تمهيد:
القرآن كلام الله أنزله ليكون هداية للتي هي أقوم، وتكفل الله بحفظه لتستمر هدايته للعالمين وينعم بفضله كل من بلغه، لكن الإنسان في علاقته مع القرآن تتنازعه مؤثرات متعددة جعلته أحياناً ينطلق في فهم النص من أسبقيات ومحددات خارجية، ففُسر النص القرآني من خلال الزاوية الضيقة للمذهب أو الطائفة أو التيار الفكري، وقد أخذت هذه التأويلات مشروعيتها من مقولات مزقت النص وجعلت منه وعاء يحتمل كل ما يقال فيه أو عنه، فهو "حمَّال أوجه"، وأصبح سلطان الفهم هو منطلق النظر في النص لا النص نفسه، حتى تحول ما يعتبر إطار وحدة المسلمين إلى مثار نزاع عند التأويل.
ثمة خيط دقيق بين المساحة التي يحتمل النص فيها تنوع الفهم والتأويل وبين الإسقاط على النص مما ليس فيه، وإذ ترجع المسألة إلى المنهج فمن الأهمية بمكان اكتشاف المعطيات القرآنية التي ترسم إطاراً لمنهج التعامل مع النص نفسه، بدءاً من أوصاف التعامل مع النص، حيث كانت أول كلمة أنزلت من القرآن ذات بعد منهجي في التعامل مع النص وهي (اقرأ)، ثم تتالت كلمات أخرى كالتلاوة والترتيل والتدبر.
وقد تم تعريف تلك المفردات على أنها أسماء لمسمى واحد، رغم وجود قرائن سياقية تشير إلى ما هو أعمق من كونها تعاوراً لفظياً بين المفردات، وستحاول هذه المقاربة الحفر في سياقات هذه الكلمات النصية وجذورها اللغوية عسى أن تكشف عن معطيات يمكن أن تسهم في رسم إطار منهجي مستمد من القرآن للتعامل مع النص.
وسنتناول هذه المفردات وفق ما كنا اتبعناه من منهج في دراسات سابقة[1]، وذلك بالبدء بالإطار اللغوي للمفردة ثم الانتقال إلى الاستعمال الاصطلاحي لها، ثم عرض المفردة من خلال الاستعمال القرآني مصنفة حسب ما توحي به الآيات مع الرجوع إلى ما في التفاسير حولها، ومن ثم محاولة الكشف عن الرابط بين جذر الكلمة وبين مختلف السياقات في بنية النص القرآني، ثم نحاول الربط بينها جميعاً.
وسنبدأ تناول هذه المفردات من الأقدم نزولاً في القرآن، فتكون القراءة هي الأولى إذ هي أول لفظ أنزل، ثم التلاوة التي وردت أول مرة في سورة القلم، ثم الترتيل في سورة المزمل، ثم التدبر في سورة ص.
أولاً- القراءة:أداء ومنهج
في اللغة:
القِرَاءَةِ والاقْتِرَاءِ والقَارِيءِ والقُرآنِ، والأَصلُ في هذه اللفظةِ الجَمْعُ وكُلُّ شيءٍ جَمعْتَه فقد قَرَأْتَه وسُمِّيَ القُرآنَ لأَنه جَمَعَ القِصَصَ والأَمْر والنَّهْيَ والوَعْدَ والوَعِيدَ والآيَاتِ والسُّوَرَ بَعْضَهَا إِلى بعْضٍ، قال الزّجاج "يُسَمَّى كَلامُ الله تعالى الذي أنزلَه على نَبِيّه صلى الله عليه وسلم كِتاباً وقُرآناً وفُرْقَاناً لأَنه يَجْمَعُ السُّوَرَ فَيَضُمُّها"، وقَرَأَ الشيءَ قُرْآناً جَمَعَه وضَمَّه أَي ضَمَّ بعْضَه إِلى بعضٍ.
والقُرْآن هو التنزيلُ العزيزُ أَي المَقروءُ المكتوب في المَصاحف. وقوله تعالى "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ" (القيامة: 17) أَي جَمْعَه وقِراءَتَه "فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَه"ُ (القيامة:18)، أَي قِرَاءَتَه قال ابنُ عَبَّاسٍ فإِذا بَيَّنَّاهُ لَك بِالقِراءَةِ فاعْمَلْ بِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَقَرَأْتُ الكِتَابَة قِراءَةً وقُرْآناً، وقَرَأَه وقَرأَ به، ومعنى "قَرَأْتَ الْقُرْءانَ" (النحل:98)، لَفَظْتَ به مَجموعاً أَي أَلْقَيْتَه، وقَرَأْتُ القرآن عن ظهر قلْبٍ أو نظرت فيه، هكذا يقال ولا يقال: قَرَأت إلا ما نظرت فيه من شعر أو حديث، وقرأ الكتاب قراءة وقرآنا تتبع كلماته نظرا ونطق بها وتتبع كلماته[2].
قال الراغب الأصفهاني:"والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع، لا يقال: قرأت القوم: إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة"[3].
إن جذر (ق.ر.أ) أصل دال على الجمع والاجتماع والضم، وهي معان تفيد القوة،فالأصل اللغوي للقراءة يدل على معنى الجمع للمتفرقات مطلقاً، وخص في الاستعمال بجمع الحروف والكلمات[4]، وأدائها لفظاً أو ذهناً، وبالتالي فإن مجرد الجمع ليس هو المقصود إنما الوعي به، وبالتالي فعملية القراءة ذهنية بالدرجة الأولى، ولهذا البعد الذهني استخدمت اشتقاقات اللفظ بما يدل على أنشطة ذهنية، كالفهم والمدارسة والتفقه والتأمل والتنسك.
القراءة في القرآن:
أول ما يسترعي الانتباه تسمية الله كلامه المنزل قرآناً، وقد ورد لفظ القرآن في القرآن68 مرة، ولفظ القرآن في اللغة مصدر على وزن فُعلان بالضم، مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: ]إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[ [القيامة:17–18]، وسمي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر، ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل عَلماً شخصياً للكلام المعجز المنزل على النبيr ، وقد "روعي في تسميته قرآناً كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام، فكلا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وثمة اشتراك في المعنى بين لفظ الكتاب والقرآن لغوياً، فمادتا كتب وقرأ تدوران على معنى الضم والجمع مطلقاً"[5]، قال الراغب الأصفهاني: "لا يقال لكل جمع قرآن ولا لجمع كل كلام قرآن، وإنما سمي قرآناً لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة وقيل لأنه جمع أنواع العلوم كلها"[6].
وفي صياغة لفظ القرآن من قرأ على وزن (فعلان) قوة دلالية، فالكلمات التي تم تشكيلها وفقاً لهذه الصيغة تدل على القوة كالسلطان والعدوان والطغيان والفرقان، "ومن هنا تكون كلمة (قرآن)، قد جمعت عبر رحلتها التكوينية، كافة مقومات القوة التي يوفرها الدرس اللغوي للخطاب"[7].
وكلمة "قرآن" وإن صارت علَماً مختصا بكتاب الله فإنها تتضمن معاني القراءة لاشتقاقها من مادة قرأ، وهي أول كلمة أنزلت، وهذا الربط بين أول كلمة وأمر إلهي وتسمية ما يأتي به الوحي من مشتقات هذه الكلمة له دلالة مركزية في منهجية التعامل مع هذا النص المنزل.
وقد يسر الله القرآن فعلَّمه للرسول والبشر "الرحمن- عَلَّمَ الْقُرْءَانَ"(الرحمن:1-2)، وقرأه الله بواسطة الوحي "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" (القيامة:17-18)، فتكفل الله بجمع القرآن في صدر النبي "سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى"(الأعلى:6) وأن يقدر على إقرائه، "وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا"(الإسراء:106).
لكن قراءة النبي للقرآن لم تلق الاستجابة من المشركين "وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ- فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ" (الشعراء:198-199)، "وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ" (الإنشقاق:21)، "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا"(الإسراء:45).
وقد أرشد الله المؤمنين إلى التحصن مما يصرف عن إتقان القراءة والفهم وذلك بالاستعاذة "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (النحل:98)، وذلك عند البدء بالقراءة، فإذا شرع في القراءة فينبغي أن تلقى حقها من الانتباه "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأعراف:204)
كما أُمر المؤمنون بقراءة القرآن حسبما يتيسر لهم لاسيما في الليل "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ... فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " (المزمل:20).
إن فعل القراءة ليس خاصاً بالقرآن الكريم بل إن القرآن الكريم نفسه أشار إلى كونكل كتاب يقرأ فكان مما اشترطه المشركون على النبي (صلى الله عليه وسلم) معاجزة أن ينزل عليهم كتاباً يقرأونه:"أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا"(الإسراء:93)، كما أن أهل الكتاب يقرؤون كتابهم:"فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَيَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ"(يونس:94)
والإنسان يوم القيامة يقرأ كتاب أعماله:"اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا"(الإسراء:14)، "يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَكِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا"(الإسراء:71)، "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُواكِتَابِيَهْ"(الحاقة:19).
وظاهر من هذه السياقات القرآنية أن القراءة هنا ليست مجرد حركة صوتية إنما هي تحصيل للمعنى من خلال استجماع ما في الحروف والكلمات من معان تدل عليها سواء بالنظر فيها أو بنطقها.
القراءة كمنهج:
تناول المفسرون الأمر الأول بالقراءة، ]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)[[العلق]، من حيث طبيعة الأمر والمأمور به، فذكروا أنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً، فالمراد من قوله:"اقرأ" أيْ مَا يوحَى إليكَ، أي اقرأ القرآن، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه، فمفعول اقرأ محذوف، فالمعنى : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك أو ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه، ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى:"اقرأ" أي افعلْ ما أُمرتَ بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقبُه منْ قولِه، فيما ذهب آخرون من المفسرون إلى أن معنى "اقرأ" اذكر اسمه مستفتحاً به قراءتك[8]، "والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوبٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب" وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن[9] .
وظاهر من هذا التناول أن التعامل مع القراءة هنا جاء باعتبارها معنى لغوياً، يتمثل بالنطق بكلام محفوظ أو مكتوب، لكن هذا المعنى إن كان يمكن اعتباره كتفسير لفظي فإن سياق النص يشير إلى معان أعمق يمكن لحظها، فتكرار الأمر بالقراءة ليس مجرد توكيد لأمر واحد، فما أعقب كل أمر يدل من آيات يشير إلى معنى مختلف،]اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)[[العلق]، فالأمر الأول أعقبه ذكر أوصاف للخالق ترتبط بالإنسان وتكونينه، فيما أعقب الأمر الثاني بذكر صفات للخالق ترتبط بما له صلة بالقراءة والقلم، وهذا يدل على أن هناك قراءتان الأولى قراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها وخلقها للظواهر ذات المعنى، هذه القراءة تأتي باسم الله وبوصفه المتفرد به (الخالق)، وأما القراءة الثانية فتتم بمعونة الله وتتجه إلى ما له صلة بالقلم وهو الوحي المنزل المقروء والمكتوب، فقد علمه الله للإنسان"الرحمن- عَلَّمَ الْقُرْءَانَ"(الرحمن:1-2)، بعد أن جمعه لنبيه]إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ - فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ[ [القيامة:17–18] [10].
وإذا عدنا إلى المعنى اللغوي لنستحضر الأصل الذي اشتق منه الأمر بالقراءة نجد أن الأصل فيه هو الجمع وضم الشيء بعضه إلى بعض، مع الوعي بهذا الجمع، فمن يلفظ مفردات لغة لا يفهم حروفها لا يسمى قارئاً، هذا والجمع يفيد معنى القوة، ووجود وعي بهذا المجموع يفيد معنى البحث عن نظام وربط بين الأشياء المجموعة، وفي وزن لفظة القرآن ما يدل على معنى القوة.
استناداً إلى هذه المعطيات يمكننا القول إن الأمر بالقراءة هو أمر بجمع المتفرقات والوعي بما يدل عليه اجتماعها، وبتعبير آخر هو التفكير بالمجموع المعني بالأمر، وإذ اقترن أمر القراءة باسم الله، واسم الله يذكرنا بالأسماء التي تعلمها آدم، والتي وصلنا في دراسة سابقة إلى أنها علم المسميات والتي ترمز ملكة المعرفة التي جعلها الله في الإنسان[11]، وبالتالي فالأمر بالقراءة هو أمر بتفعيل ملكة الإنسان في معرفة الأشياء وفهم سننها وقوانينها وروابطها، وأن يلحظ عند تفعيل هذه الملكة صلتها بالله عز وجل. فالأمر الأول بالقراءة هو أن يعي الإنسان مستحضراً قدرة الله عز وجل خلق الله عموماً وخلق الإنسان خصوصاً، وخلق الإنسان هو الآخر جمع في الرحم، فالقراءة تفكر في عالم الكون المخلوق ومنه عالم الإنسان المجموع خلقه في بطن أمه، فهي قراءة للكون اقترنت باستحضار اسم الله معها نظراً لاحتمال الغفلة عن الله في قراءة هذا الكون.
أما القراءة الثانية، فهي قراءة لما جمعه الله وعلمه بالقلم، وهي قراءة الوحي المنزل، الذي تكرم الله بإنزاله وجمعه وتعليمه، فقد أمر الإنسان بقراءته، وزيد في تحصين هذه القراءة أن يستعاذ بالله من الشيطان عندها "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (النحل:98)، والقراءة هنا تتجاوز التلفظ والأداء لترتقي إلى الفهم والجمع الذهني للمعاني كما يجمع اللسان الألفاظ، لذلك نجد القرآن يفرق بين مرتبتين عند قراءة الغير للقرآن "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"(الأعراف:204)، الأولى هي الاستماع الصوتي الذي يوصل الكلمات إلى الأذن والثانية هي الإنصات التي تمكن المتلقي من تدبر المعنى والوعي به.
إن هذا المعنى للقراءة (جمع المتفرقات مع الوعي بها) إذ تتجه إلى الكون وإلى القراءة، كما هو الأمر في سورة العلق، لا يلغي استعمال القراءة بمستوى الأداء، وما نود تأكيده هنا، أن هذا المعنى للقراءة يمكن أن يتجه إلى النظام الكوني الذي يجمع المتفرقات فيكون أمراً بالوعي بها، ويمكن أن يتجه إلى الوحي فيكون فهماً لمعانيه، وقد سمى القرآن كلا الأمرين كتاباً[12]، فالكون كتاب معمور والقرآن كتاب مسطور، والأمر المتجه إليهما واحد، كما أن أجزاءهما المتفرقة سميت بنفس الاسم (الكلمات).
ومن ناحية أخرى فلفظ الكتاب يدل على الجمع بانتظام، والأمر بالقراءة يدل على استحضار هذا الجمع والوعي به، وبالتالي فالأمر بالقراءة هو أمر بوعي النظام الموجود في النص والروابط بين أجزائه (فهم بنيته) والوعي بالنظام الذي يربط بين المخلوقات وينظم سيرها.
ثانياً- التلاوة: أداء لفظي وسلوك عملي
في اللغة:
التاء واللام والواو أصلٌ واحد، وهو الاتِّباع. يقال:تَلَوْتُه تُلُوَّاً إذا تَبِعْتُه، وتَلَوْتُ الرجل أَتْلوهُ تُلُوّاً، إذا تَبِعْتَهُ. وتَتَلاَّهُ: تَتَبَّعَهُ. وتَتَالَتِ الأُمُورُ تَلاَ بَعْضُها بَعْضًا وأَتْلَيْتُه إِيّاه أتْبَعْتُه، وهذا تِلْوُ هَذَا أي تِبْعُه، والتِّلْوُ، بالكسر: ما يَتْلُو الشيءَ، وكلُّ شيءٍ تَلاَ يتلُو شيئاً فهو تِلْوُه، يقال:ما زلت أَتْلوهُ حتى أَتْلَيْتُهُ، أي سَبَقْتُه فَجَعَلْتُه خَلْفي يَتْلُوني، والتُّلاوَةُ والتَّلِيَّةُ بَقِيَّةُ الشَّيْءِ عامَّةً كأَنّه تُتُبِّعَ حتى لم يَبْقَ إِلاّ أَقَلُّه وخَصَّ بعضُهم به بَقِيَّةَ الدَّيْنِ والحاجَةِ. وأَتْلَيْتُ فلاناً على فلانً، أي: أَحَلْته.وأتْلَيْتُه إيَّاهُ أتْبَعْتُهُ. وتَتَلَّى الشَّيْءَ تَتَبَّعَه، وتَتَلَّيْتُ حَقِّي، إذا تَتَبَّعْتُهُ حتى استوفيته،وتَلَّى الرجلُ صلاتَه أَتْبَعَ المكتوبةَ التطوُّعَ، وتلي تخلف، ومن الشهر والدين وغيرهما قدر بقي، وتَوالِى الظُّعُنِ أَواخِرُها وتَوالِى الإبِلِ كذلكَ وتَوالِى النُّجُومِ أَواخِرُها.
ومن الأصل اللغوي (الاتِّباع) تلاوةُ القُرآن، لأنّه يُتْبِع آيةً بعد آية. تلا يَتْلُو تلاوَةً: أي قَرأ. وتلاه: أي رَوَاه، وتَلَوْتُ القرآنَ أو كُلَّ كَلامٍ تِلاوَةً، كَكِتابَةٍ قَرَأْتُهُ. والتلاوة هي قراءة القرآن متتابعة، كأنك اتبعت آية في إثر آية. والقارىء تالٍ لأنه يَتْبَعُ ما يَقْرَأُ[13].
قال الراغب "التلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي، وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك، وهو أخص من القراءة فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة"[14].
التلاوة في القرآن:
ورد استعمال جذر تلو في القرآن أربعاً وستين مرة، ونسب فعل التلاوة في القرآن إلى الله والملائكة والشياطين والإنس مؤمنهم وكافرهم، واقترنت التلاوة بالكتاب والقرآن والآيات والأنباء. وقد فسرت كتب الأشباه والنظائر التلاوة في القرآن على خمسة أوجه: القراءة"يتلون آيات الله" "يتلون كتاب الله"، والاتباع: "والقمر إذا تلاها"، والإنزال:"نتلو عليك من نبأ موسى"، والعمل: "حق تلاوته" والرواية: "مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ"[15].
أما كتب التفسير، ففسرت التلاوة أحياناً بمعناها اللغوي فرادفت بنها وبين القراءة فـ"التلاوة:القراءة، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر "[16]، وأحياناً فسروها بما هو مجاز من التلاوة أو من لوازمها. فمن الاستعمالات اللغوية بمعنى الاتباع قوله تعالى:"أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ" (هود:17) أي يتبعه، وكذلك قوله:"وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا"(الشمس:2).
ومن المعاني التي وردت تلاوة الله آياته على الرسول[17]:"تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ"(البقرة:252)، أي : نقص عليك من أخبار المتقدمين[18]، وتلاوة الملائكة أي يقرؤون الوحي على أنبياء الله، أو يتلون ذكره:"فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا"(الصافات:3)[19]، وأما ما تتلوه الشياطين: "واتَّبَعوا ما تَتْلو الشياطينُ على مُلْك سُلَيمان" (البقرة:102) فهو ما تُحَدِّثُ وتَقُصُّ، وقيل ما تتكلم به، أو أن المراد منه التلاوة الإخبار لأن التلاوة حقيقة في الخبر، وقيل (تتلوا) أي تكذب على ملك سليمان، يقال: تلا عليه إذا كذب وتلا عنه، إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران [20].
حق التلاوة:
ورد تعبير حق التلاوة في قوله تعالى : " الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"(البقرة:121)، وقد ذكروا في تفسير الآية أن التلاوة لها معنيان، أحدهما:القراءة، الثاني: الإتباع فعلاً، لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلاً، والظاهر كما يرى الرازي أنه يقع عليهما جميعاً، ويصح فيهما جميعاً المبالغة، لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه، وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه، فيكون المعنى على الاتباع :يعملون به حق عمله، وعلى القراءة: أنهمتدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما، أو أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا إذا قرؤوا القرآن، أو أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، أو يقرؤونه كما أنزل الله، ولا يحرفونه ولا يتأولونه على غير الحق، وأجمع الأقوال أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها لفظاً ومعنى. فهي تجمع بين مراعاة اللفظ والتدبر في المعنى والعمل بالمقتضى[21].
وأما تلاوة أهل الكتاب للتوراة[22] "قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"(آل عمران:93)
فمعناها: تدرسون وتقرءون التوراة وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم، والدعوة إلى تلاوتها لإقامة الحجة عليهم بما فيها [23].
والرسل يتلون آيات الله "أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ" (الزمر:71) يعنى يقرءون عليكم[24]، والرسول الخاتم يتلو الآيات والقرآن كذلك[25] "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ" (الجمعة:2)، ولم يكن يتلو من كتاب قبله "َمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ"(العنكبوت:48)، فهو يتلو صحفاً:"رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً"(البينة:2) وهي القرآن الذي أمر بتلاوته "وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ"(النمل:92)، وفسر الأمر به "أن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً ، تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد ، أو اتباعه" فهي من التلاوة أو من التلوّ كقوله :"واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ"(يونس:109)، وذكر الألوسي أنه خلاف الظاهر[26].
هذا من حيث التالين أما المتلو فهو القرآن والكتاب يتلى:"وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ"(القصص:53)، "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"(العنكبوت:51) "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ"(فاطر:29)، وكذلك آيات الله تتلى[27]"وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ" (آل عمران:101)، وقد فسرت الآيات بأنها القرآن.
وكذلك الأنباء تتلى (الله يتلوها):"طسم(1)تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(3)"(القصص:3)، وقد فسرت تلاوة الله الأنباء بـ نقرأ عليك بقراءة جبريل ، ونقصّ في هذا القرآن أو نوحي إليك[28]، كما كلف الرسل بتلاوتها[29] "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ"(المائدة:27)، وقد فسرت هنا أيضاً بالقراءة والخبر[30]، وقد تضاف التلاوة إلى ما في مضمون الآيات من أحكام[31] كالمحرمات "أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ"(المائدة:1)، أي إلا محرّم مما يتلى عليكم من القرآن، من نحو قوله:"حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة"، أو إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه[32].
معنى التلاوة :
إن الميل العام لدى اللغويين والمفسرين متجه إلى المرادفة بين التلاوة والقراءة،فسميت القراءة تلاوة لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر والتلو التبع[33]، فالتِّلاوَةَ إِمَّا مُرادفٌ للقراءَة، أو أِن الأَصل في تَلا معنى تُبِعَ ثم كَثُر في الاقتراء[34].
وقد لاحظ بعضهم فرقاً بسيطاً في الاستعمال وهو أن التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا، والقراءة تكون للكلمة الواحدة يقال قرأ فلان اسمه ولا يقال تلا اسمه وذلك أن أصل التلاوة إتباع الشيء الشيء يقال تلاه إذا تبعه فتكون التلاوة في الكلمات يتبع بعضها بعضا فإذا لم تكن الكلمة تتبع أختها لم تستعمل فيها التلاوة وتستعمل فيها القراءة لأن القراءة اسم لجنس هذا الفعل، ولا تكون في الكلمة الواحدة إذ لا يصح فيه التلو[35] ، وأشرنا إلى ما ذكره الراغب الأصفهاني من اختصاص التلاوة بالكتب المنزلة قراءة لها أو عملاً بما فيها، بخلاف القراءة التي تشمل غير الكتب، وهي أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة[36].
إن القراءة كأداء لفظي للآيات والنص القرآني هي تطبيق لأصل المعنى اللغوي للتلاوة وهو الاتباع والتتابع، ففي قراءة النص إتباع الألفاظ بعضها ببعض، هذا في إطاره الشكلي، أما في السياق العملي فهي الإتباع حقيقة وهو العمل بمقتضى النص ومعناه، وقد عبر عن هذا المعنى بالخصوص "حق التلاوة"، ذلك أن نتيجة التلاوة الحقة وصف الإيمان.
ونلحظ في معظم الآيات التي ورد فيها لفظ التلاوة باشتقاقاته المختلفة أن السياق يدل على احتمال المعنيين وهو الأداء اللفظي وإتباعه بالعمل، وإذا أدركنا هذين البعدين للتلاوة نستنتج أن وعي المعنى ركن هام من أركان التلاوة، هذا إذا قصرنا القراءة على الأداء اللفظي، أما إذا لاحظنا القراءة كمنهج، فإنه تتضمن الوعي بالمعنى، فتكون التلاوة مرحلة أعمق من القراءة إذ هي ترجمة ل
تاريخ النشر : 22-03-2009
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.