تمهيد:
لن نطيل الكلام في عوائق الإبداع الواهية التي يكثر الكلام عليها في خطاب الأصوليتين المتصارعتين على الساحة الثقافية الخالية من الإبداع الفلسفي في ربوعنا. فكلها تبدو لي ناتجة عن خللٍ منطقي في الفكر العربي الحديث، خللٍ قلب المشروط فجعله شرطا ليفسر ضمور الإبداع، إما بالطغيان السياسي أو بالطغيان الديني، لكأن كل الأمم انتظرت التحرر منهما لتصبح مبدعة. وإذا كنا لا ننكر أن هذين الطغيانين يمكن أن يعطلا الإبداع إذا كان موجودا فإننا يمكن أن نضرب أمثلة على دورهما في تحفيزه. ولذلك فهما مُحايدان في مسألة وجوده وعدم وجوده بل إننا نعتبرهما معلولين لعدم الإبداع بدلا من أن يكونا علَّة له.
فالأمم لا تتمكن من التغلب على هذين الطغيانين إلا بما تحققه من شروط التحرر الفعلي منهما، ومن ثم من الوصول إلى مبدأ الإيمان الحقيقي: ألا معبود إلا الله وهو معنى الكفر بالطاغوت شرطاً في الإيمان الصادق (البقرة 256). وهذه الشروط جميعاً راجعة إلى أصلها الذي يمكن من التغلب على ثلاثة أصناف من أسباب للعبودية ويكون التحرر منها كلها ثمرة الإبداع:
أولها هو الإبداع في العلوم الطبيعية وتطبيقاتها للتغلب على أسباب الطغيان الصادر عما في تاريخ الإنسانية الطبيعي من عوائق لا إرادية، طغيانها على الإنسان أدى إلى عبادة الظاهرات الطبيعية وتأليهها في الميثولوجيات والأديان الطبيعية، بل هي مصدر الإيمان بالسحر والخرافة عامة.
والثاني هو الإبداع في العلوم الإنسانية وتطبيقاتها للتغلب على أسباب الطغيان الصادر عما في تاريخ الإنسانية الحضاري من عوائق إرادية، طغيانها على الإنسان أدى إلى عبادة الشركاء أعني: المستبدين بالرزق والمتحكمين في رقاب الناس، ومنها نماذج صورة الله في الميثولوجيات والأديان الطبيعية.
والأخير هو الإبداع في الفنون وتطبيقاتها للتغلب على أسباب الطغيان الجامعة بين الطغيانين والصادرة عما في النفس الإنسانية ذاتها من عطالات تحول دونها والإبداع. لذلك فهي الأهم في كل التجارب التي عرفتها الإنسانية وهي التي أدت إلى تأليه الغرائز وعبادة الهوى ومنها التعابير الرمزية والوثنية على الروحانيات في الأديان الطبيعية والميثولوجيات.
عدم الإبداع في هذه المجالات هو الذي يجعلها مرتعاً للعقبات التي تحول دون الإنسان والتحرر من الخضوع لآلهة مزيفة من الطبيعة والتاريخ وحتى المبدعات البدائية للإنسان. ولا تحرر منها من دون إبداع علمي وخلقي وجمالي. ولما كان الإبداع في الفلسفة إبداعاً "مابعدياً" مشروطا بهذه الإبداعات فإنه ليس إلا حصيلة هذه العدوم التي يملأ الفكر العربي الحالي فراغها إما بالتقليد الماسخ لفضلات منها مستوردة، أو لفضلات مما أنتجته الأمة ولم يبق منه إلا وجهه التاريخي بعد فقدانه فعالية الإبداع الحي، الذي له علامة لا تكذب: تحقيق التحرر مما يتصوره التفسير الخاطئ عللا لعدم الإبداع.
لذلك فالعلل التي نطلبها لا صلة لها بآراء من يتعلل بحال الأمة السياسية والروحية ليفسر عدم الإبداع، بدل اعتبار هذه الحال نتيجة لفقدانها الإبداع وسلطان التقليد بوجهيه عند الأصولية العلمانية لماضي الغرب والأصولية الدينية لماضينا. العلل التي نطلبها لها صلة بأصلين يفسران فقدان النخب البصيرة، ومن ثم فقدانها القدرة على الفهم فلا ترى شروط الإبداع ومقوماته.إنهما:
الأفق الوجودي الذي يصوب منظور الفكر إلى الأشياء فيمكنها من الرؤية الحافزة للإبداع
والأفق التاريخي الذي هو العين الراهنة منه في لحظة من لحظات التاريخ الروحي للامم.
وكلا الأفقين شارط للفهم والإبداع وعدم جعلهما أفقاً مبيناً يساعد على الفهم ومن ثم على الإبداع هو الذي يغرق الأمة في أزمتين تتفرعان عن هذين الأصلين نراهما رؤية العين المجردة في الظرفية العربية الحالية وفي كل الظرفيات المماثلة التي عاشتها أمم مثلنا، تردّى فيها الإبداع فصارت أمة التقليد والاتباع، إما لماضيها أو لماضي المتغلبين عليها. ولذلك فإن هذه المحاولة مدارها توضيح معنى الأفقين وصلة الأزمتين بما اعتراهما من شوائب في لحظتنا الروحية والتاريخية الراهنة، دون الكلام في تاريخ الفلسفة العربية الذي عالجنا أهم منعرجاته في غير موضع.
وبذلك تكون المسائل التي سنعالجها في هذه المحاولة مسألتين أصليتين ومسألتين متفرعتين عنهما نبدأهما بعلاج الأفق الوجودي والأزمة التي تترتب عليه، ونثني بالأفق التاريخي والأزمة التي تترتب عليه، عَلَّنا بذلك نفهم العلل العميقة لما يعاني منه الإبداع الفلسفي في لحظتنا الراهنة دون أن نزعم تقديم الحلول التي هي ثمرة اجتهاد الجماعة وجهادها وليست تصورات شخص أيا كان نفاذه لمعاني الوجود:
المسألة الأصلية الأولى هي مسألة الأفق الوجودي Ontological horizon:
وهي تبحث في مقومات الأفق الوجودي العقيم لتبين مقومات كل أفق شارط ليس للإبداع فحسب بل وكذلك للوجود الصادق فتحدد مقومات الأفق الخصب للإبداع وفيها نبين التلازم بين الفكرين الديني والفلسفي شرطاً في الإبداع الرحم لما بعد الممارسات العملية والنظرية في الوجود الإنساني أعني الفكرين الديني والفلسفي.والمسألة الفرعية المترتبة على مسألة الأفق الوجودي هي مسألة الأزمة الوجودية: التي يعاني منها المبدعون ما طبيعتها وكيف يمكن فهمها وعلاجها من المنظور الوجودي.
المسألة الأصلية الثانية هي مسألة الأفق التاريخي Historical horizon:
وهي تبحث في مقومات الأفق التاريخي العقيم ودوره في الحيلولة دون الإبداع عند النخب العربية الحالية. وسنركز فيه على الأفق التاريخي الغربي المجهول لأنه هو بات النموذج الوحيد الذي يغذي عقلية التقليد باسم التجديد: تقليد ماضي الغرب صار يعتبر تجديدا رغم كونه لا يختلف عن تقليد الماضي الذاتي. والمسألة الفرعية المترتبة على مسألة الأفق التاريخي هي مسألة الأزمة التاريخية: التي يعاني منها الإبداع ما طبيعتها وكيف يمكن فهمها وعلاجها من المنظور التاريخي.
أولاً: الأفق الوجودي:
"في أن سوء فهم أفق العلاقة بين الديني والفلسفي هو الذي يكبل الإبداع العربي".كثير من الأوهام يطغى على عقول المتعجلين ممن يقتات بتعميمات سطحية أفسدت التصورات الفلسفية والدينية عند من يعتبرون أنفسهم رواد الحداثة والتصورات الدينية والفلسفية، عند من يعتبرون أنفسهم حماة التأصيل دون فهم من الفريقين للظاهرتين، حتى جعلوهما حدوثة يهزأ منها كل من له علم دقيق بمصادر الفكر الغربي والعربي الحقيقية: أعني الفلسفة اليونانية وعلم اللاهوت المسيحي بعد أن اندمجا في ما يسمى بالفلسفة الغربية الحديثة، وخاصة في فكر الحداثة وفكر ما بعدها في حالة الحداثة. وسأكتفي بمثالين من هذه الأوهام الخاصة بالفكر الغربي لأن أفق فكرنا الحالي هو أفقه غير المفهوم:
ثانياً:المسألة الأصلية الثانية: الأفق التاريخي
"في أن سوء فهم أفق التحديث هو الذي يُكَبِّلُ الحياة الروحية والفكرية العربية". يمكن بعبارة بسيطة وواضحة أن نبين ما أسلفنا في كلامنا على الأفق الوجودي، بتحليل مقومات الأفق التاريخي، الذي صار نموذج من يزعم التصدي لمسألة الإبداع الفلسفي خاصة والإبداع عامة من نخبنا. فيمكن القول إن الفكر العربي يعاني اليوم من عدم فهم نموذجه، أو بصورة أدق من الفهم السطحي لأفق الإبداع الإنساني، من حيث هو إبداع في الظرفية الحالية، بصرف النظر عن النسبة إلى حضارة معينة. والمعلوم أن هذا النموذج الذي يمثل أفق الإبداع عند نخبنا هو أفق التحديث الغربي سواء عند قابليه أو عند رافضيه من نخبنا أعني الأصوليتين العلمانية والدينية.
ونحن نزعم أن كلا الفريقين القابل والرافض كلاهما يفعل ما يفعله من دون فهم طبيعة هذا الأفق، وبصورة أدق طبيعة موقف أصحابه من علاقة الفكرين الفلسفي والديني أحدهما من الآخر. فكلا الفريقين يزعم أن الفكر الغربي الحديث تحرر من المرجعية النصية وأنه فصل بين الدين والفلسفة. والفرق الوحيد بين الفريقين أن العلماني يمدح ذلك، والأصلاني يهجوه. لكن الممدوح والمهجو ليس له وجود في الحقيقة التاريخية وفي المبدعات الرمزية الغربية، ووجوده الوحيد هو في أذهان الفريقين المادح والذام لا غير.
لذلك فأول ما ينبغي عمله لفهم معوقات الإبداع عندنا هو تقويم فهم النخبتين لهذا الأفق، وتحرير وعينا منه، تمهيداً لشروط الإبداع عامة والإبداع الفلسفي خاصة. ولما كان هذا الأفق هو النموذج السائد؛ أعني طبيعة تحديده للعلاقة بين الديني والفلسفي بمنظور إيجابي عند العلماني وبمنظور سلبي عند الديني، فإن عملية التحرير الضرورية -دون أن تكون كافية- تتمثل في مساءلة هذين الفهمين، لبيان خصائص هذا الأفق، بتحديد معاني تكوينيته التاريخية، التي لم تنفك مرتبطة بتاريخنا الفكري منذ نشأة الفكر العربي الإسلامي بعد نزول القرآن، ونشأة الفكر الغربي المسيحي الموالي للصدام بحضارتنا.
فبرسم سريع يمكن أن نحصر مراحل التحديث الأوروبي؛ مراحله التي حددت طبيعة الصلة الجديدة بين فكره الفلسفي وفكره الديني في خمس مراحل:
وُسطاها هي العصر الكلاسيكي أو عصر الثورة العلمية، التي مثلت بداية القطيعة الفعلية مع التاريخ المشترك بين المسلمين والأوروبيين، رغم أن هذه المرحلة دينية التأصيل والدوافع عند كل كبار المؤسسين من الفلاسفة والعلماء في الطبيعيات والإنسانيات. وذلك أمر لا يجادل فيه أحد ممن له دراية بالنصوص المؤسسة سواء كانت فلسفية نظرية (الطبيعيات وما بعدها) أو فلسفية عملية (السياسيات وما بعدها). ففيها جميعا كان التأسيس إضافيا إلى الدين بالإيجاب غالبا سواء كان المقصود الدين النقلي (أي المستند إلى الكتاب) أو الدين العقلي (أي أديان الفلاسفة).
مراحل التحديث الأوروبي من منظور علاقته بحضارتنا
1. صدام منفعل بالحضارة العربية الإسلامية القرن الثامن- السادس عشر
2. صدام فاعل /الإصلاح الديني القرن السادس عشر
3. عصر الثورة العلمية القرنان السابع عشر-والثامن عشر
4. الثورة الصناعية القرنان التاسع عشر والعشرون
5. العولمة النصف الثاني من القرن العشرين.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.