آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  فلسفة التجديد

قضايا التجديد    |    إتجاهات الإصلاح    |    التعليم و المناهج

  •     

تساؤلات من وحي خطبة حجة الوداع

مصطفى بوكرن


تقديم المقال:

 

قبل خطبة حجة الوداع كانت خطبة فتح مكة ، التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مرحمة لا ملحمة، و هكذا كان شأنه في خطبة حجة الوداع، خطبة ألقت بظلال الرحمة على حاضريها بل على من لم يحضرها، فهل تستطيع الجماعات الإسلامية التي التفت حولها الجماهير من بعد حصار و تضييق أن تصنع خطاب المرحمة لا الملحمة، بعيدا عن أجواء الاحتفالية و الكرنفالية؟

 

التاسع من ذي الحجة ، يذكرنا هذا التاريخ من التقويم الهجري بيوم عظيم من أيام الله ، بيوم عرفة هذا اليوم الذي قال فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم :" الحج عرفة " لما له من قيمة عظمى في نفوس المؤمنين الصادقين إذ هو يوم المغفرة و العفو و الرضا من الله سبحانه و تعالى ، هذه المعاني الربانية تتجلى في هذا اليوم المهيب ، الحاشد بالمقبلين و الفارين إلى الله تعالى تاركين كل نعيم الدنيا الزائل ، و كل همهم ان يعفو الله عنهم و يعودوا إلى ديارهم كيوم ولدتهم أمهاتهم ...

فإذا كان المقام هو مقام اللجوء إلى الله طلبا لرضاه من على جبل عرفة إعلانا بانتصار راية التوحيد ، فإن المقال هو خطبة جامعة مودعة ختم بها النبي صلى الله عليه وسلم مسيرته الجهادية مستخلصا منها أعظم الدروس و العبر لخصها في خطبته العظيمة مبلغا إياها لأمته الإسلامية و للبشرية جمعاء ، و لذلك لم تخل خطبته من كلمتي " ألا هل بلغت اللهم فاشهد و ليبلغ الشاهد منكم الغائب " ..

إنها كلمات النبوة التي أتت بعد جهد القلب و العقل و الجوارح ،فاخترقت حجب الزمان و قد بلغنا صداها و سيستمر هذا الصدى إلى أن يرث الله أرض و من عليها ..،

كثيرة هي الخطب و التقارير الإستراتيجية التي نستمع إليها و نعطيها شأنا في حياتنا المعاصرة بالتحليل و الدرس للإفادة منها لعلنا نصل إلى جادة الصواب ، فهل حقا وفينا خطبة حجة الوداع- هذه الوثيقة النبوية - بالنظر و التأمل عملا و ممارسة؟

جميل أن يكون يوم عرفة ، يوم توبة روحية تربوية فردية ، و الأجمل أن يكون يوم توبة فكرية و سياسية و اقتصادية واجتماعية و قيمية ، و خطبة حجة الوداع جسدت هذه المعاني الراقية ، فهي وزان تزن به الأمة خطاباتها و أفعالها حتى تكون على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، فيوم عرفة يوم توبة و أوبة الأمة إلى الله..

ومن القضايا التي تحتاج إلى المراجعة و التمحيص بالاستناد إلى خطبة حجة الوداع ، الخطاب الإسلامي المعاصر ،فمن خلال تأملي في هذه الخطبة تبدت لي مجموعة معالم يتميز بها الخطاب الإسلامي و هي على الشكل الأتي :

 

1 - الخطاب الإسلامي خطاب العالمية .

الإسلام هو دعوة للعالمين يقول تعالى :{ وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين } الأنبياء :107 . و يقول أيضا :{ قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } الأعراف :158 . و هذا واضح في خطبته صلى الله عليه وسلم التي تتخللها نداءاته العالمية " يا أيها الناس " ، فهو مكلف برسالة من رب العالمين فكيف يعقل أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة طائفية ؟!

والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو دعوة عالمية بما هي مضمون و بما هي وسيلة ، و إن كانت الوسيلة في زمانه ليست هي الوسيلة في زماننا ، و مع ذلك وظف كل ما يسهم في تحقيق عالمية الدعوة و خير مثال على ذلك الرسائل التي أرسلها إلى ملوك زمانه ، و بعث الرسائل إلى الملوك فيه دلالة عميقة على فهم و معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لجغرافية المكان الذي يتحرك فيه ، وكذلك معرفته بطبيعة كل ملك من الملوك ، و هذا واضح لما أرسل مجموعة من الصحابة إلى الحبشة حماية لهم من بطش قريش ، فقال لهم :{ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده احد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما انتم فيه } ، ولذلك لما جاء جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي خاطبه خطابا يليق به .

و الخطاب الإسلامي المعاصر في حاجة إلى أن يخاطب الغرب و الشرق و أن لا ينطوي على ذاته ، و هذا يستدعي منه إلى أن يعرف ثقافات الشعوب و المجتمعات العالمية لكي يخاطبهم بلسانهم ، و إن لم يفعل ذلك فدعوى العالمية ستبقى شعارا دون ممارسة ، وفي الوقت المعاصر هناك إمكانيات هائلة للتواصل و معرفة الآخر معرفة دقيقة ، فقط نحتاج إلى خطط و استراتيجيات ذات رؤى واضحة .

 

2- الخطاب الإسلامي خطاب التنمية .

من أهم الأمور التي أكد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم و بين خطورتها في تدمير نسيج المجتمع الإنساني" الربا " ، فيروس فقدان المناعة الاقتصادية ، الذي ما إن يتمكن و ينشب مخالبه فيها إلا و يشلها شللا لا مراهنة فيه على تقدم المجتمع بل سيسهم في تفقير الفقير و إغناء الغني ، ولهذا فالمسألة التنموية حاضرة بقوة في رسالة الإسلام بل الأكثر من هذا أن الله سبحانه و تعالى تكفل بمحاربة المرابين لما يشكلونه من خطر كبير على النظام الاقتصادي للمجتمعات ، و أفسح للناس البيع المشروع القائم على العدل بين المتبايعين ، فقال :"و أحل الله البيع و حرم الربا" ردا على من ساوى بين البيع و الربا ، فالإسلام لا يحرم شيئا إلا و يعطي بدائل كثيرة لكي لا يعيش الناس في الضيق و الحرج و العسرة ، ليخلق بهذا مجتمعا تسود فيه التنمية بمعناها الشامل ، وليس بالمعنى المادي المحض الذي لا يعترف بالقيمة ، لأن المال في الإسلام له أشكال متعددة لتداوله بين الناس ، فالإنسان المؤمن يعتبر ان المال هو مال الله و هو مستخلف فيه و محاسب عليه ، فلما يكون الاعتقاد على هذا النحو فإن كثيرا من القيم السلبية ستضمحل من المجتمعات الإنسانية كالاحتكار و الاستهلاك و البخل و الاحتيال ..

فالربا قبل أن يكون عملية مالية بين شخصين أو أكثر فهي قيمة أخلاقية ، لها نتائج ومقاصد مدمرة ، ولذلك فالخطاب الإسلامي تنموي ذا بعد أخلاقي إنساني نبيل .

فهل يستطيع الخطاب الإسلامي المعاصر أن يعمل على صناعة تنمية اقتصادية تراعي القيم و المبادئ الإنسانية ؟

 

3- الخطاب الإسلامي خطاب المرحمة .

حضر خطبة حجة الوداع مائة ألف من المسلمين ، هذا العدد الضخم في مثل هذه التجمعات العظيمة لم تشهده مسيرة الدعوة النبوية إلا في حجة الوداع ، بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته بأربعين فردا من المسلمين و المسلمات و أنهى مسيرته الجهادية في مكة المكرمة بمائة ألف يحضرون خطبته ، خاطبهم في بداية الدعوة على جبل الصفا فقابلوه بالسب و الشتم ، وخاطبهم في نهاية دعوته على جبل عرفة فقابلوه بالاستعداد لإبلاغ الرسالة ، إنه سر الرحمة المهداة " و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" ، فالمجموعة الإسلامية التي بدأت العمل الإسلامي و انضمت إليها القوافل المسلمة تعرضت إلى العذاب و التنكيل في مكة و لم يسلم شخص من الإيذاء حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ، و حينما جاء عصر التمكين و بسط نفوذ القيم الإسلامية و غرسها في نفوس الناس، و أصبح للمسلمين قوة مادية و معنوية لا يستطيع أي عدو مجابهتم أو مواجهتهم ، لم يكن الجزاء لمن آذوا من جنس عملهم.

قبل خطبة حجة الوداع كانت خطبة فتح مكة ، التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مرحمة لا ملحمة فقال :" اذهبوا فانتم الطلقاء " و هكذا كان شأنه في خطبة حجة الوداع ، خطبة ألقت بظلال الرحمة على حاضريها بل على من لم يحضرها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تبلغ هذه الخطبة للناس أجمعين قائلا :" فليبلغ منكم الشاهد الغائب " ..

فهل تستطيع الجماعات الإسلامية التي التفت حولها الجماهير من بعد حصار و تضييق أن تصنع خطاب المرحمة لا الملحمة ، بعيدا عن أجواء الاحتفالية و الكرنفالية ؟

 

4- الخطاب الإسلامي خطاب الضروريات .

من الأمور التي أكد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، حفظ الدماء و الأموال و الأعراض ، و هذه الثلاث من الكليات الخمس للشريعة الإسلامية و المتمثلة في حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال ، و المقصود بالحفظ الحفظ وجودا و عدما ، إذ الشريعة الإسلامية شرعت وسائل لوجود هذه الكليات واستمرارها ، و شرعت وسائل تمنع من عدم زوالها ، فشرعت صنوفا لتداول المال وتنميته كالبيع المشروع الذي لا غرر فيه ضمانا لوجودها ورعايتها ، وشرع حد السرقة حفظا للمال من جانب العدم ، و الحفظ معنى دقيق ينبغي تفعيله في خطابنا الإسلامي المعاصر ، و خصوصا لما يتعلق الأمر بالضروريات التي لا تستقيم الحياة بزوالها أو ضياعها ، فلما تصبح الأرواح دماؤها رخيصة من غير حق ، و تصبح الأعراض منتهكة من طرف المجرمين ، فالحياة ستعم فيها الفوضى و الاضطراب ، ولما تكون هذه الضروريات الخمس في مأمن من عبث العابثين و انتهاك المنتهكين ، فسيعم الخير و السعادة و الطمأنينة ،ولذلك أكد النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته على حرمة المال و الأعراض و الدماء ..

والخطاب الإسلامي المعاصر إن لم يهتم بحفظ هذه الكليات الخمس فهو يخبط خبط عشواء ، بل ينبغي أن يدعوا المجتمعات الإنسانية إلى حفظها ، و هي في الحقيقة تشكل أرضية مركزية للتواصل مع الآخر ، لأن علماءنا أكدوا على أن جميع الملل و النحلل مجمعة على حفظ هذه الخمس ، وما يعيشه المجتمع العالمي من اضطراب و فوضى و عبثية إنما مرده لعدم حفظ هذه الكليات ، فلو نظرنا إلى الدماء ، فالإنسان أصبح دمه مباحا في العالم و خصوصا الإسلامي منه ، في العراق و فلسطين و الصومال و أفغانستان ...ولذلك فمن القضايا المركزية التي ينبغي على الخطاب الإسلامي المعاصر معانقتها و الدعوة إليها هذه الضروريات الخمس ، أما أن يحشر نفسه في معارك وهمية لا طائل منها فهذا ضرب من العبث ..

 

أخيرا :

إن الخطاب الإسلامي في السنوات الأخيرة ، قد قيل فيه الكثير و وسال في موضوعه مداد غزير ، لكن الأمر الملاحظ هو أن هذا الخطاب يقوم و يمحص و كأنه لا هوية له و لا مرجعية ، فلا تجديد للخطاب الإسلامي إلا بإرجاعه إلى ينابيعه الصافية القرآن الكريم وسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم..


تاريخ النشر : 28-02-2009

6137 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com