البسائط والأوليات . ومن ذلك أننا نتحدث عن  "تيسيرالنحو "وعن  "تيسيرالعربية وترقيته " ، وعن "إصلاح الكتابة العربية  " وعن  "العامية والفصحى " ، وعن  " التعريب " و "النحت " و " الاشتقاق " ونقضي الوقت في كل هذا، ولو كانت لنا محاولات و معرفة   "بنتائج علم اللغة  "وبشيء من " الدراسات اللغوية الحديثة  " (5)، ومعرفة بالنظريات والأطروحات المعرفية/الابتسمولوجية والفلسفية، لاختصرنا أوقاتنا، وقطعنا أشواطا من فهم الإبداع اللساني واستكناه المعاني والقوالب الإدراكية، على أوضح فصل، وأسلم أصل، وصلت إليه المعرفة الإنسانية – إلا أن هذا الاستجلاء لــه أغـوار لن نفرح بشم نسيمها إلا بـتعميم  مفهوم الجهاد في كل عوالم الشهادة في سبيل المعرفة (6).

       إن أهمية الدراسة الغوية اللسانية لفهم الثقافة حق الفهم أمر يحس به من يعرضون لدراسة الحضارات؛ وذلك أن أي نظام لغوي هو تعبير عن إدراك جماعة من الجماعات لبيئتها ولنفسها، وإن لم يكن هذا التعبير كاملا .

   ألم يكن  " آلف سمرفلت  " صادقا عندما قال :  "ومــن ثم فــلا يــستطيع أن يــفهم حــضارة ما  حــق الــفهم من يجهل وســيلتها اللغوية واللسانية في التعبير ! (7).

[ 2 ]

 " شُـعَـاع  ":

 

 " ثـمت أطياف

تـشي للأطياف ...

عـلنا في تلك الوشايات

نـصادف أرواحنا ... (8).

 

      تعددت المظاهر الفكرية للحضارات كثيرا، إلا أن أكثرها إبداعا وأبرزها على الإطلاق اللغة/ والكتابة ! فاللغة هي التي صبغت من الإنسان إنسانا/في بُعده التواصلي الظاهر، المعبر عن آماله وآلامه الباطنة. (9)وهي وسيلة التفاعل والتفاهم بين الأفراد، لولاها لما استطاعت الجماعات والكتل البشرية أن تتقارب وتتفاهم ، وبالتالي تتكامل فيما بينها، ولم يكن الإنسان ليستطيع إدراك الأشياء بعيدة عن صفاتها لولاها.

وكذلك الكتابة بدأت برسم أشكال للأشياء للدلالة عليها ثم تطورت لتظهر الحروف وبالتالي سهلت الكتابة سبل انضباط الفكر وتفهمه (10).

         عندئذ ينبغي أن نأخذ بزمام زوايا مثلث جرماني/ هرمي لـيبقى ماثلا أمامنا  - كي لا نضيع في مفردات البحث - في التناول الأداتي عند البحث اللساني عموما ، والعربي خصوصا  :

1- الزاوية الأولى: أن اللغة العربية ... هي المفتاح الرئيس إلى عالم الفكر الذاتي للعرب .

2- الزاوية الثانية : الـديـن، بصفته المحور/والفكرة المركزية التي يدور حولها الوجود الشهودي للأمة المحمدية في كل ما يتعلق بأمورها (11).

3- الزاوية الثالثة: الوعي بالذات الحضارية/الإنسانية، والتي تتطلب عناصر اللحظة الحية الأربع وهي :

أولا : التـنقيب : عن الماضي الفكري المدفون تحت الأنقاض – أي :حالة الوعي بحاصلية الحاصل، لإمكان التحصيل الفريد فيما بعد الذي يمثل ثوب هذه الأمة أو تلك .

ثانيا: الاسـتيعاب :لأسباب نشوء هذا الماضي، واكـتهاله، ثم تقهقره، واندثاره والخروج بالعبر والدروس اللازمة للانطلاق للمستقبل، فالعرب الأوائل انطلقوا من البداية، ولكنهم لم يكونوا صفرا من حصاد التجربة الإنسانية، وكانوا آنذاك وسط حضارات تفوقهم فلم يترددوا في الأخذ غير الأعمى، والنقد البناء من أولئك الغرباء،  فكانوا جسرا موصولا للماضي مع اللحظة إلى المستقبل .

ثالثا: البـناء:حيث واصلوا فوق ذلك تشييدا بنكهتهم المستقلة، وطريقتهم الخاصة .

رابعا: الإبـداع (12): حيث نتج عن تلك الروح التنقيبية /النقدية ، والاستيعابية، والبنائية، مظاهر اللحظة الريادية التي شكلت ألوان الإبداع المنظور، والمسطور .

       فاللغة مرآة الفكر، تعكس فكر مستعمليها وثقافتهم، ومن يكسب لغة أو لهجة، لا يكتسب ألفاظها وقواعدها فحسب؛ بل يكتسب فكرها وثقافتها أيضا (13)، ومن هنا نعلم أن اللغة الإنجليزية مثلا حاملة للثقافة الأمريكية ولابــد! ولم يكن ممكنا للإنجليزية أن تفرض نفسها، في المؤسسات الأوروبية مثلا، كما تفعله اليوم ، لو لم تكن لغة القوة الأمريكية المتفوقة، ماديا، ورمزيا (14).

        فالوضع اللغوي لأي أمة تبع لمدى قوتها وضعفها في المجال العمراني، والاقتصادي، وقبلهما الثقافي .

وعليه نعلم مدى التلازم بين أحــكام الوجــود العمــراني، وأحـــكام الشـــرع الربــاني – الذي تعتبر اللغة إحدى أهم آليات فهمه- وهي حقيقة قرر أثرها الفيلسوف الحضرمي اليماني – ابن خلدون- في : " المقدمة " بقوله : " المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب !  ".

 

 [ 3 ]

 " شُـعَـاع  ":

 " القاريء العربي مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه

بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني ! ".

الـعـقـاد(15).

        التـذبذب اللغوي وليد التذبذب الثقافي العام، فالحالة ليست مفردة منعزلة عن تركيب مـعقد للمشكل الإنساني في أي ظرف زماني ومكاني، هذا الذي يجعلنا ننظر إلى ألوان من التخلف في لوحة فسيفسائية مبعثرة المعالم في حاجة لإعادة الأشكلة والتأطير .

         فاللغة ليست هياكل صامتة، وإنما هي أجسام حية ناطقة، وحالة الضخ بها في نفوس أهلها يولد حالة من التفاعل بها في جنبات الحياة؛ ذلك ما أدركه غيرنا وجهلناه! فألوان الغزو تتعانق في مشاريع الغالب ، وتتلاشى في :عـقول " اللآأدرية "،وفي سراديب أمنياتنا؛ فمن غزو لغوي/ثقافي، إلى اقتصادي، إلى عسكري ...، ما يوجب علينا أن ننظر للغتنا اليوم دونما تضليل للنفس، ولا تزيين للواقع، واعـين بما تــعانيه الشخصية العربية من حال هو أقرب للمرض منه إلى الصحة (16).

         بل يذهب البعض(17)إلى أن مفهومنا للغة/وللرموز الثقافية دوراً جوهرياً في التصميم ذاته للخلق البيولوجي/فيزيولوجي للإنسان، فللخطاب اللغوي وللرموز الثقافية قدرة كبيرة على شحن الأفراد والجماعات بقوة وطاقة عظيمتين، حتى يمكن أن تصبح أعمالهم وسلوكاتهم جبارة، ولها سمات فطرية قادرة على التنقل السريع والآني عبر المكان، والزمان(18).

          واللغة إذا نظرنا إليها باعتبارها أم لكافة الرموز الثقافية (19)ندرك أننا نعيش ألوانا أخرى من التخلف، وعلى رأسها التخلف اللغوي، والثقافي والنفسي (20)، فالشعور بمركب النقص إزاء الغرب معلم نفسي منتشر في مجتمعات  "العالم الثالث " ،والاعتداء على أهم رامز إلى الإنسان العربي هو اعتداء على أهم مكونات هُـويتة، والتي بتقويضها يقوض الانتماء إليها.، ومن ثم الانتماء إلى محمولها الذي فجرها – بطريقة لا شعورية - وجعلها تغدو لغة عالمية ،وهو القرآن ليس إلا !.

           إذن فثمت عصب مركزي نحوم حوله في تناول الأزمة اللسانية/أو حالة الكساد اللغوي لدينا، هو تهديد لهويات الأفراد والجماعات، والمجتمعات، وبعبارة أخرى الهجوم على الرموز الثقافية العربية/اللغة هنا، هو هجوم على الروح الرموزية الثقافية للإنسان ومجتمعه(21).

           فليست القضية متوقفة عند البكاء على عدم الاهتمام بالدرس اللساني عموما، وعزوف الناس عن النحو، والصرف، والبلاغة، وأشعار البحتري، وتمام، والمتنبيء،  إلى أشعار نزار، ودرويش، ونازك ، ودنقل ، وألوان أدب الإثارة الجنسية، والمغامرات البوليسية، وبلسمة المشاعر فحسب، بل الأمر أغور من هذا التسطيح الكسل للأزمة، والذي يبسطه البعض بطريقة لا تتجاوز الوعظ الجماهيري .

         إن النكبة تكون أكبر عندما لا تجد من يفقهها، ويروضها بسنن التدافع والتمانع ، فمن يبني قصرا من رمال وسقط في حينه فتلك كارثة، ولكنها لا تقاس بالكارثة التي ستحصل عندما يتأخر سقوط ذلك القصر ،إذ الكارثة ستكون فاجعة!

(فاقصص القصص لعلهم يتفكرون!) "( الأعراف: 176).

[ 4 ]

 " شُـعَـاع  ":

 

 "مَـن لم يُـنـشأ على حُـب لُـغة قومه، استخف بـِتـُراثِ أمـتِه ! "

د. عثمان أمين(22).

*          في البعد الفــكري للدور اللســـاني:

            علاقة اللغة بتكوين المفاهيم والأفكار تعتبر جد حيوية ومصيرية في مجال الإبداع البشري في كل ميادينه، ولو تأملنا جيدا المنظومات الفكرية والعلمية المختلفة، لوجدنا بأنها تركز في جزء كبير منها على اللغة ، فالإنسان الذي لا يعرف إلا الأشياء هو إنسان بدون أفكار، فداخل اللغة توجد الأفكار .

      ونستطيع أن نقول في هذا السياق أن إنتاج الأفكار والمعارف يخضع إلى حد كبير لطبيعة اللغة المستعملة وخصوصيتها، فالفلسفة اليونانية متأثرة إلى حد بعيد ببنية وفضاء اللغة اليونانية، والفلسفة الألمانية يمكن اعتبارها تكثيفا شديدا ومبدعا للغة الألمانية،  " فالألماني يصنع باللغة ما يصنعه عالم الآثار بالأرض " (23)، فالخصوصية اللغوية تصبح منتهكة عندما لا يشعر أبناءها بعظم ترابطها بمحمولها – وبالنسبة لنا هو القرآن هنا !-.

            واللغة كما يشير أحد الفلاسفة، تشكل في علاقتها الجدلية والثنائية مع الفكر وجهين متقابلين لعملة واحدة، فهي وعاء الفكر على حد تعبير هــيجل، وهي التي تحول الحالات الشعورية إلى أفكار مجردة، ولا ريب أن المنطق وثيق الصلة باللغة ، لذا تصح المقابلة بين علم المنطق، كعلم يعنى بضبط قوانين الفكر، في شكله الأولي، وبين علم النحو الذي يعنى بضبط  قوانين اللغة (24)(25).

         لكن العجيب في الأمر أن  " اللغة العربية هي الوحيدة التي صمدت، واستمرت سبعة عشر قرنا أو يزيد، بينما لا يزيد عمر أية لغة حية أخرى عن أكثر من خمسة قرون !  "!(26)هذه اللـغة باتت تعاني اليوم من أزمة عامة، تستدعي معالجات خاصة ومعمقة .

           تتساءل كاتبة!(27)هل تكمن الأزمة في  "اللـسـان " أم في  "العقـل " ؟ لماذا نطالب اللغةَ أن تُحنى هامتَها من أجلنا، لماذا لا نحاول نحن أن نعلو قليلا ؟.

  وتجيب :  "  ليس للأمر علاقة بأزمة خاصة في اللغة العربية بقدر ما هو إشكالية آلية نقلالفكرة من العقل إلى اللسان. أي تحويل الفكرة الهيولية التجريدية الموهومة في المخالبشرى إلى مفردة محددة ذات دلالة. وهي عملية ذهنية شديدة التعقيد وليست مقصورة على اللغة العربية وحدها، وهذا ما يجعلنا نتكلم دوما عن قصور اللغة. كل لغة. وأنا هنا لا أنفى الصعوبة عن اللغة العربية، لكنني أردُّ الأزمة إلى مأساة نُظُم التعليم في الوطن العربي كلّه، ليس في مادة اللغة العربية وحسب، بل في مختلف فروع العلم ".

           فالعرب مسؤولون  عن هداية العالم، مادام لسانهم يتضمن طريق الهداية، وإن الأمم  "ترتقب معنى ثقافتها من رسالة العرب ! " (28)، وهذا يعني أن البعث للإنسان العربي إنما هو بعث للإنسان عموما، لأن الأمة العربية حقيقة إنسانية، تتجاوب مع الأمم تجاوبا طبيعيا، تفرضه الإنسانية، ولن يتم بعث العرب إلا بفقه تراثهم، ولن يفقهوا تراثهم إلا بفقه لغتهم، وإذا فقه العرب لسانهم، قدموا نتائج إنسانية عامة، لا تقل عن النتائج اللسانية الخاصة(29)، والاهتداء إلى ذلك بفضل اللسان العربي يجعل العرب في هذه المرحلة التاريخية أصحاب رسالة تخلق الانسجام. بين علوم العمران/الطبيعي، وعلوم الإنسان / الشريعي.

إن أصـــولية اللسان ، وأصـــولية الفكر وحدتان متداخلتان ،ومتميزتان ، في نفس الوقت :

( أ) أما التداخل ، فلأن الخطاب :

(1)   لا يتم إلا بين ذهنيات متطورة، يستقل الإنسان بها عمن سواه .

(2)   ولأن تطور الذهن لا يكون إلا بتوسط اللغة، وذلك لأننا باللغة نتحدث عن الفكر، وباللغة نتحدث عن الأشياء، وباللغة نتحدث عن اللغة !.

(ب) وأما عن التمايز فهو أيضا ينقسم إلى قسمين : تمايز لســاني ، وتمايز فــكري .

(1) التمايز اللســاني :

يتميز اللسان بكونه أداة. وهو كأداة .

-           "دليل ما يتضمنه " (30).

-          مستقل بنظامه .

-          مجبر بالتزام قوانينه . وقد أشار الجرجاني إلى قسرية اللسان بقوله :

 " نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط، وليس بمقتضى عن معنى، ولا الناظم لها بمقتف لها في ذلك رسما من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه، فلو أن واضع اللغة قد كان قال (ربض)مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد ! "(31).

-          لا علاقة للعقل به . والغزالي يؤكد هذا فيقول :

 " لا مجال للعقل في اللغات  "(32).

ويشرح الرازي الأمر فيقول :

 " وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة، بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم، فإن حصل التعليم، حصل العلم به ، وإلا فلا ! "(33).

فهذا هو المقصود بعدمية العلاقة بين اللسان والعقل هنا، لا مطلق العلاقة التي نتكلم عنها هنا .فتنبه!

(2)   التمايز الـــفكــري :

يتميز الفكر بكونه مضمونا . وهو كمضمون :

-          دليل على غيره .

-          محتاج إلى غيره في ظهوره، وغير مستقل بنفسه.

-          غير مجبر بنظامه .

-          متمكن في تحصيل المعارف (34).

       لعـل مما سـبـق يتبـيـن الدور اللساني الفريد الذي يـتـموقع فيه الإنسان، وتتبين بعد العلاقة بين اللسان والجنان؛ لكن من المفيد أن نجمل بعض الوظائف اللسانية، في دورها الإنساني العام(35).

       يكاد المتتبع لمقولات التراث عن هذا الدور لا يقـف معها عند عدد ، غير أن الذي يشد الانتباه بصورة خاصة مقولتان للشهرستاني /الأشعري، والقاضي عبد الجبار/المعتزلي، تأخذ كل واحدة منهما جانبا هاما من جوانب التفكير العربي في عملية التأصيل، والمعرفة .

( أ) يلفت الشهرستاني الانتباه إلى أمر يصبح به اللسان :

(1)   مـُعدا لما هو له.

(2)   وموطنا، في بعض أنحائه يــُكون نماء الفــكر .

وكأن الشهرستاني يقرأ من خلف القرون، ما يكتبه  " تشومسكي  "(36). عن هذه القضية أيضا .

أما عن النقطة الأولى فيقول :

 "  كل الحروف والكلمات محالها اللسان، وكل المعاني والمفهومات محالها الجنان، وبمجموع الأمرين سمي الإنسان ناطقا  ".

وأما النقطة الثانية فيقول :

 " لو وجدت اللسانية منه(أي:الإنسان) دون المعاني الجانبية سمي مجنونا لا متكلما إلا بالمجاز، ولو وجدت المعاني الجانبية منه دون الألفاظ سمي مفكرا لا متكلما إلا بالمجاز  "(37).

     فالنقطة الأولى هي ما اصطلح تشومسكي على تسميته بــ: "البنية الفوقية/ السطحية  "في مقابل الحروف والكلمات ، "والبنية التحتية/العميقة   "في مقابل المعاني الجنانية، فيقول تشومسكي :

 " إن البنية التحتية تحدد التأويل الدلالي/مورفيمات، وإن البنية الفوقية تحدد التأويل الصوتي/ الفونيمات  "(38)(39).

    وأما عن النقطة الثانية فإن تشومسكي يرى أن البنية التحتية ليست  "إلا انعكاسا لأشكال الفكر  "(40). وبموجب هذا التصور يأخذ اللسان وظيفته الأولى، فيصير شاهدا على صحته من جهة، وشاهدا على صحة العقل من جهة أخرى .

(ب) وإذ يصير اللسان شاهدا على صحة العقل عند الشهرستاني، ويصير العقل شاهدا على صحة المعنى الجناني عند القاضي عبد الجبار، فينتفي العبث عنه بمعلوم المراد منه . فيقول- القاضي-:

 " إنه ليس في العقل ما يعلم معه المراد فيكون عبثا  "(41) .

وبهاتين المقولتين يأخذ اللسان وظيفته الثانية ، وهي : الإخبار باللغة عن الخبر . يقول الجرجاني :

 " الدلالة على شيء هي لا محالة إعلامك السامع إياه ... "(42).

ويذهب   "ابن مســكويه " في تحليل الحاجة إلى الكلام مذهبا سوسيولوجيا/ اجتماعيا، ولسانيا، ويردها إلى أصلين :

(ج) التعايش . (د) التواصل .

(ج) فعن التعايش .

يقول : " إن السبب الذي احتيج من أجله إلى الكلام، هو أن الإنسان الواحد لما كان غير مكتف بنفسه في تتمة بقائه مدته المعلومة وزمانه المقدر المقسوم، احتاج إلى استدعاء ضروراته في مادة بقاءه من غيره . ووجب بشريطة العدل أن يعطي غيره عوض ما استدعاه منه بالمعاونة ".

(د) وعن التواصل .

يقول: " لم يكن بد من أن يفزع إلى حركات بأصوات دالة على هذه المعاني بالاصطلاح ليستدعيها بعض الناس من بعض، وليعاون بعضهم بعضا فيتم لهم البقاء الإنساني، وتكمل فيهم الحياة البشرية "(43).

*          في البـعد القـرآني، للـدور اللسـاني:

           ثمت حقيقــتان – سبقت الإشارة إليهما بإيجاز - ينبغي معرفتهما عند النظر إلى اللسان العربي ، في علاقته بالوحي/القرآن،والسنة. :

( أ) أن اللغة بوصفها كائن حي غير ثابت، متطور، فهي ظاهرة اجتماعية لها تعقيدات الظاهرة الإنسانية ،وإشكالاتها.(44).

(ب) أن العربية لها ظرف خاص ، لم يتوفر لأي لغة في العالم – هذا الظرف يجعلنا نرفض ما ينادي به بعض الغافلين – عن حسن نية وسوء نية أحيانا – من ترك الحبل على الغارب للعربية الفصحى ، لكي تـتـفاعل مع العاميات، كما يحدث في اللغات كلها .

        حـقا اللغة كائن حي، وسنة الله في التاريخ أن الأشكال الحديثة تأخذ مجراها أكثر من القديم، وتلك سنة ليست اللغة ببدع عنها، فلا نعرف لغة على ظهر الأرض، جمعت على شكل واحد مئات السنين، مئات الكلمات المنحوتة والمشتقة، والمستوعبة دلاليا فيما سمي : "بنظرية الحقول الدلالية " مثل العربية. (45) .

   غير أن العربية كما قلنا لها ظرفها الخاص، هو أنها ارتبطت بالقرآن الكريم، منذ أربعة عشر قرنا،وغدت لغة عالمية بسبب القرآن الكريم(46)،(47)، ودُوِّنَ بها التراث الإسلامي/العربي الضخم، الذي كان محوره القرآن الكريم، ولولا كل هذا لأضحت اللهجات العربية المختلفة، لغة أثرية/نقوشية، تشابه اللاتينية، أو السنسكريتية .

هذا هو السر في عدم قياسنا العربية الفصحى بغيرها من اللغات الحية المعاصرة، فإن أقصى عمر هذه اللغات، في شكلها الحاضر، لا يتعدى قرنين من الزمان .

           وقد صدق الشيخ :أحمد رضا العاملي حين قال : أنا لا أرتاب في أن اللغة التي حملها الفرنسيس(أي :الفرنسيين)، أيام الحروب الصليبية، إلى سوريا لم تكن كاللغة التي حملها أحفادهم إليها هذه الأيام (48) .

ذلك أن تلك اللغات لم ترتبط بكتاب مقدس ، كما هو حال العربية !

        وهو السر كذلك في اهتمامنا بالفصحى القديمة، ودراستها، حتى نفهم القرآن الكريم، وهو المركز الذي تتبرزخ حوله كل الدراسات العربية، كذا ينبغي أن تكون !  فلم يكن الصحابة – رضي الله عنهم- يتلذذون بالشعر للشعر! وإنما لكون اللسان، شعرا كان أو نثرا، مدخلا لفهم خطاب الشارع،(49) فلا تنظرن ! لقول سيدنا ابن عباس – رضي الله عنه –  " الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديواننا، فالتمسنا معرفة ذلك  "- (50)(51). بمعزل عن المآل القرآني ، في النظر اللساني!! .

        وعلى مستوى التبيين والفهم أيضا، فإن قانون اللسان العربي هو أساس الفهم، إذ الوحي معان يحملها وعاء اللسان العربي، كما كانت عليه في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم- وفي المقاصد العامة لله تعالى في خلقه، ولمناسبات التنزل القرآني، ما ينير السبيل، في تبين المراد الإلهي (52).

*          في الــــدرس اللســــــاني العـــربي:

 " فــأما الكــلام على الكــلام،  فإنه يدور على نفسه  "(53).

هـكـذا يصف التوحيدي الحديث عن الحدث اللساني، بالأداة اللسانية، وهي جزء من بحث الإنسان عن وفي الإنسان بإنسانيته الزئبقية الواسعة، ما يعتبر إشارة إلى بعد غور البحث الإنساني محل البحث، وأداة البحث في آن معا. ذلك أن اللسان جزء من الإنسان.

    ومن المفيد أن نلقي إطلالة على حقل  "اللسانيات  " الفرع اللغوي الذي يعنى بدراسة الظاهرة اللغوية بشكل شمولي، وفي اعتقادنا أن حل أي مشكل لساني اجتماعي، ودراسة أي لسان عالمي سيكون قاصرا في تحليله عندما لا يأخذ بأطروحات هذا الحقل وما كتب فيه، وإشكالاته، لذا سنلقي إطلاله سريعة عليه  - بإيجاز – للقارئ العربي .

* تعريف اللـسـانيات :

6349 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com