ترجل الفارس في زمن ازدادت فيه الحاجة لأمثاله، زمن تنازل فيه كثير ممن يسمون مثقفين عن أدوارهم التاريخية، واستقالت عقولهم وأقلامهم من مهمة التفكير و الإبداع، وركنوا إلى المناصب والألقاب، و تبرير الأوضاع القائمة مقابل التعيش من موائد أصحاب السلطة و المال و النفوذ.
غادر المسيري و كأن من حكمة الله أن لا يستنفذ الرجل جهده و يكمل رسالته، لكي يشعر الآخرون بمسؤوليتهم و لا يتكلوا على جهد أفراد مهما عظم شأنهم لأن المسؤولية يتحملها الجميع.
ترك المسيري تراثا ضخما أفنى كل عمره وماله وصحته في انجازه، وزهد في كثير مما يتسابق صغار النفوس لبلوغه، فجمع بين المعرفة العميقة و الأفق الواسع و الزهد الكريم و التواضع الجم و التضحية الجسيمة و المثابرة إلى آخر جهد ، ولعل هذه الإشارات تلخص دروس حياة الفقيد و تجربته نبراسا لمن بعده:
1 ـ الدرس الأول : الإبداع بدل الإتباع
كان المسيري نموذجا للمثقف الذي درس في جامعات الغرب، و تتلمذ على أساتذته، وكانت تجربته مختلفة عن كثير ممن ذهبوا قبله وتعرضوا إما للانبهار المطلق و الاستلاب الكامل(الطهطاوي) ، أو للصدمة القاسية و التقوقع على الذات (سيد قطب) ، بل استفاد من الإمكانيات المعرفية المتاحة ، و اختط لنفسه طريقا وسط ما تعج به الجامعات الأمريكية من توجهات ، وتميزت أفكاره واختياراته النقدية منذ أن كان طالبا يجادل أساتذته إلى أن أصبح أستاذا يستثير أسئلة طلبته.
2 ـ الدرس الثاني : التركيب بدل التجزيء
أبدع المسيري في توضيح الطابع التركيبي للفكر و انتظامه في نماذج تفسيرية كبرى رغم ما يبدو من تجزئة وذرية في أي خطاب، فوراء كل جزئية أو موقف نموذج كامن متحكم ، وتصور ضمني للإنسان والطبيعة و الوجود، وانطلاقا من ذلك أعمل حسه النقدي المرهف لكشف أسس الفكر الغربي و نماذجه المتتالية ، وتوسع في ذلك إلى دراسة الصهيونية بنفس المنهج، و انتقد التقاليد الأكاديمية المغرقة في التفاصيل وشكليات البحث العلمي غافلة عن الأبعاد الفلسفية و القيمية للأفكار والمعلومات والتي لا يدرك أصحابها أنهم يخدمون نموذجا كامنا بدون وعي، فأعاد الاعتبار للإنسان كونه مبدأ الفكر و منتهاه ومحدد غاياته ونهاياته، وواعيا بمعنى وجوده وحركته دون استلاب لما يسمى بالأنساق والبنيات المجردة أو المعرفة الموضوعية المتعالية.
3 ـ الدرس الثالث : الصهيونية أيديولوجيا و ليست دينا
عالج المسيري خلال أكثر من ربع قرن موضوع الصهيونية الذي كانت تحول دون فهمه أطر فكرية مبسطة، فالقوميون لم يكونوا يرون في الصهيونية إلا استعمارا وهيمنة ، و الماركسيون لا يتجاوزون مقولة الصراع الطبقي والامبريالية والإسلاميون يرون فيها امتدادا لحرب عقائدية مقدسة، أما السياسيون الواقعيون فقد قرؤوا الصراع على ضوء موازين القوة ، فجربوا السلاح أولا ثم لجئوا للمفاوضات التي لا تنتهي. واختار المسيري بديلا لذلك كله إطارا فكريا أشمل، يضع الصهيونية في سياق متوالية النماذج الغربية، ويستبعد التفسير السياسي البسيط والباحث عن حلول غير مكلفة من جهة، كما يستبعد النظرة الدينية المغلقة التي ترى في اليهود جنسا شريرا تجب إبادته من جهة ثانية، واستطاع من خلال بحثه الموسوعي المتعدد والمتكامل أن يأنسن اليهود وينزع عنهم الطابع الأسطوري، فهم ليسوا أشرارا بالفطرة ولا أبطالا خارقين كما أنهم ليسوا شعبا واحدا وليسوا موحدين على مستوى العرق أو الثقافة ولا تجمعهم فكرة أو أيديولوجيا واحدة... وإنما جرى استثمار وضعيتهم من قبل أطراف منهم : كجماعة وظيفية في سياق حضاري غربي حدث فيه توظيف للتراث الديني اليهودي من طرف مجموعات علمانية في إطار منظومة مصالح دولية. وساعد هذا النموذج على تحطيم أساطير " الشعب اليهودي " وفضح الكيان الصهيوني وبيان ضعفه وتناقضاته الفكرية والعرقية والسياسية والإستراتيجية، وأعطى للمقاومة مبررات أكثر نضجا ومعقولية وفتح أمامها إمكانيات هائلة. كما نزع مبررات الفكر الديني التقليدي الذي عوّض معركة تحرير الأرض والكرامة بحرب عقائدية أبدية، وقام بتأويل آيات القرآن الكريم عن اليهود ليجعل منهم مستهدفين بسبب يهوديتهم... وأبرزفي المقابل أن دور القيم الدينية هو التحريض على الدفاع عن الحق والحرية والكرامة ضد أي عدوان كيفما كانت عقيدته.
4 ـ الدرس الرابع : الأكاديمي صاحب الرسالة
لم يكن المسيري يشعر أنه مجرد أكاديمي غايته أن يستقبل في أروقة الجامعات والمؤتمرات أو يستدعى للندوات والمحاضرات، وتسجل باسمه مقالات وأبحاث يرفع بها رأسماله الرمزي الذي يعود عليه بالحظوة والمكسب، وإنما عاش مثقفا صاحب قضية، مهموما بأسئلة وجوده كإنسان ومعنى انتمائه لوطن وأمة... وقد ظهر ذلك جليا في تجربته بأمريكا عندما كان طالبا يشارك في الأنشطة الجامعية ويتحدث في البرامج الإذاعية ويكتب المقالات وينسج علاقات مع مفكرين أحرار. ولم يكن هذا مجرد نشاط إضافي في أوقات الفراغ بل كان هو الدافع الرئيسي لتحوله من تخصص الدراسات النقدية والأدبية إلى إنجاز مشروعه المتفرد حول الصهيونية، مستثمرا بذلك رصيده ومكتسباته في الفلسفة والعلوم الإنسانية. وقد كان بإمكانه البقاء في دائرة ما يسميه الأكاديميون ب " التخصص " ، لكنه أبى أن يقبل بمجرد راتب ولقب مدرس لأن قضيته التي يؤمن بها كانت أكبر من ذلك، وجعلته يسخر مجهوده العلمي ويحقق كفرد ما عجزت عن فعله مؤسسات ومراكز أبحاث كبيرة.
5 ـ الدرس الخامس : المعرفة والقيم
من الإضافات المميزة للمفكر الراحل، إعادة ربط المعرفة بالقيم. فانطلاقا من تبنيه لمنهج معرفي يعتمد النماذج الكلية التي تحمل نهايات فلسفية ومواقف من الإنسان والكون والبداية والمصير ومعنى الحياة، لم تعد المعرفة مجرد حرفة يقتات منها المثقف أو جدلا نظريا للإثبات والنفي، ولكنها موقف يحيا به الإنسان ويستهدي. ورغم ذلك لم يسقط المسيري في مأزق الأيديولوجيا، والفرق بين الأمرين أن المثقف الذي ينطلق من القيم يتحرى الحقيقة ويحترم مقتضيات البحث النزيه، ويحترم الرأي المختلف ويتواضع في عرض يقينياته ويحاور باستمرار ويبحث عن المشترك الإنساني ويستفرغ جهده في النظر، أما المثقف أسير الأيديولوجيا فهو ينطلق من قبيلته العقائدية والحزبية، ويسخر معرفته لمصلحة معتقاته ثم سرعان ما يتعب وينحط، فينقلب رأسا على عقب ويغير ولاءاته في كل اتجاه ليذبح الأيديولوجيا قربانا للسلطة وأهلها. أما المسيري فقد نضجت تجربته المعرفية على ضوء القيم التي يؤمن بها والتي لم يبدلها لا خوفا ولا طمعا. لقد كان إنسانيا في مركسياته وإنسانيا في إسلاميته، وفيا للقيم النبيلة وإن اجتهد في تجديد أطرها المرجعية.
6 ـ الدرس السادس : تقريب المعرفة
تميزت عطاءات المرحوم بنوع من اتساع مجال التلقي وسعة الانتشار، وهذا يعود إلى قدرته على التبسيط دون إخلال والتقريب دون ابتذال. فقد عرفت الساحة الفكرية العربية أنصاف مثقفين ينتجون خطبا أكثر مما يصوغون أفكارا، إنتاجهم غزير ولكنه هزيل المضمون وأغلبه مستعاد ومكرر، وفي المقابل كان هناك مفكرون حبيسو أبراجهم العاجية يخفون عجزهم عن الإبداع وراء العبارة المغلقة والتركيب الملغز، حتى أضحت كتاباتهم طلاسم وحيلا معجمية، وهذا ما يعطي شعورا بالتفوق والاستعلاء على الجمهور مما أدى إلى فصل الفكر عن آثاره العلمية وغاياته التنويرية.
وقد كسر المسيري هذا الحاجز وبنا جسرا مع الجمهور وبسط المقولات الفلسفية التي كانت تعد مبهمة لدى أكثر القراء، بل أضاف وأبدع وجمع شتات معارف ومدارس في نماذج مركبة يسهل فهمها واستيعابها، ساعده في ذلك تمكنه من اللغتين العربية والإنجليزية وقدرته على استثمار تفاصيل الحياة اليومية التي يعدها البعض مادة تصلح للسرد الأدبي أو الأحاديث اليومية ولا تجوز في متن الفكر المجرد. وقد يستغرب القارئ لأول وهلة حينما يبدأ المفكر الراحل مقالا له وهو يتحدث عن طفلته أو زوجته أو طعامه أو نومه أو سفره أو طفولته... ثم ينطلق شارحا مبدعا بأسلوب سهل وتوظيف عميق، مزيلا عن الفكر صفة الترف الزائد أو الحرفة الخاصة، وبذلك أعاد له حيويته العملية باعتباره رؤية وموقفا يتخلل كل جوانب الحياة وينعكس في كل التصرفات. إضافة إلى تحطيم المعازل الأيديولوجية التي كانت منغلقة في إطار مقولات ومفاهيم لا تتحاور ولا تتفاهم.
7 ـ الدرس السابع : التضحية والصبر
يتضح لقارئ سيرة المرحوم والمطلع على شهادات عارفيه، أن له شخصية قل نظيرها، فقد تميز بالتضحية في صمت والصبر الطويل على الشدائد، والمثابرة العنيدة لتحقيق الغايات. لقد كان المسيري فعلا شابا محظوظا حينما سافر للدراسة بأمريكا ترعاه عائلته الميسورة، ولكن أعظم منجزاته يعود بالأساس إلى صبره وتضحيته، فقد اشتغل بصمت طيلة أكثر من ربع قرن بعد أن قهر الذئاب الثلاثة التي كانت تعترضه حسب تعبيره : ذئب المعلومات وذئب الثروة وذئب الشهرة. فزهد في ذلك كله ولاقى صعابا كثيرة، أقلها سرقة أثاث شقته ومعها كل ملخصات أبحاثه ولكنه ورغم ذلك أعاد الكرة من البداية. وأخطرها تهديده بالاغتيال من طرف عصابات صهيونية.
يحكي عنه الصحفي أحمد منصور أنه حين أراد طبع الموسوعة لم يجد معينا، فشرع في بيع ممتلكات العائلة وحمد الله لأن بيع آخر شقة تزامن مع استكمال تكاليف الطبع. والغريب أن حجم الاهتمام بعمله من طرف الحكومات والمؤسسات والأفراد في العالم العربي خيب توقعاته حيث لم يبع إلا بضع عشرات من النسخ، وتأمل كيف تبخل أمة على مشروع يهم مصيرها وتصرف بلا حساب في موائد القمار... بل أكثر من ذلك كانت هناك مؤامرة لعرقلة إصدار الموسوعة في مصر لولا أن قيض الله لها بعض الغيورين. وفوق ذلك كله عانى المرحوم من مرض عضال ( سرطان العمود الفقري ) وتعايش معه مدة طويلة وخضع لدورات علاجية مستمرة، ورغم ذلك لم يوهن المرض من عزيمته ولم يقض على روحه المرحة الساخرة وعمله الدئوب إلى آخر لحظة من عمره.
8 ـ الدرس الثامن : المثقف المناضل
جمع المسيري بين مهمتين قلما نجح أحد في الجمع بينهما، وهذا دليل آخر على شعوره بحجم المسؤولية والتزامه بمقتضى الأفكار التي يؤمن بها ويدعو إليها : فقد كان منسقا لحركة " كفاية " ( تجمع للمعارضة المصرية ) في وقت يستنكف فيه المثقفون مجرد الحضور في موقف لا يرضاه الحكام.
وقد تعرض رحمه الله لضغوط كبيرة كي يتراجع عن قراره لكون السلطة في مصر ترغب في الإبقاء على صورة "حركة كفاية " كتجمع للمشاغبين والخارجين على النظام، في حين سيزيد وجود مفكر في حجم المسيري من قيمة هذه الحركة ويعطيها صورة أفضل. فنزل رحمه الله إلى الشارع رغم مرضه وشارك في المظاهرات وتحدث لوسائل الإعلام وتحدى السلطة ودعا للإضراب، وهو لم يشعر أبدا بأنه بعيد عن وظيفته كمثقف صاحب قضية ومدافع عن الإنسان وحقوقه. والغريب أن كثيرا من المثقفين بدئوا شبابهم مناضلين وانتهوا في أحضان السلطة أو متواطئين صامتين معها بعد أن يحصدوا ثمار نضالهم. أما المسيري فقد بدأ وبقي مثقفا مناضلا، بل ازداد نضاله مع كبره في السن ولم يكن ينتظر جزاء ولا شكورا.
9 ـ الدرس التاسع : المسيري الإنسان
لم تكن النزعة الإنسانية عند المفكر الراحل مجرد خطاب وشعارات، فقد كان يبحث في شبابه عن ملامح الإنسانية في الماركسية في زمن اشتغل فيه الرفاق بفلسفة الجدل والبنيات والاقتصاد وعوامل الإنتاج، وكان هو يبحث عن معنى لوجود الإنسان ووسيلة لتحقق إنسانيته لذلك سرعان ما اختلف مع الرفاق وبدأ يختط لنفسه طريقا مختلفا، ويؤكد في سيرته وحواراته أنه لم يعد لأصوله الإسلامية من باب التوبة الفردية المصاحبة لكبر السن والشعور بالضعف وقرب النهاية كما وقع لكثير من المثقفين الذين بدئوا لادينيين وانتهوا متصوفة، وهي صورة من صور البحث عن الخلاص الفردي، أما المسيري فقد كان يحمل هموم العالم سواء في ماركسيته أو إسلاميته، وقد كان همه البحث عن النموذج الفكري الأقدر على فهم الإنسان واستيعاب أبعاده المركبة وإيجاد أجوبة لأسئلته الوجودية والحلول لمشاكله الواقعية. وقد كان هذا القلب الكبير المتجاوز لحدود الذات الضيقة مصدرا لطاقة وقّادة وصبر طويل طبع حياته، ناهيك عن دماثة الخلق والحلم الواسع في علاقته مع طلبته وأصدقائه ومخالفيه وخصومه ومع كل الناس ( لم يستطع صاحب برنامج الاتجاه المعاكس جره إلى صراع الديكة مع سيد القمني، فلم يرفع صوتا ولا حرك يدا ولا أساء التعبير ولا هاجم الشخص، ليفشل بذلك خطة البرنامج وحوله إلى حوار هادئ...).
ولم ينس المسيري أن يكتب قصصا للأطفال، وهو ما يمكن أن يعده مفكر كبير " لعب عيال " لا يليق بأمثاله، ولكن نفسه الكبيرة تسع العالم كما يقول أهل العرفان، وقد صرح أحمد منصور أنه شاهده يلاعب الأطفال مدة طويلة متحملا شغبهم دون ملل أو نفور.
10 ـ الدرس العاشر : النقد منطلق البناء
بدأ المرحوم قبل وفاته مشروعا كبيرا حول النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي المعاصر واختار لذلك دراسة نماذج ممن يعبرون عمّا يسميه " الهيومانية الإسلامية " وهو مشروع واعد يجسد ما أراده أن يكون نموذجا معرفيا جديدا وبديلا لنموذج النزعة المادية التي ابتلعت ما عداها من المقولات الإنسانية في الغرب وصهرت كل ذلك في صيرورة آلية تفكك الإنسان والطبيعة والمعرفة والقيم، وبديلا في الوقت نفسه للنموذج التراثي المستلِب للإنسان.وإذا كان المرحوم قد أبدع في نقد الغرب فإن عمره لم يتسع لأكثر من ذلك، لكن أعماله تحمل بذور مشروع نقدي في اتجاه التراث يتجاوز عملية الترقيع والترميم التي تتحدث عن تحديث جزئي مرة في الفقه ومرة في الأصول ومرة في التفسير، ولا تحاول النفاد إلى العمق الفلسفي للفكر الديني. وكلها مسالك للحفاظ على المنظومة وتعطيل أي تجاوز أو إبداع يناسب حجم التحدي التاريخي ويتسلح بالشجاعة الفكرية، بدل الركون إلى مخاوف وهواجس تخشى على الهوية وتريد الحفاظ على هيكل لا روح له ولا دور إلا الإبقاء على وهم القوة والمجد الغابر، في حين تجري صناعة الواقع المحسوس بمفعول التحديث المستمر.
رحم الله الفقيد وجزاه كل خير، وأفضل تكريم له هو استمرار الجهد الفكري المبدع والعمل النقدي البناء والروح الأخلاقية السامية عند تلاميذه...
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.