آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  العقيدة و الكلام

دراسات قرآنية    |    دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول

  •     

التقيَّة الباطنية في المسائل الكلامية

أبو يعرب المرزوقي


تمهيد

من الخطأ المنهجي الدخول في خصومة مع المتكلمين حول قضايا الكلام الجزئية من دون تقديم البحث المبدئي في شروط إمكانه (وهم يزعمون وجوبه) أو علل امتناعه (ونحن ندعي أنه يمتنع أن يكون علما). فمن يقدم على ذلك يصبح متكلما مثلهم وخاضعا لمنطقهم مهما حاول التملص: وذلك هو المأزق الذي كان كل من حاول دحض النظريات الكلامية من مفكرينا القدامى يعاني منه وخاصة ابن تيمية وابن خلدون. فكلاهما تصور نفسه مطالبا بالبديل من الكلام الذي دحضه بكلام يظنه ممكنا ومقبولا. فكلاهما اضطر إلى ما يشبه الكلام السلبي لبيان إمكان ما ينفيه المتكلمون مما يقول به السلف. ولما كان موقف السلف في غنى عن الرد على المتكلمين بطريقتهم فإنهما سرعان ما فهما ضرورة التحرر من هذا الموقف السلبي برد الفعل فغادرا الخصومة الكلامية لتأسيس علم بديل هو أهم ما يمكن أن يحسب لهما.

ومن ثمرة عمل ابن تيمية وابن خلدون (اللذين نعتبرهما بداية النهوض في مرحلته الأولى اعني بداية السؤال عن علل المآل المؤلم للحضارة الإسلامية) ننطلق من عملهما في كل محاولاتنا لاستئناف عمل حضارتنا الفكري المستقل عملها الجامع بين فهم آيات الآفاق وفهم آيات الأنفس آياتهما الدالتين بحدوثهما وبالعلم به على حقيقة المرجعية الروحية التي تتضح دلالاتها في ضوء ما يجري في الوجود الإنساني ببعديه الفعلي والرمزي. فقد كان لمسعييهما ما يمكن أن يعد الفضل الأول في تأسيس ثورة فلسفية حقيقية في الفكر الديني الإسلامي جعلت السنة تتحرر من الفكر القديم والوسيط وتستعد للإسهام في التاريخ الحديث. وتمثلت هذه الثورة في توجيه النقد ليس للكلام وحده بل للأسس الفلسفية الضمنية التي ينبني عليها علم الكلام بعد أن اتحدا في ما أصبح الطابع الكلي لكل فكر فلسفي صراحة أو ضمنا: علم كلام وفلسفة كلاهما متنكر في ثوب الثاني.

ومن ثم فقد صار سعيهما تأسيسا إرهاصيا لفلسفة نقدية غلب على فكر ابن تيمية منها نقد العقل النظري خاصة أعني محاولة تأسيس الفلسفة النقدية النظرية دون التوكيد على ثمراتها العملية وغلب على فكر ابن خلدون نقد العقل العملي خاصة أعني محاولة تأسيس الفلسفة النقدية العملية دون التوكيد على أسسها النظرية. لكن الفيلسوفين كلاهما أسس وجهي الفلسفة النقدية بصورة صريحة لا لبس فيها تأسيسا موجبا لم يتوقف أولهما فيه على نقد ما بعد الطبيعة وثانيهما على نقد ما بعد التاريخ القديمين بل أسس الأول لما بعد طبيعة (نظرية الوجود والمعرفة) وأسس الثاني لما بعد تاريخ (نظرية العمل والقيمة) بديلين. وبهذا المعنى فإن الكلام كله-وهو يعود في الأساس مثله مثل التصوف المتفلسف إلى إيديولوجيات النزعات الغالية أو إلى ردود الفعل عليها- وهي جميعا متفرعة عن الغلو الذي كون الفرق المتناحرة منذ الفتنة الكبرى سواء العلني منها أو المندس في الفكر السني. وهذا الفكر لا يزال في صورته الراهنة كما كان في العصور الوسطى عامة وفي عصر الانحطاط خاصة منتسبا إلى الفكر القديم والوسيط المتخلف الذي لم يتجاوز أساطير الفكر الهلنستي المزيج مع الخرافات القديمة ومع ما يخالطه من خرافات النظريات السياسية التي تعيد الفكر القديم والأماني المتقدمة على دولة الإسلام.

ونحن سنبين أن بيان امتناع علم الكلام -مع بقاء التعليم الديني من حيث هو كلام تاريخي تفسيري للحدث والحديث الدينين جزءا من العلوم الإنسانية كما كان تحرر العلوم الطبيعية من الدغمائية ما بعد الطبيعية محررا للعلم من مزاعم العلم المحيط والمطلق بطبائع الحقائق الطبيعية-يغني عن الخوض في مسائله الجزئية لأنها جميعا من أوهام المتكلمين وليست قابلة للعلم عقلا فضلا عن النهي عن الخوص فيها نقلا[1].

سنبين إن شاء الله أن ما يسمى بعلم الكلام مستحيل فضلا عن أن يكون مقبولا إذا أدركنا حقيقة الفعل النقدي المصاحب لعلم الإنسان وعمله الممكنين له بما لديه من ملكات فكرية سواء اقتصرنا على الحقيقة العقلية الخالصة أو أيدناها بالحقيقة النقلية. لذلك فلا بد من طريقة تدحض إمكانية الكلام من الأصل من منطلق غير كلامي أو "ما بعد كلامي" لا يكون مجرد مهرب من التصدي للكلام خوفا من الوقوع في مطباته بل ضرب جديد من تجاوز خصومات الكلام إلى البحث في شروط إمكانها أو علل امتناعها. وستكون هذه الطريقة اللبنة الأولى التي كانت ضمنية في عمل هذين الفيلسوفين[2] والتي نحاول استخراجها نسقيا حتى يصبح البناء ذا أسس صريحة.

ويعني ذلك أن تجنب الدخول في جزئيات مسائل الكلام أمر ممكن وأن الشروع في الفكر الفلسفي الموجب الذي يصحبه النقد الذاتي دائما حتى يكون مراقبا لخطاه بذاته في كل مراحل فعله النظري أو العملي ممكن كذلك لأنه عين الرسوخ في العلم الذي يتجنب أصحابه التأويل فيطلبون ما أمرهم القرآن الكريم به لما دعاهم إلى النظر في آيات الآفاق والأنفس لا في المتشابه نصا والغيب وجودا خاصة وقد طابقت هذه الدعوى إدراك العقل الإنساني لحدوده بفضل نضوجه النقدي. وسيكون ذلك علاجا لا يستطيع المتكلم الفكاك منه. وبذلك فسينفرط عقد هذه الجماعات التي تنخر كيان الأمة من الداخل بتأجيج الحروب الطائفية حول معارك ماضية هدفها الأول والأخير التلهية عن المعارك الحالية مع أعداء الأمة[3].

ويمكن أن نسمي النظرية التي نقدمها هنا بنظرية ما بعد الكلام. وفيها سنبين أن المتكلم مضطر للتسليم بمقدمتي هذه النظرية الصريحتين[4] وأن حقيقة عمله بعسكهما تقتضي قوله بمسلمتين ضمنيتين ستتبن حقيقتهما بعد توضيحنا امتناع الكلام في المسائل التي يدعي علاجها[5]. وسنتبع الخطة التالية في البحث لبيان ذلك:

الفصل الأول: مسلمات الكلام.

1-المسألة الأولى: تحديد مسلمات الكلام ما هي

2-المسألة الثاني: تعليل عدتها وترتيبها

الفصل الثاني: قصور التصور الكلامي

3-المسألة الثالثة: جليل الكلام

4-المسألة الرابعة: دقيق الكلام

إن الحاجة آزفة لفهم العلاقة بين العقل والنقل فهما يلغي كل إمكانية لعلم الكلام[6] كما يلغي العلم بإمكانات العقل كل إمكانية للميتافيزيقا. فلا يبقى لنا إلا العلم العالم بحدوده في مجالي التجربة الإنسانية الطبيعية (العلوم بالمعنى التقليدي)والتجريبية الروحية الخلقية (العلوم الإنسانية وأهمها علوم المقدسات) دون نفي الميل الطبيعي عند الإنسان إلى المعرفة المطلقة من حيث هي علامة من علامات هذا الوعي بالمحدودية الذاتية بالمقارنة بين الحاصل الفعلي والممكن فيكون هذا الميل جزءا مهما من الإيمان. فهو جزء من نظر الإنسان في منزلته ودوره من خلال معتقداته حول ذاته والكون ومنهما العقل وحول أصل ذلك كله أعني المجال المتعالي على الضرورة الطبيعية: فالحرية التي هي مبدأ هذا التعالي على الحاصل المحدود إلى الممكن المطلق لا يمكن تفسيرها بالضرورة التي هي مبدأ المستوى الطبيعي وهو ما يعني أن هذا التعالي من علامات الصلة بالمطلق والإيمان الفطري تأييدا لما جاءت به الرسالة من كلام على الفطرة.

وبيت القصيد في هذه المسألة هو الجواب عن السؤال التالي: كيف نفهم وحدة المجالات التي تتضمنها الرسالة الكونية والخاتمة من منطلق أن الجليل والدقيق لا يمثلان إلا حدين نظريين حصر بينهما الكلام على الله والإنسان والعالم نزولا وصعودا يمر خلالهما الكلام بالإنسان من حيث هو مستعمر في العالم ومستخلف فيه دون فهم ولا تحليل بمقتضى نص القرآن نفسه؟ فالجليل من الكلام لا معنى له في العلم والعمل الإنسانيين إلا من حيث منظور الدقيق له صعودا إليه والدقيق لا معنى له إلا من حيث هو مفعول الجليل نزولا إليه: كيف يعبد الإنسان الله بالنظر والعمل في العالم (حكمة التاريخ والطبيعة) ويجعل ذلك خاضعا لشرع الله ما يعلمه منه بالنظر والعمل في العالم بمقتضى أحكام الرسالة وقيمها (حكمة الدين والشريعة) وكيف يتجلى فعل الله في العالم. فإذا اعتبرنا الوجه الأول أدوات لسياسة العالم فإنها ستكون موضوع حكمة التاريخ. وإذا اعتبرنا الوجه الثاني غايات سياسته فإنها ستكون موضوع حكمة الدين.

ومجموع الحكمتين هو جوهر الرسالة الخاتمة حديثا (عن التجربة الإنسانية كلها) وحدثا (يقدم أفضل نماذجها في سنة الرسول تعليما للنظر والعمل أو سياسة للعالم بمقتضى قيم القرآن) مشدودين إلى هذين الحدين مارين بمركز مربوب وآله هو الإنسان الذي هو الوصلة الوجودية بين الطبيعة والتاريخ في قيامه العيني أولا وفي التفاته إلى ربه والتفاته إلى ما استخلفه فيه. والقرآن لا يقابل في كل ذلك بين الدنيا والدين مقابلة حياتين متنافرتين بل هو يعتبرهما متلازمين في الأولى في والآخرة: والتلازم الأول هو بين الغاية والأداة والتلازم الثاني هو بين الجهد والثمرة. وقد درسنا مقتضيات ذلك إيجابا (العصر) وسلبا (آل عمران) وكيف يمكن من منطلق هذه المقتضيات تحديد التحريفات الممكنة وتعليلها لتخليص البشرية منها ؟

                                                                   الفصل الأول

                                                                  المسألة الأولى

                                                         مسلمات المتكلمين المضطرة

نبين في المبحث الأول أن "علم" الكلام يقبل الدحض المبدئي ومن الأصل بمقتضى مسلماته الأساسية ما كان منها صريحا بمقتضى ظاهر حده أو ضمنيا بمقتضى باطن حده. والقول في ما بعد علم الكلام لا يعني التسليم بعلمية الكلام وهو يغنينا عن الحاجة إلى الخوض في جزئياته خوضا يفترض التسليم بإمكانه الذي ننفيه لانعدام شروطه. ويمكن أن نثبت ذلك من خمسة وجوه مختلفة:

مسلمتا الكلام الصريحتان: بمقتضى حد علم الكلام الظاهر.

1-المسلمة الأولى تفترضها مساءلة شروط إمكان الكلام من منطلق خصائص موضوعه النقلي. وهو وجه ذو فرعين أعني: أ-مقتضيات التراسل عامة ب-ومقتضيات الترميز خاصة. فالمتكلم لا بد له من أن يسلم صراحة بأن كلامه لا يدور على الوجود مباشرة وإلا لكان فيلسوفا بل هو يدور عليه بإضافة النص ومن ثم فلا بد له من التسليم بمقتضيات التراسل ومقتضيات التعبير بالرموز اللغوية إذا نُسبت إلى أكمل مرسل.

2-المسلمة الثانية تفترضها مساءلة شروط إمكان الكلام من منطلق خصائص المنهج العقلي الذي يزعم المتكلم استعماله. وهو وجه ذو فرعين كذلك أعني: أ-مقتضيات العلم عامة ب-ومقتضيات علم الغيب خاصة. والمتكلم ينبغي له أن يسلم صراحة بأن علمه يخضع لشروط المعرفة العلمية أولا ولشروط تجاوزها إلى ما ليس هو مقصورا على عالم الشهادة ثانيا وإلا لكان علمه وضعيا يتعلق بظاهرات مادية وليس متعاليا على الوضعيات ومتعلقا بظاهرات دينية.

مسلمتا الكلام الضمنيتان[7]: بمقتضى حد علم الكلام الباطن.

3-المسلمة الثالثه تفترضها مساءلة دعوى المتكلم بحاجة القرآن إلى التأويل في مستواها الأول أي من أجل التنزيه وعدم التشبيه وذلك من خلال النظر في طبيعة القسم الأصلي من الكلام أو جليل الكلام والوجه هو تحديد طبيعة الأسلوب الذي يعتمده الخطاب القرآني في كلام الله على نفسه ذاتا وصفات الخطاب الذي يظنه المتكلم بحاجة إلى التأويل ليصحح التصورات في أذهان المؤمنين. وهي مسلمة يصعب أن يسلمها المتكلم صراحة. لذلك فهي مسلمة ضمنية لأنه من دونها لن يجد ما يعلل به الحاجة إلى كلام لا يكتفي بالتفسير اللغوي للعقائد القرآنية فيسعى إلى تصحيح تصوراتها بالتأويل: وهذه المسلمة الضمنية هي القول بأن البلاغ القرآني محتاج إلى ما هو أبلغ منه لتصحيح ما يريد أن يبلغه من تصورات وعقائد بخلاف النهي الوارد في الآية السابعة من آل عمران.

4-المسلمة الرابعة تفترضها مساءلة دعوى المتكلم بالحاجة إلى التأويل في مستواها الثاني أي من أجل اقتسام مجال الفعل الطبيعي والتاريخي بين الله والإنسان وذلك من خلال النظر في طبيعة القسم الفرعي من الكلام أو دقيق الكلام والوجه هو طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق بوجهيها الكوني عامة والخلقي خاصة أعني مسألة العلاقة بين أفعال الله وأفعال مخلوقاته بمستوييها: علاقة الطبيعة بما بعدها وعلاقة التاريخ بما بعده. فتكون مسلمة المتكلم التي يصعب أن يسلمها صراحة كذلك وبنفس الحجة نفس المسلمة السابقة التي من دونها لا يمكن له أن يعلل الحاجة إلى الكلام المتجاوز للتفسير إلى تصحيح التصورات القرآنية للعلاقة بين الألوهية والربوبية في الحد الأول (=الخالق) وبين الجبر والاختيار في الحد الثاني (المخلوق عامة والإنسان خاصة).

المسلمة الأصل: بمقتضى الجمع بين وجود الكلام الصريح وماهيته الضمنية[8]

5-والمسلمة الأخيرة صريحة الوجود (لوجود الكلام) وضمنية الماهية (لعدم اعتراف المتكلم بطبيعة الكلام التي نصف هنا) وهي الجواب بنعم على السؤالين اللذين تفترضهما مساءلة المبدأ الجامع بين كل هذه الأسئلة في مستويي الخطاب مستوييه اللساني والمنطقي في وصف القرآن للوصل بين الله ومخلوقاته عامة وبينه وبين الإنسان خاصة:

هل يوجد ما هو أبلغ تعبيرا (مسألة لسانية) من القرآن الكريم في الدعوة إلى العقد ؟

وهل يوجد ماهو أوضح تصويرا للمعاني العقدية (مسألة منطقية) من القرآن الكريم؟

والجواب بنعم على السؤالين يعني إعادة السلطة الروحية الوسيطة إلى الإسلام بدعوى وراثة النبي دون تعيين. وحتى لا يكون المبدأ الجامع سلبيا أعني مجرد نفي للسلطة الروحية في الإسلام فإننا نبين مضمونه الإيجابي بتفسير سورة العصر التي حددت طريقة قرآنية تعالج مآلي الكلام اللذين جمع بينهما القرآن بمفهوم الخسر وتقدم الدواء الشافي بتحديد شروط الاستثناء منه أعني تحرير البشرية من السلطة الروحية بفرعيها العقلي والنقلي: الكنيسة العقلية (الكلام) والكنسية النقلية (التصوف) والجمع بينهما أو الحكم من حيث هو حق إلهي (الإمامة). فتكون نظرية المؤسستين البديلتين من هذين السلطانين المجتمعين في الإمامة هي الحل القرآني الذي يلغي أسس الكلام الزائفة ومآلاته المرضية:

1-مؤسسة التواصي بالحق للعلم وهي المؤسسة التي تخلصنا من الكلام لأن الفهم يصبح عملية جماعية هي عين الحياة الروحية الجامعة بين وجهي القرآن أعني الحديث المصاحب للحدث في تاريخ الأمة الشاهدة عينة من تاريخ الإنسانية: ويمكن أن نعتبرها مؤسسة الاجتهاد لأنها تخص النظر لتحقق العقيدة غاية وأداة حيث تكون العبادة نظر.

2-ومؤسسة التواصي بالصبر للعمل وهي المؤسسة التي تخلصنا من كل سلطان فوق الجماعة في صلتها المباشرة بالقرآن والسنة هاديين لعلمها وعملها في مستوييها الفردي (الإيمان والعمل الصالح) والجمعي (التواصي بالحق والتواصي بالصبر): ويمكن أن نعتبرها مؤسسة الجهاد لأنها تخص العمل لتحقيق الشريعة غاية وأداة حيث تكون العبادة عمل.

وقد يظن البعض أننا بكلامنا على المسلمتين الضمنيتين نعترض على حرية الفكر والإبداع دفاعا عن الإعجاز القرآني من حيث التعبير ومن حيث التصوير. وهذا طبعا من أخطاء المتأولين أخطائهم الناتجة عن وهمين لا يفهمهما من لم يدقق الأمور لظنهم أن التأويل منهي عنه من حيث هو ظاهرة فكرية لذاتها لا يخلو منها فكر وليس من حيث انقلابها إلى ظاهرة سلطانية يستفرد بها من يتحولون إلى وسائط بين الله وعبيده.

لما كان فعل الفهم يقتضي حتما شيئا من التأويل فإن وصف التأويل بكونه زيغ القلوب ليس وصفا مرسلا بل هو مشروط بصيرورته ابتغاء الفتنة. وهو يصبح كذلك إذا صار تحديدا لعقيدة تفرض على الغير وليس سعيا للفهم في التجربة الروحية الشخصية. فمن حيث هو حركة تعال من أجل الفهم يكون التأويل عين الفكر كما نبين هنا. لكنه سرعان ما يتحول إلى ابتغاء الفتنة إذا أوقف حركة التعالي إلى الفهم فقدم لحظة من لحظاته وثبتها ليجعلها صنما معبودا مدعيا أنه يحدد مقاصد الله فتتكون الفرق التي أشار إليها الحديث الشريف وتذهب ريح الأمة.

وهذا بين من الوصل المنطقي بين الابتغاءين <"يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة">و<"(يتبعون ما تشابه منه) ابتغاء تأويله"> فضلا عن تقديم ابتغاء الفتنة على ابتغاء التأويل تقديمَ تعليل لأن العطف هنا مرتب كما نبين رغم كونه بحرف الواو. فالتأويل دال على زيغ القلوب لأنه معلول بابتغاء الفتنة فضلا عن ضرورة الجمع بينهما لتصح القضية المؤلفة منهما كما هو معلوم من جدول الحقيقة في الوصل[9]. وقد اعتبرنا التقديم للتعليل لأن ابتغاء الفتنة هو الذي يلجئ إلى التأويل الذي يؤيد به متبع المتشابه موقفه منه ومن المحكم إذ هو حتما لم يتبع المحكم بمجرد اتباع المتشابه ومن ثم فهو قد رفض الأمر والنهي في المسألة. ثم يأتي تعليل النهي عن التأويل بحصر القدرة عليه في العلم الإلهي.

وتختم الآية بتحديد موقف الراسخين في العلم المطيعين لأمر اتباع المحكم وتجنب المتشابه وهما دلالتا النهي عن التأويل:1-فالراسخون لا يكتفون بالانتهاء في خاصتهم 2-بل يجب عليهم أن يعلنوا بأن المتشابه من مجال الإيمان وليس من مجال العلم. والجمع بين هذين الأمرين في الموقف أعني الانتهاء (إطاعة النهي) والإعلان (إطاعة الأمر) علته واجب النصيحة وضرورة التصدي لمؤولي المتشابه أعني للمتكلمين. وهذا الجمع هو العلامة على كون الراسخ في العلم من أولي الألباب والمؤول أعني المتكلم من عديمي الألباب: فلا كلام إلا تأويل ومن ثم فهو تبرير لاتباع المتشابه ومدخل لكل الفتن بمقتضى حده وكذلك بمقتضى الصلة البينة بين علم الكلام وتاريخ الفتن عندنا من الفتنة الكبرى إلى اليوم.

إن ذهاب ريح الأمة ليست علته الفتن وحدها بل خاصة ما يؤول إليه أمر التجربة الروحية التي هي عين حياة الأمة. فهي لن تبقى حقا للجميع بل يصبح البعض للبعض أربابا بما يزعمونه لأنفسهم من قدرة على فهم مقاصد النص الفهم المطابق ما يعطيهم الحق في الوساطة ليس بين النص والمؤمنين فحسب بل بين الله والمؤمنين. ومن ثم ينتفي شرط المسؤولية الشخصية فتنقسم الأمة إلى خاصة وعامة وإلى سادة وعبيد ويعود الطاغوت الذي جعل الله الكفر به شرط الإيمان بالله: وكل الناقمين على ابن تيمية سبب نقمتهم هو أنه أدرك هذا الأمر وأراد أن يحرر منه ضمائر المسلمين. وتحرير مما يؤدي إلى التلازم بين التأويل والفتنة -الكلام وصيغ العقائد- يثمر حرية المعتقد وعدم حق أي أحد في أن يحاسب أحدا في معتقداته أو التفتيش في سر نفسه لأن الرقيب الوحيد في مسألة العقائد هو الله كما جاء في الآية 125 من النحل خطابا للرسول الأكرم وتحديدا لأسلوب الدعوة " ...إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين".

فأما الوهم الأول فهو الظن أن موقف المتكالمين والمتبادعين فيه تحد يعتد به للإعجاز القرآني بمستوييه التعبيري والتصويري وأنه فعل اختياري يمتازون به أعني أنه يتجاوز ما لا يمكن أن يخلو منه فكر لمجرد كونه فكرا يحاول أن يصوغ تجربته الروحية حتى لو لم يوجد نص القرآن الكريم: محاولة التعبير عما يجول في الوجدان حول أسرار الوجود والنفس. فليس صحيحا أن تحد الإعجاز بهذا المعنى يقوم به البعض دون البعض أو هو يقع بقصد التحدي إذ هو سابق حتى على نزول القرآن. فما من أحد يفكر أي ما من إنسان يعي منزلته في الوجود حتى لو لم يقرأ القرآن إلا وهو قائم بهذا العمل طوعا أو كرها بمجرد محاولة الفهم في كلامه النفسي فضلا عن كلامه مع غيره. وإذن فلا علاقة لموقفنا من الكلام بهذه المسألة رغم أن هذه الظاهرة الفطرية في الفكر الإنساني تبدو وكأنه تحد للقرآن بعد أن ربطت الظاهرة بتأويل نصه كما في المحاولات الصوفية.

ذلك أن الفكر الإنساني لا بد أن ينطلق من الدلالة المباشرة لمعنى الآيات سواء كانت نصية أو كونية وأن ينطلق نحو معنى المعنى وراء الفهم الأول ثم يرتقي تعبيرا وتصويرا إلى غير غاية في الفهوم المتوالية إذا كانت تجربته الروحية تجربة حية. وذلك هو جوهر الفكر وهو ليس دالا على الحيرة ولا على نقص في الإيمان ولا على تحد للقرآن بل هو عين حياة الفكر من حيث هو فهم متواصل بالتولد الذاتي الدائم وفيه تتطابق فكرة ابن سينا حول الإدراك المتوالي الانعكاس على ذاته بلا حد وفكرة الجرجاني حول المعنى المتوالي بالانعكاس على ذاته بلا حد لو ذهب كلا العلمين إلى غاية اكتشافهما الثوري لخاصتي التعاكس في الفكر واللسان خاصيتيهما المتناظرتين فاعتبراهما جوهر الظاهرتين.

وأما الوهم الثاني فهو الذي يجعل ما تصوره البعض تحررا عند المتكلمين يتحول إلى الجمود الفكري عينه عند صاحبه وعند من يريد أن يتبعه في جموده عند تكون فرقته. فلو بقي هذا السعي اللامتناهي للارتقاء من فهم إلى فهم ومن صوغ إلى صوغ حركة لا تتوقف لكان ذلك هو المقصود من الأعجاز البياني القرآني تعبيرا وتصويرا لأنه صار عين محرك الفكر ليتحرك حركته الطبيعية أو بصورة أدق ليكون عين فطرته المشرئبة دائما إلى السمو نحو المطلق. والكلام إذن ليس هو السعي إلى التحرر من التحدي الإعجازي-إلا بمعنى من لم يفهم المقصود به فيزعم تحدي القرآن لولا الصرفة زاعما أنه نص ككل النصوص ومن ثم فيمكن أن نعمل مثله أو أفضل- بل هو سعي إلى إزالة هذا الصبو المحرر الذي يأتي النص القرآني لدعمه وليس للنهي عنه أعني شرط حصول الوعي بالإعجاز الذي هو حقيقة المعجزة القرآنية المتمثلة في جعل الإنسان يحيا كونه إنسانا مخاطبا بمجرد أن يفهم معنى التذكير بالفطرة: لذلك كان القرآن دعوة دائمة للتفكر والتذكر ولم يدعو أبدا إلى التوقف الميت بل إلى السكينة الحية التي هي عين هذا التعالي الدائم نحو قيم القرآن الكريم علما وعملا مع شرط يحرر من جموح الخيال فيهما كليهما أعني شرطي التواصي بالحق والتواصي بالصبر.

فجوهر الفكر من حيث فطرته هو هذه المراوحة اللامتناهية بين الفهوم المتوالية دون حد لأنها جميعا مصحوبة ب"ليس كمثله شيء" عند من آمن وب"ليس هذا هو المطلق الذي أطلبه" عند من يبحث عن الإيمان[10] فيكون هذا التعالي اللامتناهي بالقوة في فكر الإنسان صورة حية من التعالي اللامتناهي بالفعل في علم الله. أما المتكلم فيجعل الفكر صيغا جامدة تسمى عقيدة أو تأويلا نهائيا هو ما يظنه المتكلم القصد الحقيقي للنص المؤول ثم يحاول أن يحول دون تفكر مقلديه من المسلمين في لاتناهي معاني القرآن ليجعل فكرهم جامدا لا يدور إلا حول الصورة التي توقف عندها فكره فتجمد حيوية الأمة الفكرية ولا يبقى لدعوة القرآن الكريم للجميع بالتفكر والتذكر أدنى معنى لأن الجميع يتحول إلى قطيع وراء راع هو المتكلم أو المتصوف أو الإمام الوصي الجامع بين الانحرافين.

ومهما كانت الصور التي تخطر بالبال حول الاستواء على العرش مثلا نعلم من خلال ما أخبرنا به القرآن الكريم مع شرط ليس كمثل الله شيء أن فهومنا كلها ينبغي أن نتجاوزها. وإذن فلا يمكن أن تتوقف الصور اللامتناهية لهذا الاستواء وينبغي ألا تتوقف حتى تكون المثير الدائم لحركة الفكر عند المؤمن الذي يتذكر ويتفكر: سبحانك ما خلقت هذا باطلا و"هذا" هو ما يسعه الكرسي. ولكن بمجرد أن يشرع المتكلم في تقديم ما يظنه المعنى المقصود-كالزعم بأنه سطح الفلك المحيط بالمعنى البطليموسي والأرسطي- فإنه يضع حدا لهذه الحركية والحيوية فيجعل الله مثل شيء ما هو هذه الصورة التي يظنها المتكلم المقصود بالاستواء: ويصبح المعبود هو هذا الصنم الذي ظنه المتكلم المعنى المقصود.

أما التحديد المتحرك الدائم في النص القرآني فلا ينبغي التحرر منه خوفا من دوار اللامتناهي للظن أنه ليس عين التعالي بل ينبغي تنميته لأنه هو المقصود بالتفكر والتدبر والتذكر في معانيها القرآنية الحقيقية أعني في ما يجعلها جميعا شهادة أن لا إله إلا الله. وتجميد هذا التعالي بتثبيته في صوغ العقائد هو تكوين أوثان سواء كان التجميد عاميا فتكون الأوثان عامية أو كلاميا فتكون الأوثان مزعومة خاصية لأن ذلك يعني التخلي عن التحرر الحقيقي الذي هو جوهر التعالي الدائم المتحرك في أسلوب القرآن المحاكي لحركة الفكر في ارتقائه وتعاليه نحو باريه[11].

                                                                  المسألة الثانية

                                                       تعليل عدة المسلمات وترتيبها

وبين أن هذه المسلمات الخمس ليست عدتها ولا ترتيبها بالأمر التحكمي. فالأمر الجليل الذي يريد الكلام أن يتكلم فيه كلاما يزعمه علميا ويسميه جليل الكلام منهي عن التأويل فيه. والقرآن ينفي إمكان علم الكلام وينهي عن فعله الجوهري أعني التأويل بل هو يعتبر القيام به دالا على مرض نفسي (زيغ القلب) بمجرد أن يتحول إلى مرض اجتماعي (ابتغاء الفتنة). لكن الكلام القرآني في هذا الأمر الجلل أعني الله ذاتا وصفات لا يمكن أن يقاس عليه علم الكلام. وهو يعد مركزا لتناظر عجيب. فقبل مسلمة المتكلمين بإمكان الكلام فيه مسلمتان تجعلان الكلام أمرا مستحيلا بمقتضى شروط الإمكان النقلية والعقلية. وبعدها مسلمتان تجعلان الكلام مستحيلا كذلك بمقتضى مآلاته العقلية والنقلية غير السوية في مستوى مقومات الوجود عامة والوجود الإنساني خاصة وفي مستوى سياسة هذه المقومات الشرعية.

وحتى نفهم ذلك فلا بد من أن نتحرر من عادة المتكلمين في تقسيم الكلام إلى مجالين دون بيان طبيعة التكامل بينهما فنعلل لم هي خمسة مستويات ولم هي بالترتيب الذي نعرضها عليه. ذلك أن عدم تحديد طبيعة التكامل بين القسمين التقليديين أدى إلى حصرها في مجالين ومن ثم إلى عدم فهم الترابط بين الحلول المقترحة لمسائل أحدهما والحلول المقترحة لمسائل الثاني: مجال جليل الكلام ومسائله ومجال دقيق الكلام ومسائله. لذلك فهذه القسمة التقليدية لا تكفي لفهم المسائل التي يريد الكلام باطلا علاجها بعلم مستحيل فضلا عن كونها لا تقبل العلاج الكلامي إلا إذا اعتبرنا علاج القرآن غير كاف فخلطنا بين أساليب الدعوة القرآنية المأمور بها وفن الكلام الذي هو عكسها تماما تلاعبا بمعنى العلماء ورثة الأنبياء[12].

فهذه القسمة الثنائية تخفي مناط الإشكال ال
تاريخ النشر : 30-08-2008

6155 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com