توطئة :
تظل المبادئ و النظريات تسبح في أجواء عالية حتى تبرهن على التحقق في الواقع الملموس ، وتحوِّل المبدأ النظري إلى الفعل المنظور . والاختلاف و التنوع سنة ثابتة في الكون ، وقانون اجتماعي يحكم البشر منذ الأزل ..و البشر وهم يخوضون تجاربهم في الحياة يدركون تعدد الانتماءات ، وتباين القناعات ، ويحاولون جاهدين أن يجدوا مربعات للالتقاء و التفاهم و التعايش ..في حين تظل الثوابت هي شعار كل أمة تمدها بالخصوصية و التمايز ، وتضمن لها الفعل و الصيرورة و البقاء .
وقد استطاعت الثقافة الإسلامية أن ترسي القيم و الفضائل في المجتمع الإسلامي حيال (الآخر) ، وتجعل المسلم يتعامل معه من منطلق الاختلاف و التنوع ، وواجبه أن يستوعب ما يلائم طبيعته وفكره ، ولا يتعارض مع مرجعيته العليا ، ووحيه الأعلى .
وقد شهد الأباعد قبل الأقارب أن حضارة الإسلام لم تكن (حضارة الأنا) ، تستمد قوتها من عرقية مقيتة ولا من عصبية ضيقة ، تهين الإنسان وتلغي خصوصياته ، وتستعدي على دينه وفكره ، بل كانت حضارة التسامح التي ظلت ولا تزال تمد الأيادي مشرعة لاحتضان الآخر والحرص على خصوصيته ، ومد جسور التعاون معه على العيش المشترك ، و البناء المتواصل ، في ظل الحرية والإخاء الإنساني المنشود .
ويظهر هذا التسامح في رعاية الحريات الدينية، فالمسلم يؤمن بأن عقيدته أصح العقائد ، يؤمن بها ويوقف حياته من أجلها ، وهي الحق وغيرها هراء ، ولكنه لا يحمل الناس على عقيدته بالقوة المرهبة ، بل يعرض دينه على الناس في أجمل عرض ، وأرقّ عبارة ، وأحسن جدال ..
فا للحرية الدينية بُعد أساسي في حياة الكائن البشري، حيث يسعى إلى امتلاكها و العيش وفق مقتضياتها ، فيمارس طقوسه ، ويؤمن بمعتقداته ، بصفتها جزءا منه لا تنفصل عنه ، وحقه الطبيعي هذا مكفول منذ الأزل ، يختار فيعتقد ، ويؤمن فتتحرك جوارحه بالعبادة وأداء الشعائر ، ويمضي في سبيل عقيدته يعيش وفقها ، وينظم حياته على ضوء تكاليفها ...
وفي السنوات الأخيرة تعرَّضت الثقافة العربية والإسلامية لتحديات عالمية؛ لعل أبرزها نظرة ذلك (الآخر) إليها خصوصاً بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر المؤسفة، والتي من نتائجها آثارا وخيمة على الوجود الإسلامي في بلاد الغرب ، وتشكلت على إثرها صورة أكثر نمطية مما سبقها، وما تأسَّس عليها من تجديد البعض الدعوة إلى تصادم الحضارات وتصارعها.
ولا شك أن الحرية الدينية أخذت حيّزا كبيرا في الواقع المعاصر ، و العالم يعرف تحولات خطيرة على جميع الأصعدة يسهم الدين بقوة من قريب أو من بعيد في صوغها وتوجيه مسارها بعد عقود من العلمانية التي سادت المجتمعات الأوروبية الحديثة و المعاصرة ، و اليوم يتقهقر الفكر العلماني ليرجع الدين إلى سابق عهده يرسم منهج الفكر ، ويضبط منازع النفس سلبا أو إيجابا ..وهذا الحضور الجديد يولد بلا ريب الصراعات بين أفكار وسياسات تقف في كثير من الأحيان عقبة في وجه الحوار المتمدن بين الأمم و الشعوب .
1 ـ الحرية الدينية في التأسيس القرآني :
لعل أهم مصدر في تأسيس التصورات في الإسلام هو القرآن الكريم الذي تلتف حوله جميع الفرق و المذاهب على اختلاف توجهاتها ، وتباينها في التأويل و التفسير .
وقد حدد الإسلام منذ البداية في الدعوة للإسلام عدم إجبار الناس على الدخول في الإسلام ، قال تعالى :" لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي " ( البقرة 256)، ويقول سبحانه مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم : " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس4) ، وقال تعالى : " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر " (الغاشية 5) .
وعدم الإكراه يبقى الوسيلة البارزة في بناء الحضارة الإنسانية ، وتشييد المجتمع الإنساني البعيد عن الحساسيات الدينية و الثقافية ، الساعي إلى بناء الثقافة المنشودة ، وهي ثقافة السلم العالمي التي تنكر سلطة الآبائية كمنطلق للمعتقد و الممارسة ، وتزدري الفكرة الفرعونية التي تُنمط الآخر ، وتجعله يدور في فلك المستبد الغشوم ، المتسلط باسم الدين حينا ، أو باسم السياسة أحايين أخرى . : " وقال فرعون ذروني أقتل موسى فليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد " إنه الأنموذج الإنساني الخطير المؤمن بالعنف كوسيلة للإصلاح و التغيير عبر سياسات القتل الجماعي ، والقمع الفكري المنظم ، أو بعبارة أخرى " الإرهاب الرسمي " الذي تمارسه المؤسسة الرسمية عبر التاريخ .
لقد وضع القرآن الكريم لبنات عالمية إنسانية جديدة وغير مسبوقة ، فقد بدأ بالتأكيد على أن الله سبحانه وتعالى هو رب العالمين " الحمد لله رب العالمين "( الفاتحة1) ، وليس رب شعب دون شعب ، ولاأمة دون غيرها من الأمم ، ثم أكد على أن الإنسان الذي كرمه الله بأن نفخ فيه من روحه ليكون ربانيا هو آدم أبو البشر أجمعين. " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون ، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ( الحجر 28-29).
ولذلك فإن التكريم الإلهي هو لمطلق الإنسان " ولقد كرمنا بني آدم " (الإسراء70)، وليس هذا التكريم حكرا لشعب دون الشعوب ، ولا لأبناء دين من الأديان أو حضارة من الحضارات .()
بل إن الإسلام جعل أساس القرب من الله سبحانه ، هو التقوى و القرب و العمل الصالح " إن أكرمكم عند الله أتقاكم "( الحجرات12)، ولم يحتكر الإسلام النجاة لأبناء شريعة دون الشرائع الأخرى التي جاءت بها الرسالات السماوية في إطار الدين الإلهي الواحد ، وإنما أكد على أنه " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ( الزلزلة7-8)،وأشار إلى أن الذين آمنوا بوحدانية الذات الإلهية وبالغيب و اليوم الآخر و الحساب و الجزاء ، وعملوا صالحا في حياتهم الدنيا وفق أية شريعة من الشرائع الإلهية الحقة ، لا يمكن أن يستووا بالذين جحدوا الحق بعد أن عرفوه ، فكفروا بالألوهية الواحدة وبالغيب ، ولم يعملوا صالحا وتنكبوا كل شرائع السماء ().
" إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"(البقرة62). و القرآن إذ يدعو إلى حرية المعتقد وممارستها دون بغي أو تسلط من أي جهة كانت ، دينية أم مدنية ، فإنه يبرز التمايز و التغاير بين بني البشر على أنه نعمة يشعر في ظلها الإنسان بالوجود ، فهو ليس نسخة من غيره ، له من القدرات و الطاقات و المواهب ما يجعله يصنع الحياة ، وينطلق في أرجائها ، ليحقق سر وجوده ، وعمارته للكون الذي سُخر له .
وفي أكثر من صورة ووفق أشد الصور واقعية ووضوحا يحدثنا القرآن عن التغاير بين الناس فيقول : " لكل جعلنا شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات "(المائدة48)،"ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " (هود118-119)، " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض "( البقرة253)، " ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ، من بعد ما جاءتهم البيِّنات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ، ولكن الله يفعل ما يريد " ( البقرة253) .
بل إن القرآن انطلاقا من منظوره الواقعي لحركة التاريخ البشري يبين في أكثر من موضع أن الأكثريات البشرية تقف دائما بمواجهة الحق الذي لا تنتمي إليه إلا القلة الطليعية الرائدة ، نظرا لما يتطلبه هذا الانتماء من جهد وتضحية وعطاء لا يحتمله الكثيرون " بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون" ( المؤمنون70)، وكثيرا ما يكون اختلاف الألسنة والألوان ، الذي يعقبه تغاير الثقافات وتعدد الأعراق ، أحد العوامل الأساسية التي تكمن وراء التنوع التاريخي الذي هو بحد ذاته صيغة من صيغ الإبداع الإلهي في العالم " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" ( الروم20)، " ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين "(الروم22).
أما عن الهدف من وراء هذا التغاير فإن القرآن يجيب " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين " ( البقرة251)، " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (الحج40 ).
إن هذا التغاير و التدافع المركوز في جبلة بني آدم يقود إلى تحريك الحياة نحو الأحسن ، وتخطي مواقع السكون و الفساد ، ومنح القدرة للقوى الإنسانية الراشدة كي تشد عزائمها قبالة التحديات ، وأن تسعى لتحقيق المجتمع المؤمن الذي ينفذ أمر الله وكلمته في العالم ().
والإيمان في الإسلام يجيء وليد يقظة عقلية واقتناع قلبي ، إنه استنابة الإنسان العاقل للحق ، ثم اعتناقه عن رضا ورغبة ، وقد عرض الإسلام نفسه على الناس في دائرة هذا المعنى المحدد ، غير متجاوز له في قليل ولا كثير " وقل الحق من ربكم فمن شاء ، فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الكهف29).
وصاحب الرسالة عليه الصلاة و السلام سلك هذا المسلك في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته " نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد "( ق45)، و القارئ اللبيب يرى أن الكتاب العزيز قد تناول المعارضين له و الكافرين به بأساليب شتى ليس من بينها قط إرغام أحد على قبول الإسلام ، وهو عنه صاد ،كل ما ينشده الإسلام أن يعامل في حدود النصفة و القسط ، وألا تدخل عوامل الإرهاب في صرف امرئ انشرح صدره به .
ولم يكن على الإسلام من بأس ، ولن يكون عليه بأس أبدا لو أصرَّ ألوف المنتسبين إلى الأديان الأخرى على البقاء في معتقداتهم ، فكلمة " لكم دينكم ولي دين" ( الكافرون6) ، وكلمة " ..لي عملي ولكم عملكم "(يونس41) ، هذه الكلمات وأمثالها مما تردد في صدر الإسلام هي التي ظلت تتردد في أواخر العهد المدني ، ويخاطب بها كل إنسان ، فالإسلام لم يفرض على النصراني أن يترك نصرانيته ، أو على اليهودي أن يترك يهوديته ، بل طالب كليهما ـ ما دام يؤثر دينه القديم ـ أن يدع الإسلام وشأنه يعتنقه من يعتنقه ، دون تهجم مُرِّ أو جدل سيء().
و الواقع أن الإسلام لم يشتبك في قتال مع النصارى أو اليهود إلا بعد أن أن وصل هؤلاء وأولئك إلى منزلة في السلوك و السياسة عريت عن الشرف و العدالة ، وبعُدت عن مرضاة الله كما يصورها موسى وعيسى أنفسهما .. ومع ذلك فإن القتال الذي وقع لم يشترط الإسلام لانتهائه شروطا يرضاها الجميع ، وتتفق مع أفهام الفريقين المتنازعين مهما ضاقت أو اشتطت ، هي العدل و الرحمة ودائرة العدل و الرحمة رحبة الآفاق ، واسعة الأقطار ، يتعاون فيها أهل الأديان جميعا على حسن الجوار ، وكرم اللقاء بل إنها تتسع للمؤمنين ، ولمن لا يدين بدين .
إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يعرف لها نظير في القارات الخمس ، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة ، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار مثل ما صنع الإسلام () .
بل إن الإسلام يرى أن مجتمعه يضم أناسا مختلفي الدين وقد يثور بينهم نقاش حول العقائد التي يؤمنون بها ، فيتحمسون لنصرتها ، كلٌّ يريد أن يثبت الحق الذي ينتمي إليه ، فأمر أتباعه بالتزام الأدب و الهدوء في الجدال مع المخالف في الدين. " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا ، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون "(العنكبوت46) .
ولا بأس بمساجلات عقلية تسودها روح المباريات الرياضية ، وتترك فيها الفرصة للإنسان أن يتأمل ما عنده ، ويكشف قيمته الحقيقية ، والقرآن الكريم به حشد رائع من الاستدلالات الوثيقة التي تناولت بالرد الشبه السائدة لدى معارضيه ، و الشبه التي يمكن أن يختلقها الجدل ، ولن تعرف الأعصار المتطاولة حتى قيام الساعة كتابا مثل القرآن الكريم يعرض قضية الإيمان ويدعمها بأنواع الأدلة معتمدا على حرية العقل و الضمير وحدها في إحقاق الحق وإبطال الباطل .
" أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ، لايسأل عما يفعل وهم يسألون ، أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون " ( الأنبياء 21-24) ، إن محمدا صلى الله عليه وسلم في دفاعه عن التوحيد يطلب من خصومه الدليل وينظم في دفاعه عن توحيد الأنبياء الذين سبقوه و الكتب التي جاءوا بها .
إن الجو الذي ينتظر ميلاد الإيمان الصحيح فيه هو الحرية النبيلة ، والطمأنينة الشاملة وهو ما ينشده الإسلام للناس كافة ، قد يؤمن بعض الناس بالرشوة وقد يؤمن بعض آخر بالسيف ، وقد ينتقل الإيمان بطريق التوارث من الأسلاف إلى الأخلاف ، لكن المثل الأعلى الذي رسمه القرآن الكريم للإيمان هو تفكير هادئ واعٍ في آفاق الأرض و السماء ، يعود المرء منه وهو معلق القلب برب الأرض و السماء ().
2 ـ العلاقة مع الآخر في إطارها الإسلامي:
إن التعدد في المخلوقات وتنوعها سنة الله في الكون وناموسه الثابت ، فلكل شيء في هذا الخلق طبيعته وخصائصه وصفاته التي تقارب غيره أحيانا ، وتتنافر عنها في أحايين أخرى ، وهكذا فطبيعة الوجود في الكون أساسها التنوع و التعدد .
والإنسانية خلقها الله وفق هذه السنة الكونية فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى ، وكل من تجاهل وتجاوز أو رفض هذه السنة الماضية لله في خلقه فقد ناقض الفطرة و وأنكر المحسوس .
وقد أكدت الآيات في القرآن الكريم أن اختلاف البشر في شرائعهم هو أيضا واقع بمشيئة الله ومرتبطة بحكمته . يقول الله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا " (المائدة 48).
قال ابن كثير : " هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد " . ()وفي معنى الآية يقول الشيخ محمد رشيد رضا : " ( لوشاء ربك) أيها الرسول الحريص على إيمان قومه الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته واتباع هدايته ( لجعل الناس أمة واحدة ) على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة ، لا رأي لهم فيه ولا اختيار ، وإذا لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المسمى البشر وبنوع الإنسان ، بل كانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل ، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق وطاعة الله عز وجل ، فلا يقع بينهم اختلاف ، ولكنه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم ، لا ملهمين ، وعاملين بالاختيار . ()
فالإسلام يعترف بوجود الاختلاف وعدم إمكانية جمع الناس على دين واحد ، ويطلب من الدعاة ورثة الأنبياء القيام بواجب البلاغ في الدنيا واستفراغ الوسع في الإرشاد و النصح للعالمين ثم الله يتولى ـ بحكمه وعدله ـ يوم القيامة حساب المعاندين ، وجزاء المؤمنين .
بل وضع الإسلام للحوار قواعده وآدابه ، ولعل أبرز هذه القواعد والآداب ما ورد في سورة "سبأ " كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحاور مجموعة من غير المؤمنين شارحا ومبينا ومبلغا ، ولكنهم كانوا يصرون على أن الحق إلى جانبهم فحسم الحوار معهم على قاعدة النص : " وإنا أو إياكم لعلى هذى أو في ضلال مبين " سبأ 24، لقد وضع الرسول نفسه في مستوى من يحاور تاركا الحكم لله ، وهو أسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار . وعن احترام اختياره حتى ولو كان على خطأ ، وذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة "قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون " واعتبر اختياره للحق بأنه إجرام في نظرهم ووصف اختيارهم للباطل وهم على باطل بأنه مجرد عمل ، ثم ترك الحكم لله . " قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم " .
إن احترام حرية الاختيار هنا ليس احتراما لخطأ ، فتسفيه وجهة نظر الآخر ومحاولة إسقاطها ليس الهدف الذي يرجوه الحوار الجاد الذي يكوِّن أحد أهم عناصر الاحتكاك الفكري و التكامل الثقافي و التدافع الحضاري بين الناس ، ومن دون ذلك يركد الذهن ، ويفقد التعطش إلى المعرفة التي هي عود الثقاب الذي يلهبه ، وتتحول مساحات الفكر إلى بحيرات آسنة ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : " ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، ولكن الله ذو فضل على العالمين " .(البقرة 251).
بل لقد جعل الإسلام من الآخر الديني جزءً من أولي الأرحام عندما أقام الأسرة -وليس فقط الأمة- على التنوع الديني. فأصبحت الزوجة الكتابية سكَنا يسكن إليها المسلم، وموضع محبته ومودته، بينهما ميثاق الفطرة.. حتى لكأنهما ذات واحدة يجمعها لباس واحد: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ (البقرة:187).(10)
ولأن فلسفة الإسلام وهي تتطلع إلى المثالي، لا تغفل عن مكنونات "الواقع" تميزت بالعدل الذي لا يضع كل أهل الكتاب في سلّة واحدة وصنف واحد، بينما ميّزت بين فرقائهم بحسب موقف كل فريق من "الكلمة السواء"، التي هي التمايز في الشرائع بإطار وحدة الدين: "الأنبياء أبناء علاّت، دينهم واحد، وأمهاتهم شتّى" (متفق عليه). ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران:64).
فأهل الكتاب ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾(آل عمران: 113-115).
وليس من العدل أبدًا التسوية بين هؤلاء الذين تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، وبين الذين دخلوا في لون من الشرك والكفر: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾(المائدة:72).
لكن الإسلام مع هذا التمييز بين فرقاء أهل الكتاب، والعدل في التمييز بين مواقفهم من "الكلمة السواء"، قد جعل حساب كل ذلك إلى الله وحده يوم الدين. أما في الدنيا والدولة والتكريم الإلهي لمطلق بني آدم، فقد قرر الإسلام لكل هؤلاء الفرقاء ذات الحقوق وذات الواجبات التي قررها للمسلمين المؤمنين بكل الكتب وكل النبوات والرسالات.. وبنص عبارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده لنصارى نجران وكل من ينتحل دعوة النصرانية: "فإن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم".
تلك هي مرتكزات التعايش مع الأديان الأخرى، في القرآن الكريم، وفي التطبيق النبوي لهذا القرآن الكريم."().
وكان صلى الله عليه وسلم يخيّر الناس بين الدخول في الإسلام, أو البقاء على دينهم, ولكن بعد أن يعقد معهم عهدًا يطمئنِّون به على دينهم وأعراضهم وأموالهم, ويتمتَّعون بذمَّة الله ورسوله, وفي ذلك يروي بريدةرضي الله عنه وصيَّة من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال عقد لواء جيش أو سرية لأحدٍ من أصحابه إذ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله, ومن معه من المسلمين خيرًا, ثم قال (اغزوا بسم الله في سبيل الله, قاتلوا من كفر بالله, اغزوا, ولا تغلوا, ولا تغدروا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال, فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم, ادعهم إلى الدخول في الإسلام, فإن فعلوا فاقبل منهم, وكفَّ عنهم, ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين, وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين, وعليهم ما على المهاجرين, فإن أبوا أن يتحوَّلوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين, ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء, إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم».([10])
كما أنه من أسس النظرة الإسلامية للمخالف في الدين " أن المسلم ليس مكلفا أن يحاسب الكافرين على كفرهم ، أو يعاقب الضالين على ضلالهم ، فهذا ليس إليه ، وليس موعده هذه الدنيا ، إنما حسابهم إلى الله في يوم الحساب ، وجزاؤهم متروك إليه في يويوم الدين ، قال تعالى : " وإن جادلوك فقل : الله أعلم بما تعملون ، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون " (الحج 68-69). وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب : " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ، وقل آمنت بما أنزل أعمالكم ، لا حجة بننا وبينكم ، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ( الشورى15) .
وبهذا يستريح ضمير المسلم ، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر ، وبين مطالبته ببره والإقساط إليه ، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد .
كما أن المسلم يؤمن بأن الله يأمر بالعدل ، ويحب القسط ، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ، ولو مع المشركين ، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين ، ولو كان الظلم من مسلم لكافر . قال تعالى : " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى "( المائدة 08). وقال صلى الله عليه وسلم : " دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرا ـ ليس دونها حجاب " ().
ومن الناس من يستند إلى بعض النصوص الدينية من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية ، يفهمها فهما سطحيا متعجلا ، مستدلا بها على تعصب الإسلام ضد المخالفين له من اليهود و النصارى وغيرهم . كقوله تعالى :" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير " ( آل عمران 28).
وقال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " (النساء 144) .
وقوله أيضا : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق "(الممتحنة 1).
وفي سورة المائدة : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهممنكم فانه منه"(الآية 51-52 ).
و الحق أن الذي يتأمل هذه الآيات تأملا فاحصا ، ويدرس تواريخ نزولها وأسبابه وملابساته يتبين له :
ـ إن النهي إنما هو عن اتخاذ المخالفين أولياء بوصفهم جماعة متميزة بديانتها وعقائدها وأفكارها وشعائرها ، أي بوصفهم يودا أو نصارى أو مجوسا أو نحو ذلك ، لا بوصفهم جيرانا أو زملاء أو مواطنين .
ـ إن الموادة التي نهت عنها الآيات ليست هي موادة أي تحالف في الدين ، ولو كان سلما لمسلمين وذمة لهم ، إنما هي موادة من آذى المسلمين وحاد الله ورسوله .
ـ إن الإسلام أبا ح للمسلم التزوج من أهل الكتاب ، و الحياة الزوجية يجب أن تقوم على السكون النفسي و المودة و الرحمة ، كما دل على ذلك القرآن في قوله تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة "(الروم 21) .
وهذا يدل على أن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها ، وكيف لا يواد الرجل زوجته إذا كانت كتابية . وكيف لا يواد الولد جده وجدته وخاله وخالته إذا كانت أمه ذمية ؟ .
ـ إن الحقيقة التي لا شك فيها أن الإسلام يؤكد إعلاء الرابطة الدينية على كل رابطة سواها ، سواء كانت رابطة نسب أو إقليم أو عنصر أو طبقة ، فالمسلم أخو المسلم ، وهو أقرب إليه من أي كافر ولو كان أباه أو ابنه أو أخاه .
وهذا ليس في الإسلام وحده ، بل طبيعة كل دين ، وكل عقيدة ، ومن قرأ الإنجيل وجده يؤكد هذا المعنى في أكثر من موقف () .
3 ـ التساكن الديني في المجتمع الإسلامي ..قراءة في الفعل التاريخي :
لم تكن حركة الفتح الإسلامي حروبا دينية خاطفة ، تقتحم الحدود ، وتُروع الآمنين ، وتفرض دينا بالقوة على الناس في أوطانها ، بل كانت حروبا انجلى غبارها عن استقرار وتمدن ورفاه ، شعرت الشعوب المفتوحة تحت ظل السيادة الإسلامية بالحرية في معتقداتها ، والأمان في إقامة شعائرها ، وتحريرا من الزعامات الجائرة التي كبتت الأنفاس ، وصادرت الحريات قونا متطاولة من الزمن .
ثم ما لبث الفاتحون أن استوطنوا البلاد المفتوحة ، وساكنوا أهلها ، واختلطوا بهم في القُرى و المداشر و المدن ، ، ومن خلال هذا الاحتكاك الاجتماعي ، والتبادل الثقافي ، والحوار اليومي ، والنشاط الاقتصادي ..كانت ( الألفة الجامعة ) التي تربط المسلم ببني جنسه من البشر الآخرين .لا يحجزه دينه الحق عن التواصل مع الآخرين ، يحقق معهم فريضة التعارف التي أمر بها في الذكر الحكيم : " يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .
وفي التاريخ الإسلامي نقرأ كيف التزم خلفاء المسلمين وقادتهم بالوفاء لأهل الأديان المختلفة ، وما نقرأه في التاريخ من تجاوز وعدوان ـ من طرف هذا الخليفة أو ذاك ، أو هذا الأمير أو ذاك ـ إنما هو محض استثناء يشذ عن القاعدة ، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه ..
وقد كان العصر النبوي مصداقا أمينا في الإحسان إلى أهل الكتاب وغيرهم ..مما هو ذائع شائع ومتاح ..وسوف أقتصر على نماذج مختصرة بدءا من عصر الخلافة الراشدة إلى ما بعده من عصور الإسلام الزاهرة .
وبرز ذلك في عقد الذمَّة الذي كتبه خالد بن الوليد رضي الله عنه في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأهل الحيرة في العراق، وكانوا من النصارى, إذ جاء فيه: « أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين ، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم الجزية فقد أتيناكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة ، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم ".()
يقول أبو يوسف صاحب كتاب الخراج: «وتُركت البيع والكنائس لم تُهدم لما جرى من الصلح بين المسلمين وأهل الذمَّة, ولم يردَّ ذلك الصلح على خالد أبو بكر ولا ردَّه بعد أبي بكر عمر ولا عثمان ولا عليّ رضي الله تعالى عنهم أجمعين».([14])
وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل إيلياء (القدس) نصُّ على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم, وجاء فيه: «هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم, وكنائسهم وصلبانهم, وسقيمها وبريئها وسائر ملَّتها، أنَّها لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارّ أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..».([15])
هذا وقد حاول كثير من اليهود وثلة من المؤرخين الأوروبيين تحريف الوثيقة لتكون عطاءً شاملاً للنصارى واليهود على حد سواء في مسألة الإقامة والسكنى في القدس، وهذا ـ لا ريب ـ مردود بنص المعاهدة الصريح حيث لا مجال للشك أو التحريف، فالعهدة منقولة إلينا في كتب التاريخ الموثقة فضلاً عن أنها موجودة في بطركية الروم الأرثوذكس بكنيسة القيامة في القدس الشريف، إلا إذا كان لدى اليهود وثيقة أخرى نسخوها بأيديهم ، ثم قالوا: هذا من عند عمر مثلما حرفوا التوراة ثم قالوا: هذا من عند الله "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون".
وقد ذكر الإمام ابن القيم الشروط العمرية في كتابه أحكام أهل الذمة، وعزاها لعدد من المصادر : أولها مسند الإمام أحمد، فقد روى ابنه عبد الله في زوائده على المسند، فقال: حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثني (عمي) أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحدٍ من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: "إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا: ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاّية (بناء كالدير)، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولافي منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشا للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواقالمسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق().
ومن المستشرقين المؤرخين من يشكك في نسبة الشروط أو الأوامر المتعلقة بالزي إلى الخليفة العادل عمر بن الخطاب؛ لأن كتب المؤرخين الأقدمين الموثوق بها،
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.