يكاد يكون تناول مسالة التجديد الدّيني من زاوية الفقه، دون سواها،توجّها ثابتا في الفكر العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة. و يبدو أنّ عمل بعض الباحثين ( محمد شحرور في سوريا وجمال البنّا في مصر وبعض النسوة في تونس ممّن يمزجن بين النسوائية كنشاط مدني وحقوقي وبين اجتهاد المرأة في الدّين أو فقه الأسرة والمرأة) في هذا الشأن دليل على تذبذب الوضع الفقهي الموروث واهتراء آلياته، أكثر منه اقتراحاً للبديل من الأحكام والفتاوى التي تطمئن القلوب .فمزية أعمال هؤلاء هي فقط المساهمة في إحداث الرجّة لدى العام من المسلمين لكي يتفطّنوا أنّ الوضع الفقهي فعلا ليس في مستوى تطلّعاتهم،وأنّ السياسي لن يتمّ إصلاحه بإصلاح الفقه، بل أنّ العكس هو الصحيح ، وبناءا عليه سيتفطّنون إلى أنّ الفكر – وليس الفقه – هو الذي لا بدّ أن يراجع نفسه لكي يكون قادرا على إصلاح السياسي، ومنه ما هو فقهي وتشريعي.
إنّ شيئا ما في صلب العمل الذي يقوم به هؤلاء المحاولين لا يتماشى مع مستلزمات التغيير السياسي والاجتماعي إن اعتبرنا هذا الأخير نتيجة للتّحرر الفكري وما سينجزه في باب إزالة ما كان يكبّل العقل ويمنعه من البناء فوق أرضية صلبة. إذ سرعان ما يدرك المرء أنّ القلق، كلّ القلق، متأتّ من علاقة قائمة بين "التغيير بواسطة الفقه" و"التغيير بواسطة التعصير" بما معناه أنّ القلق، أوّلا، بلغ أشدّه لمّا تسبّب الإفراط في التعصير في ظهور الإسلام الاحتجاجي والأصولية في السبعينات من القرن المنقضي، وثانيا، لمّا تحوّلت حدّة القلق من تلك البؤرة إلى بؤرة تسييس الإسلام و"تفقيهه" بمعنى اختزال الدين والسياسة والفكر في الفقه. والخطير في الأمر أنّ عدوى " التفقيه " مرّت من الإسلاميين إلى مناهضيهم من العلمانيين المؤمنين، فصار المشكل اثنان: مقاومة الفكر الاختزالي لدى الإسلام السياسي بواسطة فكر اختزالي متأسلم.
فمن المؤكّد تقريبا أنّ تسييس الإسلام (من مرحلة الإخوان إلى المرحلة الرّاهنة) كان وما يزال، ربّما، ردّة فعل على تنميط سلوك الإنسان العربي وهو تنميط متأتّ من فشل المجتمع في التحديث الصحيح أو في تجذير قيم الحداثة في النسيج الثقافي الداخلي. وقد حدث ذلك النوع من الانبتات لدى الفرد والمجتمع بالاعتماد أساسا على وسائل مثل التصنيع والمكننة والتمدّن دون سواها، وبما رافق ذلك من تبعات الخطأ في تشخيص العلّة :عدم انسجام واقع المسلم مع معتقداته. إلاّ أنّ الفكر السياسي العلماني العربي، وهو الذي أنتج وسيلة "التغيير بالفقه"، يخطأ،هكذا، في الإنجاز الحداثي (الصناعي والتمدّني وغيرهما) وفي الوقت ذاته يفرز من صميمه فكرا يلوّح إلى الإسلام كبؤرة تستوجب الإصلاح وإعادة الترتيب والتأويل. وبذلك يكون قد كرّر هذا الفكر نفسه، وهذه المرّة بثقة مغلوطة طالما أنه، بتلك الطريقة، يعتبر نفسه (خطأ) مقاوما للتكرار والتقليد والاتّباع. كيف ذلك؟
يبدو أنّ الفكر العربي يشتغل منذ عقود في وضع الخصم والحكم في الآن ذاته إذ أن الفعاليات الفكرية لم تنفكّ عن استخدام نفس الأساليب والآليات البالية التي أنتجتها على امتداد عصور الانحطاط ثقافة التكرار والاتّباع.ومن أخطر ما أنتجت هذه الأخيرة المنهجية "النقدية" الخالية من وسائل النقد الذاتي. وهذه المنهجية هي التي وجّهت الفكر السياسي العلماني نحو الإسلام فزيّنت للعقل مسلّمة ضمنية :" لا بدّ من إصلاح الدين لأنه لا يتماشى مع العصر".ولكن كيف يمكن للخصم، وهو معوق على تلك الشاكلة، أن يكون حكما منصفا؟
وقد تعالت الأصوات بالفعل في اتّجاه مزعوم لإنقاذ الدين من نفسه (هكذا) وفي الغرض نفسه تعدّدت المحاولات في العالم الإسلامي بأسره. والغريب أنّ معظمها يريد أن يقول للمسلمين :"نحن لسنا أصوليين بل إننا نعارضهم وما نراه ضروريا حقّا يتمثل في الحرّية، حرية نقد الدين وقراءته قراءة معاصرة سوف تضمن لكم السعادة المستديمة". ولكن ما لم يقع في الحسبان عند هؤلاء المرشّحين أنفسهم للإصلاح أنّه قد يتساءل مسلم عند استماعه لهذا الوعد: "وأين حريتي في كلّ ذلك؟ وهل أنّ حرية تأويل الدين هي حريتي؟". وقد يمضي المسلم قدما في تصريف الحيرة الأصلية متسائلا عمّ إذا كان فقها جديدا سيساعده على استعمال المطريّة حين ينزل المطر وليس قبله ولا بعده، وعلى الضحك حين يبلغ مسمعه ما يضحك وليس حين يسمع ما يبكي، وعلى الامتناع عن الارتباك في مشيه وفي سيره بمجرّد أن تغدق السّماء بقطرات من الماء يبتلّ بها الطريق، وعلى عدم الانصياع،كالطفل ، إلى الإخلال بالقوانين المدنية وأفضلية الفوضى بمجرّد أن يعمّ الفرح، على غير عادته، أرجاء المدينة (أثناء الاحتفالات الرياضية الهامة خاصة)؛ أي على الأخذ بيده إلى حيث يستشرف طريقه لوحده فيلتحق، بالذهن وبالقلب وبالفعل، بقمّة السنام في التحضّر، ويصبح التحديث و التعصير من نتائج الكدح وليس من مقدّماته.
فلا أخال الواعدين قادرين على الإجابة على ذلك السؤال. مثلما لا أظنّ الأصوليين قادرين على ذلك. أمّا السبب فهو جدّ بسيط : قراءة القرآن بما معناه إعادة فهمه في شروط الحياة لهذا العصر،وفي شروط أىّ عصر آخر، لا يمكن أن تتمّ بالإتقان اللاّزم والنجاح الكامل والإقناع المطمئن إلاّ إذا توفرت لدى المفكّر، على الأقل، بوادر دالّة على تجسيم استقلالية العقل الجماعي في التفكير وقدرة هذا العقل على التّأليف البرهاني تمكّنانه أوّلا وبالذّات من تحرير الحكم من تيه الخصم و تحرير الخصم من تعنّت الحكم . وأوّل غرض يستوجب التحرّر في رأينا هو ذلك الالتصاق المرضي بالفقه الإسلامي بعنوان أن لا اجتهاد إلاّ بتغيير الفقه والتشريع والفتاوى.
فهذا الالتصاق في حدّ ذاته استبداد يضاف إلى قائمة ألوان الاستبداد الأخرى (المادية؛ التعصيرية) التي أشرنا إليها في بداية هذه الورقة والتي يقدّمها مبدعوها على أنّها "المنقذ من الضلال" ، وكأنّ تجديد البنى التحتية و تعصير المرافق واللوازم المادية بالموازاة مع إدراج قيم حقوق الإنسان والحقوق المدنية وغيرها من القيم المعاصرة في مناهج التعليم و البرامج السمعية و البصرية، ابتغاء التمدّن و التحضّر والعصرنة، كأنّ تزيين البنى التحتية وحدها لم يعد كافيا للعقل العربي بأن يوهم نفسه بالرقيّ والازدهار، وها أنّ التزويق أضحى سببا ضروريا وكافيا لتشييء وعي و وجود الإنسان العربي نفسه وإدراجهما تباعا ضمن قائمة ما يجب تعصيره.
وما انهيال الفكر العربي على الفقه بدعوى ضرورة إصلاحه إلاّ نقص في تصوّر الحلول مبنيّ على الوقوع في فخّ الاستبداد الحداثي. وما اختيار الفقه بالذّات دون غيره من مساحات تنظيم الحياة، المتعدّدة والشاسعة، إلاّ اضطرار طارىء للإنقاذ المستعجل وليس حلاّ ناتجا عن تعقّل ورصانة. فذلك هو الاستبداد بواسطة الفقه، الذي يخاله المدافعون عنه مضادّا حيويا لوباء الاستبداد الفقهي الأزلي.أمّا الحجة على ذلك فهي انقضاض "المنقذين" على ما ظهر من جبل الجليد إلى حدّ البقاء معلّقين به، عوضا عن العوم حول الجبل في مختلف الجوانب و الأبعاد المحيطة به لكي يتّقوا شرّ التعليق والتعلّق المرضي فيتأهّبوا للشروع في تذويب ما لا يصلح من الجليد.
إنّ التذويب من عمل الفكر، والفكر إذن قبل الفقه. واجتهاد الأدباء والعلماء بحر لا يضاهيه ما يسيل من حبر المتكلّمين والفقهاء. فمن البحر ما قد يتمخّض ليسيل منه حبر، أمّا العكس فليس فيه في هذا المقام ذكر. وهل ينفع دواء بلا ماء؟
حقّا، ما أحوج العربيّ إلى التموقع بعيدا عن الاستبداد، والتحسّب من السقوط ضحيّة له حين يتسرّب الاستبداد إلى الوجود مغلّفا في غشاء ورديّ ولكنّه شائك.إنّ الوجود العربي عطشان يستوجب الرّي لكي يقوم بتحيين نفسه مع الموجود وليس أبدا في وضع البائس الذي ينادي بثوب جديد حتى يظنّ بعض مهندس عابر سبيل أنّ في تعصير الموجود سلامة و خلود.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.