نقول على سبيل البدء إنه لا شيء يسوغ استهجان الكثير من المسلمين دارسين و غير دارسين لجعل القرآن الكريم موضوعا للدراسة و البحث من قبل غير المسلمين مستشرقين و غيرهم.إن الله سبحانه و تعالى نفسه قد منح هذا الحق بل دعا إليه قال تعالى " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ".و لاشي أيضا يسوغ الطعن في ذلك بحجة أن هؤلاء لا يؤمنون بقدسيته و بمصدره الإلهي إذ لا معنى أن تدعو أحدا إلى البحث و التدبر في شيء و تشترط عليه شروطا قبلية و معرفية يفترض أن تكون من نتائج البحث لا من قبلياته.
فوق هذا و ذاك إن القرآن الكريم قد "ورط" الباحثين فيه و في طبيعته و استبق كل التصنيفات و التوليفات التي قد تريد تسطير فصل المقال حوله كما فعل ذلك الوليد بن المغيرة حينما أشار على بني قومه بما خالج ظنه أنها الكلمة الفصل.فاستبق الذين قد يقدح في أذهانهم أن القرآن الكريم من جنس الشعر خاضع لقوانينه فقال" وما علمناه الشعر وما ينبغي له" و استبق الذين قد تغلب علميتهم على "موضوعيتهم" فيقولون "إنما يعلمه بشر"و استبق الذين ضيعوا حيواتهم أمثال كثير من المستشرقين في إجهاد أذهانهم للعثور على أصوله التوراتية تارة أو الانجيلية أخرى أو هما معا فأعلنها صريحة واضحة على غرار "المسلمات" في العلوم ".إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ...".
إن الذي ينظر في "ثمرات" الدراسات الاستشراقية حول القرآن الكريم التي جاوزت المائة و الخمسين من عمرها ليعجب من المصائر البئيسة و الحسيرة لبعض أطروحاتها التي لم تراوح مكانها مضمونا لكن تعاظم شكلها و انتفخ حتى كاد الناظر إليها من الخارج يصدق أن لها مضمونا لا يقل انتفاخا عن الشكل.لكنها سرعان ما انفجرت كفقاعات الصابون دون أن تحدث صوتا و لا جعجعة فتبين للناظر حينئذ هشاشة الفقاعة و فراغها.
كان المستشرقون القدامى أمثال غولد زيهر و تيودور نولدكه و شفالي و ريتشارد بيل و رودي بارت و زويمر و هاروفيتز و كريم و فنسنك(على تفاوت منهم في دراسة القرآن إذ يأتي نولدكه على رأسهم من حيث الأهمية) يعتقدون اعتقادا راسخا أن القرآن الكريم ذو أصول يهودية (حسب بعضهم) أومسيحية (حسب البعض الآخر) و يختلف هذا الاعتقاد من مستشرق لآخر وفقا لانتمائه الديني فمال غولد زيهر مثلا إلى القول الأول لأنه يهودي و مال تيودور نولدكه الى القول الثاني لأنه مسيحي.و قد اتجهت أبحاثهم الى تتبع القرآن الكريم آية آية علهم يجدون نصوصا مستنسخة حرفيا من الكتابين المقدسين السابقين لكن بدون جدوى.فاكتفوا برصد "الأشباه و النظائر" من ناحية المضمون فقال نولدكه مثلا بالاصل التوراتي للبسملة و قال هاروفيتز و هرشفلد و جيجرمثله بالنسبة لكلمة "فرقان" لكن كان الحرج يلازمهم كل ما وضعوا أيدهم على بعضها ، إذ هم واقعون لا محالة ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، في الأطروحة القرآنية التي تؤكد على الاستمرارية و العلاقة بين القرآن و الكتب السابقة .و إن وجدوا اختلافا في التناول القرآني لبعض المرويات اليهودية و المسيحية مالوا إلى القول إن القرآن قد أخذ عن المرويات الشعبية أكثر من النصوص التوراتية و الانجيلية ذاتها، و هنا لا ينتبهون أنهم قد سقطوا في الشق الثاني من الأطروحة القرآنية التي مفادها أن" الوحي المحمدي " جاء ليحدث الاستمرارية و "التصحيح" في نفس الآن.
لكن يبقى لهؤلاء المستشرقين الأوائل الذين ذكرناهم أعلاه مزايا و فضائل تكاد تنعدم في خلفهم من الذين تصدوا للبحث في قضايا القرآن الكريم خاصة. كان هذا الجيل من المستشرقين عارفا بقيمة الوثائق و أهميتها في إسناد أي ادعاء و بالتالي كانت كل أطروحة أو ادعاء لا تسنده وثائق تاريخية كتابية أو نقشية أو أثرية لا يصمد أمام آلتهم الفيلولوجية و التاريخية التي مهما قيل عنها و عن محدوديتها الابستمولوجية لم تكن لتسمح بادعاءات و ترهات و سخافات مثل تلك التي بدأت تنسج أحبالها الواهية مع أطروحات المستشرقين الانجليز الجدد .
بدأت أطروحات ما يطلق عليه البعض بالاستشراق الانجليزي الجديد مع كتاب المستشرق الانجليزي جون وانسبورو "دراسات قرآنية " سنة 1977 الذي يرفض فيه جملة و تفصيلا الرواية الإسلامية المعروفة عن تدوين القرآن في عهد الرسول (ص) ثم جمعه في عهد عثمان دون الاستناد إلى شيء إلا الشك و الرغبة في تقويض المسلمات اقتداء بما جرى من تفكيك و نقد للعهدين الجديد و القديم .و عنده أنه ليس لدينا آية وثائق في القرنين الأولين اللذين تليا فترة الوحي و بالتالي انه يفترض (هكذا) أن القرآن الكريم قد تم "تكوينه" على فترات و مدة زمنية قد تصل إلى القرن و نصف و أن الصيغة النهائية لم يتم "تثبيتها" إلا في القرن الثالث الهجري!!
و المثير أنه في نفس السنة صدر كتاب آخر لمستشرق انجليزي آخر هو جون بورتون "جمع القرآن" يذهب فيه إلى أن الرسول (ص) قد قام بنفسه بجمع القرآن كله في حياته ، لكن بما أن أطروحة وانسبورو فيها من الجرأة و المغامرة إلى حد الاستهتار و الاستخفاف بالمصادر التاريخية فقد كتب لها أن تأثر في مستشرقين (هم قلة قليلة على كل حال) لا يقلون جرأة و مغامرة إلى حد الوقاحة المعرفية و السطحية الكاشفة عن يأس كبير من تحصيل شيء ذا بال يمكن أن يثير ، و لهذا فلا شيء غير السطحية و الوقاحة يمكن أن يصنعا الإثارة.
هكذا ظهرت أعمال باتريسيا كرون و مايكل كوك (خاصة كتابهما "الهاجريون") تذهب إلى القول إن المصادر الإسلامية مثل تاريخ الطبري ذات بنية أسطورية و لا يمكن الثقة بها و إنه يتوجب الرجوع إلى مصادر أخرى و قد وجدا ضالتهما على حد زعمهما في المصادر السريانية .و ما هذه المصادر في الحقيقة الا مساجلات كتبها قساوسة و يهود عن أو ضد الإسلام الأول و هي تنم عن معرفة سطحية وضعيفة عن الإسلام .و النتيجة التي توصل لها هذان المستشرقان هو أن الإسلام هو عبارة عن فرقة يهودية أقلية كانت تسمى ب"الهاجرية" !!! ولدت في فلسطين و هاجرت إلى الجزيرة العربية و كتب لها النجاح هناك..لعمري لن يفلح أبرع مخرج هوليوودي أن يترجم كل إمكانات الإثارة في هذه القصة الأسطورية و لو اتخذ من قرناء من الجن مددا.
طبعا لقد لاقت هذه المدرسة نقدا لاذعا و عنتا كبيرا في تأسيس خرافاتها على وثائق و كل تخرساتها قامت على تأويل نصوص سريانية و أخرى يونانية .و على العموم لقد زاحمتها في الإثارة مدارس أخرى سرعان ما سببت في ذبولها و طي سجلها في التاريخ.
فحينما ظهرت مخطوطات صنعاء سنة 1972 و استعانت السلطات اليمنية ببعض المستشرقين الألمان لحفظها حاول المستشرق بوين أن يخرج ب"خبطة " القرن الاستشراقية إذ اعتقد أن هذه المخطوطات القرآنية التي تعتبر فيها اختلاف عن القرآن الذي بين أيدينا ، لكن سرعان ما تبين أن الأمر لا يعدو اختلافا في النقط و الإعدام و ما إلى ذلك لان هذه المخطوطات كتبت بالخط الحجازي الأقل تطورا من الخطوط الأخرى و منذ ذلك لم يعد أحد يسمع عن بوين و لا عن دراساته.
و ظهر أيضا كتاب لوكسمبورغ الذي يدعي أن لغة القرآن الأصلية هي السريانية و أننا إذا رجعنا إليها يمكننا فهم كثير مما استعصى على المفسرين الأوائل مع انه لم يستطع أن يدلنا على سورة واحدة أو ما يشبهها بالسريانية .و قبله كان لولنغ قد ادعى ان القرآن ترجم عن ترانيم مسيحية قبطية و حبشية لجماعة مسيحية كانت بمكة بل ربما كانت الكعبة حسب زعمه كنيسة قديمة.
يظهر في المحصلة أن هذه الأبحاث الاستشراقية الجديدة/القديمة تقع كلها فيما تعيبه عليهم الأطروحة القرآنية المستبقة إلى مثل هذا الزعم فهي لا تخرج عن نطاق قول القرشيين المعاصرين للنبي (ص)"إنما يعلمه بشر" أو"إن هذا إفك افتراه" ..و هم بذلك يراوحون مكانهم على الطريقة القرشية و هم لا يعلمون.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.