هناك شبه إجماع بين الباحثين ومؤرخي العلوم على أن العلوم الإنسانية قد نشأت في القرن التاسع عشر([1]) حينما بدأت هذه العلوم في الاستقلال، غير أن شبه الإجماع هذا، حول النشأة، يقابله خلاف بين العلماء وفلاسفة العلم حول طبيعة المنهج في هذه العلوم. ولهذا يمكن القول إن العلوم الإنسانية قد نشأت نشأة غير مكتملة؛ فهي وإن استطاعت تحديد موضوعها وحصره، فإنها لم تستطع خلق منهج يلائم طبيعة موضوعها.
إذا، فالإشكال المنهجي في العلوم الإنسانية حديث، يعود بالأساس إلى القرن التاسع عشر؛ وهو القرن الذي كان فيه المنهج الاستنباطي في العلوم الرياضية، والمنهج الاستقرائي في العلوم الطبيعية قد بلغا غايتهما في النضج واستكمال سيطرتهما على كافة الميادين، وهو ما وضع هذه العلوم أمام خيارين:
1- إما أن تجد لنفسها منهجا يلائم طبيعتها لا هو استنباطي ولا هو استقرائي.
2- وإما أن تحاول تبني هذين المنهجين وتطبيقهما على دراساتها. وفي كلتا الحالتين كانت النتائج مؤلمة: "ففي الحالة الأولى تباينت مناهج الدراسات الإنسانية بين المنهج الاستردادي في التاريخ، إلى منهج التحليل النفسي في علم النفس، إلى منهج الملاحظة المشاركة في الأنتروبولوجيا، إلى منهج تأملي ذاتي في الفلسفة... وهكذا، والنتيجة أننا لسنا أمام منهج واحد. وفي الثانية حصلت الطامة الكبرى: تحويل الإنسان إلى مجرد رقم أو عدد أو قضية أولية أو ثانوية مما يمكن إخضاعه لمنهج استنباطي، أو إحالة الإنسان إلى مادة من مواد الطبيعة لمنهج استقرائي."([2])
لقد شهدت العلوم الفيزيائية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تطورا كبيرا، وبلغت مستوى من التقدم لم تبلغه من قبل. ونتيجة لذلك، أصبحت الفيزياء نموذجا معرفيا، وسلطة مرجعية لباقي العلوم سواء كانت طبيعية أم إنسانية. يقول محمد عابد الجابري: "يمكن القول بصفة عامة إن الفكر العلمي بمختلف جوانبه ومنازعه – وكذا الفكر الفلسفي- قد بقي، طوال القرنين الماضيين، يتحرك داخل البنيان الذي شيده نيوتن، وذلك إلى درجة أن الأفكار والنظريات العلمية التي ظهرت خلال المدة المذكورة، لم تكن تقبل، أو على الأقل لم يكن ينظر إليها بعين الارتياح والرضا، إلا إذا كانت مندرجة في النظام العام الذي أقامه صاحب نظرية الجاذبية."([3])
وهكذا اعتبر المنهج العلمي الذي نشأ مع هذه العلوم نموذجا للتفكير العلمي ومعيارا تقاس به علمية العلوم حتى عندما يتعلق الأمر بموضوعات أخرى غير موضوعات الفيزياء، وهذا ما جعل أحد علماء البيولوجيا المعاصرين يعتبر هذه السيطرة لنموذج الفيزياء "أكبر سقطة لفلسفة العلم منذ نشأتها حتى وقت قريب"، ذلك أن اتخاذ الفيزياء نموذجا للعلم، جعل "ما يسمى «فلسفة العلم» مجرد فلسفة للعلوم الفيزيائية"([4]). ولذلك، فقد انصب عمل ماير، في هذا الكتاب، على إبراز الفرق بين البيولوجيا والفيزياء، وهو عمل يتوجه به إلى زملائه البيولوجيين الذين سيطرت عليهم مفاهيم الفيزياء. يقول إرنست ماير، موضحا الفرق بين البيولوجيا والفيزياء:" وبوضوح أكثر فأكثر، بدأت أرى أن «البيولوجيا» نوع من العلوم يختلف تماما عن العلوم الفيزيائية، وهذا الاختلاف الجذري يشمل مادة موضوعاته، وتاريخه، ووسائل تحصيله وفلسفته. ففي الوقت الذي نرى فيه كل العمليات الحيوية متوائمة مع قوانين الفيزياء والكيمياء، يتعذر إخضاع الكائنات الحية لهذه القوانين «الفيزيو كيماوية»، كما أن العلوم الفيزيائية قد ظلت عاجزة عن التعامل مع جوانب كثيرة من الطبيعة كانت مقتصرة على عالم الأحياء."([5])
ويخلص ماير من حديثه عن الخصائص المميزة للحياة، والتي تجعل البيولوجيا تختلف جذريا عن الفيزياء لاختلاف مادة موضوعاتهما، ومن كشفه عن قصور نموذج الفيزياء في التعامل مع الكائنات الحية، إلى أنه ليس هناك ما "يبرر اعتبار الفيزياء مثالا نموذجيا للعلم كما ينبغي أن يكون لمجرد أنها كانت أسبق العلوم إلى استيفاء مقومات العلم؛ فهذه الحقيقة التاريخية لا تجعلها أكثر «عالمية» من الأخير الأصغر وهو البيولوجيا."([6])
ولم يتوقف تأثير النموذج الفيزيائي عند حد البيولوجيا، بل امتد ليفرض هيمنته على مختلف المجالات: على الطب والفلسفة واللاهوت والأخلاق، بل وعلى الفنون والآداب.([7])
وفي مجال العلوم الاجتماعية، تأثر أوجست كونت (A. Comte) بفيزياء نيوتن، واستمد منها فلسفته الوضعية التي حاول أن يرسي علم الاجتماع على أساسها، ذلك أن إصرار نيوتن على ضرورة تأييد التجربة لأي فرضية للتأكد من صدقها وصحتها، جعله قريبا من الوضعيين الذين كثيرا ما عبروا عن انتمائه إليهم، بل "إن أوجست كونت كان يتخذ من قانون الجاذبية الذي قال به نيوتن، نموذجا لما يجب أن يكون عليه التفكير الموضعي (الوضعي)."([8])
لقد سادت القرن التاسع عشر نزعة علموية وثوقية، تعتقد بإمكانية تفسير كل الظواهر باختلاف أنواعها، والتي ظلت دون تفسير حتى ذلك الوقت. وخضع مفكرو هذا العصر وفلاسفته لسيطرة نموذج فيزياء نيوتن القائم على التجربة، وتم تعميم أسس المنهج الوضعي([9]) لتشمل العلوم الإنسانية... وكان من نتائج ذلك كله، أن تم اختزال الظواهر الإنسانية في جوانبها الحسية والفيزيقية، وإسقاط كل ما هو متجاوز ومتعال وغيبي من هذا الوجود، حتى إنه لم يعد هناك فرق بين الظاهرة الإنسانية والظاهرة الطبيعية. كما تم فصل العلم عن كل قيمة أخلاقية، واكتفي بطرح سؤال الوسائل دون سؤال الأهداف والغايات، ذلك أن "الحالة الوضعية تقوم أساسا على اعتبار الظواهر خاضعة للقوانين، وأن مهمة البحث العلمي هي العمل على الكشف عن هذه القوانين؛ أي بيان شروط وجود الظواهر، لا أسبابها الأولى والأخيرة. إن المهم والأساسي – في نظر أوجست كونت – هو بيان كيف يحدث الشيء، لا البحث في «لماذا يحدث»."([10])
إن هذه النتائج العكسية لتطبيق أسس المنهج الوضعي، المستمدة من العلوم الطبيعية، على الدراسات الإنسانية، دفعت عددا من العلماء وفلاسفة العلم إلى التنبيه على التباين الحاصل بين فروع هذين العلمين، وإلى وضع حدود فاصلة بينهما، لأن تجاهل ظاهرة الاختلاف و«اللاتجانس» هذه، القائمة بين المجالين، لا تؤدي فقط إلى كثرة المفاهيم الخاطئة، وإنما، أحيانا، إلى أوهام لا يمكن أن تتحقق بأي حال من الأحوال.
يكشف تاريخ العلوم عن صراع مستمر بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، "إذ تدعي الأولى، بإصرار، أنها هي التي تبرر الثانية [تؤسسها]، بينما تضطر هذه إلى البحث عن مرتكزاتها وتبرير منهجياتها خارج كل النزعات النفساوية والسوسيولوجية والتاريخوية، وتطهير تاريخها من جرثومة هذه النزعات جميعها"([11]).
فإذا كانت العلوم الطبيعية تسعى إلى صياغة قوانين عامة، كلية ومطلقة، فإن غاية ما تسعى إليه العلوم الإنسانية، هي بناء قوانين وقواعد تقريبية واحتمالية، تفتقد إلى الكلية واليقين المطلق. لذلك، فلا يمكن القول إن العلوم الإنسانية يمكن أن تصل إلى قوانين مماثلة لتلك القوانين التي تصل إليها العلوم المادية، "فحين لا يكون الموضوع قابلا للدراسة العلمية، فلا فائدة عندئذ من اصطناع أدق المناهج"([12])؛ فموضوع العلوم الإنسانية هو الإنسان، والطبيعة البشرية تتميز بأنها تتجاوز الطبيعة/المادة، إضافة إلى أن كل فرد يتميز بخصوصيات تجعله يختلف عن باقي الأفراد، "فالأفراد ليسوا نسخا متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعها للقوالب التفسيرية نفسها، فكل فرد وجود غير مكتمل، مشروع يتحقق في المستقبل، واستمرار للماضي"([13]).
ويحصي عبد الوهاب المسيري عددا من الاختلافات والفروق بين الظاهرتين الطبيعية والإنسانية، نكتفي بذكر بعضها:([14])
1- يسهل تحديد وحصر العلة أو العلل التي تكون وراء نشوء الظواهر الطبيعية، في حين يصعب تحديد وحصر كل أسباب الظاهرة الإنسانية؛ فقد يصل الدارس إلى معرفة بعض الأسباب لكن دون أن يتمكن من الوقوف على كل الأسباب، لأنها متعددة ومتداخلة ومتشابكة.
2- تتميز الظاهرة الطبيعية بغياب المكون الشخصي أو الثقافي أو التراثي عنها، فهي بلا شخصية ولا ثقافة ولا تراث، كما أنها مجردة من الزمان والمكان مثل تجردها من الوعي والذاكرة والإرادة... وبالمقابل، نجد أن هذه المكونات الشخصية والثقافية والتراثية مكونات أساسية في بنية الظاهرة الإنسانية. أضف إلى ذلك تعدد هذه الثقافات، وتعدد الشخصيات الإنسانية، هذا مع حضور الوعي والإرادة الحرة والشعور والذاكرة... في الظاهرة الإنسانية.
3- دراسة الظواهر الطبيعية تقود إلى صياغة قوانين عامة يمكن التأكد من وجودها وصحتها بالرجوع إلى الواقع. ولما كان الواقع الطبيعي بطيء التغير، فإن هذا القانون يمكن أن يكتسب مشروعيته عبر الزمان والمكان. أما دراسة الظواهر الإنسانية، فتوصلنا إلى تعميمات تقريبية، قد تثبت وقد لا تثبت إن حاولنا تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة، لأننا سرعان ما سنكتشف أن هذه المواقف الجديدة تحتوي على عناصر ومكونات خاصة لم نصادفها في المواقف السابقة، إذ من غير الممكن أن يحدث في المجتمع ظرفان متعادلان ومتكافئان تماما.
وإضافة إلى كل هذه الفروق، تختلف وقائع العلوم الطبيعية عن وقائع العلوم الإنسانية في كون الأولى يمكن إدراكها عن طريق الحواس لأنها أحداث فيزيقية. أما الثانية، فلا يمكن إدراكها عن طريق الحواس، لأنها ذاتية، وتختلف من فرد إلى آخر، فهي تتمثل في المشاعر والأفكار والنيات... ولذلك فهي وقائع تتصف بجديتها وبعدم قابليتها للتكرار. وبرغم امتلاك الإنسان لخواص فيزيقية، فإن أهم صفة تميزه هي أنه كائن عاقل؛ الأمر الذي يمنح سلوكاته وتصرفاته معنى، ويفرض علينا فهمها وعدم الاقتصار على وصفها... ولعل هذه الفروق، وغيرها، هي التي دفعت أحد المهتمين بمناهج العلوم إلى التأكيد أن "تشييد الدراسات الإنسانية على غرار العلوم الطبيعية بحيث تكون نموذجا متشابها لها تماما، هو ضلال عقلي، وعقم علمي، وخطر أخلاقي: هو ضلال عقلي لأنه يتجاهل العمليات المعرفية المألوفة، وعقم علمي لأنه لا ينتج المعرفة التي نحتاجها، وخطر أخلاقي لأنه يقبل تصور الإنسان على أنه شيء آخر في عالم مادي طبيعي."([15])
ويؤكد عدد من الباحثين([16]) أن أزمة العلوم الإنسانية مردها إلى «واحدية العلوم»([17]) التي سعى دعاتها إلى فصل النشاطات الإنسانية عن كل المعايير الأخلاقية المتجاوزة، وإلحاق الإنسان بالظواهر الطبيعية/المادية حتى لا يصبح هناك فارق بين الإنسان والطبيعة/المادة، بل يصبح جزءا منها، يخضع لقوانينها وحتمياتها، ويذعن لسماتها المتمثلة في القياس الكمي الدقيق، والقابلية للتقنين، فتغدو معرفتنا بالإنسان أشبه بمعرفتنا بالظواهر الطبيعية في الدقة والصرامة والموضوعية، وذلك عن طريق استخدام مناهج العلوم الطبيعية في دراسة الظواهر الإنسانية.([18])
لقد رفض كثير من العلماء الغربيين الرؤية الساذجة التي تصر على إقصاء الجوانب الجوانية والفردية للظاهرة الإنسانية، والتي تدعو إلى إلحاقها بالظواهر الطبيعية، وألحوا بالمقابل، على رفض فكرة وحدة العلوم، وعلى التمييز بين الظاهرتين موضوعا ومنهجا. فقد دعا ويلهلم ديلثي (Wilhelm Dilthey) (1833-1911) إلى وضع حدود فاصلة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، ورأى أنه من السذاجة تطبيق مناهج الأولى على الثانية. لذلك، تركزت محاولته في التفرقة بين العلوم الطبيعية والإنسانية، وفي الرد على الوضعيين الذين وحدوا بين منهجيهما؛ أمثال: أوجست كونت، ودور كايم، وجون استيوارت ميل... وحاول أن يؤسس العلوم الاجتماعية على أسس منهجية مختلفة عن العلوم الطبيعية: "إن الفارق بين العلوم الاجتماعية والطبيعية يكمن، عنده، في أن مادة العلوم الاجتماعية، وهي العقول البشرية مادة معطاة، وليست مشتقة من أي شيء خارجها مثل مادة العلوم الطبيعية التي هي مشتقة من الطبيعة... إن الإدراك الفني والإنساني هما غاية العلوم الاجتماعية. وهذان يمكن الوصول إليهما من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعاني التي ندرسها في عقول الفاعلين الاجتماعيين وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية..."([19])، لأن مناهج العلوم الطبيعية "ترمي إلى وضع قوانين عامة، بينما يحاول المؤرخون أن يقفوا على واقعة مفردة غير متكررة."([20]) ولتحقيق هذا الهدف؛ التفرقة بين مناهج العلوم الطبيعية والإنسانية، استخدم ديلثي، وغيره من أنصار الهرمينوطيقا، الذين ناهضوا النزعة الوضعية، مصطلح "الفهم" مقابل مصطلح "التفسير". إن هذا التعارض بين "الفهم" و"التفسير"، هو نفسه التعارض بين منهج العلوم الطبيعية ومنهج العلوم الإنسانية، لأنه إذا كان المنهج الأول يستند إلى التفسير، فإن المنهج الثاني يقوم على الفهم: "إن الكلمة الأساسية في التأويل أو الدراسات الإنسانية هي الفهم، والفهم كلمة متميزة من التعليل الذي يقوم عليه العلم الدقيق. الفهم معوله على الربط بين الجانب الداخلي والجانب الخارجي. العلم يعلل، والدراسات الإنسانية تتفهم الحياة أو التجربة...".([21])
إن "الفهم" يتجاوز حدود الواحدية المادية، ويرفض تسوية الظاهرة الإنسانية بالظاهرة الطبيعية/المادية، وينظر إلى الإنسان على أنه ظاهرة متجاوزة وفردية وذات خصوصيات، وهو ما يعني أنه لا يمكن تفسيرها أو تعليلها أو دراستها من الخارج، أو صياغة قوانين عامة حولها كما نفعل مع الظواهر الطبيعية، وإنما ينبغي النفاذ إلى أعماقها ودراستها من الداخل قصد تأويلها وفهمها، "وعملية الفهم هذه فردية بالضرورة، بل ذاتية."([22])
أشرنا سابقا إلى أن تطور العلوم الطبيعية كان له صداه في الفلسفة الوضعية عند أوجست كونت؛ الأمر الذي دفع بعض نقاد الأدب ودارسيه إلى أن يقيموا النقد الأدبي على أسس وقوانين تماثل قوانين العلوم الطبيعية في دقتها وصرامتها، فتجاوز الناقد الأدبي حدود الأدب ليماثل عالم الطبيعة، بحيث صار باحثا في الأدب بحثا طبيعيا، وتعامل مع الظاهرة الأدبية تعامل عالم الطبيعة مع الظاهرة الطبيعية. ويكفي، للتمثيل، الإشارة إلى سانت بوف (Saint Bœuf) (1804-1869)، الذي دعا إلى دراسة الأدباء "من حيث خصائصهم الجسمية وحياتهم المادية والعقلية والخلقية والعائلية، وأذواقهم وعاداتهم وآراؤهم، ثم ترتيبهم في (فصائل) يرتبط كل منها بملامح مشتركة، وبذا أضحى النقد الأدبي عند سانت بوف أقرب إلى التاريخ الطبيعي للأدب."([23])
أما هيبوليت تين (Heppolites. Taine) (1828-1893)، تلميذ سانت بوف، فقد "حول طريقة أستاذه إلى نوع من الحتمية الجبرية على نحو ما تتصف به القوانين الطبيعية، فإذا كانت الطبيعة لا تعرف الخصائص ولا القوانين الفردية، وإنما تنشد التعرف إلى القوانين العامة، فكذلك ينبغي أن تكون قوانين الأدب... قوانين تقوم على الحتمية"([24])، وحاول دراسة الآثار الأدبية اعتمادا على ثلاثة مؤثرات هي: الجنس والبيئة والعصر، و"يشمل مصطلح الجنس مجموعة من الأفكار عن الوراثة والأرض والمناخ. وتضم البيئة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في حين يركز العصر الانتباه على جوانب الاستمرار والتغير في الحضارة."([25])
لكن، هل الظاهرة الأدبية مثل الظاهرة الطبيعية تسمح بمثل هذا التعميم في القوانين، وبمثل هذه الحتمية الجبرية؟ أليس الأدب ظاهرة فنية وليست طبيعية؛ والظاهرة الفنية لا تكون عظيمة إلا بقدر قابليتها لتعدد المعاني ولعشرات التأويلات؛ مما يجعل اختزالها في قانون رياضي عام وجاهز أمرا متعذرا إن لم نقل مستحيلا؟
إن الظاهرة الأدبية ذات طبيعة تخييلية وإيحائية، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن تكون مادة تجريبية يتم إخضاعها لقوانين عامة، وإدخالها في قوالب وأطر جاهزة تقاس عليها جميع النصوص؛ فإذا كانت الظاهرة الطبيعية مادة قابلة للملاحظة، والقياس، والتعميم، واكتشاف قوانينها، فإن الظاهرة الأدبية تخرج من دائرة التعميم والقياس، لتدخل دائرة الفردية والتخصيص؛ "فالعلم تعميم والفن تخصيص، العلم تجميع والفن تفريد. العلم يلاحظ الأشباه والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانون واحد ينظمها، والفن يلاحظ جزئية واحدة يقف عندها يحلل خصائصها...".([26])
إن الدارس، أو الناقد الأدبي، عندما يدرس أدب أديب معين، فهو، غالبا، لا يولي اهتماما كبيرا لما يشترك فيه مع بقية البشر، أو مع باقي أدباء عصره، فهو يدرسه لاكتشاف ما تفرد به هذا الأديب. وهذا يختلف عن عالم الطبيعة الذي يروم وضع قوانين عامة تتكرر في جميع الحالات.
إذا، فمن الواضح أن المشكلة في الدراسة الأدبية، كما يقول رينيه ويليك (René Wellek)، هي "مشكلة تفرد ومشكلة قيمة"؛ لأنه "حتى في دراسة مرحلة أو حركة أو أدب أمة من الأمم، سيهتم دارس الأدب بها بوصفها حالة فردية ذات خصائص وصفات متميزة تفردها عما يشابهها من مجموعات أخرى."([27])
ويدعم ويليك قضية الفردية هذه بحجة أخرى: "فقد فشلت على الدوام محاولات إيجاد قوانين عامة في الأدب... ففي حين أن الفيزياء قد ترى أرفع انتصاراتها في نظرية عامة ترد إلى معادلة واحدة: الكهرباء والحرارة والجاذبية... لا يمكن الادعاء بوجود قانون عام يحقق غرض الدراسة الأدبية، فكلما كان القانون أكثر شمولا وكان أكثر تجريدا وبالتالي بدا خاويا، أفلت من أيدينا الموضوع العيني للعمل الفني."([28])
ويمكن التمييز بين العلم والأدب من زاوية أخرى: زاوية اللغة المستخدمة في كل منهما. إن مقارنة بسيطة بين اللغة العلمية واللغة الأدبية تكشف عن فجوة واسعة تفصل بينهما؛ فاللغة الأدبية ملأى بالإيحاء والمجاز والاستعارة... ولذلك فهي بعيدة عن أن تكون تعبيرية فقط، وإنما لها جانبها الإشاري، بل إن الإشارة هي الأصل في القول الأدبي([29]). أما اللغة العلمية، فهي تسعى نحو تحقيق نوع من التطابق الدقيق والتام بين الإشارة الصوتية والمدلول، فهي لغة محايدة وموضوعية وحرفية، لغة "واحدية" بتعبير عبد الوهاب المسيري([30]).
بعد كل هذا، هل يجوز الحديث عن تطابق مناهج الدراسات الأدبية مع مناهج العلوم الطبيعية؟ وهل يمكن معالجة العمل الأدبي، والفني عموما، معالجة طبيعية وعلمية؟
يكشف تاريخ الأدب عن حلين متطرفين لهذه المشكلة: "أحدهما يتزيا بالزي العصري بفضل العلوم الطبيعية، ويطابق بين المنهجين التاريخي والعلمي فيؤدي إما إلى مجرد تجميع للوقائع وإما إلى وضع «قوانين» تاريخية بالغة الشمول. والآخر ينكر أن يكون البحث الأدبي علما ويؤكد على الطبيعة الشخصية «للفهم» الأدبي، وعلى «الفردية» وحتى على "التفرد" في كل عمل أدبي"([31]).
وهنا، لا يسع المرء إلا أن يأخذ بالحل الوسط الذي يقدمه ويليك للمسألة، فهو يرى أن "على المرء أن يسلم بأن كل عمل أدبي عام وخاص في وقت واحد، أو – من الأفضل، ربما، أن نقول، إنه عام وفردي معا"([32]). ويؤكد ويليك أن كل عمل فني يتميز بسمات فردية، وإن كان يشترك، أيضا، مع بقية الأعمال الفنية في خصائص عامة، ولهذا يحاول كل من النقد الأدبي والتاريخ الأدبي "أن يميز فردية أثر أو كاتب أو مرحلة أو أدب قومي ما. غير أن هذا التمييز لا يتم إلا بمصطلحات كلية، وعلى أساس نظرية أدبية."([33])
الهوامش:
([1])- يلاحظ ميشال فوكو أن العلوم الإنسانية تفتقد إلى ميراث خاص بها يعود إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر. والسبب، في نظره، أن الإنسان في هذين القرنين لم يكن له وجود، ولم يكن موضوعا للتفكير، وهو ما يعني تعذر ظهور العلوم الإنسانية خلال هذه الفترة. ويربط فوكو ظهور هذه العلوم بنشأة المجتمع الصناعي الذي فرض معايير جديدة على الإنسان الغربي، وبالأخطار التي أصبحت تتهدد الطبقة البورجوازية، وبظهور الإنسان في الثقافة الغربية وفرضه نفسه على أنه ما يجب أن يفكر فيه، وما يجب أن يعرف.
ولمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع، يراجع:
ميشال فوكو: "الكلمات والأشياء"، ترجمة: فريق الترجمة بمركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي، (بيروت) 1989-1990م، ص: 283-284.
([2])- علي عبد المعطي محمد: "رؤية معاصرة في علم المناهج"، دار المعرفة الجامعية، مصر، ط1984، ص: 45.
([3])- محمد عابد الجابري: "مدخل إلى فلسفة العلوم، دراسات ونصوص في الايبستمولوجيا المعاصرة"، الجزء الثاني: "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي"، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1982، ص: 45.
والشيء نفسه يؤكده إرنست ماير حين يقول: "ففي الفترة من بدء الثورة العلمية في القرن السابع عشر حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية بوقت ليس بالقصير، كان مفهوم العلم عند معظم الناس محصورا في دائرة مجالاته الدقيقة المحددة: كالفيزياء والكيمياء... وآنذاك، كانت الفيزياء تعتبر المثال النموذجي للعلم".
- إرنست ماير: "هذا هو علم البيولوجيا، دراسة في ماهية الحياة والأحياء"، ترجمة: عفيفي محمود عفيفي، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع277- يناير 2002م، ص: 7-8.
وكل هذا يعطي دلالة للتسمية الأولى التي أطلقها أوجست كونت على علم الاجتماع، حيث دعاه بالفيزياء الاجتماعية (Phisique sociale) تعبيرا منه عن إعجابه بنموذج الفيزياء.
([4])- إرنست ماير: "هذا هو علم البيولوجيا"، م. س، ص: 53.
([5])- المرجع نفسه، ص: 12.
وأضيف هنا أن ماير يتضايق من سيطرة نموذج العلوم الفيزيائية على البيولوجيا، ويشن هجوما عنيفا على أولئك البيولوجيين الذين لا يلتفتون، بسبب سيطرة مفاهيم الفيزياء عليهم، إلى ذلك الفرق الجوهري بين العلوم الفيزيائية والبيولوجيا؛ وهو فرق بين عالم الأحياء وعالم الجمادات؛ فصحيح "أن كليهما يخضع للقوانين الكونية التي اكتشفت وحللت بفضل العلوم الفيزيائية، إلا أن الكائنات الحية تخضع أيضا للتعليمات الصادرة من البرنامج الجيني، وهو أمر لا وجود له في عالم الجمادات".
- المرجع السابق، ص: 10.
([6])- نفسه، ص: 49.
([7])- ففي مجال الطب، تغلغلت مفاهيم الفيزياء في طب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتزايد ميله إلى التجريب، وأصبح أكثر علمانية من ذي قبل. وفي الفلسفة، حاول كانط، مثلا، تأسيس فلسفة علمية تتخذ من فيزياء نيوتن نموذجا لها؛ حيث انطلق منها لتأسيس فلسفته النظرية. وقد كشف عبد القادر بشته، في كتابه حول علاقة الفلسفة الكانطية بفيزياء نيوتن، عن أهمية هذه الفيزياء في تكوين الفلسفة النقدية الكانطية وإمكانية تفسير مثاليته انطلاقا من النموذج الفيزيائي والرياضي النيوتوني.
وفي مجال اللاهوت والأخلاق، طبق هيوم المنهج التجريبي في شتى العلوم الإنسانية، حتى في الدين والأخلاق، فذاعت شهرة دراساته في الدين الطبيعي، وموقفه النقدي من الدين الرسمي، وأنكر المعجزات؛ لأنه لا يمكن معرفتها عن طريق اللاهوت الطبيعي، كما أرسى قواعد المذهب النفعي في الأخلاق، ورأى أن صحة الفعل مرهونة بما يحققه من فائدة.
وفي الأدب، ظهر المذهب الطبيعي (Naturalisme)، الذي مثله عدد من الأدباء والنقاد؛ أمثال إميل زولا وهيبوليت تين وغيرهما في مختلف البلاد الأوربية.
لمزيد من التفصيل حول هذه المواضيع يراجع ما يلي:
- جان شارل سورنيا: "تاريخ الطب، من فن المداواة إلى علم التشخيص"، ترجمة: إبراهيم البجلاتي، عالم المعرفة، الكويت، ع 281، 2002م، ص: 199 وما بعدها.
- عبد القادر بشته: "الفلسفة والعلم، من كانط ونيوتن إلى الوضعية وحدود المعرفة الإنسانية"، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2002م.
- حسن حنفي: "مقدمة في علم الاستغراب"، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 2000م، ص: 217 وما بعدها.
- باربارا باومان، وبريجيتا أوبرله: "عصور الأدب الألماني، تحولات الواقع ومسارات التجديد"، ترجمة: هبة شريف، عالم المعرفة، الكويت، ع278، 2002م، ص: 251 وما بعدها.
([8])- محمد عابد الجابري: "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي"، م. س، ص: 49.
([9])- قامت الوضعية على مجموعة من الأسس يمكن إيجازها في ما يلي:
1- اعتبار الحس وحده مصدرا للمعرفة سواء في العلوم الطبيعية أم في العلوم الإنسانية، ونفي كل مصادر المعرفة الأخرى من حدس أو غيب أو تأمل نظري.
2- إخضاع الظواهر الإنسانية للتجريب مثل باقي الظواهر، (وحدة العلوم).
3- كل الظواهر ذات طبيعة كمية، ويمكن التعبير عنها بلغة الكم والعدد، وإنكار أن تكون الظواهر الإنسانية ذات طبيعة كيفية، (مادية كل الظواهر).
ولمزيد من التفصيل، يراجع:
- محمد محمد أمزيان: "منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية"، بيت الحكمة للترجمة والنشر، وجدة، ط3، 1996م. ص: 22-25.
وكذلك : عبد الوهاب المسيري: "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"، دار الفكر، دمشق، ط1، 2002م، ص: 15-16.
([10])- محمد عابد الجابري: "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي"، م. س، ص: 59.
ولمعرفة مزيد من هذه النتائج، يراجع:
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.