آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

...كيوم ولدته أمُّه

احميدة النيفر


عند مراجعة التراث الإسلامي المتصل بالحج يتبيّن لنا وجود مقاربتين مختلفتين في النظر إلى هذا الركن من أركان الدين. هناك من جهة المقاربة التعبديّة، إلى جانبها المقاربة المقاصدية. نماذج المقاربة الأولى نجدها في أكثر من موضع موجودة في كتب الفقه وهي تنطلق من قوله تعالى" ولله على الناس حِج البيتِ من استطاع إليه سبيلا" لتعرّف الحج بأنه قصد البيت الحرام للنسك وأنّه واجب على المستطيع في العمر مرّة وأن ميقاته الزمني يبدأ من شوال إلى فجر يوم النحر. ثم تضبط لذلك أركانا لا يتم الحج إلاّ بها ووجابات تترتب عليها فدية إن تُركت وأمورا تحرم بالإحرام وسننا وأدعية مأثورة. 
 بموازاة هذه المقاربة المعيارية التي تهتم بالأساس بهذه الضوابط مضفية عليها صفة التعبد الكامل نجد آثارا تراثية مختلفة تنطلق هي الأخرى من نصوص تأسيسية لكنها تتجه بها وجهة تستوحي منها الدلالات الكامنة في نظم الشعائر. 
 هذه الآثار تقرأ آيات سورة البقرة:" وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالعُمرةَ للّه..." إلى قوله " ومن النَّاس من يَشْرِي نفسَه ابْتِغاء مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رؤوفٌ بِالعباد " فترى فيها مستويين : الأوّل إجرائي ( الميقات الزمني، الفدية، الوقوف بعرفة والإفاضة) وهو لا يخلو من تيسير إلى جانب مستوى ثانٍ تربوي قِيَمي (التقوى، الذكر، التأدب) الذي تعتبره الغاية من الفريضة. 
 المقصد من الحج في هذا المستوى الثاني هو أن يكتشف المسلم ذاته بعيدا عمّا اعتاده من الضغوط والدعائم والزخارف. هي مواجهة محرجة لأنها مزدوجة الأبعاد. يكتشف الحاج أولا ذاتَه بوصفها مجالا أعمق من نفسّية الفرد التي اعتاد عليها. يحصل ذلك لكون المناسك تتيح اتصال الذّات الإنسانية بذات الحق العليا بما يكشف عن تفرّدها ومرتبتها في الوجود وإمكان تقدّمها في تلك المرتبة. من جهة ثانية يكون الحج في مستواه المقاصدي رحلة مع الذات بصفتها مفردة من مفردات أمة لها ماض بعيد ولها من الروابط والخصائص ما يجعل لها هويّة لا يزيد في توهجها وحيويتها إلاّ حاجتها الدائمة إلى التشكل ضمن مسيرة الإنسانية العامة.
 حين نراجع اليوم تراثنا المتصل بالحج من خلال هاتين المقاربتين ندرك أنه ليس من المبالغة القول بأن ذلك الركن من أركان الإسلام أصبح يختزل اليوم كل مظاهر ضعف المسلمين مع مواكبة كلّ عناصر قوّتهم. هو الضعف الذي يجعل الحاج حريصا على تعبّد لا يلتفت فيه إلاّ إلى الرسوم والأشكال فلا يبالي في سبيلها بما يُحدثه في نفسه و ما يلحقه برفاق دربه و بالإنسانية من أضرار. هو درك صوّره الرسول عليه السلام في حديث نبوي عرض فيه ذهول الحاج عن الطاقات التي يُـتلِـفها حين يتوقف عند الجزئي لا يعبر إلى ما وراءه من معان كبرى جامعة قائلا:" يأتي على الناس زمان يحجّ أغنياؤُهم للنزهة وأوسطهم للتجارة وقرّاؤهم للرياء وفقراؤهم للمسألة". 
 إزاء هذا التشخيص لحالة التردّي التي يمكن أن تصيب معرفة المسلم وسلوكه أثناء قيامه بفريضة الحج تتوفر عناصر قوّة وعلاج كامنة في ذات الفريضة. تنبجس تلك العناصر حين ترتبط الفريضة في وعي الحاج بنظرة وجودية للإنسان تجعلها أولى بالعناية من التدقيقات الجزئية التي لا تمكِّن، إن وقع الاقتصار عليها، من بزوغ إنسان جديد. هي نظرة مقاصدية ترى في ضوابط الحج وأشكاله وسائل وآليات لا ينبغي أن تأسر الحاج فيحوّل كل طاقاته إليها بل ينبغي أن تسمح له بالعبور إلى الغاية و هي قيمة الذات الإنسانية ضمن أمة لها رسالة ومسؤولية.
 عندئذ تكتسب المناسك كل معانيها فيتحوّل الحج إلى موسم اكتشاف طاقات التجدد في الفرد وفي الجماعة وهو مصداق ما عبّر عنه الحديث النبوي:" من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه". من ثم يغدو الحج موسم الهجرة إلى " الداخل"، داخلِ الفرد لإعادة بناء ذاته أو ترميمها وداخل الأمة للتساؤل عن معنى انتمائها إلى مسيرة التوحيد في موكب الموجودات. ذلك لا يتأتّى إلاّ حين يُفُهَم الدين على أنّه الإيمان بمصير الإنسان وقدرته على اكتشاف رتبته في سلّم الكائنات و على أن ممارسة الشعائر مقصدها العبور إلى معنى الحياة والانتظام الإرادي في منظومة الكون الموحَّدة.
 الحج في نهاية المطاف رحلة فيها بُعدان وعودتان: بعدٌ جثماني عن الأهل والوطن يتمثل فيه بُعد آخر هو غربة الإنسان عن ذاته ثم عودتان أولاهما دنيوية ترجعه إلى عالمه الاجتماعي الأصلي وهي تسمح له بالثانية التي تُـنهي اغترابه بالعودة إلى ذاته الفطرية الموصولة بذات الحق المتعالي. 
 ما نرمي إليه هو إعادة الاعتبار الكاملة للمقاربة المقاصدية التي تراجعت أهميتها فتخشّبت القلوب وذوى ألق المناسك. 
 من أرَقّ ما يذكر في هذا المعنى ما رواه الجنيد، أحد كبار العارفين بالحق، قال 
 " حججت على الوحدة ، أي منفرداً دون رفقة، فجاورت بمكة. فكنت إذا جـنّ الليل دخلت الطواف فإذا بجارية تطوف وتقول:
                 أبى الحب أن أخفي وكم قد كتمته فأصبح عندي قـد أناخ وطنّابا 
             إذا أشتد شوقي هـام قـلبي بـذكـــره و إن رمت حبّاً من حبيبي تقربّا 
             و يبدو فـأفـنى، ثم أحيي به لـــــــه و يسعدني حتى ألــذ و أطـربـا 
 قال: فقلت لها: أما تتقين الله؟ في مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام ؟ فقالت: تطوف بالبيت أم برب البيت؟ فقلت : أطوف بالبيت. فرفعت يديها إلى السماء وقالت: سبحانك! سبحانك! ما أعظم مشيئتك. في خلقك خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار. ثم أنشأت تقول:
             يطوفــون بالأحجـار يبغون قـربــة إليك و هـم أقـسى قـلوبـاً من الصخر
             و تاهوا و لم يدروا من التيه من هم و حلّوا محلّ القرب من باطن الفكـــر 
             فـلو أخلصوا في الود غابت صفاتهم و قامت صفات الودّ للحق بالذكـــر
 قال الجنيد : فغشي عليّ من قولها ، فلمّا أفقتُ لم أرها".
 تلك هي بعض كنوز الحج وغنائمه التي ينبغي أن تتألق مع انصراف الحاج إلى أهله سالما. إنّه الوقوف على أن روح الحج اكتشافٌ وكشفٌ وبابٌ مُشرع لحياة جديدة ومتجددة للإنسان جمعها أحد العارفين حين قال مخاطبا موكب القافلين من أداء المناسك:" كن معنًى وإلاّ فاتك المعنى".
 


تاريخ النشر : 15-12-2008

6308 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com