قلما تجد باحثا لا يعرف اسم عبد الوهاب المسيري، إذ المشتغل باللغة الإنجليزية والآداب المقارنة لا بد أن يقرأ له في هذا المجال بحكم تخصصه عناوين من قبيل مختارات من الشعر الرومانتيكي الانجليزي، اللغة بين التوحيد ووحدة الوجود، ... والدارس للمجتمعات الغربية وسوسيولوجيتها التركيبية والعلاقاتية لا شك اطلع على مؤلفات كالعالم من منظور غربي، فكر الاستنارة وتناقضاته، الفردوس الأرضي، قضية المرأة بين التحرر والتمركز حول الأنثى، ... كما أن الصغار يعرفون هذا الرجل الذي كثيرات ما أمتعهم بقصصه كماهية النهاية، الأمير والشاعر، نور والذئب الشهير، سر اختفاء الذئب الشهير، ... عناوين لقصص أبطالها الديك حسن والجمل ظريف الذي انفرد بإدخاله إلى القصة العربية. في حين تعرف عليه الشعب المصري عن كثب من خلال توليه منصب المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير ـ المعارضة للنظام ـ المعروفة ب"كفايا". هذا كله دون الحديث عن الموضوع الذي شكل العمود الفقري لأبحاثه وإنتاجاته إنه اليهود واليهودية والصهيونية الذي خلف فيه للخزانة العربية بل والعالمية كتب قل نظريها أسلوبا ومنهجا، تحليلا ونقدا كالإيديولوجيا الصهيونية، الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية، أسرار العقل الصهيوني، من هو اليهودي، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري والتي أخدت منه ما يقارب نصف عمره. فما الجديد الذي جاءت به هذه الأخيرة؟ ولماذا هذا العنوان المركب؟ وقبل كل هذا ما دواعي التأليف حول هذا الموضوع بالضبط؟ وإلى أي حد توفقت هذه الإضافة النوعية للفكر الإنساني عموما والعربي بالخصوص من مقاربة موضوع يعد من الأهمية بمكان ألا وهو الظاهرة الصهيونية؟
الموسوعة ومخاض الولادة
إن الموسوعة لتعد دون منازع أول محاولة عربية استثمر صاحبها معارفه في مجالات عديدة ليضعها أمام القارئ والباحث وصانع القارئ معالجات منهجية ومعرفية للمفردات والمفاهيم ذات الصلة بالموضوع بعد تجشم عناء تحريرها من التحيزات الإيديولوجية والمذهبية من قبل من قاموا بصياغتها. إنه عمل علمي (نبيل) رغم ما لهذا القول من تناقض بين صفتي (العلمية) و (النبل) على الأساس الشائع عن العلم في معرفتنا وهو عدم تأثيره بالقيم والأحكام القيمية والأخلاقية، وهو تناقض ظاهري أكثر من كونه حقيقة خاصة في مجال العلوم الاجتماعية إذ تأثرها بالقيم الثقافية والأخلاقية وارد بحكم طبيعة التداخل بين الباحث وموضوع بحثه (الانتماء المشترك للظاهرة الإنسانية).
موسوعة تجاوزت استيعاب المعارف وتكرارها إلى التحليل والنقد وإعادة صياغة المفاهيم صياغة سلمية، تجبر القارئ على مراجعة المسلمات والافتراضات التي كانت قائمة في ذهنه دافعة إياه إلى طرح أسئلة و مشكلات ذات طبيعة مركبة ومعقدة وبنائية. بل واعتبر البعض إصدارها المرحلة الثالثة من مراحل معرفة إسرائيل بعد مرحلتي ما قبل 1967 ذات المعرفة الإيديولوجية التي يستحوذ عليها الطابع الديني وما بعد 1967 والهزيمة التي أفرزت مراكز أبحاث تشتغل في مجال البحث عن معرفة موضوعية ودقيقة عن إسرائيل، مرحلة اتسمت بالنقلة النوعية والمنهجية في معارفنا حول إسرائيل والتي بدمجها مع السائد في الساحة السياسية قد تمكننا من رؤية سلمية لطبيعة السلام مع إسرائيل.
يقع هذا (البراديغم) أو النموذج الإرشادي في حقل الدراسات المرتبطة باليهود واليهودية وإسرائيل و الصهيونية في ثمان مجلدات يضم الأول الإطار النظري العام الذي يتجاوز الظاهرة اليهودية لشرح المصطلحات المستخدمة بعد تحييدها وفكرة النموذج كأداة تحليلية وفي المجلدين الثاني والثالث إشكاليات عامة متعلقة بدراسة الشأن اليهودي من قبيل العزلة والخصوصية اليهودية، الهوية اليهودية، اليهود والجماعات اليهودية، معاداة اليهود، إشكالية الإبادة، العلمانية واليهودية، الاستنارة اليهودية، الرأسمالية والجماعات الوظيفية، التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية وفي المجلد الرابع نجد تواريخ حول الجماعات اليهودية كل على حدة في بلدان العالم ( فرنسا، إنجلترا، ألمانيا، بولندا، المجر، رومانيا، جنوب إفريقيا، ...) ويتناول في المجلد الخامس اليهودية في مفاهيمها وفرقها بما في ذلك الإله، الشعب المختار، الأرض، الكتب المقدسة والدينية، الأنبياء والنبوة، اليهودية الحاخامية (التلمودية)، الفكر الأخروي، اليهودية والمسيحية، اليهودية والإسلام، اليهودية الأرثودوكسية. أما المجلد السادس فإنه خاص بالصهيونية في تعريفها، تياراتها، تاريخها، حركتها وعلاقاتها بالجماعات اليهودية. والمجلد السابع خاص بإسرائيل من حيث إشكالية التطبيع والدولة الوظيفية، والدولة الاستيطانية الإحلالية والنظام الاستيطاني الصهيوني و أزمة الصهيونية والمسألة الإسرائيلية. وفي المجلد الأخير آليات الموسوعة وملحقا خاصا بالمفاهيم والمصطلحات الأساسية والفهارس الألفبائية. وهما أتوقف لأنقل وصفا رائعا لهذه الموسوعة وصفها به فؤاد قنديل إن احتواء الموسوعة على ثمان مجلدات وتوزيع موادها على النحو الدقيق جاء ثمرة ناضجة لمعايشة تقرب من ربع قرن وبوسعنا أن نتصور الموسوعة جسدا إنسانيا توفرت له الأعضاء والأجهزة لينبض ويتحرك ويعيش ويتكاثر ويؤثر فهناك الدراعان المجلد الأول والثامن أما الجماعات اليهودية فهي في القلب المجلد الثاني والثالث والرابع أما الخامس فهو الصدر أي اليهودية ثم الرأس الصهيونية في المجلد السادس أما الساقان اللذان يمشيان ويركضان بالجسد كله ففي المجلد السابع حيث نلتقي بإسرائيل المستوطن الصهيوني.
رأى هذا العمل الإنساني النور في العاصمة المصرية القاهرة عام 1999 في طبعته الأولى عن دار الشروق، لكن مقابل هذا يكتنف اللبس تاريخ البداية في التأليف، فهذا أمر خلافي : أكانت البداية عام 1975 حين بدأت في تحديث موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية أم عام 1970 حين بدأت في كتابتها أم في 1965 حين نشرت أول دراساتي عن الصهيونية ( فكل كتاب لا يجب ما قبله وإنما يستوعبه ويطوره) أم يمكن القول بأن نقطة البدء هي يوم أن ولدت باعتبار أن كل تجربة خضتها أصبحت جزءا من النموذج المعرفي والتحليلي الذي استخدمه في هذه الموسوعة.
ولكن هو نفسه يحسم القضية بالقول: أفرق هنا بين ثلاث مراحل مرحلة التكوين أي مرحلة دراستي للصهيونية، و مرحلة العمل الموسوعي وهي مرحلة كتابة الموسوعة ذاتها. بدأت دراستي الجادة للصهيونية عام 1964 فكتبت أول كتيب عنها عام 1965م بدأت عملي الموسوعي عام1970 حين بدأت في كتابة نهاية التاريخ.
مخاض عسير وحرب ضروس خاضها المؤلف لإخراج هذا العمل إلى حيز الوجود يحكي تفاصيله الدقيقة في الفصل الرابع من مذكراته، حيث نجد أن بوادر الموسوعة كانت عند تأليفه كتاب نهاية التاريخ إذ وجد نفسه مضطرا للتوقف عند كل مصطلح لتعريفه لانخفاض مستوى المعرفة لدى القارئ في هذا المجال ما دفعه إلى التفكير في إلحاق مسرد يوضح فيه ما غمض من المصطلحات والأعلام والذي تحول تدريجيا إلى كتيب معجمي ثم صار معجم صغير فمعجم كبير ثم تحول إلى موسوعة صغيرة من جزء واحد. غير أن ذلك لم يشف غليله بعد إدراكه جملة من المفارقات التي تكتنف الموضوع ما دفعه إلى تحويل المشروع إلى موسوعة تفكيكية شاملة تحاول تفكيك المصطلحات وتهدف إلى توضيح المفاهيم والتحيزات الكامنة وراءها. ما دفعه إلى تقديم اقتراح لمجلس الخبراء في مركز الأهرام لتبني المشروع الذي قوبل بالرفض لولا تدخل بعض أصدقائه الذين بخروجهم من المركز ضيق عليه الخناق أكثر خصوصا وأنه كان مطالبا بالإنفاق من جيبه على هذا العمل الذي عرض على لجان المراقبة والفحص غير ما مرة من لدن من أثار مخاوفهم خصوصا وان بوادر رياح التطبيع بدأت تهب. لما أصدرت الموسوعة في عام 1975 كان عنوانها الرئيسي موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية والتي لقيت انتشارا واسعا في العربية السعودية بالنظر إلى قيام أحد الموزعين بها باقتنائها.
لقد تعرضت الموسوعة للتحديث بدءا من 1982 على أساس إتمامه في غضون عامين أو ثلاث بيد أن المؤلف اكتشف الطبيعة التفكيكية لموسوعة 1975 التي لا تعدو أن تكون عملية تمدد أفقي لا تؤدي إلى أي حكمة و لا تطرح بديلا نقيض التأسيس الذي هو عملية إبداعية تركيبة تتجاوز التفكيك للغوص في أعماق كل الأبعاد وإعادة الترتيب والتعاريف وإجمالا تحولت الموسوعة من معلوماتية تراكمية إلى تفكيكية هدامة لتصل لتأسيسية تحليلية.
يقول المسيري متحدثا عن هذا الإنجاز: كان علي أن أتبع نظاما حديديا في حياتي، فأهملت كثيرا من التفاصيل وضمرت حياتي الاجتماعية إلى حد كبير مما سبب لي الحزن أحيان. وكنت أستيقظ في الصباح المبكر قبل السادسة صباحا وأبدأ في الكتابة حتى الثانية عشرة مساء لا أتوقف إلا لتناول الطعام والنوم حوالي ساعة في الظهيرة. وتستمر هذه العملية ما يزيد أحيانا عن 10 أيام وحين كنت أذهب للاصطياف كنت أملأ حقيبتين بالمراجع، لأن ساعات العمل في المصيف كانت لعدم وجود تلفون فضلا عن اختفاء الحياة الاجتماعية تماما.
الموسوعة بين البنية والمنهج
إن نظرتنا إلى الموسوعة من حيث البنية والمنهج تقوم على جملة من الملاحظات التي أتاحها التأمل الأولي لهيكلة الموسوعة، إذ من المحتمل ألا يقبل البعض التصميم الذي يبدو على غير ما عهدوا وهو أمر لا يدعوا لانزعاج وجاءت ثمرة لإقدام المؤلف على وضع تصميم ارتآه أكثر ملائمة لموضوعه انطلاقا من رؤية فكرية ثاقبة متعديا الشكل التقليدي الذي تلتزم فيه أغلب الموسوعات بالترتيب الأبجدي عكس هذه التي يمكن قراءتها باعتبارها كتبا مستقلة إلى حد كبير أو قراءتها ككتاب مكون من أجزاء. وهذا في نظرنا عائد إلى طبيعة الموضوع الذي اختار البحث فيه إذ هو أشبه بالسير في درب غير معبد ولا محدد أو الباحث عن خيمة في الصحراء الشاسعة. هذا من جهة ومن أخرى فالمؤلف مدرك للنقص المعلوماتي الكبير الذي يعاني منه المواطن العربي إزاء هذا الموضوع والأفكار المتضاربة لديه مما يعني فقدان الوعي بالمداخل التي يريد أن يبحث عنها. فيمكن أن يدخل عن طريق الفهرس مثلا للبحث عن مفهوم محدد ليجد نفسه وسط حقل معرفي كامل، بل إن النموذج التفسيري الذي تنعت به تتجاوزه أحيانا لتصير تعليمية فقد بدت في غير ما مرة وكأنها تتوجه إلى أشخاص محدودي الثقافة والمعرفة تسعى لشرح الكثير من المصطلحات أو المفردات البسيطة فضلا عن فصول إضافية لتفسير المفاهيم والمقولات ذات الدلالة الخاصة. بل دفع به الأمر إلى إنعاش ذاكرة القراء عن طريق تخصيص صفحتين كاملتين لبيان علامات الترقيم ودلالاتها وطرق ودواعي استخدامها.
أما من الناحية الأسلوبية فتعد موسوعة فكرية معلوماتية آثر فيها المسيري أن يعيد صياغة المعلومة في بوتقة فكره الخاص صاهرا إياها في نسيج تأملاته وقراءاته الخاصة، ما أعطى الفرصة للإنشائية لكي تتسلل إليها بل وتغلب أحيانا غير أن وجودها لا ينفي توفر المعلومات بالمجمل والتفصيل. إنشائية جعلتها تقترب إلى كتاب كبير مكون من ثمان مجلدات يضم كيانا فكريا وعلميا وإنسانيا ضخما على قدر كبير من الأهمية أكثر مما تقترب إلى موسوعة بمعناها التقليدي.
وهنا نتساءل عن الدوافع الكامنة وراء تبني هذه الطريقة في هذا العمل الفريد، إنه سؤال مشروع تباينت أجوبته التي نجملها في الإفلاس العقلي، غياب التحليل العلمي، المواقف الارتجالية للحكام والمحكومين، قصور الخطاب التحليلي العربي، غياب النموذج التفسيري الاجتهادي المركب،... إنها محاولة موفقة لتجاوز المشكوك فيه من معطيات غربية متعصبة للغرب ومتهجمة على العرب قائمة على أساس النظر لليهود كضحايا ومعذبين في الأرض على الدوام وأخرى عربية تحارب العدو على الورق تعويضا للتقاعس في الميدان.
عنوان الموسوعة عينه لم يسلم من التغيير وإعادة الصياغة في تركيب جديد "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري" فكان بإمكان المؤلف أن يكتفي ب" موسوعة اليهودية والصهيونية" بيد أن هذه الصياغة تحمل في طياتها معنيين أحدهما احتواها على معارف دقيقة وموضوعية مستخلصة من مصادر علمية مختلفة والأخر توضيح للمتلقي يساعده على التعامل مع المعطيات والمعارف المقدمة له على أساس تنقيح وفرز وتحيين جديد بعيدا عن كل التحيزات. كل هذا على أساس ثلاث نماذج مركبة هي:
ـ الحلولية الكمونية الذي يمثل الرؤية للواقع يعني أن الإله قد حل في الواقع والعالم وتوحد معه فصار الإله والطبيعة والإنسان شيئا واحدا.
ـ العلمانية الشاملة القائمة على احتواء العالم المادي على كل ما يضمن تفسيره وسيادة قوانين تسري على الطبيعة والإنسان.
ـ الجماعة الوظيفية القائل بأن استمرار جماعة بشرية في المجتمع قائم على أدائها لوظيفة محددة ومعينة، الأخيرة هي مصدر وجود هذه الجماعة واستمراريتها رهين بقدر حاجة المجتمع إليها.
وقفات مع الموسوعة
حاولت الموسوعة في المجلدين السادس والسابع تفكيك أسطورة السوبرمان الذي لا يقهر والقوة التي لا حول لنا ولا قوة لنا بها والمبني بالأساس على شيوع النماذج الاختزالية خاصة التآمرية منها، مكسرا قيود الشعارات التي أرحتنا من عناء التفكير وأوصلتنا إلى حالة التكفير، ضاربا عرض الحائط بجملة من المسلمات والثوابت المترسخة في الأذهان فالدولة الصهيونية يقول ليست مؤامرة عالمية بدأت مع بداية الزمان وإنما هي قاعدة عسكرية واقتصادية وثقافية وسكانية للاستعمار الغربي والصراع معها جزء من المواجهة العامة مع الحضارة الغربية الغازية.
ولعل أولى الحقائق التي يكشف عنها وجوب التمييز بين اليهودية والصهيونية مفندا بذلك مقولة أن الحركة الصهيونية صهينت يهود إذ تمت يهود ومنظمات يهودية غير صهيونيةوداخل نفس الإطار تميز الموسوعة بين مجموعتين صهيونيتين كبيرتين هما: الصهيونية الاستيطانية والصهيونية التوطينية الأولى ظهرت بين الصهاينة غير اليهود وبعض اليهود المندمجين في الغرب غير الراغبين في الهجرة مكتفيين بتقديم الدعم للمشروع الصهيوني والثانية بعد هرتزل وبلفور والمتمثلة في التيار العمالي وعناصر أوربا الشرقية حيث الكثافة السكانية اليهودية.
كما تكشف الموسوعة النقاب عن الخلافات التي تتخبط فيها الحركة الصهيونية من قبيل الخلاف بين الصهاينة التوطينيين والصهاينة الاستيطانيين والخلافات الإيديولوجية بشأن الدولة الصهيونية من حيث الحدود، السيادة، الإيديولوجية،... بل صارت الدولة الإسرائيلية مصدر تماسك المجتمع بدل القيم الدينية.
موسوعة تمكنت من الغوص في أعماق المجتمع الصهيوني للوقوف على العنصرية السائدة فيه والتراتبية التي يقوم عليها (1 مواليد البلد الغربيون، 2 المهاجرون الغربيون، 3 أبناء البلد، 4 مواليد البلد الشرقيون، 5 مهاجرون شرقيون) إنها ديمقراطية تصنيفية متناسبة مع دور الدولة الوظيفي ـ وظيفة قتالية، وظيفة اقتصادية، وظيفة تجارية ـ كاشفة عن العقد الصامت بيت الحضارة الغربية والحركة الصهيونية إذ ما يحدث هناك ليس منفصلا عما يحدث هنالك، أي أن صراع المنطقة مرتبط بالمصالح الكونية الغربية والوعي بهذه الحقيقة هو حجر الزاوية في أي إستراتيجية للتعامل مع القضية.
إن أي دراسة حيادية لأي جماعة لا يمكن أن تعتمد كلية على رصد أوضاعها الاقتصادية وإنما يجب أن تعتمد على دراسة أفكارها وأساطيرها، رؤى مكنت المؤلف من إعادة النظر في كل شيء قائلا في هذا الصدد لا بد أن نكتشف أولا بعض الأساطير ... فالإدعاء العنصري القائل بأن الطبيعة الخاصة لليهود هي التي جعلتهم ينجذبون إلى قطاعي التجارة والربا ادعاء ساذج لأنه لا يفسر شيئا البتة كما أن هذا الإدعاء يرتد بنا إلى العصور الوسطى، حين كانت خصوصية الشيء أو وظيفته تفسر على أنه نابعة منه.
هنا نتوقف قليلا عند بعض المسلمات التي أقدم الباحث على قلبها رأسا على عقب والتي كانت وما تزال من المحرمات في نظر الصهاينة كإشكالية الهوية اليهودية، إشكالية التعداد، إشكالية الإبادة النازية ليهود أوربا التي لم تكن بالمناسبة موجهة ضد اليهود وحسب بل ضد سائر الأعراق غير النافعة من وجهة نظر النازية. مشكلة معاداة السامية الذي يرفضه الباحث بما يضمه من تضمينات عنصرية وأطروحات خاطئة مفضلا توليد مصطلح جديد هو معاداة اليهود الأكثر دقة ودلالة كما أنه الأكثر حيادا. اعتبارا منه أن مصطلح اللاسامية يعود لعام 1879 حيث استخدمه الصحفي اليهودي الألماني ولهلم مار (1818 ـ 1904) للدلالة على معادة اليهود/ السامية، غير أن بعض الكتاب الغربيين يميلون إلى التمييز بين معاداة اليهودية ومعاداة السامية إذ الأولى في نظرهم عداء ديني للعقيدة اليهودية وحدها بإمكان اليهودي التخلص منها باعتناقه المسيحية مثلا، أما الثانية ـ السامية ـ فهي عداء لليهود بوصفهم عرقا وبالتالي فهو عداء علماني لا ديني، وهو تقسيم خاص بنظريات وأطروحات شبه علمية حول الأعراق. وهو أمر تحفظ عليه المسيري كثيرا وهو على صواب فآخر الأبحاث الأنثروبولوجية الحديثة تعيد النظر في مجمل هذه الآراء.
لعل هذه الموسوعة نموذج مما خلفه هذا الرجل من تراث ضخم خصص له كل عمره وماله وصحته، وزهد في كثير مما تسابق صغار النفوس لبلوغه، فجمع بين المعرفة العميقة و الأفق الواسع و الزهد الكريم و التواضع الجم و التضحية الجسيمة. ولربما من حكمة الأقدار أنها لم تسمح له بتتمة رسالته التي صارت أمانة في عنق الجميع، وفي الختام نقول أن المسيري مات نعم مات وله في كل مسمع كلمة وفي كل عين مشهد في كل عقل ذكرى.
ـــــــــــــــــــ
*: مداخلة ألقيت في ندوة نظمت بمدينة كلميم تحت عنوان "لمحات وإشراقات من فكر عبد الوهاب المسيري" بتاريخ 07 مارس/آذار 2009.
**:باحث في العلوم القانونية وعلم الاجتماع جامعة ابن زهر أغادير ـ المغرب ـigout_87@hotmail.com
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.