آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

التجديد والنهضة  .  إتجاهات الإصلاح

فلسفة التجديد    |    قضايا التجديد    |    التعليم و المناهج

  •     

الفصام في الفكر العربي المعاصر

محمد عادل شريح


العنوان الأصلي : الفصام في الفكر العربي المعاصر

تأليف: غريغوار منصور مرشو

الناشر: دار الفكر

سنة النشر    : 2007

عدد الصفحات:350

                  

لا يعد مفهوم "الفصام" جديدًا في كتابات الدكتور "مرشو"؛ فقد كتب من قبل "أيديولوجيا الحداثة بين المثاقفة والفصام الحضاري"، وأبرز فيه البعد النفسي في عمليات التفاعل الحضاري التي تمت بين الفكر العربي والقيم الغربية الحديثة. وتسعى هذه المقاربة الجديدة إلى دراسة الأشكال والآليات التي تمت عبرها عملية الاتصال الثقافي، بين الثقافة الغربية المهيمنة والثقافة المحلية المستتبعة، تلك العملية التي أدت إلى حالة من القطيعة مع الذات، وإلحاق هذه الذات الثقافية بالآخر المهيمن، في نوع من علاقة السيد بالعبد والتابع بالمتبوع، ذلك أن هذا الاتصال لم يكن قائمًا على أساس من التفاعل الثقافي بين متكافئيْن، بالمعنى النفسي والمعرفي، وإنما على أساس من التلقي والتبني والانقياد الذي يبديه المغلوب تجاه الغالب، وهذا ما يفسره ابتداءُ البحث بمقولة ابن خلدون في مقدمته، عن ولع النفس بالانقياد للغالب واعتقادها الكمال فيه.

ويبدو أن كتاب الدكتور "مرشو" يأتي مكملاً لما بدأه في كتابه الأول "مقدمات الاستتباع" [1] الذي كرسه لدراسة آليات تصنيع الغرب لذاته في وعي الشعوب الشرقية عمومًا، هذا التصنيع الذي عمد إلى إبراز التفوق الحضاري والعلمي والأخلاقي - وحتى العرقي - للغرب قياسًا بالشعوب والحضارات الأخرى.

أما في كتب "مرشو" اللاحقة، وخاصة في كتابه الأخير، فقد عمد إلى إبراز الشق الآخر للعملية، المتمثل في أدوات وأشكال تلقي النخب المحلية لهذا النموذج، وكيفية تبنيه واستنباته في البيئة المحلية، دون مراعاة الواقع التاريخي والحضاري لهذه المجتمعات.

ويؤكد "مرشو" على أهمية هذه اللحظة المؤسسة، وضرورة التعمق في دراستها، ليس لكونها لحظة تاريخية مهمة عاشها الفكر العربي وانقضت، وإنما للتأكيد على مركزيتها ومحوريتها في واقعنا الراهن، ليس على المستوى الفكري وإدراك مقدمات التشكلات الفكرية المعاصرة، وإنما على مستوى الواقع السياسي والاجتماعي، وفي أكثر قضاياه مباشرة وملموسية؛ فواقع الاستبداد السياسي مرتبط بأزمة مفهوم الدولة غير المستقر في الفكر العربي، ذلك الذي مر عبر انهيار النموذج التقليدي (المتمثل بالدولة العثمانية) تحت شعارات الإصلاح والتحديث، وتنازع النماذج المتعددة من قومية وإقليمية ووطنية وطائفية وجهوية، لتحقيق النموذج الحداثي المأمول الذي لم يتحقق في الواقع، لا بالمستبد العادل ولا بالنزعات العسكريتارية الشمولية.

لقد عاش الخطاب الحداثي العربي - على اختلاف تلوناته ما بين علمانية وإصلاحية إسلامية أو قومية وماركسية - أسير هذا الفصام الذي أنتج في وعي النخب نموذجيْن متباينين: نموذج الثقافة الشعبية التقليدية "القروسطية" المتأخرة والموسومة بالتعصب العقدي، كما يراها ممثلو النخبة، مقابل نموذج "كونية الثقافة اليونانية وأولوية العقل على الإيمان"، وتقدُم النماذج الحضارية الغربية وتطور علومها ومناهجها. وقد انتقل هذا الخطاب الذي أنتجه المستعمر وقدم نفسه من خلاله، ليصبح خطابًا محليًا تروجه النخب المثقفة، وترى ذاتها ومجتمعها وتاريخها ومقدّسها من خلاله.

الحداثة الآتية من الغرب

عبر ثلاثة فصول هي القسم الأول من الكتاب، يقدم المؤلف المسارب الفكرية والعملية، التي تحول فيها ومن خلالها النموذج الغربي المستبطن في وعي النخب العربية الجديدة، إلى وقائع وتحولات شكلت ما سمي بعصر النهضة والإصلاحات وبناء الدولة الحديثة. وقد بدأت هذه التحولات أولاً في الدولة العثمانية، التي عاشت عددًا من التحولات السياسية والعسكرية، والاجتماعية والاقتصادية والحكومية، منذ عهد السلطان سليم الثالث (1789-1807) حتى عهد السلطان عبد الحميد (1876-1909).

ويستعرض "مرشو" عددًا من هذه المسارات، التي لا تُمثل بذاتها مؤشرات مستقلة بقدر ما تمثل المسار الذي تعمقت فيه آليات وأدوات الهدم لكل البنى القديمة، على مستوى الاقتصاد والاجتماع والبناء الحكومي، ليس لخدمة وتطوير هذا الكيان، وإنما لزيادة فرص الهيمنة الاقتصادية والسياسية عليه من قِبل الدول الأوروبية، لا سيما وأن هذه التحولات كانت تتم في إطار ما يسمى "استبطان النموذج الغربي"، وفي ظل تنامي رغبة قطاعات واسعة في التقليد الأعمى للغرب.

وقد قاد ذلك إلى ولادة فئة تعلن عن هوية جديدة في قلب المجتمع العثماني، عبرت عنها المجموعة الكمالية بقولها: "نحن أوروبيون، وهذا هو انتماؤنا بالإجماع كلنا. هذه العبارة على لساننا مثل جوقة النشيد العسكري المثير على نحو خاص، وعلى شفاه الفقراء والأغنياء، والشباب والشيوخ. أن تكون أوروبيًا هذا هو مثالنا" [2].

في المشرق العربي، كان محمد علي قد وضع نصب عينيه شعار بناء الدولة الحديثة كحل للواقع المتردي، الذي تكشفت عنه أحوال البلاد بعد الغزو النابليوني لمصر. وإذا لم يكن في هذا الشعار ما يعيب؛ فإن أدوات محمد علي لتحقيقه أدت في المحصلة إلى فشل هذا المشروع، وإلى وضع مصر تحت هيمنة ووصاية الدول الأوربية.

لقد رأى محمد علي أن الواقع مغرق في الانحطاط، فقرر قطع صلته بالموروث الثقافي والاجتماعي والاقتصادي المحلي، وعمل على استجلاب نماذج وحلول جاهزة، عبر الاستعانة بالأوروبيين ممثلي النموذج الحضاري والتقدمي الذي كان يسعى إليه، وصاغ محمد علي كل مشروعاته الزراعية والصناعية بما يتواءم مع ضرورات ومتطلبات الاقتصاديات الغربية. وعلى هذا ظلت مسيرة التحديث التي انتهجها محمد علي غريبة، ومعزولة عن الواقع الاجتماعي والثقافي المحلي، بل وربما متعارضة معها إلى حد كبير. لكن الأثر الأكبر لإصلاحات محمد علي كان على مستوى تعميق التبعية الفكرية والثقافية للغرب، نتيجة للتدريب المنهجي للنخب المبهورة بالغرب والمدجنة لصالحه، التي شكلت قنوات وأدوات الهيمنة الثقافية للمستعمر في المنطقة.

 

المرآة هو الآخر

في الفصل الثاني من القسم الأول، يتوقف المؤلف أمام عدد من ممثلي هذه النخب الجديدة، وهي برأيه نخب مغربة مقتنعة بعالمية النظم والقيم الثقافية والأخلاقية، والسياسية والاقتصادية الغربية إلى حد كبير، ويتوقف بنا مع رفاعة الطهطاوي، وقاسم أمين، وأديب إسحق، وفرنسيس المراش، وفرح أنطون، وغيرهم ممن عمل على التأسيس لاستنبات النموذج الغربي في البيئة العربية. وهو يقدم لنا أنماطًا من تلك النخب تحت عنوان "المرآة هو الآخر" والتي يتماهى فيها الآخر المتخيل في وعي ممثل النخب الجديدة، بما كان يجب أن تكون الذات عليه.

يقول الطهطاوي - في محاولة لإضفاء الشرعية على النقل العلمي والحضاري عن الغرب - في كتابه مناهج الألباب: "إن هذه العلوم الدقيقة العملية، التي تبدو الآن علومًا أجنبية هي علوم إسلامية، والأجانب هم الذين ترجموها عن الكتب العربية". هذه المقولة تمثل خير تمثيل تلك الرغبة في التماهي مع الآخر، الرغبة التي كانت مسيطرة آنذاك على وعي ممثلي النخب الجديدة، سواء في قراءتهم للتراث كما فعل فرح أنطون، أو في قراءتهم للواقع كما فعل فرنسيس المراش، أو في تحديدهم لصورة المستقبل المنشود حضاريًا، كما فعل يعقوب صروف وطه حسين ولطفي السيد. وهو ما يحمل "مرشو" على استنتاج أن "هذا الموقف المهووس حيال النموذج الغربي (صورة المستقبل) لا يحوّل فقط دور الإنتلجينسيا (النخبة المثقفة) إلى دور المستهلك الخالص للأفكار، وإنما يجعل من أعضائها سماسرة مروجين للتيارات الثقافية، وأنماط فكر الآخر على أساس أنه الشرط الضروري للمشاركة في محفل الحضارة الغربية الكونية. لهذا السبب نصّب هؤلاء الرواد الحداثيون أنفسهم - ومن خلال منظار الآخر - قضاة في مجتمعاتهم من أجل تحرير سكان الجنوب من "الشرقي المنحط"، وهو النعت الذي اتخذ بمثابة لعنة ملصقة بجسدهم" [3].

إن هذه الآلية النفسية المعرفية - التي يتحدث عنها المؤلف - تمثل المقاربة الرئيسية في معالجته للنصوص والأفكار موضع البحث والدراسة، حيث نجد الرغبة في التماهي مع الآخر الغربي، والسعي المحموم إلى الاقتراب منه على كافة خطوط التماس الفكري والسياسي والاجتماعي والتلفح بردائه، هذه العوامل كانت هي الدافع الأعمق لكثير من الممارسات الفكرية التي وسمت تلك المرحلة، ولا تزال امتداداتها موجودة في حاضرنا اليوم.

فعلى أساس من منظور علماني رأى فيه ممثلو النُخبة الفكرية الجديدة خشبة الخلاص للشرق المتخلف، قام هؤلاء بممارسة نقدهم للموروث الديني، ودوره في المجتمع وبناء الدولة، معبرين عن قناعة لخصها "شبلي الشميل" بقاعدته التي تقول إنه: "لا يصلُح حال الأمة إلا كلما ضعفت فيها شوكة الديانة، ولا يقوى شأن الديانة إلا كلما انحط شأن الأمة" [4].

هذه القناعة بشأن الدين ترافقت مع قناعة أخرى أشبه بالإيمان الجديد، وهي الإيمان بالعلم الحديث، وإنجازاته التي سحرت الأنفس وبهرت العقول، حتى صار العلم الحديث هو الشعار الأبرز، والحجة الأقوى في أيدي دعاة الاستنبات الحضاري الغربي في الشرق العربي، وصارت الفلسفات والنظريات الغربية عناوين بريدية لممثلي النخبة الفكرية الجديدة؛ فشبلي شميل هو سفير فلسفة النشوء والتطور، وهو ممثل بوخنر في الشرق، وإسماعيل مظهر يتحزب لداروين ونظريته في أصل الأنواع، أما سلامة موسى الذي نشر أول كتاب له بعنوان (مقدمة السوبرمان) فقد صار وكيل نيتشه، وممثل الاشتراكية الفابية في الشرق.

 

الإصلاح الإسلامي والحداثة

في الفصل الثالث، تحت عنوان (الإسلام أمام الحداثة)؛ يتوقف المؤلف أمام الجهود النظرية والعملية لتيار الإصلاح الإسلامي، ممثلاً برموزه الأساسيين (الأفغاني – عبده – رشيد رضا). ويرى المؤلف أن الأفغاني الذي أدرك ما سيؤول إليه واقع الدول الإسلامية في ظل معرفته المباشرة للغرب وتوجهاته، وفي ظل إدراكه لواقع حال المسلمين، بقي حبيس التجاذب بين تعلقه بتاريخ وثقافة الشرق ودفاعه عنهما، ورغبته الشديدة في التماهي مع الغرب باعتباره نموذجًا للتقدم والحضارة، إذْ ذهب إلى أن الدواء الأكيد لكل مشاكل وأمراض المسلمين يكمن في منظور "الدولة/ الأمة" الحديثة، التي كانت مرتهنة آنذاك بيد توازن القوى بين الأمم الكبيرة.

وإذا كان الأفغاني قد كرس أغلب جهده في المسائل السياسية؛ فقد توجه تلميذه محمد عبده نحو القضايا الفكرية، فخاض سلسلة سجالات مع كل من: أرنست رينان، وفرح أنطون، وهاناتو، أفضت به – كما يعتقد "مرشو" – إلى "الاعتراف بمعظم ما تقدم به كل هؤلاء من حكم على عالم المسلمين بالانحطاط المتعدد الأبعاد" [5].

أما دفاعه عن الإسلام والمسلمين؛ فقد اتبع فيه سيرة غريبة، إذ عمد إلى نبذ كل ما رآه سلبيًا من واقع المسلمين واعتبره غير إسلامي، ثم نسب كل ما رآه إيجابيًا في حضارة الغرب إلى الإسلام الحقيقي. كما انتقد عبده المذهب الكاثوليكي، ولم يخف إعجابه بالمذهب البروتستانتي، لكنه أرجع فضائل الأمم البروتستانتية إلى احتكاكها مع المسلمين.

ومضى يشيد بموقع العقل في الحضارة الغربية، مؤكدًا أن الإسلام هو دين العقل، وذلك دون النظر بعين الاعتبار للكثير من الفروق في الفهم، أو في التطور التاريخي للمفاهيم والممارسات العقلية. لذلك يرى "مرشو" أن: "عقلانية عبده جاءت على نحو دفاعي تبريري، لتعانق التحصيل الحاصل، دون إعمال الفكر لاجتراح عقلانية مبدعة، تفكر بإمكانات الواقع وتنقد عقلانية الآخر التي احتسبت كونية" [6].

وإذا كان الجيل الأول من الإصلاحيين قد بذل جهده في محاولة تطهير الإسلام، وإنشاء نوع من التناظر بين مبادئ العقل والعلم في الإسلام ونظيرتها في الغرب؛ فإن الجيل الثاني من الإصلاحيين سوف يجتهد لمطابقة مفهوم الدولة الإسلامية مع نموذج "الدولة- الأمة" الحديثة في الغرب. ونجد بداية هذا النزوع عند الأفغاني، وعند عبده إلى حد ما، وهو يبلغ ذروته مع تلميذ مدرسة الإصلاح (علي عبد الرازق)، صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، الذي ينفي فيه مسألة الخلافة جملة وتفصيلاً، ويقول إنه لم يجد في القرآن ولا في السنة ما يؤكد الرأي الذي يقول بوجوب تنصيب الإمام، ولكي يدعم حجته فهو يحيلنا إلى كتاب "الخلافة" للسير توماس أرنولد.

متاهة الوعي والتشكل الكاذب للوعي الوطني

في القسم الثاني من الكتاب، تحت عنوان "متاهة الوعي" يتوقف الكاتب بالتحليل المعمق لآليات تشكل مفهوم "الأمة – الدولة"، باعتباره نموذجًا لتحقيق التقدم وإنجاز القفزة الحضارية، لكن بناء مفهوم الدولة الحديثة يتطلب هدم نموذجها القديم.

ومن خلال التتبع التاريخي والفكري لأنماط الوعي والممارسة العربية؛ يبدو جليًا أن النخب الجديدة أفلحت في عملية الهدم، ولكنها لم تفلح في عملية البناء. هذا إضافة إلى عدد من مرفقات وتوابع هذه المفاهيم الجديدة المستجلبة، التي من أهمها أن بناء مفهوم الدولة/ الأمة يتطلب تكريس كل الجهود لمكافحة وإزالة الدين، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الوعي المجتمعي، لكن هذه الجهود لم تفلح كذلك سوى في استجلاب نماذج شمولية، يمكن كذلك تسميتها بالأديان الجديدة، سواء منها القومية أو الاشتراكية.

من مرفقات وتوابع هذا الوعي الجديد المتشكل والمستمد من مقولات منسوخة عن ماركس بألا نكتفي بتفسير العالم، وإنما نعمل على تغييره؛ كان الجيش هو الأداة الأسرع والأكثر فعالية للتغيير، مما أسس للاستبداد كسياسة وحيدة لتحقيق القفزات الكبرى نحو التقدم المأمول، والخروج من أسر رجعية وظلامية الوعي الجماهيري المتمسك بالقديم.

كل هذه المقدمات أدت في المحصلة إلى تفكيك "الدولة"، مما تمخض عن الدولة القُطرية، وتفكيك "الأمة" الذي تمخض عن أمم ومجموعات عرقية ودينية، وأيديولوجيات إقليمية وقُطرية أسست لما يسميه الكاتب بالتشكل الكاذب للوعي الوطني، الذي عبرت عنه الهويات والانتماءات المختلفة المكرسة للتفرقة القبلية والطائفية و"الأقوامية" والجهوية والعرقية.

يُمثل هذا الحال خير تمثيل الواقعُ اللبناني، ونموذجه الخطاب الماروني الذي يرى "مرشو" أنه قد نشأ كمشروع في الساحة الدولية قريبًا حوالي عام (1838م)، وقد رعته فرنسا، وأسست له كمشروع لإقامة وطن للمسيحيين في الشرق العربي. ويشير المؤلف في كتابه هذا - ومن قبلُ في كتابه "مقدمات الاستتباع" - إلى أن هذا المشروع هو الشق الآخر للمشروع البريطاني الهادف إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين.

يمثل (ميشيل شيحا) الخطاب الماروني خير تمثيل؛ فهو المنظر للأيديولوجية "القومية اللبنانية" بامتياز. ويتوقف المؤلف بشكل تحليلي ونقدي مفصل أمام مكونات هذا الخطاب، فهو يمثل بحق أعلى درجات الوعي المزيف، الذي أفرزه تفكك الدولة والأمة بمعناهما التقليدي، الذي ظل مهيمنًا حتى نهاية عهد الدولة العثمانية. فبالنسبة لميشيل شيحا؛ يبدأ التاريخ الرسمي للدولة اللبنانية يوم غزا الجنرال "غورو" لبنان، لذلك يقول" لقد كان يوم الأول من أيلول عام 1920 يومًا مصيريًا بالنسبة إلى لبنان، إذ به عرف الولادة والنهضة معًا" [7].

ويسترسل ميشيل شيحا في تقرير مقومات الشخصية اللبنانية الحضارية والتاريخية، وخصوصية البلد، وخصوصية المكان والإنسان، وغير ذلك من مكونات البناء الأيديولوجي لأي فكر قومي مصنّع. أما الهدف من كل ذلك فهو عزل لبنان عن محيطه العربي والإسلامي، بل وحتى عن تاريخه وانتماءاته وتطلعاته.

ويذهب منير شمعون إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تقوده دراساته الأنثربولوجية إلى تلمس الخصوصية الإثنية للنموذج "السلالي" اللبناني، ليؤكد في نهاية بحثه على فرادة وخصوصية الشخصية اللبنانية.

من خلال هذا النموذج لأنماط الوعي الزائف المتشكلة، يواصل "مرشو" تحليله لنماذج أخرى؛ كالنموذج المصري "القومية المصرية"، كما عبر عنها لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين وغيرهم. والحقيقة أن كافة أنماط الوعي المُنتج من قِبل شرائح النخبة المستلبة للنموذج الغربي - سواء القُطرية منها أو الإقليمية أو حتى القومية - وكل ما أنتجه مثقفو المرحلة الماركسية ودعاة البناء الاشتراكي، يرى الكاتب في كل تلك الأنماط نموذجًا لهذا الوعي المزيف، الذي أسس لكل أشكال الزيف الفكري، والسياسي والسلوكي، والاجتماعي الذي تعيشه الشعوب العربية في واقعها الراهن.

لقد كان محصلة ذلك كله أن "هذا النمط من الفكر الوافد بطريقة استهلاكية عرّض المجتمع إلى سلسلة من الخرائب: جوف الأرض مفرّغ، تربة منهكة، قطاع زراعي مدمر، شبيبة ممزقة مبعثرة عائمة ضحية للمنافي، وسكان مهمشون مجوعون، وكفاءات مهدورة، مُحَوَّلة بالمزايدات إلى أيدي عاملة رخيصة مصدرَة للبلدان الصناعية" [8].

 

تعقيب ختامي

من خلال هذا الاستعراض لأبرز مقولات كتاب "الفصام في الفكر العربي المعاصر" يتضح أنه دراسة نقدية شاملة لكل أسس وتفرعات الفكر العربي الحديث، منذ بداية ما يسمى بالنهضة حتى يومنا هذا. وقد اعتمد الدكتور "مرشو" في كتابه على آليات التحليل النفسي المعرفي.

وإذا ما أردنا التوقف بالنقد أمام الكتاب؛ لقلنا إن النقد الأهم الذي يقدمه عادة ممثلو الحداثة العرب إلى مثل هذه الدراسات هو التالي: ما البديل الذي يقترحه المؤلف، إذا كانت كل هذه التوجهات الفكرية والسياسية - التي أنتجتها المرحلة الحديثة - هي محصلة فصام فكري عاشته النخب العربية ولا تزل تعيشه؟

والبديل كما نعتقده هو نمط من الممارسة الفكرية، قائم على أسس مختلفة عن تلك الحالة من الاستلاب العام التي أنتجت كل مظاهر الفكر والسياسة، والبنى المجتمعية المشوهة. ولعل المراجعة العميقة هي أولى الخطوات نحو هذا البديل، وهو ما نهض به الكتاب في رأينا.

والحقيقة أن هناك ما يشير إلى مثل هذا الجواب للسؤال المفترض الذي طرحناه، يقدمه المؤلف في الفقرة الختامية لكتابه حيث يقول: "إن هذا السجال الدائم والمكرّس للتنافر ما بين العقل واللاعقل، ما بين العقلاني واللاعقلاني، لا يعمل في الواقع إلا على التسويف من أجل تفادي، لا بل تأخير المراجعة الضرورية الجذرية لكل هذا الفائض من الأفكار الجاهزة" [9].

لكن تبقى ملاحظة ختامية، فمع إقرارنا للبعد النفسي في مجمل التحولات الفكرية التي حصلت في المنطقة العربية، يبدو أن المؤلف (بحكم اهتمامه بالتحليل النفسي) يستغرق في تحليله الذي يمكن أن نسميه "النفس– معرفي" إلى درجة كبيرة، بحيث يخترق هذا النمط التحليلي كل فصول الكتاب، وهو ما يبدو بوضوح في أسلوب ومفردات الخطاب. لننظر في هذه الفقرة مثلاً: "إن هذه الحملة التي تهدف إلى تذنيب المواطنين، وجعلهم موضوعًا، ونزع شخصياتهم أو تشويه التجاذبات الجماعية التي تربط فيما بينهم أيضًا ، سوف تحض الرعايا المقزّمة والمتدنية على الهروب إلى كنف الدولة، كمهرب وحيد للنكران، والتعويض الوهمي بهذه الفعلة عن عقدهم. وحينما يصبح هؤلاء في السلطة؛ سوف يغتنمون الفرصة بدورهم لإبعاد منافسيهم، وتكرار اللازمة ضد المجتمع ذاته، انطلاقًا من هذه الآلية...." [10].

أو هذه الفقرة: "نرى هنا، أنه يكفي التعبير الأيديولوجي أن يزعم تماهيه مع الواقع حتى ينعكس كاملاً في الفكر. في الواقع، ما يقوم به شميّل هنا ما هو إلا إسقاط تهويمي لأفكار جاهزة يحاول من خلالها إقناعنا أنها الواقع ذاته" [11].

أو الفقرة التالية: "بهذه الروح التشريطة السلوكية القسرية، وفي ظل ضغوط المحتل الإنكليزي وتوجهاته المشروطة، دعا عبده إلى ضبط وتدجين رعايا الأمة. غير أنه لم يعبر هنا إلا عن الميل الكامن أو الظاهر للحداثيين..." [12].

وعلى الرغم من ذلك كله، ومع كثرة الأدبيات التي تناولت هذه المرحلة التاريخية وإشكالاتها، يبقى كتاب "مرشو" – مع ما يمكن أن يثيره من جدل في الوسط الثقافي العربي – بالإضافة إلى مجموعة كتبه السابقة، من أهم المحاولات النقدية الجادة والمعمقة في الفكر العربي الحديث.

____________

* باحث وكاتب فلسطيني.

[1] غريغوار مرشو، مقدمات الاستتباع، الشرق موجود بغيره لا بذاته (القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996).

[2] غريغوار مرشو، الفصام في الفكر العربي المعاصر. ص 33

[3] انظر: الفصام، ص 89.

[4] انظر: الفصام، ص100.

[5] انظر: الفصام.. ص 130.

[6] انظر: الفصام، ص 137.

[7] انظر: الفصام، ص 238.

[8] انظر: الفصام، ص 337.

[9] انظر: الفصام، ص 350.

[10] انظر: الفصام، ص 234.

[11] انظر :الفصام، ص 107.

[12] انظر: الفصام، ص 155.



تاريخ النشر : 30-05-2009

6364 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com