آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

الاجتماع والفلسفة  .  قضايا فلسفية

الظاهرة الدينية    |    فلسفة الدين    |    فلسفة الأخلاق    |    المرأة و النسوية    |    الإسلام و الغرب

  •     

النماذج التفسيرية:دراسة في الأدوات التحليلية لعبد الوهاب المسيري

عبد الله إدالكوس


مدخل: من ماكس فيبر إلى عبد الوهاب المسيري

تتسمم الأبحاث والدراسات في مجال العلوم الإنسانية باحتوائها العديد من المفاهيم والمصطلحات، والتي يسعى الباحث من خلالها إلى تفسير الظاهرة الإنسانية موضوع الدراسة.

بيْد أن عملية التفسير - هذه - لا تستقيم دون تحديد وإيضاح معاني ودلالات هذه المفاهيم قبل الخوض في دراستها ونقدها. فالمفاهيم والمصطلحات تساعد في فهم وتفسير الظواهر بقدر ما توقع في الوهم والغموض الشديدين إذا ما تجاهل الدارس أو الباحث تحديد دلالات هذه المفاهيم.

واستطاع الباحثون في حقل الدراسات الاجتماعية أن يتوصلوا إلى نتائج متميزة في مجال صياغة المفاهيم واستثمارها. فالمفاهيم الاجتماعية تفيد الباحث في تحقيق هدفين أساسيين 1 :

أولا : تميز البحث وتوجهه نحو مجموعة من الظواهر لم يكن يلتفت إليها بوصفها فئاتٍ منفصلةً.

ثانيا : تفيد المفاهيم الباحث من حيث كونها أوصافا للظواهر وأدوات للتحليل.

ويبدو أن عالم الاجتماع الألماني "ماكس ڤيبر" [Max Weber] (1920) كان من أكثر الدارسين اهتماما بهذه القضية أثناء عرضه لطريقة النموذج المثالي. وتتلخص فكرته الرئيسة في أن : " كل التعريفات، هي تعريفات تحكمية وأن قيمة التعريف للمفهوم تتحدد في ضوء فائدته في البحث وصياغة النظرية الاجتماعية. " 2، إن المنهج الذي اعتمده "ماكس ڤيبر" لا يستمد النظرية الاجتماعية معتمدا فقط على العلاقات الاجتماعية بين الوسائل والغايات، وإنما يربطها باستمرار بنسق اجتماعي معين، وبالظروف التي يتم في ضوئها تحقيق الغايات، ومن ثَـمَّ، يؤكد "ڤيبر" باستمرار أن "كل المفاهيم التي يقدمها لا تكفي في حد ذاتها، وإنما لا بد أن يستخدمها علماء الاجتماع في تجسيد النماذج المثالية لتفسير مشكلات اجتماعية ملموسة، بل الأكثر من ذلك أن هذه النماذج بدورها ليست غاية مطلقة ولكنها وسيلة للتفسير والتحليل المنطقي." 3

وبذلك يكون "ماكس ڤيبر" اعتمد منهجا مغايرا لما كان سائدا في الدراسات الاجتماعية. وسمة هذا المنهج الأساسية هي اعتماد النسقية المركبة واكتشاف القوانين التي تساعد في دراسة العلاقات التي تربط بين مجالات الظاهرة المختلفة بشكل يحفظ للإنسانية طابعها التركيبي. وهو بذلك تجاوز النظر التجزيئي الذي لا يمكن أن يفسر الظاهرة الإنسانية. فالأساس، إذن، في بناء النموذج المثالي حسب ما يرى "ڤيبر" هو : "التشديد على فكرة ما، أو عدة أفكار، أو على وجهة نظر ما، أو عدة وجهات نظر واستخراج طائفة من الحوادث المعزولة، الغامضة والخفية، التي يكثر العثور عليها أحيانا أو يتضاءل وربطها بوجهات النظر المختارة من أجل أن ننشئ منها لوحة متجانسة." 4

ويبدو أن هذه الرؤية المنهجية قد تعمقت بشكل كبير عند عبد الوهاب المسيري، فكانت إسهاماته الأساسية في مجالات الفكر العربي تكمن أساسا في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدواتٍ تحليليةً، وهي إضافة منهجية ونوعية أنتجت عملا فكريا متكاملا في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، وفي أعمال أخرى تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو "يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطا مركبا عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة وفي العلمانية كنموذج معرفي وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد... وأخيرا يكتب كتب متميزة للأطفال تنال جوائز، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة." 5

ويستمد عبد الوهاب المسيري هذا البعد المنهجي التكاملي من إسهامات علماء الاجتماع، خصوصا ما قدمه "ڤيبـر" حول النماذج المثالية ؛ يقول "وكلمة نموذج كما استخدمها هي قريبة في معناها من كلمة "theme" الإنجليزية، وهي تعني الفكرة المجردة والمحورية في عمل أدبي ما والتي تتجاوز العمل ولكنها مع هذا كامنة فيه وفي كل أجزائه تمنحه وحدته الأساسية وتربط بين عناصره المختلفة، كما أن الكلمة قريبة في معناها من مصطلح "النمط المثالي" بالإنجليزية "ايديال تايب" "Ideal Type" الذي استخدمه ماكس ڤيبر أداة تحليلية." 6

ولأننا سنتناول بالدرس والتحليل، في هذا البحث، الآليات التحليلية لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ( أي النماذج الثلاثة : العلمانية الشاملة والحلولية ثم الجماعات الوظيفية) و"الموسوعة لأنها تستخدم النماذج التحليلية تتسم بالترابط الشديد وخاصة أن النماذج التحليلية الأساسية تداخلت، فنموذج الحلولية تداخل مع نموذج العلمانية الشاملة، وهذان تداخلا بدورهما مع نموذج الجماعات الوظيفية."7 لابد، أولا، أن نقف عند مفهوم النموذج التفسيري عند عبد الوهاب المسيري، حيث إننا لا نستطيع أن نقترب من الموسوعة دون الإلمام بآلياتها التحليلية. فهي قامت على جهد نظري بهدف "الوصول إلى نموذج تفسيري يمكن أن يفسر تاريخ الجماعات اليهودية، وبالتالي يفسر الواقع الراهن للدولة الصهيونية الاستيطانية، وهو نفسه النموذج التفسيري الذي توسع وتمدد عبر صفحات الموسوعة ليصبح نموذجا لتفسير التاريخ الحضاري الغربي."8.

يعرف عبد الوهاب المسيري النموذج التفسيري قائلا : "عندما يتجه الإنسان إلى ظاهرة ما مستهدفا تفسيرها، فانه يقوم بعدة خطوات حتى يصل إلى هذا التفسير، وحينما يرى الإنسان ظاهرة ما، فعليه التعامل مع عدد كبير من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وعندئذ يقوم العقل باستبعاد بعضها لأنه يعتقد أنها لا دلالة لها "من وجهة نظره" ويستبقي البعض الآخر "وهذا هو التجريد" وتأتي بعد ذلك خطوة الربط بين العلاقات والوقائع والحقائق التي أبقاها فينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح حسب تصوره مماثلة للواقع، أي أن تكون قادرة على تقديم صورة معبرة بشكل صحيح عن الواقع، وما ينتج عن عملية التجريد وتصور العلاقات بين عناصر الظاهرة يسمى "النموذج" فهو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي، أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع."9

وبعد، فإن النموذج التفسيري يتأسس وَفْقـًا لعمليات التجريد والتنسيق وهي عمليات تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي، ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بدون أدنى عمليات التنسيق والربط. بل، إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع. وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين : مرحلة الوصف، وتتحقق عبر تفكيك الظاهرة إلى مفاهيمها الأساسية. ثم، مرحلة التركيب، أي تركيب المفاهيم وكشف متغيرات الظاهرة وتفاعلاتها عبر الزمن. وتكون بذلك خلاصة هذه العملية اكتشاف النموذج الأكثر قدرة على التفسير.

و ليس النموذج، إذن، - عند المسيري - "إطارا للعلاقات النسبية، ولا نظرية لتحديد الأسباب، وليس إطارا تجريبيا صارما. وإنما هو إطار لتنظيم المعرفة وتحديد العلاقات والتركيبات الداخلية كما يحتوي المعلومات وينظمها ثم يعيد ترتيبها مع كل معلومة جديدة." 10. ويؤكد المسيري أن النماذج التحليلية نماذج واعية يصوغها الباحث من خلال قراءته للنصوص المختلفة، وملاحظته للظواهر المتنوعة، فيقوم بتفكيك الواقع وإعادة تركيبه من خلالها، بحيث يصبح الواقع أو "النص" مفهوما ومستوعبا بشكل أعمق ويصف الباحث "رفيق حبيب" أسلوب المسيري في تشكيل النموذج التفسيري، حيث إنه "يحدد مفاهيم كل مفهوم منها يصف جانبا من الظاهرة ويعرفه، فيصبح اسما له. ثم يقيم المسيري العلاقة بين مفهوم وآخر من خلال حالة التقابل واللقاء الواقعي بين المفهومين وبالنظر التاريخي، يتحول المفهوم إلى تاريخ معرفي، فتصبح له حالات تتطور عبر الزمن ومنها يكتسب المفهوم بعدا تاريخيا يجعله مماثلا لتاريخ الظاهرة، ويعيد المسيري الربط بين المفاهيم في حالتها التاريخية، حتى يكتشف التاريخ المشترك لها ومع تعدد المفاهيم يتحول النموذج التفسيري إلى نموذج متعدد الأبعاد، فلا يفسر الظواهر من خلال تركيب أحـادي، بل من خلال التركيب المتعدد. ومن التاريخية ثم تعدد الأبعاد، ثم التفاعل بين الأبعاد يتشكل النموذج المعرفي في صورة تتماثل مع الظاهرة، من حيث التركيب والتعدد والتفاعل."11

لقد استطاع المسيري أن يتخلص من القبضة الحديدية التي تفرضها النماذج المعرفية الغربية، بسماتها التفكيكية المعلوماتية المتحيزة، وأن يخلق إطارا معرفيا يرتبط بالحقل التداولي العربي المتجاوز، تتم من خلاله عملية اكتشاف الذات والآخر معا، الأمر الذي دفع بمؤرخ غربي بارز هو "كافين رايلي" [Kevin Riley] إلى أن يصف المسيري بأنه "مفكر عربي في سياق عالمي." 12

وبعد، فقد حاولنا أن نلامس في هذا المدخل مفهوم النماذج التفسيرية، وهي كما أشرنا آليات تحليلية، لعل أبرزها تلك التي وظفها المسيري في الموسوعة،فهي تقوم على بناء ثلاثي الأبعاد : العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية والجماعات الوظيفية. وتجدر الإشارة إلى أن عملية الفصل بين هذه الأبعاد التي سننهجها في معرض تناولنا لها في المباحث الثلاثة اللاحقة، لا تعني انفصالها ، وإنما الضرورة المنهجية هي التي أفضت بنا إلى ذلك. فالنماذج الثلاثة متصلة ومتداخلة، أنتجت عملا متكاملا في الموسوعة التي تتسم بالترابط الشديد، أضف إلى ذلك أن عملية التحليل والتركيب التي يقدمها هذا الإطار المعرفي، هي عملية في حالة تفاعل مستمر، فهي تتطور من خلال اكتشاف كل جديد أو إضافة للظاهرة موضع الدراسة، وهو ما يعني أن النموذج ليس ثابتا وإنما هو في حالة حركة مستمرة، وبذلك فان عملية ضبط النموذج في حالة تاريخية معينة تعني اغتياله

النموذج الأول: العلمانية الشاملة

الدلالة الاصطلاحية

اشتد الخلاف حول العلمانية؛ بين المؤيدين والمعارضين، الأمر الذي يوحي إلى وضوح المفهوم، والحقيقة إذا ما دققنا النظر في المصطلح فإننا سنجد أنه من أكثر المصطلحات المتداولة إلتباسا، ويرجع عبد الوهاب المسيري أسباب ذلك إلى ما يلي:

أولا: شيوع تعريف العلمانية باعتبارها "فصل الدين عن الدولة" وهو ما سطح القضية تماما وقلص نطاقها.

ثانيا: تصور العلمانية كمجموعة أفكار وممارسات واضحة. وهو ما أدى إلى إهمال عمليات العلمنة الكامنة.

ثالثا: تصور العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة، لا متتالية آخذة في التحقق.

رابعا: إخفاق علم الاجتماع الغربي في تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية.

خامسا: استقرار معنى العلمانية في الستينيات، ولكن في الآونة الآخرة برزت بعض الدراسات التي تناولت الموضوع من منظور جديد زادت المصطلح إبهاما.

سادسا: حدثت مراجعة للمصطلح في العالم العربي.[1]

ثـم، إن الترجمة إلى العربية، تعني نقل المفهوم من حقل تداولي* غربي إلى آخر عربي إسلامي (مع العلم أن النسقين الحضاريين مختلفان إلى حد التناقض أحيانا) الأمر الذي يزيد من شدة غموض المفهوم، ومعنى ذلك أنه لا يمكن فصل المفاهيم عن إطارها الحضاري والخلفيات الفلسفية التي أفرزتها وإسقاطها بشكل عمودي على نسق حضاري تداولي مغاير. ويذهب الدكتور عبد السلام بوشلاقة إلى "ضرورة التمييز بين التحديد الاصطلاحي لكلمة علمانية ومشتقاتها في اللغات الأوربية، وبين التحديد الدلالي والمفهومي الذي أصبح شديد التشعب والتوزع بين حقول دراسية مختلفة. أو حتى داخل الحقل الدراسي الواحد بسبب اختلاف الخلفيات الفكرية والفلسفية أو لنقل النماذج التفسيرية بلغة الدكتور عبد الوهاب المسيري التي يتم من خلالها التعاطي مع المفهوم."[2]

أما عن الدلالة اللغوية لكلمة علمانية فهي ترجمة لكلمة [secularism] المشتقة من الكلمة اللاتينية "سيكولوم" [seaculom] وتعني العصر أو الجيل أو القرن، ولها معان أخرى منها "العالم" أو"الدنيا" مقابل الكنيسة.

وجاء في قاموس "أكسفورد" [Oxford] أن العلمانية هي "العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة "الدنيا" واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى."[3]

إن الحديث المتضمن في هذا التعريف حول استبعاد الاعتبارات المستمدة من الأسس الدينية "الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى"، هو في الحقيقة استبعاد للمطلقات الأخلاقية، وتعويضها بالمصالح النسبية "المصالح البشرية"، وهو ما يعني استقلال الأخلاق عن الدين.

في اللغة الفرنسية نجد كلمة [laïqueوالتي تعني "النظام السياسي المتميز بإقصاء النفوذ الكهنوتي عن الدولة."[4] أي أنها موقف سياسي من الكنيسة والكهنوت. ولكنه موقف حاد وصل إلى حد تحويل بعض الكنائس إلى معابد يعبد فيها العقل. كما أنهم وضعوا سياسة منهجية صريحة تهدف إلى تصفية أي مضمون ديني في التعليم أو القانون "على عكس كلمة "سيكولار" الإنجليزية وهي ليست قاطعة ولا حادة في دلالتها بهذا الشكل".[5]

وتوجد ترجمات مختلفة لكلمة "سيكولار" و"لاييك" إلى اللغة العربية منها:

العِلمانية "بكسر العين" نسبة إلى العلم.

العَلمانية "بفتح العين" نسبة إلى العالم.

الدنيوية "نسبة إلى الدنيا" ثم الزمنية نسبة إلى الزمن كما تستخدم أحيانا كلمة "لائيك" أو"لائكي" دون تغيير.

يقول الدكتور فؤاد زكريا: "لا شك في أن الربط بين العلمانية وبين معنى "العالم" أدق من الربط بينها وبين "العلم" ولو شئنا الدقة الكاملة لقلنا إن الترجمة الصحيحة للكلمة هي "الزمانية" لان اللفظ الذي يدل عليها في اللغات الأجنبية، أي [secular] في الإنجليزية مثلا مشتق من كلمة تعني القرن [saecalum]"[6].

ربما كان هذا التعريف أقرب إلى الصواب، بالنظر إلى الاشتقاق اللاتيني للكلمة، وهو ما ذهب إليه عدد كبير من الباحثين منهم عبد الوهاب المسيري نفسه، والباحث محمد فنيش الذي يقول: "خلافا للشائع، فان كلمة علمانية غير مشتقة من العلم بل من العالم، وعليه فان كلمة علماني تعني "مدني" غير منتسب إلى فئة الكهنوت ورجال الدين، وإذا كانت الألفاظ تفهم بأضدادها فان نقيض العلماني هو "الاكليروكي" أي من ينتسب إلى الإكليروس وهم رجال الدين أومن يناصر الاكليريكية وتدخل رجال الكهنوت في الحياة العامة." [7]

وبعد، فقد تأكد لدينا مدى الغموض الذي يحف المصطلح والصعوبات التي تواجه الباحث داخل النسق الحضاري التداولي الغربي فيما بين "سيكولا" و"لاييك"، ثم شدة الإبهام في التجربة العربية. فماذا عن العائد المعرفي لمفهوم العلمانية؟

الدلالة المعرفية لمفهوم العلمانية

جاء في معجم علم الاجتماع المعاصر لصاحبه توماس فورد هولت: "من الحكمة في تقديري أن نستخدم كلمة "علمانية" لنشير إلى الاعتقادات والممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب النهائية للحياة الإنسانية ومن ثم فالعلمانية ليست معادية للدين ولا هي بديل للدين، إنها مجرد قطاع واحد من قطاعات الحياة."[8]

وغالبا ما تأتي التعريفات العربية لمفهوم العلمانية موافقة لمضمون التعريف السابق. فعلى سبيل المثال، يعرفها محمد أحمد خلف الله على أنها "حركة فصل السلطة السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية وليست فصل الدين عن الدولة."[9]ويذهب وحيد عبد المجيد إلى أنها "موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشؤون الدينية." [10] أما أحمد حسين أمين فيرى أنها "محاولة في سبيل الاستقلال ببعض مجالات المعرفة عن عالم ما وراء الطبيعة وعن المسلمات الغيبية."[11] ويرى فؤاد زكريا أن العلمانية هي "دعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة." [12]

ويصف عبد الوهاب المسيري هذه التعريفات بأنها جزئية ومحدودة في دائرة ضيقة هي دائرة فصل المجال الديني ومؤسساته عن المجال السياسي ومؤسساته، بالمعنى الهيكلي المؤسساتي لكلمة الفصل. ومن ثَـمَّ، استبعدت هذه التعريفات الدائرة الأكبر والأشمل، (الدائرة المعرفية) بمعنى أنها تتجاهل قضية المرجعية والنموذج الكامن وراء المصطلح إذ "لا بد أن نسأل عن الإطار المعرفي الكلي والنهائي الذي تتم في إطاره عملية الفصل".[13]

وفي أعماله يميز عبد الوهاب المسيري بين علمانيتين أو بين مستويين دلاليين للعلمانية.

المستوى الأول: يصفه بـ[العلمانية الجزئية] وفي إطاره توصف العلمانية بأنها فصل بين الدين والدولة، وينبه إلى أن هذا الفصل لا يمثل تحديا حقيقيا للمرجعية الدينية، بحيث "ليس هذا الأمر جديدا في حياة المجتمعات الإنسانية بحكم أن عملية الفصل بين الجهاز الديني ومؤسسة الدولة، تمثل أمرا مشتركا بين كل المجتمعات الإنسانية، باستثناء المجتمعات البدائية التي يتولى فيها رئيس القبيلة مهمة الكهانة الروحية والسدانة السياسية في ذات الوقت." [14]

ولذا، يذهب المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد إلى أن "الدولة الإسلامية التي تسمي نفسها "علمانية" ليست بالضرورة معادية للحقيقة الدينية أو التربية الدينية كما أنه ليس معنى ذلك أنها تجرد الطبيعة من معناها الروحي أو تنكر القيم والفضائل الدينية في الشؤون السياسية والإنسانية، ولكن العملية الفلسفية العلمية التي اسميها العلمنة تعني حتما تجريد عالم الطبيعة من المعنى الروحي وإبعاد السياسة من الدين وعزل الدين عن كل شؤون حياة الإنسان ومناحيها، كما تعني إبعاد القيم المقدسة عن تفكير الإنسان وسلوكه." [15]

وبناءاً على ذلك، فإن العلمانية الجزئية تسمح بقدر من الثنائية وباستقلال الظاهرة الإنسانية عن الظواهر الطبيعية/المادية. ومن ثَـمَّ، تسمح بوجود حيز إنساني، فهي تقف صامتة أمام المطلقات الأخلاقية الدينية والإنسانية شريطة عدم تدخلها في عالم السياسة "وهي مطلب تاريخي مشروع في السياق الغربي، في مواجهة الكهنوت الكنسي وتحالفاته الإقطاعية."[16] ولذا، لا يجد المسيري حرجا مِـنْ تسمية العلمانية الجزئية بالعلمانية الأخلاقية أو العلمانية الإنسانية.

لكن المقدرة التفسيرية للعلمانية، باعتبارها فصل الدين عن الدولة، ضعيفة جدا بحيث لا تستوعب الظواهر الاجتماعية التي تتخبط فيها المجتمعات الغربية بالخصوص. وغالبا ما يتم التعاطي معها باعتبارها ظواهر منفصلة، تحت مسميات من قبيل "النشوء" و"الاغتراب"... الخ، فالعلمانية الجزئية لا تعدو أن تكون مجرد تعبير عن "المراحل الأولى لتطور العلمانية الغربية، ولكنها بمرور الزمن، ومن خلال تحقق حلقات المتتالية النماذجية العلمانية، تراجعت وهمشت، إذ تصاعدت معدلات العلمنة خاصة في العالم الغربي بحيث تجاوزت مجالات الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا، وأصبحت العلمنة ظاهرة اجتماعية كاسحة، وتحولا بنيويا عميقا يتجاوز عملية فصل الدين عن الدولة وعملية التنظيم "الرأسمالي والاشتراكي" ويتجاوز أية تعريفات معجمية وأية تصورات فكرية محدودة، فلم تعد هناك رقعة للحياة العامة مستقلة عن الحياة الخاصة، فالدولة العلمانية والمؤسسات التربوية والترفيهية والإعلامية وصلت إلى وجدان الإنسان، وتغلغلت في أحلامه ووجهت سلوكه وعلاقته بأعضاء أسرته النووية."[17]

إن هذا النمط الكاسح الذي يتجاوز "فصل الدين عن الدولة" هو الذي يسميهعبد الوهاب المسيري بـ[العلمانية الشاملة] فهي تطالب بتطبيق القانون الطبيعي/المادي بكل صرامة على كل مناحي الحياة، ولا تسمح بأية ثنائية، بل تسوي بين كل الظواهر الإنسانية والطبيعية. ومن ثم، ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، أو بعض جوانب الحياة وحسب، وإنما هي فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة ومرجعتيها النهائية وعن حياة الإنسان العامة والخاصة أي أنها "فصل القيمة عن الحياة الطبيعية والإنسانية، وتطبيق القانون الطبيعي عليها، ونزع القداسة تماما عن العالم بحيث يتحول إلى مادة استعمالية لا قداسة لها يمكن إدراكها بالحواس الخمس لا وجود لها خارجها، كما يمكن لمن يشاء أن يوظفها لصالحه. ونتيجة لهذا يظهر العلم المنفصل عن القيمة، وهذه هي العقلانية المادية الكاملة المستحيلة"[18]، فالعلمانية إذن حركة تاريخية كاسحة، تربك مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة، سِمَتُهَا الأساسية هي نزع القداسة عن العالم، أي تجريده من كل أشكال السمو والعلوية، وهي ترتبط من وجهة نظر ماكس ﭭيبر بمظهرين أساسين:

- أولا: تفكيك المظهر التوحيدي والشمولي للعالم، لصالح منظورات جزئية ذات مرجعيات متعددة ومتضاربة، بديلا عن النظرة الشمولية التي كان يمنحها الدين والتصورات الكونية الكبرى.

- ثانيا: هذا التعدد في مستوى الحقول الثقافية أو القيمية يقابله تعدد في مستوى الحقول الاجتماعية يحصرها فيبر في ثلاثة حقول هي: الحقل المعرفي الإدراكي كما يتجسد في مستوى المؤسسة الجامعية البحثية، ثم الحقل الاقتصادي والسياسي كما يتجسد أساسا في نظام السوق الرأسمالي وبيروقراطية الدولة الحديثة، ثم في الحقل الجمالي والفني، إذ يؤكد ﭭـيبر "أن الحداثة تستلزم طغيان الحقل الاقتصادي والضبط البيروقراطي على بقية مناحي النظام الاجتماعي"[19].

ولهذا السبب يفسر عبد الوهاب المسيري العلمانية على أنها التحديث على النمط الغربي حيث سيادة المعايير الكمية والقيمة المادية على الحياة الإنسانية، أي تفكيك الإنسان إلى وحدات مادية بسيطة تستمد قيمتها من ذاتها دون الاعتبار بالمعايير الأخلاقية الإنسانية المطلقة.

وبصورة عامة، يمكن القول استنادا إلى النموذج التفسيري الذي اعتمده عبد الوهاب المسيري فيما أسماه المتتالية النماذجية العلمانية، أن العلمانية بدأت بشكل جزئي في مراحلها الأولى حيث الفصل بين مؤسسة الكنيسة ومؤسسة الدولة مع الاحتفاظ بالقيم الدينية والإنسانية في مجال الحياة الخاصة. لكن مع ظهور أجهزة الدولة والإعلام، اتسع مجال الحياة العامة وتقلص مجال الحياة الخاصة وهو ما يعني انفصال الإنسان عن القيمة.

ومن المعلوم أن العلمانية هي إفراز طبيعي للفلسفات المادية، فهي لا تزال محملة بمضامين الفكر الفلسفي الوضعي الذي وصل ذروته مع نيتشه [Nietzsche](1901) ثم مع النظرية الداروينية، ولذلك يرى المسيري أن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة. يقول: "يرى دعاة الداروينية الاجتماعية أن القوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي ذاتها التي تسري على الظواهر الإنسانية التاريخية والاجتماعية، وهم يذهبون إلى أن تشارلز داروين[20] قد وصف هذه القوانين في كتابيه حول "أصل الأنواع" من خلال الانتخاب الطبيعي "وبقاء الأجناس الملائمة في عملية الصراع من أجل الحياة"[21]. ومعنى ذلك أن الحياة إذا كانت هي "تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، عندئذ تكون القوة هي الفضيلة الأساسية، والضعف هو النقيصة الوحيدة، الخير هو الذي يحيا ويظفر، والشر هو الذي يستسلم ويفشل"[22]. ففي هذا السياق، يمكن أن نفهم السمات الأساسية للحياة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان المعلمن بشكل شامل ويمكن تلخيصها في ما يلي:

أولا: التعاقدية؛ أي تتحول العلاقات بين البشر من علاقات إنسانية تتسم بالتراحم، إلى علاقات تعاقدية مضبوطة أو خاضعة للتفاوض وهذا ناجم عن أن الحياة أصبحت أشبه بالسوق والمصنع.

ثانيا: الحوسلة؛ أي حوسلة الإنسان بمعنى تحوله إلى وسيلة وهي مرتبطة بمفهوم الترشيد الذي اعتبره ماكس ﭭيبر من أهم سمات الحضارة الغربية.

ثالثا: التطبيع والتحييد؛ بمعنى رد الظواهر إلى الطبيعة/المادة أو إلى القانون الطبيعي، باعتباره مرجعية نهائية كامنة وقانونا عاما يسري على كل من الطبيعة المادية والطبيعة الإنسانية. لا يُفَرَّقُ بين أحدهما والآخر. وكل هذا يؤدي إلى تحييد العالم أي أن العالم يصبح مادة محضا لا تحوي غرضا ولا غاية ولا هدفا ولا معنى ولا مركزا وهذا هـو "الترشيد في الإطار المادي أي إعادة صياغة الواقع المادي والإنساني في إطار نموذج الطبيعة/المادة، أو المبدأ الواحد الكامن في المادة بالشكل الذي يحقق التقدم المادي "وحسب" مع استبعاد كل الاعتبارات الدينية والأخلاقية والإنسانية وكل العناصر الكيفية والمركبة والمحفوفة بالأسرار، بشكل تدريجي ومتصاعد، حتى يتحول الواقع إلى مادة استعماليه ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد، ومن ثم يمكن توظيف "حوسلة" كل من الواقع المادي والإنساني بكفاءة عالية إلى أن يتحقق حلم اليوتوبيا التكنولوجيا التكنوقراطية "ونهاية التاريخ"، حيث يتم برمجة كل شيء والتحكم في كل شيء بما في ذلك الإنسان نفسه ظاهره وباطنه، ويؤدي الترشيد المادي إلى اختفاء الحيز الإنساني والإنكار الكامل للتجاوز، ومن تم فهو شكل من أشكال العلمنة الشاملة، ويهدف كل من العلمنة والترشيد المادي إلى تحويل الطبيعة والإنسان إلى وسيلة أي حوسلتها"[23].

إن النموذج التفسيري الذي يقدمه المسيري حول العلمانية، يتجاوز ما كان سائدا في الدراسات العربية، ويبقى هدفه الأساسي، هو تفسير الظاهرة الصهيونية.


النموذج الثاني:الحلولية الكمونية

الحلولية الكمونية هو نموذج تفسيري استخدمه عبد الوهاب المسيري في معرض دراسته لتطور العقيدة اليهودية، يقول: "من خلال نموذج الحلولية الكمونية هذا أَرَّخْنَا للعقيدة اليهودية، ولتصاعد معدلات الحلولية الكمونية فيها إلى أن سيطرت "القَّبَّالَاة" عليها تماما، وهنا يظهر اليهودي بحسبانه الإنسان ممثل الإنسانية المشتركة في واقعها المأساوي والملهاوي. وفي مقدرتها الهائلة على تجاوز عالم المادة وعلى الغوص فيه، وعلى الصعود إلى أعلى درجات النبل، وعلى الهبوط إلى أدنى درجات الخساسة"[24].

ويمكن تعريف الكمونية الحلولية على أنها "المذهب القائل بأن كل ما في الكون "الإله والإنسان والطبيعة" مكون من جوهر واحد. ومن ثم، ينكر هذا المذهب وجود الحيز الإنساني، كما ينكر إمكانية الحرية والتجاوز "وهو يصل إلى الذروة في وحدة الوجود". ومذهب الحلول والكمون مذهب أحادى اختزالي، فهو يختزل الإنسان ويساويه بالكائنات الطبيعية."[25] بل، إن العالم يتحول إلى "وحدات طبيعية وإنسانية، متساوية ومستقلة ومختلفة ومنفصلة بسبب عدم وجود مركز ومرجعية كلية مشتركة وتصبح كل وحدة ذات سيادة مطلقة ومرجعية ذاتها."[26] ويلفت المسيري القارئ منذ الجزء الأول من الموسوعة إلى عدد كبير من المصطلحات المتقاربة، وذات الحقل الدلالي المشترك للتعبير عن فلسفات الحلول من ذلك: الحلول، وحدة الوجود، الكمون، الباطنية، الاتحاد، الفناء، المحايثة، الفيض، التجسد، المبدأ الواحد وغيرها. وما هو مشترك بين هذه المصطلحات هو "اتجاهها إلى نفي طرفي الثنائية الوجودية (الخالق والمخلوق، الكلي والنسبي، المادي والروحي، الظاهر والباطن، الداخل والخارج) إلى أن ينتهي الأمر بأن يفنى أحدهما في الأخر ويذوب فيه بصورة تامة، حتى يكونا في نهاية المطاف واحدا عضويا يلغي كل أساس للمقابلة والتمييز"[27] وتجدر الإشارة إلى أن أي نموذج أو رؤية للكون، تدور حول ثلاثة محاور هي: الإله، والطبيعة، والإنسان، سماها حاج حمد بـ[الجدليات الثلاث] وهي محاور مترابطة إلى درجة أنه يمكن استخلاص موقف النموذج من الطبيعة والإنسان من خلال دراسة موقفه من الإله ويمكن استخلاص موقفه من الإنسان والإله من خلال دراسة موقفه من الطبيعة"[28]. ويذهب المسيري إلى أن معظم الرؤى الإنسانية تحدد مبدأً واحدا يشكل مركز الكون ومصدر وحدته وتماسكه وحركته. هذا المبدأ الواحد في العقائد التوحيدية هو الإله" وهو متجاوز للإنسان والطبيعة والتاريخ منزه عنها، مفارق لها. ولكنه لم يهجرها فهو خالقها ومحركها وهو الذي يزودها بالغرض والغاية؛ وهو ما تعبر عنه الآية الكريمـة: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾[29]، أما في الرؤى الحلولية الكمونية الواحدية، فالمبدأ الواحد ليس مفارقا للمادة أو العالم "أي للطبيعة أو الإنسان" وإنما كامن وحال فيها، فهو جزء عضوي لا يتجزأ
تاريخ النشر : 22-09-2008

8407 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com