تعرف الفكر العربي في شكل متأخر الى كتابات سعيد الزمان النورسي، واقتصرت رؤيته له ضمن إطار الفكر الصوفي، وعلى رغم ترجمة أعماله إلى العربية إلا أن حصر أفكاره في الإطار الصوفي منع انتشارها أو تأثيرها في الفكر العربي كما حصل مع أفكار إقبال والمودودي على سبيل المثال.
تأسست الحركة النورسية على يد الفقيه الكردي الشيخ سعيد النورسي (1961) الذي فسّر القرآن من طريق رسائله المنشورة، لم يشكل بديع الزمان النورسي الجماعة «النورجية» في حياته أو لم يكن له دور في تنظيمها على شكل جماعة، بقدر ما كان يشكل مرجعاً فكرياً لمجموعة من أتباعه الذين لمسوا فيه صلاح الحال وقوة الإيمان. فقد اشتهر إضافة إلى علمه وتقواه وورعه بجهاده ضد الاحتلال الأجنبي، وضد «الإصلاحات الكمالية» في ما بعد. وليس غريباً أن بديع الزمان كان في أول أمره مسانداً لكمال أتاتورك في إطار جمعية الاتحاد والترقي، ثم، وفي ما بعد، قام ضدها، فنفي جراء ذلك كغيره من بقية العلماء الذين وقفوا ضد إصلاحات أتاتورك.
تأسست «جماعة النور» على شكل تنظيم بعد وفاة شيخها وزعيمها بديع الزمان سعيد النورسي، إذ قام أتباعه بطبع رسائله المعروفة برسائل النور التي تشكل الأساس النظري والمعرفي للجماعة. ومع أن هذه الرسائل لا تحدِّد مواقفَ أو أهدافاً سياسية واضحة، إلا أنها تحمل في طياتها رؤى وتصورات عميقة في ما يخص تدبير شؤون حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، ذلك أننا نلمس من كتابات الشيخ دعوته الصريحة إلى ضرورة أن يدرك الإنسان أن سعادته وحل مشاكله تكمنان في الارتباط الوثيق بالله لا غيره، مؤكداً بذلك البعد التربوي الذي كان يحث أتباعه على ضرورة ترسيخه وتعميقه باعتباره الأساس والمنطلق لأي عملية تغييرية فردية أو جماعية.
ويعد الشيخ فتح الله غولن اليوم رئيساً لهذه الحركة التي تهتم بالدرجة الاولى بالتعليم وإنشاء المدارس على مختلف مستوياتها في تركيا والعالم، من نيجيريا الى اليابان ومن المانيا الى الولايات المتحدة. كما تهتم هذه الحركة بانشاء مؤسسات الوقف التعليمية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والخيرية، حتى بات لها أكثر من ألف وقف في مدينة اسطنبول وحدها. يؤمن غولن بـ «أن الصحوة الدينية الحضارية لا تتحقق الا من خلال مزاوجة التقنية الغربية مع القيم الاسلامية، وان هذه العملية يجب ان تتم من خلال التعليم لإعداد الكوادر الاسلامية المؤهلة التي تستطيع ان تتولى هذه المهمة في شكل تدريجي ومستمر». وهو بهذا يعكس انفتاحاً حضارياً مبكراً بالنسبة الى الفكر العربي والإسلامي، وربما كان وقوع الفكر العربي تحت تأثير أفكار المودودي، لفترة من الزمن ليست بالقصيرة، عائقاً أمام الانفتاح على أفكار الداعية غولن. إذ نادراً ما ترجمت أفكاره إلى العربية، أو اهتمت الحركات الإسلامية العربية بالانفتاح على الأفكار التربوية والتعليمية التي يحملها.
ولد فتح الله غولن في 27 نيسان (ابريل) عام 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء (حسن قلعة) المرتبطة بمحافظة أرضروم، وهي قرية كوروجك ونشأ في عائلة متدينة، إذ كان والده (رامز أفندي) شخصاً مشهوداً له بالعلم والأدب والدين، وقام والده بتعليمه اللغتين العربية والفارسية، درس في المدرسة الدينية في طفولته وصباه على يد علماء معروفين من أبرزهم عثمان بكتاش الذي كان من أبرز فقهاء عهده. في أثناء سنوات دراسته تعرف الى «رسائل النور» وتأثر بها كثيراً، فقد كانت حركة تجديدية وإحيائية شاملة . وبتقدمه في العمر ازدادت مطالعاته وتنوعت ثقافته وتوسعت فاطلع على الثقافة الغربية وأفكارها وفلسفاتها وعلى الفلسفة الشرقية أيضاً وتابع قراءة العلوم الوضعية كالفيزياء والكيمياء وعلم الفلك وعلم الأحياء...إلخ.عندما بلغ غولن العشرين من عمره عيّن إماماً في جامع (أُوجْ شرفلي) في مدينة أدرنة حيث أمضى فيها سنتين ونصف السنة معتكفاً في الجامع ومقرراً عدم الخروج إلى الشارع إلا لضرورة. بدأ عمله الدعوي في أزمير في جامع «كستانه بازاري» في مدرسة تحفيظ القرآن التابعة للجامع. ثم عمل واعظاً متجولاً، فطاف في جميع أنحاء غرب الأناضول. بدأ فتح الله غولن - بعد عام 1990 - بحركة رائدة في الحوار والتفاهم بين الأديان، ووجدت هذه الحركة صداها في تركيا ثم في خارجها. ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها في الاجتماع الذي عقد في الفاتيكان مع البابا إثر دعوة البابا له. لقد آمن بأن العالم أصبح - بعد تقدم وسائل الاتصالات - قرية عالمية لذا فإن أي حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، وأنه يجب الانفتاح على العالم بأسره، وأن هناك مجالات واسعة للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى. ما تتميز به حركة غولان عن بقية الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم هو أنها غالباً ما تلقى ترحيباً كبيراً من الغرب، اذ تعتبر «النموذج» الذي ينبغي ان يحتذى به بسبب «انفتاحها» على العالم، وخطابها الفكري.
يعتبر غولن أن القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان هي المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية مهمة، وهو يرى انه إذا كان لتركيا، يوماً ما، ان تعود الى مكانتها بصفتها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة العثمانية، فلا بد من نفوذ قوي لها وسط الاتراك في كل مكان في العالم.
كما أن غولن لا يفضل تطبيق الشريعة في تركيا، ويقول في هذا الصدد ان الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الاقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، وانه لا داعي لتطبيق احكام الشريعة في الشأن العام. ووفقاً لهذا يعتقد غولن ان الديموقراطية هي أفضل حل، ولهذا يكن عداء للانظمة الشمولية في العالم الاسلامي.
لقد أزدهرت حركة فتح الله غولن في إطار انتعاش الحركات والطرق الدينية في تركيا في الثمانينات من القرن الماضي. فبعد الانقلاب العسكري بقيادة كنعان افرين عام 1980، والقرارت التي اتخذتها الحكومة العسكرية والمتعلقة بتحرير الاقتصاد وخصخصة الاعلام واتاحة حرية عمل اكبر للمنظمات المدنية بما في ذلك الجماعات الدينية، بدأت الطرق الدينية في الازدهار ومنها «طريقة النور» التي أسسها سعيد النورس والتي خرجت منها وتأثرت بها لاحقاً حركة غولن كما ذكرنا ذلك سابقاً. وجوهر فلسفتها ايجاد مجتمع اسلامي ملتزم، لكن في الوقت نفسه متلهف للمعرفة والتكنولوجيا الحديثة والتقدم لإنهاء تقدم العالم الغربي على العالم الاسلامي. واليوم يقترن اسم غولن بمصطلح الاسلام التركي المتنور او المعتدل، اذ حاول فتح الله غولن مع مؤيديه تأسيس حركة دينية سياسية اجتماعية حديثة تمزج الحداثة بالتدين بالقومية بالتسامح بالديموقراطية. ووضع الاسلام والقومية والليبرالية في بوتقة واحدة. وكتبت الكثير من الدوريات الغربية عن غولن تصوره كزعيم حركة اجتماعية اسلامية قومية غير معادية للغرب، ووجه المستقبل للاسلام الاجتماعي في الشرق الاوسط.
بدأت متاعب غولن مع السلطات التركية في 18 حزيران (يونيو) عام 1999 عندما تحدث في التلفزيون التركي، وقال كلاماً اعتبره البعض انتقاداً ضمنياً لمؤسسات الدولة التركية. وبعد ذلك بدأ المدعي العام للدولة تحقيقاً في تصريحات غولن، وعندها تدخل رئيس الوزراء التركي انذاك بولنت اجاويد ودعا الدولة إلى معالجة الامر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية التركية، كما دافع عن غولن وعن مؤسساته التعليمية، ومنذ انتقاله إلى الولايات المتحدة عام 1999 بقي على اتصال مع مريديه من خلال كتبه وتسجيلات الفيديو وموقعه الشامل على شبكة الإنترنت الذي يزخر بالنصوص وتسجيلات الفيديو المجانية. ونادراً ما يتحدث إلى الصحافة. وقد وجهت له تهمة تقويض الأسس العلمانية للجمهورية، إلا أن المحكمة برأته في نهاية حزيران 2008 من هذه التهمة، ما أثار التكهنات بقرب عودته إلى تركيا.
لم ينخرط غولن كما قلنا كلية وبطريقة مباشرة في الحياة السياسية، بل شكل مجموعات مستقلة أقرب ما تكون إلى مدارس فكرية وتربوية، اختلفت في طريقة تفكيرها وتحركها، ووسائل تفاعلها داخل الساحة التركية بمجتمعها ومؤسساتها، وهي التي تسمى بـ «الجماعات الإسلامية ذات البعد التربوي»، عوض تسمية «الطرق الصوفية الحديثة».
وإذا كان تأثير إقبال اقتصر على النخبة العربية، بينما كان تأثير المودودي سياسياً وحركياً، فإن تأثير غولن الاجتماعي والتعليمي سيكون الأعمق تأثيراً على المستوى البعيد على المجتمعات العربية.
رضوان زيادة: باحث زائر في جامعة هارفرد، والنص خلاصة ورقة قدمت في مؤتمر «الإسلام في عصر العولمة: تأثير حركة غولن» في جامعة جورجتاون - واشنطن.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.