آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  إتجاهات الإصلاح

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    التعليم و المناهج

  •     

سؤال الفاعلية بين الفردية والجمعية

رشيد أبو زكي


القول في الفاعلية قول في البناء الحضاري، لأن الحضارة ما هي إلا حصيلة الإضافات النوعية للفاعلين فيها، بحيث تتكاثف هذه الإضافات في صور متعددة، وتندمج على أنحاء مختلفة، لتشكل لحمة تمنح أمة من الأمم هويتها وتميزها ونموذجها في الحياة تطرحه في معترك المنافسة والمدافعة الحضارية المشروعة مقابل النماذج الأخرى، فيكون النبوغ الحضاري من نصيب الأمة التي تكون درجة التوتر في الإرادة الحية للفاعلين فيها أكبر، وبالتالي عطاءاتها أغنى وأوفر.

والمتأمل في أحوال الأمم وتقلباتها في صحواتها وكبواتها، يكتشف أن مبتدأ كل نهضة حضارية لأمة من الأمم إنما يتجسد في الذات الفردية الواعية بذاتها وفرادتها وحريتها وتميزها. هذه الذات تصير منبعا للفاعلية التي تحرك كل مفردات الحضارة نحو بناء نماذج في الحق والخير والجمال، وترجمة ذلك بعطاءات متميزة في مجالات متنوعة تشكل بأصالتها وتناسق مكوناتها مركز إشعاع ونقطة استقطاب وجذب في محيطها الإنساني، وهو أرقى ما يمكن أن تتطلع إليه أمة من الأمم وحضارة من الحضارات.

وتبدأ الفاعلية في صورتها الأولية الفردية البسيطة هذه، كحالة سيكولوجية تتمثل في نوع من الشعور الذاتي المتميز والعميق، يتملك هذه الذات فيحررها من عوامل النكوص والخمول والعطالة، ويخلق فيها قدرا من الثقة والاعتزاز بالإنية والتوحد الذاتي الإيجابي، فكأن هذه الذات تكتشف ذاتها لأول مرة، وتقف على حقيقتها كفعالية حرة وتلقائية تملك شأن نفسها، وتمسك بزمام أمرها، فيحدث لهذه الذات حال أشبه ما يكون بالبعث بعد الموت، والصحو بعد السكر. وإذا تكثفت هذه الطاقة الشعورية الحية صارت قوة دفع هائلة تنداح عبر مجموع قنوات الفعل المركبة في الإنسان، عملا وفكرا وخلقا وذوقا، فيترجم ذلك في صورة نشاط خلاق ومبدع، منسجم مع ذاته ومندمج في محيطه، فينطلق الإنسان نحو معترك العمران المادي بروح تواقة للعمل والعطاء، مسددة بسبب من الفكر الحي الناضج، ومؤيدة بمدد من القيم الروحية الخلقية والجمالية، فتتناسق هذه المكونات المختلفة في الذات الفاعلة، وتتآلف كأنها سيمفونية من أجمل ما نسجته روح رنان، أو لوحة من أروع ما خطته ريشة فنان.

تلك هي اللحظة الأولى في البعث الحضاري، لحظة الفاعلية الفردية التي تشكل الشرط الضروري لكل نهضة حضارية، تبدأ مع الفرد الملهم الواثق بذاته وبقدرته، والمنطلق نحو عالم الفعل والبناء بكل حيوية وإصرار. غير أن هذه اللحظة وإن كانت شرطا ضروريا فإنها مع ذلك ليست شرطا كافيا، لأن الذات الفردية غيرية في أصل طبيعتها فهي تطلب الغير لتعيش معه ناسجة بمعيته كيانا آخر أي ذاتا جمعية، فهل تنحفظ فاعلية الذوات الفردية بعد اجتماعها في الذات الجمعية المتحصلة عن هذا الاجتماع؟.

إذا كانت للفاعلية الفردية شروط ومقتضيات، فإن الفاعلية الجمعية لها أيضا شروط ومقتضيات، فلا يكفي أن يتساند أفراد فاعلون كثر، لكي تحصل فاعلية المجموعة، كما أنه لا تكفي اللبنات الجيدة المتينة لكي يكون البناء جيدا متماسكا، فيحتمل أن يتم ركمها ركما لا نظم فيه، فيأتي البناء شائها عديم التنسيق، كما يحتمل أن يتم ضمها إلى بعضها دون ترصيص وتوثيق، فيتهاوى البناء مع أول هبة ريح، فلا بناء بغير نظم تتآلف فيه المختلفات، وتتناغم داخله المتباينات وتتساند فيه عطاءات المفردات الكثيرات.

من هنا كان من اللازم إسناد الفاعليات الفردية بتدبير مجموعي يأخذ على عاتقه مهمة التنسيق والتنظيم، بالوجه الذي يضمن تدفق الطاقات الخلاقة المبدعة بأقصى درجات القوة والحيوية دون أن ينتج عن ذلك تصادم في المسارات وتعارض في المآلات، بل ينبغي العمل على بلوغ الغاية في النظم والتوجيه، وذلك عبر جهد متواصل في البناء المحكم، مع سعى دائم في فك مختلف مظاهر الإركاس التي تتجسد في صور من الاشتباكات المربكات التي تبدأ أشبه ما تكون بالسرطانات في النسق المنظوم، فإذا غُض عنها الطرف انتشرت كما النار في الهشيم، فلا يفيق الغافلون إلا وقد عمت وطمت وأصبح السعي في تصحيحها طمعا في بلوغ المحال، فيكون هذا الحال نذيرا بطَور من الجمود ومقدمة لدخول الأمة في أزمنة سود، يستشري فيها الخلل وتكثر فيها العلل ويغدو النسق المنظوم منفرطا، والسير المحكوم منخبطا، فينصرف عمل الفرد ضد الأمة، وينحرف عمل الأمة ضد الفرد، وينخسر ميزان التقويم، ليصير الطالح ملتبسا بالصالح، فيسير الناس سير المكبين بعد انطماس معالم الصراط المستقيم.   

ومما ينبغي قوله في أمر فاعلية المجموعة أنها مغايرة في خواصها لفاعلية الفرد من حيث افتقادها لصفة الانبثاق التلقائي المباشر، فهذه الصفة مقصورة على فاعلية الذات الفردية وحدها، لأنها محل الوعي وخزان الإرادة ينبثقان منها انبثاقا أصليا ابتدائيا، أما المجموعة فهي حاصل حمل صفة المجموعية على كثرة من الذوات الفردية، وهي بهذا الاعتبار ليست إلا بناء ذهنيا يفتقد لوجودية واقعية أصلية مثل التي للذات الفردية، بل وجوده مرهون بتمثل هذه الذات الواعية في سياق فاعليتها الأصلية ضمن مسعاها التدبيري التوجيهي العام لِشؤون المجموعة. غير أن هذا البناء الذهني ومتعلقاته العملية قد يبعثان في المجموعة طاقة الفاعلية كما تنبعث الحياة في أخلاط الطين، فإذا أحسن تقدير هذا البناء بأوجه من النظر تراعي مبادئ التناسب بين الأجزاء والكل، وترجم ذلك بأضرب من العمل التنسيقي التدبيري الذي يحفظ ما تحصل في طور النظر ويبدع في إنفاده وإجرائه، كانت المجموعة رافدا جديدا من روافد الفاعلية.

والخلاصة إن الذوات الفردية بهذا المعنى أساسات ومراجع والمجموعات بناءات وتوابع، ليس في مكنتها الاستقلال بأمرها ولا في مقدورها الوعي بذاتها بل زمام أمرها بيد الذات الفردية التي لها السيادة والقيادة. وبعبارة أخرى إن فاعلية المجموعة فاعلية مكوَّنَة قياسا إلى فاعلية الذات الفردية التي هي فاعلية مكوِّنة.

ولعل هذا الرأي يبدو مثيرا لبعض الحفائظ، إذ كيف يصار إلى تسييد الذات المفردة وتقديمها على المجموعة ورهن مصير هذه بتلك، على الرغم من أن النظر في أحوال الأمم المرتكسة ينبئ بأن بلاءها الأعظم إنما هو تحكم الواحد المفرد وتغلب الذات الطاغية في المجموع تسوسه كما تساس النعاج، وتتأله فيه بغير داع حق. إن هذا الاعتراض غير متوجه على هذا المذهب الذي بسطناه لاعتبار أساس هو أن قولنا هذا إنما يتقصد فهم طرائق انبثاق الفاعلية والوقوف على مظانها الفعلية وفحص أوجه الانتظام بين سهم الفرد وسهم المجموع في اندفاق طاقة الفعل البدئية، ثم النظر في صور تولداتها اللاحقة من حيث كيفياتها وأوجه تصريفها، وليس قصد هذا القول خلع الشرعية على نمط من أنماط العلاقة بين الفرد والمجموع، فهذا السؤال لاحق بالنظر إلى قولنا، والقول فيه لا ينفعل انفعالا خطيا بما ذهبنا إليه من أسبقية الفاعلية الفردية على مظاهرها الجمعية، لأن هذه الأسبقية أسبقية وجودية توليدية وليست أسبقية تدبيرية تنسيقية.

ولو شئنا التفصيل في الرد على الاعتراض الذي أوردناه أعلاه لقلنا إن الفرد الطاغية(الديكتاتوري) ذاته لا يطغى حين يطغى فردا، وإنما يحشد لطغيانه حشدا، يسخرهم تسخيرا، ويجمع لذلك جماعات يوظفها توظيفا، وكذلك فالجماعة في سيادتها(الديموقراطية) لا تسود حين تسود بغير الأفراد الأفذاذ الذين يحملون ألوية الوعي الذي ينتصر للمجموع (الأمة) ويدافع عن حق هذا المجموع في تدبير أمره بنفسه، ولن تعوزنا الشواهد من حوادث التاريخ وتصاريفه في الأمم، فخلف كل نهضة أمة نبضة فرد، وكل حضارة عظم شأنها لا شك أنها خرجت من معطف روح فردية وتَّرها الوعي الذاتي وشحذت همتها الإرادة التواقة للفعل والعطاء. والخلاصة أن الفردية تعلو في سائر الأحوال ولها سبق الرتبة على الدوام من جهة إبداع الفاعلية وتوليدها، سواء تم ذلك جهة المشروع التفريدي (سيادة الفرد) أو جهة المشروع التحشيدي (سيادة الحشد).

بل قد يمضي بنا السبيل في استخلاص النتائج من هذا القول لنقرر إن من أسباب هوان الأمم تضخم خطاب الجمع فيها على حساب خطاب الفرد، وهو ما ينشأ عنه ميل إلى التحشيد على حساب التفريد، فتكثر التجمعات والتحزبات وينسحق الفرد تحت عجلات الحشد الذي يسير سير القطيع خلف القائد الفرد القابض زمام الأمور بيد من فولاذ، والباسط ظله على التابعين فلا يكاد يُرى منهم إلا هو، بدل أن يشيع فيهم ما بفضله كان هو هو، ويجعل منهم أفرادا أفذاذا متألقين يدانونه في الفعل ويفوقونه فيه إن أمكن، فتزكو بهم مقادير الفاعلية بما به يزكو عديد الجماعة قياسا إلى أحدية الفرد. وهذا لعمري حال المجموعات في غالب ما عليه الناس في هذا الزمان، فهي أضحت مقابر للفاعلية و"قماقم" يُصفَّد فيها الأفراد ويحال بينهم وبين الانطلاق في آفاق الإبداع، بدل أن تكون خزانا ينعش الروح الفردية ورياضا تتبرعم فيه الطاقات وتتألق فيها العطاءات. وهذا باب للنظر دقيق لم يستوف حقه من التحقيق، نكتفي فيه بهذه الإشارات والتنبيهات ونترك مجال التوسيع لأوان غير هذا الأوان.

ونعرج الآن على القول في صلة الوصل بين الذات الفردية التي هي منبع الفاعلية الأصلية والمجموعة التي هي رافد من روافدها البعدية، يتعلق الأمر بـ "الفكرة المفعّلة"، فالفكرة المفعلة ثمرة إنعام النظر من ذات (أو جماعة من الذوات)، وهذه الفكرة تلعب وظيفة مزدوجة بمقتضى خصائصها المقومة لطبيعتها، فهي من ناحية فكرة جامعة لما لها من قدرة على استقطاب طاقات الفاعلين المفردين وتوجيهها نحو الهدف الواحد والوجهة المشتركة، فيكون حاصلها توحيد الإرادات وتحشيد الولاءات وتركيز الفعل في محل واحد. وهي من ناحية أخرى فكرة دافعة لأنها تجعل أنظار الفاعلين تتطلع إلى الأمام وخطواتهم تتقدم على الدوام، فيتسارع الأداء الجمعي بفعل قانون التنافس الذي يشتغل كلما توحد ميدان الفاعلية ويضعف كلما تشعبت مجالاتها أو تضاربت منازعها. وهذه الفكرة المفعلة الجامعة الدافعة هي التي يصطلح عليها أحيانا في اللغة الدارجة بـالمشروع، ولفظ "المشروع" العربي هو تعريب للفظ الأجنبي projet (الفرنسية) الذي يعود في أصله إلى اللفظ projectum (اللاتينية) وهو يفيد إلقاء شيء جهة الأمام، وهذا حال الفكرة المفعلة أو المشروع، فينبغي أن يكون أماميا لا خلفيا، منهضا لا مركسا، موقضا لا منعسا، فلا قوام لجماعة بلا مشروع جامع دافع، وأمة بلا مشروع مجرد مشروع أمة.


تاريخ النشر : 09-05-2009

6319 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com