سألني الكثير من الأخوة الأفاضل رأيي في ما يدور حاليا من جدل حول كتاب الجابري في القرآن الكريم وبالذات حول قابلية القرآن للزيادة والنقصان أعني حول مسألة الحفظ. ولما كان الكلام يدور حول معتقد وليس حول معرفة فإني أرفض الدخول في النزاع الجدلي الدائر وأكتفي بالسؤال العام عن طبيعة المسألة ماهي. فلعل الإجماع حاصل حول الدافعين الأساسيين اللذين يفسر بهما السؤال عن صحة القرآن وما ينتج عنها من خلل منهجي يجعل أدوات المعرفة كاشفة أو حاجبة للممكن منها للإنسان:1-الدافع الأول هو الصراع العقدي بين الفرق لكونه يتحول حتما من طلب للحقيقة حول موضوع النقاش إلى الدفاع المتعصب عن خيار لأحد فهومه.
2-الدافع الثاني هو محاولة العودة بالنقاش إلى طلب الحقيقة بشروطها وحدودها ومن ثم تحرير المسألة من الصراع العقدي بين الفرق.
لكن المشكل كله يكمن في كون الجميع يدعي الانتساب إلى الصف الثاني ويتهم خصيمه بالانتساب إلى الصف الأول. لذلك فالبداية ينبغي ألا تكون البحث في المسألة ذاتها بل في علامات الموقفين للتمييز بينهما. ومن ثم فما أورده هنا لن يتعلق بمحاولة الجابري ولا بالموقف منها في التعليقات عليها أو لها بل هي لمحاولة الجواب عن الأسئلة التالية:
هل طرح هذه القضية بهدف الحسم في مسألة إثبات الحفظ أو نفيه قضية يمكن الخوض فيها علميا بصورة يمكن للعقلاء أن يصلوا فيها إلى نتيجة مقبولة عقلا ؟
وقبل ذلك هل هي قضية تستحق أن تكون موضع خلاف بين العقلاء سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين فيسعون لعلاجها بصورة تتعالى على هذين الخيارين ؟
وقبل هذا القبل أليس من الواجب أن نسأل: عن مقدار الدقة في المعرفة التاريخية الممكنة بصحة النصوص ما هو خاصة عند فقدان الحامل المادي للوثيقة القابلة لتحديد عمرها تحديدا علميا ؟
وبذلك يكون السؤال الجامع: هل من المعقول أن نجعل مجرد الاستقراب والاستبعاد الجدليين حقائق علمية نناطح بها المعتقدات الإيمانية كما يفعل جل العلمانيين العرب الذين يتصورون تاريخ النصوص قابلا للفصل في مسائل الخلاف بين الموقفين الإيماني واللاإيماني ؟
المنطق الزائف عقلا ونقلا أو علما وعقدا أن مسألة التصديق بأن القرآن من الله أو ليس منه وبأن ما في المصحف هو ما نزل على الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- كله أو بعضه أو هو يتضمن أو لا يتضمن منحولات كل ذلك ليس مما يعني المعرفة العلمية إثباتا ولا مما يعني العقد الديني نفيا. إنها مسألة عديمة المعنى بالنسبة إلى المؤمن بالقرآن. وهي كذلك مسألة فاقدة لكل معنى بالنسبة إلى غير المؤمن به على حد سواء. وكل ما يدندن به المتعالمون الذي يريدون أن يقيسوا القرآن بالنصوص المتقدمة عليه في الزمان من دون اعتبار الفوارق الموضوعية والتاريخية لا ينتسب إلى العلم بل إلى مجرد التقليد الإيديولوجي: والعلة هي التعميم العامي الذي وصفه أرسطو عند الطفل يعتبر كل رجل أبا وكل امرأة أما له وكذلك ما يبدو نقيضه وهو عينه عندما لا يعتبر الطفل أباه رجلا ولا أمه امرأة.
كذلك يفعل العلماني بالتعميم العامي إذ يعتبر كل النصوص الدينية مطلقة التماثل أو مطلقة الاختلاف من دون اعتبار للمحددات الموضوعية والظرفية المميزة بينها. إن مسألة الصحة التامة لنص القرآن بمقتضى مبدأ الحفظ الإلهي إذا نظرنا إليها من وجهها المعرفي فإنها تكون وكيفما قلبناها عديمة المعنى في العقد وفي العلم على حد سواء للعلل التالية:
1. فإذا أخذنا المسألة كمسألة إيمانية كان طرحها فاقدا لكل معنى كإشكال معرفي لأن المؤمن بالمصدر الإلهي للقرآن مؤمن بحفظ الله له في آن. وكل علم يزعمه صاحبه مشروطا بمناقضة هذا الإيمان لا معنى له عند المؤمن. فالمؤمن يمكن أن يرد على صاحب هذا العلم المزعوم: ما يدريك فلعل ما حصل مما تزعمه من زيادة أو إنقاص في النص -تسليما بحصوله-جزء من مفهوم الحفظ ومقصودا فيه (والقرآن يقدم لنا حالة من مثل ذلك بنظرية النسخ والإنساء في بعض الحالات)؟ ذلك أنه بالنسبة إليه حتى إذا حصل إنقاص فقد كان ذلك لحذف ما زيد بخلاف الحفظ وإذا حصلت زيادة فللعلة المقابلة تسليما جدليا بحصول أحدهما أو كليهما وردا إياه إلى الحفظ خاصة والقرآن الكريم كما أسلفنا يشير إلى حالة من هذا الجنس حصلت للنبي نفسه هي الآيات التي نسبت إلى التمني الشيطاني ونسخت نصا ومعنى لهذه العلة.
2. وإذا أخذناها كمسألة معرفية من دون الإيمان فإن هذا البحث لن يقدم المعرفة إلا كالحال في مباحث الحديث والصحة التاريخية مع غياب الدافع الوحيد المبرر لمثل هذا السؤال إذ أي معنى للتمييز بين الصحيح وغير الصحيح لمن يعتبر الدين كله خرافة ؟ بالمعنى العلمي الوضعي كل النصوص من صنع الإنسان ومن ثم فالمسألة تصبح معرفة الإنسان الصانع وليس معرفة الصحيح من غير الصحيح. ثم إن طارح المسألة المعرفية لا يعنيه إلا وجود الشيء ولا معنى عنده لما هو من أصل الرسالة والمنحول إذا هو يعتقد أن الرسالة نفسها من عمل البشر ومن ثم فهو عنده بالجوهر منحول على الله. فأي معنى عندئذ للتمييز بين النوعين عند واضع السؤال على هذا النحو وكلاهما نحل على الله سواء كان من الرسول نفسه أو ممن أضاف إلى كلام الرسول لعدم الإيمان بما يتجاوز المعطى المادي المدرك بالحس في هذه الحالة ؟
3. بل أكثر من ذلك فالمسألة المعرفية إذا سلمنا بأن نعتبرها ذات معنى فإنها قد لا تكون كذلك إلا بين المؤمنين إذا أخذناها من وجهها العملي لأن المؤمن بالرسالة يمكن أن يكون قد اعتبر بعض أعدائها قد أفسدوها-وهو معنى التحريف القصدي أو غير القصدي-فيحاول تصفيتها ليصحح عقيدته من حيث ما يترتب عليها من عبادة. فلا تكون المسألة مهمة بوصفها مسألة نظرية بل بوصفها مسألة عملية: الهدف منها هو التمييز بين ما قال الرسول وما لم يقل للعمل بما قال ورفض المنحول عليه أو لتحديد مضمون التعاليم ما منها وما ليس منها.
4. وكيفما كان الأمر ففي كل هذه الحالات لا بد أن يتقدم العلم بنظام العقد القرآني قبل طرح السؤال العقدي والمعرفي والعملي. ونظام العقد في أي نص لا يتحدد إلا من منطلقين إذا أردنا للتحديد أن يكون موضوعيا وليس مقيسا بالمواقف العقدية:
1-إما من جنس الخبر من حيث شكله أو 2-من المخبر عنه من حيث مضمونه. فإذا اعتمدنا المعيار الأول وكنا من القائلين بأن النصوص الدينية تعود إلى الجنس الأسطوري كان التمييز بين الصحيح وغير الصحيح دالا على سخف صاحبه. وإذا اعتمدنا المعيار الثاني كان السائل مناقضا لذاته: فلا يمكن أن يدعي الباحث أنه يملك نظام موضوع الخبر من خارج خطاب الخبر. وتلك هي عاهة المتكلمين على الواقع معيارا لمحاكمة النصوص: لا يفسرون لنا كيف يصلون إلى هذا الواقع من خارج النصوص ؟ أليسوا هم في الحقيقة يحاكمون نصا حول ما يسمونه واقعا بنص آخر حوله وليس نصا بواقع ؟
فحامد أبو زيد مثلا يظن نفسه قائسا النص القرآني بما يسميه واقعا وهو في الحقيقة يقيسه بصورة الماركسية عن الواقع بل أكثر من ذلك فهو لا يقيسه بالصورة الماركسية بعد أن أثراها أصحابها بنقد شكلها البدائي بل هو يقيسه بأكثر أشكالها بدائية حيث يفسر الرمزي بالمادي بالتناقض التام مع مفهوم الجدل من أصله. ومن البين أن من لا يؤمن بأن القرآن من الله وأنه من أساطير الأولين لا معنى لبحثه في الصحة وجودها وعدمها إلا إذا كان القصد: هل هو مما قاله الرسول حقا أو مما انتحله عليه غيره كما يفعل عتاة الرافضة إذ يتهمون أمانة الخلفاء الأول أعني مسألة تاريخية بحتة. فترد المسألة إلى أحد وجهين: وجه يغلب على النقد الأدبي وفيه يكون الكلام على المطابقة للحقيقة من علامات الجهل بمعنى الأدبية: فالتعامل مع القرآن كنص أدبي لا يختلف سواء كان المؤلف واحدا أو كثيرا ومهما قل التناص أو كثر. وجه يغلب على نقد الحديث والسنن هو أمر لا يعني إلا المؤمنين بها لأن غيرهم يعتبرها كلها من وضع البشر ولا معنى للتمييز بين الصحيح وغير الصحيح فيها. إن عملية تنقية الحديث ليست ذات معنى علمي بالمعنى التاريخي إلا بين المؤمنين وهي تتعلق بمعركة بينهم في مسألة تاريخية حول أمانة المبلغين للحديث أو للقرآن رادين إياها إلى مسألة أمانة الرواية وصدقها. لكن هل ما يصح على الحديث يصح على القرآن إذا لم نهمل المعطيات التاريخية المجمع عليها حتى من المجادلين في القرآن: علميا وعقديا؟
فتاريخيا يعلم الجميع بعدم تدوين الحديث خلال حياة الرسول عدمه الثابت حتى عند المشككين في كتابة القرآن المباشرة لأن ذلك يمثل علة تشكيكهم في السنة التشكيك الذي نقلوه إلى القرآن. ويقتضي المنطق عند كل ذي عقل أن ثبوت عدم كتابة الحديث المباشرة (والنهي عنها) دليل على ثبوت كتابة القرآن المباشرة (والأمر بها). فالنهي عن كتابة الأول تفترض الأمر بكتابة الثاني حتما حتى لو كان ذلك بمجرد مبادرة المؤمنين وليس بأمر من الرسول.
5. وأخيرا فهبنا قبلنا أن المسألة يمكن أن تكون معرفيا ذات دلالة للتمييز بين ما هو من الرسالة وما ليس هو منها -بمعنى المعرفة التاريخية-فإنها مسألة لا تقدم ولا تؤخر من يريد أن يدرس الظاهرة الدينية دراسة علمية بالمعنى الوضعي للكلمة. فلا معنى للدراسة العلمية الوضعية للظاهرة الدينية –أعني الدراسة الانثروبولوجية للمعتقدات والذهنيات-لا معنى لدراستها من خارجها حكما لها أو عليها لأن كل ما فيها هو منها إذ كونه منها يعني أن أصحابها المؤمنين بها يعتقدون أنه منها ولا شيء سوى ذلك. ولا يهم أن يكون ذلك قد توالى من حيث التكوينية قبل أن يصل إلى شكله النهائي كما تتوالى طبقات أي شأن رمزي في الضمير الجمعي.
النتيجة: كل الخلافات حول بعض القرآن خلافات لم ينكرها أحد وهي ترد عند التمحيص إلى أمانة المسلمين في إخبارهم عن نصهم لأن الإبقاء عليها دليل على الأمانة فضلا عن كونها مما يقبل الرد إلى نقائص الكتابة أو اختلاف اللغات بشرط أن نستثني خرافات دعاوى الغلاة من الفرق أو مزاعم من يقيس القرآن الذي نزل على أمة سيدة على ذاتها على الكتابين المتقدمين عليه اللذين نزلا على أمة خاضعة للاستعمار الأجنبي.
وعقديا يميز المسلمون في ما جاء به الرسول بين كلام الله وكلامه. والأول فوق التاريخ ولا يقبل العلاج التاريخي والثاني تاريخي ومن ثم فهو يقبل العلاج التاريخي. وحاصل الأمر وزبدته أن معرفة ما هو من القرآن وما هو ليس منه تبقى في كل الحالات مشروطة بأمرين يحددهما القرآن نفسه:
أولهما هو نظام عقد القرآن نظامه الذي نفترضه لكي نميز بين ما ينتسب إليه وما لا ينتسب إليه سواء انطلقنا بهدف عملي عند المؤمنين أو بهدف المعرفة التاريخية عند غير المؤمن به. ومن ثم فمسألة نظام العقد القرآني متقدمة وهي عندي من جنس نظرية بنية الكائن الحي التي تمكن من الاستنتاج العلمي في حالة عـلم الإحـاثـة مثلا: فلو لم يكن لنا نظرية في بنية الكائن الحي لما أمكن أن نستنتج من بعض بقايا الهيكل العظمي مثلا بنية الكائن كلها ومراحل تطوره الممكنة أو الحاصلة. وهذا مطلوب كل بحث في القرآن قابل لأن يجمع بين العقدي والعلمي.
والثاني هو موقف القرآن نفسه من مسألة الكتابة ونظرية التحريف والتزييفالتي يمكن أن يرد إليها سعي النقد التاريخي للنصوص الدينية في الفكر الديني الغربي الحديث والتي كان القرآن قد اعتمدها هو نفسه في تحديد صلته بالنصوص المتقدمة عليه ليحرر الفكر الديني منها. ومن ثم فهو قد نبه المسلمين للتحرز مما يمكن أن يساعد على التحريف والتزييف. وبهذا المعنى يمكن أن نكتشف بالتحليل العقلي لهذين الأمرين ما بمقتضاه يصبح الإشكال المبحوث في هذا الجدل مردودا إلى الدجل العلماني الذي يقيس النصوص بعضها على البعض دون اعتبار الفارق.
ويمكن لأي مؤمن بالقرآن ومدرك لشروط المعرفة التاريخية العلمية أن يثبت أن هذا القياس مبني على تعميمات بدائية هي من جنس ما وصفه أرسطو عند تمييزه بين الكلي بمعناه العلمي والكلي بالمعنى العامي. وإليك بعض الحجج التي تلغي المشكل من أصله لأنها ترد القياس الذي تستند إليه.
الحجج التي تلغي المشكل من أصله يمكن أن نحسم قضية جوهرية ذات صلة بما يميز القرآن نفسه وبأفعال الأمة في لحظة التأسيس فيحررنا من المقارنات المتسرعة بين النصوص الدينية. وقبل ذلك كله لا بد من الإشارة إلى قولة حكيمة سبق لهيجل أن قالها في حق الشكاكين: إنهم يشكون في كل شيء عدا الشك نفسه. لذلك فشكهم ليس شكا ذا تبرير علمي لكونه أصبح موقفا مبدئيا خارج مجال البحث فضلا عن كونه لا يعين علل الشك ومن ثم فهو لا يستطيع الحسم في الأمر من الأصل ما يجعل المسألة نفسها تصبح لاغية. والشك العلمي لا يكون ذا معنى إلا إذا كان مبررا ومحددا لعين المشكوك فيه كما هو بين عند كل من يدرك معنى العلم ما هو ومعايير التمييز بين شك العلماء وشك الشكاكين كما بين بيرس. والمعلوم أن نزعة الشكاكين آلت ببعض الموتورين إلى حد جعل القرآن ابن عصر التدوين اللاحق مثله مثل الحديث بل وحتى إلى الشك في وجود النبي نفسه. ومن ثم فلا بد من أن يكون الشك منزلا في سياق معين مع تعيين المسألة التي هي موضوع بحث وفي حدود العلاج الممكن وبمعايير المعلومية التي هي دائما محدودة لكونها هي بدورها تاريخية.
فإذا كانت المسألة تاريخية وكانت الدقة في المعرفة التاريخية ذات حدود معينة أصبح الموقف الشكاكي المبدئي رافضا للمعرفة التاريخية من أصلها ومن ثم فلا كلام مع هذا النوع من الباحثين. وإذا نزلنا المسألة في سياق المعرفة التاريخية بات من الواجب أن نميز بين الحالات. فحالة القرآن تاريخيا مختلفة تمام الاختلاف عن حالة الكتابين المنزلين الآخرين وذلك خاصة بسبب موقف القرآن من نفس هذه الإشكالية المتعلقة بصحة النصوص. وتحديد السياق سيبين أن كل المشكل الذي يطرحه بعض المشككين في صحة القرآن كله أو بعضه سببه أمران كلاهما ليس لهم عليه دليل: أولهما هو هذا القياس والثاني هو تصور المسلمين بعد نزول القرآن قد بقوا على الحال التي كانت عليها العرب في الجاهلية: بغير نظام أو تخطيط وتناسق بين النظر والعمل رغم أن النظر تقدم في الثورة القرآنية على العمل بنصف المدة النبوية!
فها أنت أمام نص أهم نقد يوجهه لأهل الكتاب هو التـحريف وأهم أمر لتنظيم شؤون الحياة يوجهه إلى المسلمين هو كتابة أي شي في المعاملات مهما كان تافها. ومع ذلك تجد من يشكك في أن القرآن كان يكتب بالتوازي مع النزول زاعمين أنه كان موجودا في صدور الرجال فقط وذلك لخلطهم بين عملية توحيد نسخ القرآن المتأخرة لتخليصها من الخلافات الطفيفة في بعض الآيات نطقا أو كتابة (تقريبية لما نعلم من الحال التي كانت عليها وما طرأ عليها من تطوير لاحقا من أجل تدقيق كتابة القرآن وقراءته كالإعجام) أو حتى ترتيبا بمقتضى القراءة من غير الكتاب المدون الخلط بينها وبين كتابة القرآن التي هي موازية لنزوله.
والغريب أن هؤلاء المشككين يزعمون أن المسلمين حاكوا أهل الكتاب في كل شيء إلا في هذه: كان كتاب اليهود والمسيحيين مكتوبا ومحفوظا لكن المسلمين شذوا عن ذلك واكتفوا بالذاكرة دون الكتابة! ولنا على بدائية هذا الرأي المستند إلى قياسين خاطئين (قياس ظرفيات تدوين الكتاب بظرفيات التوراة والإنجيل وقياس العرب بعد الإسلام عليهم قبله) خمسة أدلة عقلية قد تغني عن الأدلة النقلية رغم كون هذه الأدلة من جنس التواتر المطلق ورغم ما فيها من مزيد دلالة (وكل من قرأ أمتن الدراسات الغربية في تاريخ القرآن يعلم الأمرين التاليين:
1- أهم ما فيها من معطيات علمية مستمدة من استقراء النقاش العلمي في أمهات كتب المسلمين حول القرآن وتاريخه
2-وجل الدراسات التي يقدمها العلمانيون العرب إن لم تكن كلها هي نسخ باهتة منها لم ترق إلى مقدار درايتها بالموضوع سواء تعلق الأمر بالمصادر والمراجع العربية القديمة أو حتى من حيث علاقتها بالقرآن ذاته شكلا ومضمونا فضلا عن الرقي إلى منهجيتها). والدليلان الأولان من القرآن نفسه أعني:
1. دليل دعوة القرآن الأكيدة لتدوين المعاملات مهما كانت تافهة حتى إن الآية المتعلقة بأهم مقومات التحقق من المعرفة والحقوق أعني الشهادة والتي هي أطول آية اعتبرته الأساس في منع التلاعب بهما.
2. ودليل تنبيه القرآن لما وقعت فيه الأمم السابقة من تحريف لكتبها. والمعلوم أنه لا شيء يمنع مثل هذا الأمر كالكتابة والانتشار المكتوب الذي يحول دون الانتحال والتغيير. فلا يعقل أن يؤكد القرآن على كتابة كل شيء في المعاملات مهما كان تافها وأن يحذر من التحريف ثم لا يُأمر مبلغه بأن يكتبه وبأن يَأمر المسلمين بكتابته. فمهما زعم الغالي من المشككين للمبلغ من عدم الأمانة فإنه ما كان ليناقض نفسه إلى درجة أمر كل المسلمين في عصره بعدم كتابة القرآن.
والدليلان العقليان المواليان أستمدهما من سلوك الرسول والصحابة في لحظات التأسيس المفصلية. فلنفرض جدلا أن الرسول لم يأمر الصحابة بكتابة القرآن فكيف نفهم عندئذ نهيه إياهم عن كتابة الحديث؟
3. ألا يعني ذلك نهيا عن شروع بعضهم في كتابته بقصد تعميم أمر سابق هو كتابة الوحي وهذا هو الدليل العقلي الثالث؟
4. والدليل العقلي الرابع: إذا كان أبو بكر قد اضطر إلى تذكير عمر بآية:"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ..."{آل عمران144.} هل كان يمكن أن يبقى عمر (رض) بعد ذلك معتمدا على الذاكرة وقد خانته في أحرج لحظة من حياة الأمة حتى لو تصورناه لم يكن مالكا لنسخة مكتوبة من القرآن الكريم؟ كيف يكون عمر مؤسس الديوان -وذلك يعني إدخال التدوين في الشأن الدنيوي الذي هو تافه بالقياس إلى الشأن الأخروي فضلا عن كون القرآن جامعا بين الشأنين - ثم يهمل كتابة القرآن الذي كان دستور الدنيا والآخرة؟
5. أما الدليل الجامع فهو أن القرآن اسمه الكتاب وهذا الاسم يطلق على نصوص الأديان الأخرى التي لم تكن شفهية بل مكتوبة ومحفوظة ومحروسة من قبل مؤسسة وظيفتها العناية به! ثم إن "الكتاب" ليس مجرد اسم بل هو عقيدة وجودية تعتبر عين الوجود التام هو كونه مكتوبا بكل مستوياته حتى إن الله يكتب على نفسه والحساب يكون بوزن الكتب والسجلات التي تدونها الملائكة في كل آن!
وبذلك يتبين عقلا أن كل السخافات التي تقال عن صحة القرآن وكتابته المتأخرة من أوهام الموتورين الذين يقيسون أحداث تدوين القرآن بأحداث تدوين التوراة والإنجيل حتى يصح لهم دعوى أنه مثلهما قد شابه التحريف والتاريخ أي إن ما حصل لهذين الكتابين ينبغي أن يحصل مثله للقرآن حتى لو كان أول كلام القرآن هو التنبيه إلى حصول التحريف وضرورة كتابة أي شيء مهما كان تافها. وبذلك يتبين أن بدائية هذه المواقف تثبت عقلا فضلا عن الأدلة النقلية التي يمكن الاستغناء عنها لولا عناد أصحابها بزعم التعالم الذي يكتفي بمضغ الزائف من القضايا لمجرد أن بعض المستشرقين عمموا ما حصل للتوراة والإنجيل مما يتصورونه قاعدة كلية لكأن هذه التجربة ذاتها لم تكن هي عين ما جعل المسلمين من البداية يتحرزون من علل تكرارها فضلا عن كون الكتابين الأولين مر على أهلهما أطوار تاريخية لم يكونوا فيها سادة مصيرهم لصون كتبهم وهو ما لم يحدث للمسلمين ولله الحمد على الأقل في القرون الثلاثة الأولى التي لا يختلف اثنان في أن التدوين قد تم خلالها. اعتراض ذو وجاهة شكلية ويمكن أن يأتي اعتراض مقبول: إذا كان ذلك كذلك فلم اضطر المسلمون إلى التوحيد بين النسخ؟ لهذه المسألة عدة علل مادية مثل: تخلف الكتابة من حيث ضبط النطق والتمييز بين الحروف وقلة النسخ وكثرة الاعتماد على الذاكرة الموروث عن الجاهلية فضلا عن العلل المادية الأخرى التي تنتج عن فروق النطق بين العرب وبين الأفراد إلخ.. لكن أهمها الجواب القرآني الذي جاء في الكلام الصريح على نسخ الآيات أو إنسائها أو حتى تبديلها. ولعل أوضح الآيات في الباب هي:"وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"[النحل:101]. فهذا يعلل الاختلاف الطفيف بين النسخ وهو اختلاف أدى إلى ضرورة التخلص منه بالشروط التي يقتضيها العلم بالتعامل مع الوثائق لئلا يتسع بمرور الوقت: أعني بتكوين لجنة علمية من المختصين تحسم أمر الخلافات بمعيار حدده القرآن نفسه هو معيار الشهادة التي ينبغي أن تستند إلى شاهدين عدلين على الأقل. لذلك فالتخلص من الطفائف لم يكن بحذفها بل بتحديدها ورصدها وإثباتها إذا ثبت بإجماع أنها سمعت من الرسول نفسه مع تطبيق معايير الشهادة القانونية في هذا الضبط: أن يشهد شاهدان عدلان على الأقل. فبعض المسلمين يمكن أن يكون قد اطلع على ما لم يطلع عليه البعض الآخر عند حصول النسخ أو الإنساء أو التبديل فكان حفظه أو نسخته مختلفة عن الحفظ والنسخ الأخرى. إن إبقاء المسلمين على هذه الاختلافات الطفيفة في مناقشاتهم العلمية دليل على الصحة وليس على الوضع إذ لو كان في الأمر نحل لما وقع الاعتراف بالاختلاف أصلا.
ولذلك فكل ما تجده في كتب المستشرقين حول هذه المسائل مستقى من نقاشات عـلماء الـمسلمين الأفـاضل إذا كان موضوعيا ونزيها. وما عداه من أقوالهم آراء شخصية بمعايير عصرهم مصدرها الأساسي محاولة تعميم صفات التحريف التي توجد في الأناجيل والتوراة على القرآن لعدم قبولهم بأن يكون كتاب المسلمين شاذا من هذا الوجه (رغم ما ينعتونه به من شذوذ في الكثير من الوجوه خاصة ما يظنونه نقائص وهي عين الكمال عند فهم حقيقة الرسالة التي تنظر إلى الإنسان من حيث هو كائن سوي يجمع بين القانونين الطبيعي والخلقي) وبالذات لأنه تقدم على محاولاتهم العلمية المتأخرة ببيان التحريف فيها منذ نزوله وهو ما حصنه ضد التحريف. وفوق كل ذي علم عليم
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.