آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الاجتماع والفلسفة  .  قضايا فلسفية

الظاهرة الدينية    |    فلسفة الدين    |    فلسفة الأخلاق    |    المرأة و النسوية    |    الإسلام و الغرب

  •     

قراءة في كتاب الحل الوجودي للدين انقلاب المعبد

مولاي أحمد صابر


الكتاب: الحل الوجودي للدين انقلاب المعبد

 المؤلف: عبد الرزاق الجبران

دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى  2007

     أخذ جدل الدين والإنسان حيزا كبيرا في الموروث الثقافي الإنساني، فكثيرا ما يسود الاستبداد والظلم والاستغلال باسم الدين، كما هو الأمر مع فرعون وغيره من الطغاة  والمتسلطين ، فبين الفينة والأخرى يبعث أنبياء و مصلحين  يقلبون مفهوم الدين رأسا على عقب ، و يصير هذا الأخير في خدمة الإنسان بشكل عام بدل خدمة السلطان، كما هو الأمر مع نبي الله موسى وعيسى ، و محمد و من سار على نهجهم، كأبd ذر الغفاري و غيره .

    الفكر الديني الإسلامي هو الآخر لم يسلم من داء السلطة والتسلط ، فهو اليوم أكثر من أي وقت مضى يعرف اختلالات عميقة في صلة الإنسان بوجوده ، و بمحيطه و بالخالق . إنها أزمة الركود و اللاموقف واللامعنى، وليس هناك عقل على الإطلاق حظي بالدراسة والتحليل أكثر ما حظي بها العقل العربي الإسلامي ، بدءا بكتاب نقد العقل العربي لمحمد عابد الجابري  ، ومفهوم العقل لعبد الله العروي، وفي نقد العقل الإسلامي لمحمد أركون، والعمل الديني  وتجديد العقل لطه عبد الرحمن و اغتيال العقل لبرهان غليون و أزمة العقل المسلم لعبد الحميد أبو سليمان و إعمال العقل للؤي الصافي ، وغير ذلك من الدراسات و الأبحاث الجادة التي بحثث و تبحث في أغوار هذا العقل المأزوم  ، الذي شكل النص الديني محورا أساسيا في بلورته و تشكيله .

      فعلى خطى أبي ذر الغفاري ، و بنفس كل من" كيركجارد" و "علي شريعتي "، وبقالب يطغى عليه نوع من اليقظة العلمية و المعرفية، يجسد عبد الرزاق الجبران أزمة العقل المسلم في أزمة وجود، هذه الأزمة المختنقة صار  الدين فيها مهيمنا على كل مناحي حياة الإنسان،  فرجال الدين لم يتركوا صغيرة و لا كبيرة إلا و أفتوا فيها برأي. قد " أقحم المعبد  نفسه بكل شيء ، لم يترك شاردة أو واردة إلا و حاول أن يغلفها بالدين … دخل على شكل اللحية و طولها ، على اللباس ، على الحمام ، على ليلة العرس و كل زواياها ، على الألعاب  البريئة للأطفال ، على الأذواق على المسرح على السينما ، على الموسيقى، الرسم ، كرة القدم ، طريقة النوم ، ناهيك عما كان من فتاوي،  في أول القرن الماضي مع مجيء التقنية الحديثة و تحريم الهاتف ، القطار ، التلفاز ، تعلم اللغة الإنجليزية"ص53. و بهذا الشكل فقد الإنسان وجوده و كيانه الباني للمعنى والمؤسس للمواقف، وفي نظر الجبران أن الدين لم يأتي إلا من أجل أن يهب الإنسان وجوده الخاص به، " فالنسخ الدينية اليوم لم تعد تصنع الإنسان .. بل غدت منظومة تسلب منه وجوده و تخرص فيه إنسانيته "ص29. ورغم أن الدين هو السبب في المشكلة، فالجبران لا ييأس في أن الحل  سينبثق من الدين نفسه ، و يكرر مقتنعا مقولة " أن الدين هو الحل " ص13 ، رغم  امتعاضه من هذا الشعار لنسبه الإسلاموي السلفي، و ينظر الكاتب للكثير من الفلسفات بأنها تسلب من الإنسان إنسانيته، باسم العقل والعقلانية وأي عقلانية هذه  التي يصبح معها الإنسان شيئا آخر ؟

    و قصد الخروج من هذه الأزمة يقترح الكاتب الحل الوجودي للدين ، و هذا الحل في نظره " لا يريد إلحاق الدين بالوجودية ، بقدر ما يريد أن يجعل من الدين وجودا إنسانيا، لذا الوجودية التي ـ يسعى ـ إليها ليست ذلك المذهب الديني في خط كيركجارد، وإنما مزيج من الثقافات و الاتجاهات و التجارب، و كلمات دينية و أخلاقية و جمالية و صوفية  و فلسفية و أدبية على طول التاريخ، أنتجت معنى إنسانيا وجوديا حياتيا " ـ غلاف الكتاب ـ. و هذا الحل في نظر الكاتب لا يتحقق إلا بانقلاب المعبد، وهو العنوان الذي عنون به كتابه الحل الوجودي للدين  انقلاب المعبد .

   أين يتجلى المشكل" المشكلة"؟

      "في هذا العالم ، أحيانا لا تدخل على الحياة إلا بالخروج عليها .. و لن تصلي حتى تترك الجماعة .. و لا تؤمن بالله حتى تكفر بالمعبد الذي يرفع اسمه.. و لن تعانق الحكمة حتى تتخلى عن كتب فلاسفتها ". ص13.

بهذه العبارة المختصرة يجسد الكاتب  أصل المشكلة ويحدد الحل في الوقت ذاته، فالمشكلة " هي مع الدين في عين تطبيقه الفقهي و الكلامي "ص 30. هذا التطبيق فصل الدين عن الواقع، بل سلب منه طعم الحياة، وغدا الدين أمرا غير واقعيا فبدل أن " يرفع الدين عبء الحياة عن الإنسان أصبح بذاته عبئا ، بعد أن حول إلى قناة تستهلك الإنسان في عقله وحبه وماله وأحلامه و رغباته " ص 30، وليس القصد من الواقع هنا أن الدين جاء ليتماهى مع انحرافات الواقع و سلبياته  و حماقاته التي تبحث عن المعنى في فضاء اللامعنى ،أو تبحث عن العمق على سطح ورقة، بل المقصود أن يكون الدين واقعا ، لا غريبا عن حياة الإنسان ووجوده،  حينها " يستطيع أن يعيش مع طبيعة الإنسان بسلام و نجاح . ناهيك على أن يصيِّر وجوده ، ويجعل منه وجودا حقيقيا ، مؤثرا  مبدعا ، ذا معنى .. يعينه على حل إشكالياته و معاناته الطبيعية الوجودية.." ص 30، و بهذا فالدين لم يأتِ مستبدا و متسلطا باسم "الله" على  الإنسان ووجوده ، فالدين والذات المتدينة هي المنسجمة مع الوجود وليس العكس ، فالناس اليوم ، الإسلاميون خاصة و رجال الدين منهم ، و من صار على نهجهم ذهبوا ضحية ثرثرة الكتب وركام المؤلفات، فهم لا ينظرون إلى الدين والإنسان " بما كتب لهم عن جبرائيل  و إنما بما كتبوا هم عن جبرائيل …و ليس بما قرأ القران عليهم و لكن بما قرؤوه عن القران "ص 29، فمن الطبيعي بما كان أن يحصروا مشكلة الناس، قي عدم تطبيق الدين في الحياة، و الدين هنا في نظرهم، هو ثرثرة مؤلفات الفقهاء ، و أهل الكلام وغيرهم ممن يدورون في مدارات الطائفية و المذهبية ،أليس هذا ما تدعوا له الحركات الإسلامية والأصولية اليوم متذرعة بالتجديد ؟ ، أما أن يكون الدين مؤسسا و باعثا لمعاني ومواقف جديدة في حياة الإنسان فهذا أمر مرفوض، و بهذا الفهم فالدين ما هو إلا قطعة مفصولة عن الحاضر و المستقبل ، و تصير الاتجاهات الدينية ببنيتها بتعبير أدونيس " لا تخدم الدين إيمانا ، و لا تخدمه اجتماعيا ..إنها وظائف لشيء آخر ، إنها آلات " ص 29، و الآلة هنا هي شيء حسي فقط، فاقد للوجود و يستحيل معه المعنى، " فلا يجدي نفعا ترديد أن الإسلام معنا بخير، وأن محطته فينا هي قدر الحقيقة و نهرها الوحيد " ص29، لأن أنهار الإسلام وجداوله لا تنتهي و لا تنقضي، فهي تتجدد في أجزائها و زواياها كما تجدد أشعة الشمس كل صباح ، فالحق واحد ولكن الطريق إليه متعدد.

        إن الجزء الكبير من المشكلة يتجلى في الإفراط في عبادة الأسماء، الذي جعل الحقائق و المعارف تختفي من ورائها، قال تعالى :" إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"، فالعكوف على الأسماء ما هو إلا إعراض عن الفكرة كيفما كانت، فبتعبير مالك بن نبي " كلما غابت الفكرة انتصب الصنم " وربما أن تعبير محمد إقبال أكثر دقة بقوله "كعبتنا عامرة بأصنامنا ". فبدل البحث عن معنى جديد للصلاة نكتفي بالفهم الموروث حولها،  و لهذا كسبنا المصلين ولكن "خسرنا الصلاة " ص 14، وبدل البحث عن معنى جديد للإسلام اكتفينا بما هو موروث حوله ، و بهذا ربحنا ازدياد المسلمين عددا، و خسرنا الإسلام. لقد" كسبنا من الإسلام أشياءنا و خسرنا منه أشياءه " ص 14، فالحقيقة ليست بعيدة ،إلا أن عبادة الأسماء تجعل الطريق إليها عسيرا جدا، و أحيانا تجعل الوصول إليها مستحيلا ، لذا علينا أن نبحث عن الحقيقة خارج الأسماء ، " فقد نجد شيئا منها لدى بوذا ...قد نجدها مع إنسان بلا صلاة خارج المعبد .. خارج الفقهاء ، خارج الفلاسفة "ص 14 أحيانا.

      الدين في أصله مفتوح على المعنى و فاتح له ، إلا أنه بالعكوف على عبادة الأسماء سار مغلقا عن المعنى،  و هذا الأمر " يجد نفسه واضحا في فكرة الانقلاب على السنة النبوية و خصوصية تاريخيتها ، وحيثيات زمانها ، ومكانها " ص143 على أساس أنها آخر إبداع الإنسان في جوانبه الوجودية، بينما أن ختم النبوة في حد ذاته ما هو إلا تجديد و انطلاقة أخرى في الانفتاح على المعنى،  بدل العكوف على الماضي وما كان عليه الأجداد .

       النبوة في أحد زواياها ما هي إلا تمرد عن الآبائية، و تعطش للمستقبل بدل الماضي و أمجاده، لأنها تقطن في صلة الحاضر بالمستقبل القريب منه و البعيد،  أما الأبائية  فتعطي ظهرها  للمستقبل وتقطن بالماضي . فمع النبوة يتسع التاريخ، ومع الآبائية ينتهي و يتوقف معه كل شيء، بما في ذلك الإنسان الذي يكون شعاره حينها ،[ ليس في الإمكان إبداع أحسن مما كان]، أو القولة المشهورة  [لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ] .

      النبوة في أحد غاياتها لم تأتِ إلا لكي يضفي الناس معاني أكثر إنسانية على وجودهم وحياتهم ، إلا أن المعبد ومن يحوم حوله اليوم، يحيل بين الناس و بين هذه الغاية النبيلة، " فالإشكالية تكمن في أصل البنية المعرفية، لما أسس تاريخيا في التراث باسم الدين ، سواء في أصول الدين أو في أصول الفقه ..أو عموم فلسفة الدين ومفاهيمه و أهدافه .. أي عموم الوجود الديني، أو الشكل الذي يتواجد عليه " ص 164، فالعقل المسلم اليوم محكوم بما نسج حول النص و مفصول عن النص في والوقت ذاته، فبدل " أن يكون القران موضع قراءة منا " ص182، ينبغي أن ننظر إليه على " أنه موضع قراءة لنا"ص 182، لأن غايات الدين هي الإنسان  بدل الدين ذاته . إلا أن الفقهاء جعلوا من الدين غاية " فالدين عندهم غدا أهم من الله  و لكن بدون تصريح " ص 157، و " لم يكن هم النبي كيف يتعلم الإنسان علوم دينه،  بقدر ما كان همه كيف يجعل الدين من الفرد إنسانا " ص 159، والذي ينبغي أن نتنبه له هو أن "  الأنبياء شكلوا الدين بإنسانيتهم " ص 171، و بهذا الشكل فهم ملك لجميع الناس ، الكل فيهم سواء.  إلا أن ما نسج حول المعبد جعل من الأنبياء ملكا لشعب دون آخر، و لثقافة دون أخرى، و سار عيسى نبيا بما كتب الحواريون حوله و ليس بما جاء به ،  و كذلك محمد نبي بما كتب المعبد حوله وليس بما جاء به من الوحي [القران]ص 132، فهناك نبي الله محمد في أرقى درجات إنسانيته، و هناك النبي المفترى عليه في كثير من قضايا نبوته و رسالته أحيانا . وكم نحن في حاجة إلى فهم منهجي بين محمد في القران و محمد في الثقافة الإسلامية، فليس في الدين المنزل شيء  اسمه الفرقة الناجية أو ما شابه ذلك قال تعالى:" ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب ". ومع الأسف أن فهم الدين كثيرا ما " ينغلق على نفسه،  ثم يتفرع إلى مذاهب تنغلق على نفسها، ومن ثم تبدأ الحروب، ـ الكل ـ يدعي الفرقة الناجية و الصراط المستقيم" ص 147 ، يا للغرابة بما كان  عندما يتحارب الناس بنصرة أنبيائهم، كأن بساط النبوة هو الموت بدل السلم والسلام  و الحياة. وجوهر المشكلة هنا هو أن الفكر الديني الموروث يصور التوحيد كمعادلة حسابية في صلتنا بالله الواحد الأحد ، هذا صحيح من جهة، و لكن التوحيد في جوهره من جهة أخرى ما هو إلا توحيد للإنسان " إذ ليس التوحيد أن نرى الله واحدا في ألوهيته ، بل أن يراك الله واحدا في فعلك .. موحدا للإنسان و لقيمته ، و قدره و حقه .. مها كان دينه  وجنسه و لونه و طبقته ، ونسبه فقيرا أو غنيا أسودا أو أبيضا، رئيسا أو مرؤوسا .. الكل يعود إلى إله واحد" ص 48،  فبهذا المعنى قد تجد مسيحيا أكثر توحيدا من رجل دين مسلم ، رغم اعتقاده بالتثليث.

        مع الأسف نجد الفكر الديني المسيحي منه و الإسلامي، غرق بحثا في ما هية "الله" ، وهذا هو شأن علم الكلام قديما في الثقافة الإسلامية ، الذي لازال مداه يصاحبنا اليوم ، بما يطلق عليه علم العقيدة ، رغم أن الدين لم يأت بشيء اسمه العقيدة ، ولكنه احتضن الإيمان وسؤاله، فكان من الأولى البحث في "الإنسان" وماهيته  لأن الدين لم يأت إلا من أجل الإنسان بدل الله، ولم يأتي إلا من أجل الحياة بدل الممات ،وقد كان محمد إقبال محقا في قوله " واعجباه القران الذي جاء ليهبك الحياة يقرأ عليك إذا حضرتك الوفاة " فالبحث في ماهية الخالق بدل المخلوق، ما هو إلا نوع من الموت في حق الإنسان ، فعلى هذا المنوال أخرج الفكر الديني الناس من دائرة الحياة إلى دوائر الموت في الإبداع والمعنى، والإدراك والتفكير، و الضمير والعقل… ، و قد كان أدونيس محقا في قوله " سوف ترون أن ما يتراجع هو الحياة وأن ما يهجم هو الموت "ص 29.  و لهذا نجد العقل العربي الإسلامي  عقلا محنطا  يطبعه الجمود و التخلف في أكثر صوره، لأن المنظومة التي تحكمه " منظومة بشرية  أدعت المقدس كلما أخذ بها الإنسان، كلما غدا أكثر تخلفا  و أدنى إنسانية " ص 29، لأن الإنسان لا  ينال إنسانيته إلا من خلال تجديد نظرته للحياة و للأشياء للكون بما فيه ، بعيدا عن النصية و الحرفية في فهم النص، أي ما يعرف بالسير على خطى السلف الصالح.

       لقد أعرض الفكر الديني  على ما استحضره النبي في تجربته البشرية، النبي كان نصب عينه  أن الإنسان سيرورة تاريخية لا يمكن للنص أن يرافقه في كل شيء " ص 168 ،أي أنه " تعامل بمرونة و انفتاح على النص بعيدا عن الحرفية والصورية " ص 168، و بهذا المعنى أن النبي كان ضد أي شكل من أشكال السلفية و الماضوية التي يستحيل الإبداع معها خارج النص، بدعوى " أن لا حقيقة دونه .. و أن الوجود  لا يحمل شيئا يمكن أن ينفع الإنسان إلا وكان في النص " ص 168 ، وهذا سبب من أسباب الانحطاط الإسلامي في جماعته.

       ومن هنا فلا معنى لمقولة ، لا اجتهاد مع وجود نص في نظر الكاتب ، فالدخول إلى الحياة بالخروج عليها في نظره ما هو إلا خروج عما نسج حول النص من مفاهيم حول الحياة ، و الصلاة في نظره  التي لا تصدق إلا بترك الجماعة، ما هي إلا إعراض عما كتب حول الصلاة التي غدت شكلا بدون جوهر،  و الإيمان الذي لا يصدق إلا بالكفر بالمعبد الذي يرفع اسمه ، ما هو إلا خروج من الفهم المغلق لله و للإنسان و للوجود، إلى الفهم المفتوح ، و بهذا فالكاتب يجعل من الإنسان وجودا مقابلا للنص، بل يغدو أكبر منه أحيانا في  وجوده ، فلولا الإنسان لما نزل النص، وبهذا الشكل تزول سلطة الزمن، و يصير الناس سواء في صلتهم [ بالقران] الكل فيه سواء،أي الإنسان والقران وجها لوجه، كما عبر بذلك الأكاديمي التونسي ـ احميد النيفر ـ ، ومن الواضح أن الكاتب لا يتجاوز النص [ القران] بقدر ما يتجاوز ما نسج حوله، كما أنه يرى في النص أنه مناصر للإنسان في وجوده،  لأنه أدرى بماهيته.

    ونسأل الكاتب كيف نعانق الحكمة بالتخلي عن كتب فلاسفتها؟. فهو يقسم الفلسفة إلى شطرين، الفلسفة التقليدية التي يجعل أهلها من أنفسهم  خاصة الخاصة، ولا يفصحون على نواياهم إلا لخاصة المجتمع،  وبهذا الشكل جعلوا، من أنفسهم أوصياء على الناس  والمجتمع، فهل كان الأنبياء على هذا المنوال ؟، أم أنهم أناس يأكلون الطعام ويشمون في الأسواق، أي  ملتحمين  بقضايا الناس وهمومهم،   فالفيلسوف التقليدي في نظر الكاتب  " واحد  يتكلم  لغة  صعبة من أشيا تهم الفلاسفة فقط " ص: 67،  فعلى هذا المنوال كان كل  من ابن سينا وغيره،  وكانت الفلسفة مع البعض منهم " كنوع من التفتيش من قبل  أعمى  عن قبعة سوداء في غرفة ظلماء  والقبعة غير موجودة أساسا " ص: 67.

  صحيح  أن ابن سينا له حمل معرفي كبير  ولقد استحق لقب الفيلسوف بذلك، لكن هل ابن سينا يعرف الله أكثر من أبي ذر؟، خاصة " إذا أخذنا المدارات المعرفية  للإلهيات في الذات الإلهية، التي لم تكن أصلا في زمن  أبي ذر... إذ مع ذلك  يخرج أبو ذر جاهلا لله ولوجوده، بينما المعروف أن أبا ذر يمثل  حدثا تاريخيا  وهو القيمة المعرفية الأولى لتقييم المسار. حدث غير المسارات، ورسم صورة  يتشربها العالم والجاهل ...  بينما ابن سينا يمثل حدثا ذهنيا  بقي خارج الواقع يدور في أروقة،  مثل ثرثرة يدوخ بها المجتمع ...كأي ثرثرة يدوخ بها الفرد" ص: 74، وبهذا  فحركة أبي ذر في جهة الله هي أكبر بكثير مما كان مع ابن سينا،  فالفلسفة بدرجة أولى في نظر الكاتب هي فلسفة الحياة،  وهذا هو الشطر الثاني من الفلسفة الذي مثله أبو ذر  الذي  نحت موقفا في التاريخ  دون فلسفة الفلاسفة،  ففلسفة الحياة تقتضي الوجود في شارع الموقف والفكرة  إلى جانب  الجماهير قبل أوراق الفكرة،  والمثال الأبرز هنا  في هذا الخط، هو الفيلسوف الإيطالي المعروف أنطونيو كرامشي، كمثقف حركي وكزغيم  ومؤسس للحزب الشيوعي الإيطالي، فهو أول من بلور مقولة " المثقف العضوي، إشارة إلى الوحدة العضوية  بين الجمهور وأهل الفكر "5 ص: 66، ففي نظره أن الفلسفة التقليدية " لم تستطع خلق وحدة إيديولوجية بين الأسفل والأعلى، بين البسطاء وأهل الفكر، كما أنها  أبهرت عداءها للحركات الثقافية  التي تريد أن تتجه إلى الشعب" ص: 67. هذه الوحدة العضوية  التي يبحث عنها كرانشي سنجدها في النص القرآني  الذي تحدث عن الناس وعن الإنسان كمفردات مقابلة لمفردة الجلالة، ففي نظر علي شريعتي  أنه  من " الممكن استبدال لفظة الجلالة  بمفردة الناس في أغلب الآيات القرآنية، دون أن يحصل إرباك في وحدة النص" ص: 66، فالحكمة في النص  ملك للجميع  وليس حكرا على أحد، وحتى الأنبياء  لم ينالوا  درجتهم تلك  إلا بإنسانيتهم،  وليس بما كتبوا من الكتب،  ولا نقلل هنا من أهمية الكتابة، إلا أن أنها ينبغي أن تكون من أجل الإنسان، وهذه هي رسالة القرآن، رسالة من أجل الإنسان ، فالفيلسوف والحكيم والنبي  هو الذي يسعى لصناعة  الإنسان،  بالبحث  في معاني الحياة وصلة الإنسان بها، ولهذا  فأبو ذر كان أكثر حكمة  في فلسفته،  بتمرده  على الخليفة وخروجه عن المعتاد ، حبا وعشقا لإنسانية الإنسان، وبهذا  صار وريثا للنبي في مواقفه ، بينما ابن سبنا غير ذلك، لأن النبي  لم يكن  همه تحويل الدين إلى علم  ذو أبواب  وضوابط ... كما يحلو للفيلسوف والفقيه. إلا أن  المسلمين بعده  جعلوا من الإسلام علما محكما  مفصولا عن الإنسان وفلسفته في الحياة  في كثير من الأحيان، وهذه هي مصيبة الإسلام الكبرى إذ أخذ الناس نسخة علوم الإسلام على أنها الإسلام ذاته، ص: 71 ،  وضاعت بذلك معاني الإسلامي ومواقفه وفلسفته في الحياة، ومع الأسف لازال حيز كبير  من الناس في المشرق في مؤسسته الدينية " على أنفاس ابن سينا  في الإطار العام للفلسفة بنمطها التجريبي، وبتشبث يوحي على أن تلك الفلسفة جزء من التدين " ص: 15.                    

والذي ينبغي أن تتيقظ له عقولنا  هو أن " الحكيم الفيلسوف منتج للمعنى ، أو فنان بالمعنى العام  في جهة المعنى.... قد يبدعها في نص أو في لوحة  أو في موقف  أو في موسيقى،  الحكمة ليست نصا أو علما فقط، لما لا يكون  بتهوفن أكثر سماعا وحكمة، وإلا كيف أسمعها الآخرين بموسيقاه..."ص : 7، وليس بتهوفن لوحده  بل الكثير من الذين لهم نزوع نحو الخلود، بصدقهم في كلماتهم  وأصواتهم  وألحانهم  المعانقة  للإنسان،  في همه وكربه وفرحه، ونأخذ مثالا على ذلك مجموعة ناس الغيوان المغربية،  التي كانت مرآة صادقة  لمحن الإنسان ، خاصة الشعب المغربي في لحظة حرجة من الزمن، رغم أن هذه المجموعة لم تدرس فلسفة الفن وأبوابه في المعاهد العلمية، ولم يلزمها لبلورة وانتقاء  كلماتها وأشعارها الممتدة المعنى  والحاسمة في الوقف، شاهدات دكتوراه  الدولة في الأدب الشعبي المغاربي وغير ذلك، ومن هنا تبقى مقولة " الفلسفة  لا تقرأ  في بطون الكتب  ولا تدرس في محراب الجامعة " ذات نوع  من المصداقية.

الحل الوجودي:

 ارتبطت الوجودية  في الكثير من صورها  "بسارتر"  أكثر ما ارتبطت " بكيركجارد" ، نتيجة المد الايديولوجي الماركسي، كما هو الشأن بالنسبة لنظرية التطور  الدروينية  التي احتفل بها في أروقة الأيدولوجيا، أكثر ما احتفل بها في أروقة العلم،  لأن كل من سارتر ودروين على خط ومسار  التوظيف الايديولوجي الماركسي،  ولهذا كلما  ذكرت الوجودية إلا وقفز الذهن إلى أنها إعراض عن الغيب  والتخلي عنه،  بينما أنه "  إذا كانت هناك مدرسة في التاريخ الفلسفي ، سيما الحديث  تستحق بجدارة لقب المدرسة اللاهوتية  قبل كل شيء، فهي المدرسة الوجودية في صورتها الأولى،  أو لنقل خطوتها الكيركجاردية بالتحديد " ص: 189، والتي من أهم مميزاتها هي تمردها  على التدين التقليدي ورجالاته، نتيجة  الفظاعات التي  يرتكبونها باسم الدين،  ومن ثم  على مفاهيمهم التي يستحمرون بها الناس،  فهذا التمرد في غايته ووجهته هو تمرد من أجل الدين ليس إلا، فكثيرا ما " يجمع البعض  في توصيف  كيركرجارد بين كونه  مفكرا  ذاتيا كنيتشه وفيلسوف  دينيا كبسكال  رغم أن تلك الصفتين  تختصرهما  صفة الوجودي ..، أزمة ذلك الحذر يمنحه صفتين  نابع من عدم قدرة البعض على الجمع  معرفيا  بين الوجودي  واللاهوتي، وعدم القدرة على الاقتناع  بأن الوجودية  عنوان لاهوتي في الصميم" ص: 192، في غفلة على أن  الأنبياء كانوا أكثر ذاتية  في فهم الحياة، وأكثر لاهوتيتة من غيرهم ،  إذ لم  يسلبهم ما كدِّس من المعرفة الدينية، وما هو مسلم به عند الناس، وبعبارة  أدق أنهم كانوا  ضد الفهم الديني الذي حوَّل الدين إلى أشكال وطقوس  ميتة، فمحمد النبي  لم يكن ضد الصلاة التي  وجدها في مجتمعه القرشي، ولكن علم بذاتيته  أنها  صلاة  بلا جوهر وبلا روح، ولهذا  شق طريقا آخر للصلاة  قال تعالى : وما كانت صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"   وقاطع المعبد الذي يجتمع فيه قريش، وهذا الموقف نفسه بقالب آخر تكرر  مع كيركجارد بقوله : " إذا امتنع المرء عن الذهاب إلى الكنيسة فإنه  يقلل  من عدد خطاياه" ص: 195، إذ لم يعد للدين أي دور وأي معنى مع الفهم الكنسي، الذي زوَّر عقيدة المسيح، وجعل الدين في خدمة السلطان، وهذه هي جوهر المشكلة في زمن نبوة محمد،  إذ كان الدين في خدمة أبو سفيان ومن معه،  إلا أن محمدا قلبه رأسا على عقب وجعله في خدمة الإنسانية أجمع،  ومع الأسف أن كهنة الإسلام  ورجال الدين ، خالفوا نهج النبوة و تمسكوا بدين قريش ، وسار الدين في معظم صوره في خدمة بلاط الخليفة، وبين الفينة والأخرى يظهر  رجال الإصلاح ، وهذا ما يزعج دولة الخليفة . ونحن هنا عندما نقارن بين واقع المسيحية وتاريخ الإسلام ، فإننا ننظر إلى النتائج  والنهايات، لأن الفهم المقلوب للدين يفضي إلى نفس النتائج مع اختلاف تمظهراتها وأشكالها.      

إن الوجودية بهذا المعنى هي النظر إلى الإنسان كأعلى قيمة في الوجود، فهو أولى من غيره  حتى من الدين نفسه، و" لقد وجد  كيركجارد في أعمق وجوديته أن الكنيسة تقوم بتزوير الوجود، أكثر من غيرها  من الطغاة والدجالين… ولهذا كانت تهمته التي يوجهها إليها  هي أن كل شيء  يقوم على الكذب… فعبادة الله ليست إلا سخرية من الله" ص: 196، وبهذا فكيركجارد يدعو إلى البحث عن الحقيقة وعن ماهية الله  وعن ماهية  عباده، وهذا سيكلف  الكنيسة  نوعا  من التخلي  عن  ما هي عليه من المسلمات والبحث في حقائق الدين بشكل عام، ولاشك أن هذا سيأخذها  إلى ماهية  مفهوم الوحي،  والكتاب،  والرسالة، وهل النص الديني بلغ  نهايته وتكامله  مع العهد الجديد أم مع القرآن الكريم؟ وهذا ما تخشاه  الكنيسة إلى يومنا هذا ، وبالتالي لم تستثمر الوجودية بالشكل المطلوب، كمدخل من مداخل الإصلاح الديني، " فالوجودية  الحقة  رسالة إنسانية،  لا معرفية تعلم الناس معنى الوجود الإنساني،  أو كيف يكونوا إنسانيين، بدل أن تكون  إضافة من الإضافات المعرفية،  كما هو شأن  التكديس والتراكم التاريخي  لمزابل المكتبات القومية والمذهبية والدينية" ص: 211.

 وبهذا الشكل فالإنسان هو الذي يحدد وجوديته ،  إذ هو الذي يصبغ الحياة بالمعنى، وبذلك فلكل إنسان وجوديته، وعلى هذا المنوال  تبقى الوجودية أكثر  انفتاحا  في أبعادها وزواياها الممتدة في أغوار الحياة، "  فكيفما يكون الإنسان  يكون الوجود" ص: 214 ، "  فالوجود  للشعب العربي أيام النبي غيره في زمن معاوية،  وغيره في زمن السلاطين، وغيره في زمن السلفية… بصورة أخرى إن الإسلام حقق ماهية وشخصية للوجود العربي، أنتجت  لهم وجودا  أيام النبي،  خالف ما كان الوجود عليه أيام معاوية بقصوره وغوانيه وعنصريته، ص: 215.

 ولقد امتد الإسلام  بتجديد ماهية  وجود الشعوب  التي  اعتنقته ، كالفرس والأتراك  والأمازيغ، فوجود هذه الشعوب والثقافات انبثق وتجدد و ازداد تماسكا بفضل  صلتها وارتباطها  بالنص القرآني،  ولولا ه لحصل لها نوع من الاندثار والزوال  والتيه الوجودي.

 و قصد استرجاع الوجود الإسلامي، في قالبه  الإنساني  المتسع،  بالضرورة الأخذ بالحل الوجودي، وليست غايتنا هي التركيز على الوجودية  كمبحث  وغاية بقدر " ما نريد  تناول الإشكالية  الدينية والإنسانية في حلها،  وهو حل انقلابي ليس لأنه وجودي، ولكن  لأن الدين مقلوب أصلا،  وأن عودته  إلى وضعه الطبيعي لا تتم  في اعتقادنا إلا بالحل الوجودي، أو أقلها بمشاركة  ذلك الحل" ص: 210.

 وجوهر هذا الحل هو إعادة بناء العلاقة  بين الله والإنسان  والوجود، وقد كرس المرحوم أبو القاسم حاج حمد حياته للبحث في جدل هذه العلاقة الثلاثية الأبعاد، خاصة من خلال كتابه ، العالمية الإسلامية الثانية جدل الغيب والإنسان والطبيعة. هذا الحل يفتقد فيه المبعد مركزيته، ويصير  كل ما نسج حوله  مقلوبا، فالإنسان أولى من المعبد ورجالاته، في فهم  قضايا الدين  والدولة   والمجتمع والكون كمحراب  للبحث عن الحق والحقيقة.           


تاريخ النشر : 09-09-2008

6261 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com