لو افترضنا من باب الاستعارة أنّ مشروع التنمية من أجل التقدم العلمي و الحضاري في البلاد العربية و الإسلامية درس و التلاميذ فيه هم الشعوب و معلّمهم هو المجتمع وهدفهم الأسمى هو الرفع من شأن الإنسان أينما كان، ثم لو أسلمنا بأن الدرس لم يؤت أكله بعد باعتبار الإخفاق في ثلاث محاور رئيسية : استرداد الأرض الفلسطينية المسلوبة، ضمان الاكتفاء الذاتي الغذائي و عموما الاستغناء السياسي عن الهيمنة العالمية و مركزها (الولايات المتحدة الأمريكية)، فسوف نندهش من مفارقة عجيبة بين أمرين اثنين وكذلك من الغياب الرهيب لأمر ثالث بدونه لن يستوي الأمران الآخران.
أزمة المنهجية
سوف نندهش من الوفرة. أوّلا، وفرة الوسائل التي نمتلكها، مثل " رأس المال" البشري والبترول والأراضي الزراعية، أوتلك الموجودة على ذمّتنا مثلما هي موجودة على ذمّة غيرنا مثل العلوم والمعارف وأدوات التواصل ووسائل الاتصال. وثانيا، وفرة الظروف الملائمة (مجتمع الرفاهة) التي تعيش فيها نخبنا المثقفة- على الأقل- وهي المعنية أكثر من غيرها بتحريك الفكر وتطعيم الثقافة و قيادة الرّأي. أمّا موضع الاندهاش فهو عدم تناغم العنصرين بما يكفي ليكون لنا باع و شأن في ساحة الإنجاز الحضاري. ألسنا نتألّم من ضيق ذات اليد في مجالات التنافس مع القوى العظمى مثل مجال أخذ القرار السياسي الدّولي أو مجال التسابق العلمي و التكنولوجي أو مجال الندّية بخصوص التلاقح الثقافي؟
ولسائل أن يسأل، في سبيل البحث عن سبب الإخفاق و عن الحافز البديل للإنجاز الحضاري، عمّا إذا كانت التنمية الاقتصادية لمجتمعاتنا – وهي التي تحتلّ الصدارة في عنونة أسباب الرّقيّ على الأجندة السياسية لحكوماتنا منذ الاستقلال إلى اليوم، و بخاصة لمّا تكون هذه التنمية محكومة بشروط العولمة كمنظومة متكاملة- غاية في حدّ ذاتها أم أنها مقدّمة وشرط ضروري و كاف لفاعلية الفرد ولحركية المجتمع بما هو واجب للإيجابية التاريخية و للنهوض الحضاري. وإذا افترضنا على عكس ذلك أنّ الأهمّ، منطقيّا، ليس أن ننال درجة المائة بالمائة من النجاح في التنمية بقدر ما يجب أن نضمن حسن استغلال النسبة الّمأوية مع تكديس الحاصل تلو الحاصل، مهما كانت هذه النسبة ضئيلة، في استنهاض الهمم و تفعيل القوى الكامنة في الإنسان من أجل بلوغ الرقيّ الشامل، وجب التساؤل عمّا إذا لم يكن عامل التنمية قابلا للاستغلال "المبكّر" أم أنّ هنالك معيقات تحول دون استغلاله منذ نعومة أظفاره و مهما كانت مرحلة بلوغه، سواء احتلّت المرتبة العاشرة في السلّم المائوي، أوالعشرين أو الثلاثين... على أيّة حال، إنناّ حينئذ أمام مسلّمة : إنّ عدم التناغم بين وفرة الوسائل ووفرة الظروف لا يمكن أن يعزى إلى غياب المضمون. فلا هي أزمة وسائل (وقد أكّد مالك بن نبي منذ 1972 أنّها ليست كذلك) ولا هي أزمة دين (وقد أثبت جلّ المفكّرين أنّها ليست كذلك؛ برهان غليون، جودت سعيد، عصمت سيف الدولة و غيرهم). فقد يعود الفشل إلى اختلال في الطريقة التي تمّ بها توظيف تلك الوسائل رغم توفرها وكذلك في الكيفيّة التي استغلّت بها تلك الظروف رغم ملاءمتها، ممّا قد يكون تسبّب إذن في نوع مستعص من الاختلال في المنهجية. أي أنّ الفشل قد يعزى فعلا إلى غياب، إلاّ أنّه غياب الخطة الهادفة و التصميم المحكم أي المنهجية التي تغني الفرد و المجتمع عن اللهث وراء السراب (تحقيق الاكتفاء الاقتصادي أوّلا ثمّ الإنكباب على ما هو أهم أو أرقى). و هذا لعمري مرتبط عضويّا بحسم الإشكالية الدّينية من باب أولى و أحرى، لا باتّجاه تعزيز الدين- وكأنّه غير معزّز- ولكن باتجاه تحديد أو إعادة الصياغة الفلسفية للمسؤوليات المتخلّدة بذمّة المسلم :إرساء منهج لتغيير ما بالنفس مثلما شدّد عليه العديد (مالك بن نبي في "دور المسلم و رسالته" وجودت سعيد في "حتى يغيروا ما بأنفسهم") و تبيين الجدلّية التي يجب أن تكون قائمة بين ذلك التغيير وتصحيح النظرة إلى الدين، وهو تصحيح ما فتئ ينادي به الكثيرون (حسن حنفي،احميدة النيفر،أوميد صافي، محمد شحرور وغيرهم) بما يوفر للمؤمن أدوات الربط بين ما هو مادي (الاقتصاد) وما هو روحي (الدين و مقوّماته الفاعلة في الواقع) ابتغاء الرقيّ الشامل.
و لقد سبق أن بينّا في مواضع أخرى (*) بعض الأوجه المتعلّقة بهذه المسألة، لذلك فإننا نريد هذه المرّة أن نسلّط الضوء على وجه دون سواه ألا و هو علاقتنا المتدهورة بعاملي الزمان و المكان.ولقد بينّا آنفا في هذا الصّدد أنه من العيب أن نبقى مشمئزّين من بعض الاتجاهات الفلسفية بدعوى أنها منافية للدّين بينما هي قابلة لأن نستعملها كأدوات – إذا توفرت لدينا الإرادة اللاّزمة والوضوح المعرفي الذي يمهّد لهذه الإرادة- و خير مثال تعرّضنا له هو مثال فلسفة الوجودية (*). ولئن نجدّد التشديد على ضرورة أن نتدرّب على آليات هذه الفلسفة فلا لشيء إلاّ لأنها متميّزة عن غيرها بتناول إشكاليتي الزمان و المكان بالاندماج اللاّزم، مهما كان الانتماء (الثقافي أو الجغرافي أو غيره) للأفراد و المجتمعات التي تعتزم تقييم ثم تصحيح تعبيرها عن وجودها عبر هاذين العاملين .
فإلى أيّ مدى علاقتنا بالعاملين المذكورين متدهورة، إذا كانت فعلا كذلك؟ وهل أنّ هذا التدهور هو بالذات الذي يشكّل المعيقات التي تحول دون استثمار حافز التنمية على الوجه الأفضل وذلك بفضل حسن التّصرّف في الوسائل والظروف المتاحة أي بإدراجها ضمن منظومة أوسع و أعم : تصميم الدّرس الإصلاحي؟
فلسفة "المؤقّت و الافتراضي" طولا و عرضا
تجدر الإشارة بادئ ذي بدء إلى أن علاقتنا مع الزمان و مع المكان علاقة لا نحسد عليها ناهيك أنّ جذورها ضاربة في عمق اتجاهين أساسيّين: إنّ اختلال الجانب المكاني يسير عرضا، و بالأحرى بين الفوقي، وهو الاّهوتي، والتحتي وهو الميداني (الواقع المعيش). أمّا افتقاد التوازن الزماني فيسير طولا، و بالأحرى مباشرة بين نقطتي الماضي و المستقبل.
فليس أدلّ على الاغتراب عرضا (في المكان) - أي الإبقاء على الأرجل عالقة في الفضاء عوضا عن تثبيتها في اليابسة- من رفض الخضوع لأمره تعالى : " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه و إليه النشور" (الملك 15) حيث أننا لم نتعلّم الهبوط بالسّمائي ( تعاليم وأوامر و نواهي ربّانية) من الحيّز النظري إلى الحيّز الميداني. والدّليل أن لا ثقة بالطبيعة ولا ازدهار للعلوم التجريبية ولا للتشريع الوضعي بينما المسلم، كغيره من الناس، بحاجة إلى المجال الطبيعي لكي ينمّي من خلاله التثبيت في الواقع لمسؤولياته كإنسان من جهة، ولمسؤولياته كمسلم يؤمن بأن ّ الإسلام حرص على تبليغه إياها بالكلمة و بالموعظة و بالكتاب (بالنظري)، من جهة أخرى. ومن أعراض ذلك عند المسلمين الخلط بين الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وبين الأخذ بناصية العلم في الطبيعة، أو، بصفة أعمّ، الخلط بين الدّلالات التاريخية والأخلاقية والسياسية و غيرها ممّا يزخر بها كتاب الله العزيز على أنّها، على التوالي، تاريخ وأخلاق وسياسة و غيرها.
أمّا الاغتراب طولا (في الزمان) فليس أدل ّ عليه من عزوف المسلم عن المضيّ قدما طبقا للآية الكريمة " إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه" (الانشقاق 6) بدون الالتفات المرضيّ إلى الوراء (الماضي؛ التراث) والذي حذر القرآن من مغبّة الانصياع إليه :" تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسئلون عمّا كانوا يعملون" (البقرة 134). فذلك الالتفات، بما أنه حاصل على حساب "الكدح" نحو المستقبل، فهو يجعل المسلم يقفز على الحاضر نحو مستقبل غير مؤمّن ليجد نفسه، في نهاية المطاف، فاقدا لأيّ مستقبل.
وهو اغتراب يتبلور أيضا في تطبيق المسلم لفلسفة الحديث الشريف "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا و اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا" مقلوبة رأسا على عقب (اقتداء – لاشعوريّا- بقلب كارل ماركس لمثالية هيجل؟). فالمسلم اليوم يعيش لدنياه، باللهفة و اللهث وراء الربح المادي والتملّك كأنّه يموت غدا، بينما تراه يرجىء إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة كأنه فعلا يعيش أبدا. وفي الحالتين المقلوبتين، وبما أنهما كذلك، فهو يعيش بدون مستقبل.
فبصورة أعمّ، لو قمنا بتأليف لفينومينولوجيا الوجهين، الدنيوي (الميداني) و الأخروي (النظري)، بخصوص علاقة المسلم بالمكان ( كما يعبّر عنهما في حياته اليومية) لاستخلصنا إلى محصّلة غريبة ألا و هي فلسفة "الافتراضي". و لو ألّفنا كذلك بين الوجهين ، الدنيوي (الحاضر) و الأخروي (المستقبل)، بخصوص علاقة المسلم بالزمان لاستخلصنا إلى محصّلة لا تقلّ غرابة عن الأخرى ألا و هي فلسفة "المؤقّت".
و في كلتا الحالتين، أو في وضعية التّأليف بين المحصّلتين، محصلة الافتراضي و محصلة المؤقّت،كأنّي بالمسلم يعيش حالة من التّرقب، ترقّب شيء، قد يرغب في التحصيل عليه و قد لا يرغب؛ هذا ليس مهمّا في حدّ ذاته، بل المهم و الخطير هو سلوك المسلم في الأثناء، أي في انتظار الشيء الذي افترضنا أنه يترقّبه : يفعل ما يشاء إلى أن يأتي ما يخالف ذلك . فتراه لا يحتكم للقانون الإنساني والوضعي ( لنلاحظ سلوكه في السير بالعربات أو سلوكه داخل المؤسسات العمومية...). وليس غريبا أن نؤوّل حينئذ مثل هذا السلوك الغريب على أنه نتاج لعقل و إدراك يجذبان بعيدا عن جوهر الأمور( بحكم الاغتراب المزدوج الآنف ذكره) بدءا بقضايا التعدّدية السياسية ووصولا إلى مناهج التقدّم العلمي و الرقيّ الحضاري ومرورا بمسائل مثل مكانة المرأة أو حقوق الإنسان. فترى المسلم يلتصق،بالتوازي مع ذلك الجذب العكسي، بكل ما هو ظاهر وزائل و وقتي و آني (بمعنى "انتهازي" وليس بمعنى "برغمائي" كما كنّا نتمنّى) و فرعي مثل تعدّد الزوجات، الحجاب،ضرب المرأة، الفائدة البنكية وغيرها من الشمّاعات.
من أجل ثقافة المنهجية
فهل أنّ قيام الدّولة الإسلامية هو ما ينتظره المسلم؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل أنّ هذه المسألة ما زالت قائمة بشدّة في أذهان المسلمين؟ (*) أم هل ليست الأولوية مستقبلا للعمل ابتداء من الأسفل (تربية الفرد و المجتمع) بما قد يساعد على استقامة المسلم وذلك بفضل تقويم تلك العلاقة المعطّبة بين ما هو زماني وما هو مكاني في ثقافته؟ ثم ّ هل لا يستحسن التوجّه نحو الأعلى (مؤسسات الدولة، ألإصلاح السياسي و غيره ممّا هو من مشمولات الدولة ولكنه من وحي الفرد و المجتمع) بعد أن يتمّ إطلاق العنان لملكات الإبداع المادي (التجربة العلمية،الاكتشاف، الاختراع،الصناعة،التجارة) و كذلك الرّمزي (المعرفة،التواصل و الاتصال،الآداب و الفنون،) وهي لعمري ملكات كامنة لدى الشيب و الشباب، لدى الولدان و البنات، لدى الرجال و النسوة على حدّ سواء؛ وسائل تستوجب أن يدرجها مثقّفونا، بحكم الأولويّات التي يفرضها العمل من الأسفل باتجاه الأعلى، ضمن التصميم الأكبر: تصميم الدّرس الإصلاحي؟ والله أعلم.
لو افترضنا من باب الاستعارة أنّ مشروع التنمية من أجل التقدم العلمي و الحضاري في البلاد العربية و الإسلامية درس و التلاميذ فيه هم الشعوب و معلّمهم هو المجتمع وهدفهم الأسمى هو الرفع من شأن الإنسان أينما كان، ثم لو أسلمنا بأن الدرس لم يؤت أكله بعد باعتبار الإخفاق في ثلاث محاور رئيسية
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.