آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

الديمقراطية والدولة الدستورية[1]عند يورغن هابرماز

صلاح الجابري


ترجمة الدكتور صلاح الجابري[2]  عن كونستانتينوس كافولاكوس

يقدم يورغن هابرماز في كتابه ((بين الحقائق والمعايير)) تفسيرا للدولة الدستورية الديمقراطية، استنادا إلى نظريته التواصلية أو الخطابية، ويعطي عرضا شاملا لمفهومه عن السياسات الديمقراطية. وفي ما يلي سأحاول تقديم عرض عام لفلسفة هابرماز السياسية وأقترح معالم ممكنة سيركز عليها النقد.

من أجل تجاوز صعوبات النظرية النقدية القديمة، يقدم هابرماز في مؤلفه الرائع، نظرية الأداء التواصلي The Theory of communicative Action وهي نظرية اجتماعية مبنية على تقسيم المجتمع إلى شطرين. وطبقا إلى هابرماز فإن عملية العقلنة والتحديث تحصل على مستويين:

1.        مستوى تراكم المعرفة الذرائعية، والتطور المتتابع للقوى الإنتاجية، والتنظيم العقلاني للإنتاج. وهذا المستوى من النظم systems، ينشئ ميادين متحررة من الالتزامات الأخلاقية، يُنَسّق عمل الأفراد فيها عن طريق ما يدعى "توجيه وسائل الإعلام" (المال/ الاقتصاد، القوة/ الإدارة البيروقراطية).

2.        مستوى الهيكل المؤسساتي، أي مستوى التنظيم الأخلاقي للسلوك الاجتماعي. ولذلك لدينا إلى جانب العقلنة الذرائعية للنظم، عقلنة تواصلية، لما يدعي ((عالم الحياة)) ـ أي التصورات الكونية، والاعتقادات الأخلاقية، والمؤسسات التحتية التي تحكم الحياة الاجتماعية.

هذا الشكل الثنائي من المرجعية يقدم وسائل نظرية لإعادة تفسير مساوئ الحداثة ـ الشذوذ، العزلة، وتدمير البنية الاجتماعية ...الخ ـ التي تبدو الآن كدلالات على هيمنة النظام تدريجيا على عالم الحياة. إن التطور الجامح للنظام في الحداثة يميل إلى إخضاع ((عالم الحياة)) إلى سلطات ومعايير العقلانية الذرائعية. ولهذا نتائج مدمرة على أبنية الضمير العملي الأخلاقي والتكافل الاجتماعي، التي يمكن أن تكون متولدة فقط عن طريق التواصل        وليس من خلال التوازنات العامة للمال والقوة.

وعلى الرغم من أن التطور غير المدروس للنظام يُعَرِّض بناء عالم الحياة للخطر، فان عالم الحياة نفسه يجتاز عمليةَ عقلنةِ تحررهِ بشكل مناسب. إن سلطة التقليد في الحداثة المتأخرة مطبوعة بطابع لغوي؛ ولذلك تعتمد مشروعية مضامينها على عمليات تواصلية، توفر سيطرة شاملة عليها، وتهدف هذه العمليات إلى تحقيق إجماع مبني على غلبة الحجج الجيدة، وهو إجماع يستحق أن نسميه معقولا. ومن ثم يحصل لدينا تحول تواصلي لاعتقادات فقدت سلطتها الأصلية لتتجه نحو الحياة الإنسانية، وتعود إليها ثانية فقط بعد اجتياز اختبار سيطرة تواصلية بنجاح؛ ولذلك لدينا في الحداثة المتأخرة تولّد انعكاسي لصورة عالمية لا مركزية، حيث يوجد تمييز بين أسئلة المعرفة النظرية، والمعرفة العملية، والجمال. ولدينا، فضلا عن ذلك، بناء من الأخلاق التواصلية التلقائية ونظام قانوني شمولي، وأخيرا لدينا انبثاق لذاتانية فردية مستقلة.

التسويغ الإجرائي لنظام الحقوق

فيما يتعلق بالبنى العملية الأخلاقية، تطرح الحداثة سؤالا نقديا هو: كيف نقوم بتنسيق أفعال فردية، عندما يكون النظام المعياري العام المفروض حتى الآن، قد قُوِّض من قبل الدين؟ يجيب هابرماز على ذلك بأن لدينا في الحداثة نظاما مشوها من الأخلاق الحرة، ففي المجتمع الإلحادي يوجد معيار واحد فقط يعود إلى الإجماع العقلاني لكل المشاركين، يتم التوصل إليه من خلال نقاش غير قسري، تفصل فيه الحجة الجيد فقط؛ ولذلك يتطلب تأسيس مشروعية قواعدنا العملية حالة مثالية من الخطاب مفتوحة كليا لكل فرد معني وهي تخلو من التقييدات الداخلية والخارجية ومن تفاوتات القوة. ليس الأمر المهم أن تكون هذه الحالة المثالية من التواصل موجودة بالفعل، بل يجب على المتحاورين ـ إذا كانوا جادين في النقاش ـ أن يفترضوها موجودة، وإن كانت مضادة للواقع، فهي معروفة من دون الافتراض بأن حالة الخطاب هذه، في الحقيقة، يمكن أن تكون في أفضل الأحوال تقريبية فقط، ولكن حتى إذا كان من السهولة عمل ذلك، فإن الحل التواصلي لكل التضاربات العملية المحتملة لا يزال غير معروف كليا. فيما يتعلق بما يُدعى ((الأخلاق الحديثة ما بعد التقليدية)) فهي مؤسسة على قاعدة من الخطاب الأخلاقي يعتمد إنجازها على السيطرة الذاتية للفرد، وعلى (الصوت الداخلي لضميرنا الأخلاقي)؛ ولذلك تبرز الحاجة إليها عن طريق قواعد القانون الإلزامي، وهو قانون يُفرض بالقوة، إذا دعت الضرورة، عن طريق فرض العقوبات.

يتطلب التكامل الاجتماعي social integration وجود نظام عام، فهو يتطلب تنظيم أغلب المسائل العملية الحاسمة على أساس أكثر صلابة، وهذا الأساس ـ طبقا إلى هابرماز ـ يتم إنشاؤه عن طريق القانون، فالقانون هو المؤسسة التي تخلّص العمل التواصلي للمشاركين من العبء الثقيل لتنظيم كل شؤون الحياة الاجتماعية، ويحرِّر، في الوقت نفسه، مسألة حفظ النظام الاجتماعي من النوايا والبواعث الفردية، ويمكن للأفراد أن يفهموا القانون كما يرغبون: أما كعائق خارجي لحريتهم الاعتباطية، أو كقاعدة عامة تقدم وسائل من أجل الحرية الجماعية والفردية.

ولذلك فالقانون لا يخضع للأخلاقية، بل يجب أن يُنظر إليه بوصفه عنصرا وظيفيا مفيدا، فعندما نواجه مشكلات أخلاقية لا يستطيع القانون أن يخبرنا عما نفعله، بل يحدد النظام العام الذي يكون بموجبه أي شيء غير محرَّم بشكل واضح مسموحا به من حيث المبدأ.

وفضلا عن ذلك، فإن وظائف القانون كوسيط بين عالم الحياة والنظام تقيِّد اتساع الأخير بشكل منفلت؛ ولذلك فهو الوسيط الذي يسيطر من خلاله المجتمع على الاقتصاد والإدارة. أخيرا هو وسيلة لتحقيق الذاتية الفردية والجماعية، ما دام القانون الوضعي قابلا للتعديل في كل وقت، وما دام ينتزع شرعيته من حقيقة ـ يفترض ذلك على الأقل ـ كونه يجسّد الإرادة العقلانية للمشاركين أو للعدد الأكبر منهم.

وبهذا المعنى فان الطريقة التي يُجاز فيها القانون الوضعي مرتبطة بالطريقة التي تسوّغ فيها القواعد الأخلاقية.

ويصف هابرماز الاختلاف كالآتي:

يعمل المبدأ الأخلاقي في مستوى نوع معين من المناقشة المتكونة باطنيا، في حين يشير المبدأ الديمقراطي إلى مستوى تتكون فيه الأشكال المتداخلة من المناقشة خارجيا. وفي المستوى الأخير اتخذت استعدادات من أجل مشاركة فعالة في عمليات خطابية لصياغة الرأي ـ والإرادة ـ، والتي تحدث في أشكال من التواصل مشروعة قانونيا.

لذلك من الضروري أن يصاغ القانون الوضعي على أساس إجراء يُحْكِم مشروعيته خطابيا، إجراء مؤسس بشكل كامل على فكرة تسويغ خطابي للأخلاق، ويؤدي علاوة على ذلك إلى تشريع ينجز هدفه السياسي الهام؛ لذلك فإن مطلب التسويغ العقلاني للقانون من خلال إجراء يكفل التعبير الحر لكل المناقشات القائمة والمناقشات المضادة، يقودنا مباشرة إلى مشكلة الديمقراطية وعلاقتها الداخلية بالمبادئ الأساسية لحكم القانون.

لصلاحية القانون معنيان: الأول هو أن يكون مؤثرا من الناحية الاجتماعية، بمعنى أنه مشرّع وصادق، ويستوجب مراعاة المواطنين له، وإذا دعت الضرورة يمكن أن يفرض هذه المراعاة على المنتهكين (له) عن طريق فرض عقوبات؛ ولذلك يكون القانون صالحا بالمعنى الذي يكون فيه حتميا (قسريا)، فهو مكوِّن أساسي من مكونات النسيج الاجتماعي.

 ثانيا، أن يكون القانون قسريا إلى الحد الأعلى، ومرتبطا بالمفاهيم المثالية لمؤسسته. و كالأخلاق الحرة للحداثة المتأخرة، يشتق القانون مشروعيته من إجراء تواصلي للرأي، يجب أن يقترب، افتراضيا، من الشروط المثالية للتناظر التي توجد في حالة الخطاب المثالي، فالقانون واقع فعلي مشروع لكنه مشروع من الناحية العقلية أيضا بالمعنى الذي نستطيع أن نفترض فيه أنه منتج بواسطة عملية تبادل ذاتي لتواصل غير قسري بين أفراد متساوين وأحرار. لذلك فإن التوتر بين الواقعية والمشروعية العقلانية ينفذ إلى القانون.

كيف يعبر هذا الأسلوب عن الحقوق الفردية والسياسية؟ ما دام القانون الوضعي يشتق مشروعيته من واقع كون المشاركين في صنعه يمكن أن ينظروا إليه بوصفه ناتجا عن نشاطهم السياسي الخاص، فإن إمكانية مشاركة الكل في صياغة القوانين سوف تكون مصانة؛ ولذلك سيكون القانون في وضع يؤمّن الحرية الشعبية (حرية المشاركة السياسية). ومن هنا لا يمكنه عمل ذلك من دون أن يدعم بشكل متزامن الحرية الفردية (الحرية الفردية في تشابكها داخل مجال النشاط الخاص للفرد). ومن الناحية المثالية، فإن الذين يضعون القانون هم أيضا يخضعون له، وعلى القانون أن يضمن ويحترم الحرية الشخصية كشرط مسبق لاتصال سياسي غير قسري في الديمقراطية؛ ولهذا فإن الحرية الشخصية للأفراد، والاستقلالية العامة للمواطنين تشكلان على التوالي وسيلتين تحقق إحداهما الأخرى، وإن الخاضعين للقانون يمكن أن يتمتعوا بحرية شخصية إلى الحد الذي يؤهلهم أثناء ممارستهم لحقوقهم السياسية، لإدراك أنفسهم كمبدعين لتلك القوانين التي يجب عليهم، كمشاركين، أن يذعنوا لها.

واستنادا إلى هابرماز، فإن إدراك الحرية العامة والفردية كوجهين لعملة واحدة، كالتعارض الكلاسيكي بين النظام الجمهوري والنظام الليبرالي، وبين حرية القدماء وحرية المحدثين، يبدو شجار عديم المعنى، لأن ضمان الحرية الفردية يفترض مسبقا عدم إعاقة ممارسة الحقوق السياسية. ومن جهة أخرى فمن دون مشاركة في السياسة، تصبح الحرية الفردية وهمية، لأنها تبقى معرّضة، كما هو بالفعل، لتأثيرات قوى حكومية ومالية، وأكثر من ذلك فإن الحرية الفردية من دون مشاركة شعبية تتحول إلى ((حرية سلبية))، حرية من دون تقييدات خارجية، بل إلى حرية من دون مضمون، ما دام تعريف مضمون الحرية يشترط المناقشة الشعبية مع مشاركين آخرين متساوين وأحرار. فنظام الحقوق مؤسس إذن على فكرة إجراء تشريعي تواصلي مثالي.

صعوبات التسويغ الإجرائي.

المقدمة الأساسية لهابرماز هي أنه في العالم الحديث لا يمكننا أن نتصور الحرية من دون أن يكون ضمان الحقوق الفردية والجماعية وتكاملهما واضحا وملموسا. من وجهة النظر هذه أثيرت عدة اعتراضات في مواجهة ((التسويغ الإجرائي)) لنظام الحقوق.

أولا: لوحظ بشكل صائب أن انطلاق النظرية الهابرمازية في القانون من النظرية الكانتية لم يكن حاسما إلى الحد الذي كان يرغب به مقترحها. والحقيقة أن القانون، من وجهة نظر هابرماز، لم يكن تجسيدا مباشرا للمعايير الأخلاقية. ومهما كانت الدرجة التي يكون فيها كل من القانون والقواعد الأخلاقية مؤسَّسين على مفهوم العقلانية التواصلية، وعلى شكل مثالي من التواصل وعلى المبدأ الأخلاقي للعالمية، فإن اختلافهما يتوقف نهائيا على وجود تصديق خارجي وتشريع واضح أو عدم وجودهما. إن النقطة التي تختلف فيها النظرية الخطابية للقانون عن النظرية الكانتية هي العلاقة الوثيقة بين المبادئ الأخلاقية والمبادئ الديمقراطية، التي يعتبرها كانت، كما نعلم، ليست ضرورية. ومرد تلك العلاقة المتينة إلى حقيقة أن هابرماز يؤسس منذ البداية مبدأ الأخلاقية على أساس فكرة الفردية التواصلية غير القسرية، التي تشكل أساس المثالية الديمقراطية.

هذه الحقيقة قادت العديد من تلاميذ هابرماز إلى النتيجة القائلة بأن هابرماز كان يميل إلى خلط المبادئ الأخلاقية بالمبادئ الديمقراطية، ويصور السابقة بأنها عديمة الجدوى من أجل صياغة أخلاق فلسفية ما بعد ميتافيزيقية، يمكن أن تقدم أجوبة لمشاكل أخلاقية معينة. وهذا النقد يمكن أن يكون معكوسا ويمكننا أن نتشكك فيما إذا كان من الممكن اعتبار السياسة الديمقراطية خطابا أخلاقيا.

 عند هذه النقطة أود أن أقدم العناصر الرئيسية لنقدي للخطاب الأخلاقي لهابرماز. يهدف الخطاب الأخلاقي إلى صياغة مبدأ أخلاقي شامل سيكون قادرا على أن يقاوم بشكل فعال حجج الشكاك الأخلاقيين والنسبيين بالمثل. وعلى أي حال، فإن مفهوم التسويغ التواصلي للقواعد الأخلاقية من خلال حوار غير قسري يربط الحقيقة الأخلاقية بموقف تواصلي ملموس، ومتعيّن تاريخيا، ومحدد بشكل تام، وليس مهماً عدد الناس ومقدار الحرية التي ينطوي عليها الموقف، ومن أجل أن يتجنب الانزلاق إلى المدرسة النسبية، يتبنى هابرماز في كل حوار واقعي فكرة حالة خطاب مثالي، تؤكد التوتر بين التجريبي والمتعالي (ترانسندنتال)، بين الواقع والشرعية العقلانية. وعلى أي حال كما اثبت ويلمرWellmerعلى نحو حاسم، إن هذه المثالية لا يمكن أن يكون لها معنى في نظام الفكر ما بعد الميتافيزيقي ـ على النحو الذي يطمح إليه هابرماز ـ ما دام تحقيقها يؤدي إلى إلغاء كل تلك الشروط التي تجعل التواصل ممكنا وضروريا، وإلى إلغاء الميزة النهائية للوجود الإنساني. ففي وضع تواصلي مثالي لدينا مجتمع مثالي يتصل بعضه ببعض على نحو غير قسري من خلال لغة مثالية. على أي حال تلك أشياء ملفقة لا تنتمي إلى هذا العالم، ومن حق المرء أن يتشكك فيما إذا كان استخدام التواصل سيكون وفقا لشروط الشفافية الكاملة.

لذلك يؤثر هذا النقد بشكل مباشر على ميدان الفلسفة السياسية لهابرماز، ما دام المبدأ الأخلاقي للكونية Universalization والمبدأ الديمقراطي يعتبران مفهومين توأمين (مزدوجين). فإذا كان المبدأ الأخلاقي للكونية لا ينتج مباشرة من الافتراضات المسبقة للتواصل، وإذا لم تكن هنا مثالية معقولة مسلمّ بتسويغها، فإن الأمر نفسه سينطبق على المبدأ الديمقراطي للمؤسسة القانونية. بتعبير آخر إن المضمون المعياري للديمقراطية لا يمكن أن يفسَّر على نحو تام على أساس مفهوم العقلانية التواصلية. إن المبدأ الديمقراطي لا ينتج منطقيا من الافتراضات المسبقة للحل المتفق عليه لخلافاتنا العملية، بل بالأحرى هو يلازم بشكل لا يمكن تجنبه مشروع الحرية الجماعية، ولا تطمح السياسة الديمقراطية إلى العقلانية، بل تستخدمها كوسيلة لبلوغ الحرية. وكما سبق أن لوحظ، فإن الحرية الوضعية ـ الجماعية لا تنتج عن تفكير إجرائي تواصلي، بل تنتج عن خلق حياة أخلاقية ديمقراطية. بتعبير آخر، إن مشروع الحرية الفردية والجماعية يسبق مبادئ التفكير التواصلي، حتى ولو صح حدسنا بأن ظهور السابق في التطبيق الاجتماعي يتطلب عمليات ومبادئ الأخير.

الاعتراض الثاني يتعلق بملائمة تسويغ هابرماز للحقوق الفردية كشروط لممارسة الحرية العامة ـ أي كشروط لبناء المجال الشعبي للتواصل، الذي سيكون به تطور العقلانية التواصلية ممكنا. ويؤكد ألبرخت ويلمر Albrecht Wellmer بأنه من غير الممكن اشتقاق الحقوق الفردية من شروط مسبقة للعقلانية التواصلية، ما دام مجال (الحرية السلبية) يتضمن أحيانا حق العمل بصورة لا عقلانية.

إن الوعي باستحالة اشتقاق الحقوق الفردية بشكل شامل من مفهوم السيادة الشعبية قاد شارلس لامور Charles Larmore إلى أن يتخذ المبدأ الأخلاقي المتصل بالفرد، كمصدر لاستقلال الحقوق الفردية عن السيادة الشعبية. وطبقا إلى صياغته تمنح هذه المبادئ شكلا لأحد المستويات الأعمق لضميرنا الأخلاقي، ونقطة شروع تاريخية لأفكارنا، ونظاما نستطيع من خلاله أن نفكرّ بالتسويغات؛ ولذلك وعلى الرغم من جهود هابرماز الأخلاقية للتوفيق بين الحرية السلبية والإيجابية في الفكر، فمازال التوتر بينهما قائما على مستوى التطبيق الاجتماعي والسياسي خلال التاريخ الحديث.

 

الدولة الدستورية والسياسات الديمقراطية

يؤسس هابرماز، بناء على نظريته في القانون القائمة على الحوار، الضمانة الدستورية للحقوق السياسية فضلا عن الحقوق الإنسانية، التي تحدد معنى الشخص القانوني، وهي فكرة لا غنى عنها لبناء (مجتمع الحرية والاتحادات المتساوية بنظر القانون). هذه الفكرة المركزية تشكل أيضا أسس تسويغ المبادئ الأساسية للدولة الدستورية، ويمكن إيجاز تلك المبادئ بما يأتي:

  1. لما كان هدف الدولة الدستورية تقديم أسباب الحرية الفردية والجماعية، فإن الهدف الأول هو سيادة الشعب التي تستلزم أن تكون كل سلطة سياسية منبثقة عن السلطة التواصلية للمواطنين، ويجب أن تكون هذه الأخيرة مرتبطة بإجراءات ديمقراطية توفر شروطا خاصة للحوار والتواصل، يمكن أن تصادق على شرعية وعقلانية التنظيمات القانونية المنبثقة عنها. وما دام القليل من المواطنين يمكن أن يشاركوا في هذا النقاش المطلوب، فإن الحاجة إلى التمثيل تنبثق بشكل طبيعي. إن مؤسسة التمثيل البرلماني والتنظيمات الداخلية للنقاشات وصناعة القرار تعكس بشكل دقيق الجهود لخلق شروط ملائمة للنقاش مبنية على غلبة أفضل الحجج. وتكمَّل تلك بمبادئ التعددية السياسية للسلطات الممثلة في البرلمان وشعبية المؤتمرات البرلمانية، التي تسمح بتدقيقها من قبل رأي عام نقدي.
  2. في الوقت الراهن، حيث يتعهد البرلمان بمسؤولية تسويغ القوانين، فإن الإنجاز الدقيق لها أمر جوهري أيضا، وإن توزيع مهام تسويغ وإنجاز القوانين تعبر عنه مؤسسة السلطة القضائية المستقلة. ويرتبط هذا بمبدأ ضمان الحصانة القانونية الفردية لكل فرد قانوني يستطيع إملاء ادعاءات قانونية فردية. أخيرا، لما كانت السلطة القضائية يمكن أن تتطلب تحريك الحكومة، على سبيل المثال، لفرض العقوبات، فإن مبدأ تعهدها الخاص بالقانون أمر أساسي.
  3. إن مبدأ حكم القانون، أي تعهد الحكومة بالإذعان للقوانين (أو تنفيذها) يُكْمِل تسويغ هابرماز لفصل السلطات، والغرض من هذا المبدأ إلصاق السلطة الحكومية (الإدارية) بالمواطنين بوصفهم سلطة تواصلية، تتدخل عن طريق السلطة التشريعية للبرلمان، وأكثر من ذلك يجب أن توجد إمكانية مراقبة استبداد الحكومة، وهي مهمة تقع على عاتق محاكم مدنية وتحقيقات إدارية (حكومية).
  4. يجب أن يضاف إلى ذلك مبدأ فصل الدولة عن المجتمع، وليس لهذا المبدأ المعنى الليبرالي لفصل الدولة ـ المسؤولة عن الأمن والنظام العام ـ عن مجتمع الأفراد المتنافسين اقتصاديا أو التجمعات ذات النفوذ، فما يفكر فيه هابرماز هو بناء (مجتمع مدني) حر تتوحد فيه الحرية والتعددية، ويرتبط بمستقبل سياسي حر، ويشكل ميدانيا شعبيا غير رسمي، يسيطر على مؤسسات الدولة.

تستلزم مبادئ الدولة الدستورية هذه مفهوما خاصا للسياسة، فمن حيث المبدأ فإن الهدف الأساسي للسياسة بناء القوانين، ما دامت السلطات القضائية والحكومية تعتمد عليها، ويقدم هابرماز فكرة علم سياسي يتكشف عن مستويين متزامنين:

  1. سياسة مشرّعة، ومنظمة من خلال إجراءات ـ برلمانات متنوعة تنتمي إلى هذا الميدان.
  2. صياغة غير رسمية لرأي عام في مجال من النقاش الحر.

يشكل هذان المستويان مفهوم سياسة تداولية، تعتمد على بناء قانوني لإجراءات وافتراضات تواصلية، وأيضا على ضم صحيح لمناقشات منجزة ورأي عام غير رسمي، من هنا تظهر السيادة الشعبية كإجراء دائم، تسيطر فيه شبكة غير رسمية من التدوال السياسي وتقدم نظاما سياسيا مؤسسا مع مادة بناء؛ لأن في تعاقبه، يشكل النظام السياسي المادة الخام للسلطة التواصلية للمواطنين ويحولها إلى قانون، ويتطابق مع هذه الفكرة صورة مجتمع تعددي لا متمركز، لا يدور دائما بشكل شامل حول الدولة. وتكون السياسة التداولية مستحيلة من دون أحد المستويين اللذين ينشئانها. فمن دون منظِّم للنقاشات المتكونة فستحكمها فوضى التواصل غير الممحص، وأكثر من ذلك يعرِّضها إلى التفاوتات الواقعية للسلطة بين المشاركين. فمن دون شبكة غير رسمية لمجالات التواصل الشعبي، تتعرض السلطة التشريعية للضعف؛ لأن فقدان المجال الشعبي الحساس يقود إلى العجز عن التحقق من المشكلات الاجتماعية وإدراكها والتعامل معها.

تحاول النظرية الديمقراطية الراديكالية لهابرماز أن تتأمل المؤسسات السياسية في تفاعلها مع مجتمع حضاري فعّال، ولقد أعيد التسليم بمفهوم المجتمع المدني في النقاش المعاصر لتحليل الحركات المنشقة في البلدان الاشتراكية السابقة وحركات الدمقرطة في أميركا اللاتينية. وبعد انهيار الأنظمة الأوربية الشرقية بشكل خاص والبروز الهائل للمطالبة بنظريات حول الديمقراطية، أصبح ذلك المفهوم المعلم البارز للنقاش في هذا الميدان. مفهوم المجتمع المدني الذي ناقشه هابرماز بتحمس نقل فكرة المجال الشعبي ـ الذي كان دائما أساس المفهوم الهابرمازي للديمقراطية ـ إلى الجدل الحديث. المجتمع المدني هو هذا ((المجال الشعبي الضعيف)) الذي يخلق مجالات للتواصل الشعبي، وناقلا لرأي عام غير منظَّم. نشاطه التواصلي غير مُسَيْطَر عليه وفوضوي، ومعرّض (لتعقيد مفرط) يطوق باستمرار معاقل السياسة المؤسَّسَة. (الجمهور الضعيف) ذاته لهذا السبب هو تجمع متحرر من عبء صناعة القرار، والشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله هو أن يتواصل بشكل غير رسمي.

 يقدم هابرماز وجهة نظره كرؤية واقعية لمجتمعات معقدة معاصرة؛ وذلك لأنه يأخذ بحسابه ـ على العكس من الليبرالية ـ حقيقة أن الحرية الشخصية مستحيلة من دون المشاركة السياسية للمواطنين في الشؤون العامة، فهو لا يشترط ـ على العكس من النظام الجمهوري ـ الانشغال المباشر والمستمر للمشاركين في ممارسة السيادة الشعبية. وبهذه الطريقة يأخذ باعتباره الصعوبات التي تنشأ عن نمو تعقيد المجتمعات المعاصرة، المثقلة بما لا يحتمل، في هذه الأزمنة، بالتنظيم التواصلي للحياة الاجتماعية وتقود إلى العطالة. عناصر العطالة في المجتمع هذه تتصل أيضا بحدود معرفة وذكاء الجمهور، وضغوطات الزمن ونقص المصادر المادية، فضلا عن مواقف وحركات، مثل مركزية الأنا، وفقدان قوة الإرادة، واللاعقلانية والأوهام التي يزخر بها الواقع.

من بين الكثير من المسائل التي نشأت عن وجهة نظر هابرماز في السياسة الديمقراطية سأقتصر على اثنتين منها: تسويغ مؤسسات ومبادئ الدولة الدستورية الديمقراطية، ومفهوم دور الميدان الشعبي غير الرسمي.

قبل كل شيء يجب على المرء أن يلاحظ أن وجهة النظر الإجرائية تلك تتصل، على الأغلب، بتسويغ نظام الحقوق والمبادئ الأساسية لفصل السلطات، ومن هذه النقطة فصاعدا يجب حشد حجج تجريبية إضافية من أجل المؤسسات السياسية أو ضد. ومؤسسة التمثيل مثال على ذلك. وهذا يعني على أي حال، أنه من المستحيل تجاهل الخبرة التاريخية الواسعة المقدّمة عن طريق العملية الفعلية للنظام البرلماني، ومع ذلك يبدو أسلوب هابرماز في تسويغه منتميا إلى الثقافة الليبرالية للقرن التاسع عشر. ومن جهة أخرى لم يكن هابرماز مخطئا في تساؤله الجدي حول كل من معقولية وطبيعة التمثيل، بالإضافة إلى التعويل على المؤسسات التي تتوسط بين البرلمانات والمواطنين (أي الأحزاب السياسية والإعلام الجماهيري).

من بين الشروط الغالبة في القرن التاسع عشر، مع الضمان الجزئي لحق التصويت وأحزاب النوادي ذات التجمعات البرجوازية المتنوعة، وجدت فكرة تمثيل آراء ومصالح خاصة في مجال عام من النقاش المنظَّم والقانوني أرضية حقيقية للتطور. وعلى أي حال أدت دمقرطة مؤسسات الدولة الدستورية الليبرالية الكلاسيكية، كما سنعرف، إلى تغيرات عظيمة في الوظيفة الفعلية للمؤسسات التمثيلية. وقد تحولت أحزاب النوادي إلى أحزاب جماهيرية منظمة بصورة بيروقراطية، تتخذ بشكل تدريجي سمة تعددية وتصبح مستقلة عن زبائنها، الذين ينقلون لها أوامر القيادة الحزبية. واتجه النقاش البرلماني إلى شرعنة عمل خادع، في حين نقل وجود الأغلبية البرلمانية الحكومية بشكل متزايد، مركز الجاذبية من البرلمانات إلى السلطة الحكومية، واستُبدِل هذا التمثيل تدريجيا بإذعان جماهيري لشرائح النخبة القيادية، إذعان منسّق من قبل الدولة والأحزاب ليحدث في يوم واحد كل أربع أو خمس سنوات، يقود الشعب إلى سلبية سياسية خلال الفترة الفاصلة كلها.

 سأكون سعيدا ومرتاحا أن أسلم بأن هذا النقد المضجر والمتكرر، الذي تفوح منهم رائحة الدفاع عن وجود الديمقراطية ومبادئها الشاملة ـ كما لو أن الطريقة الوحيدة للدفاع عنها هي حجب مساوئها ـ مبالغ فيه، وفي غير محله وخاطئ، وإذا كانت هناك قضية معقولة حول كيفية التحكم الجماهيري لسياسيين محترفين وبيروقراطيي الأحزاب فسيكون ذلك النقد معقولا. إن اقتراح هابرماز غير مرض، فعلى السؤال حول سبب كون أعضاء البرلمان يجب أن يصوغوا قراراتهم على أساس حلول مقدّمة على نحو خطابي (بدلا من البحث عن تسويغ لها لاحقا)، يجيب هابرماز بأنهم مجبرون لعمل هذا؛ لأن ناخبيهم يستطيعون معاقبتهم عن طريق الامتناع عن التصويت لهم لاحقا. وعلى أي حال فإن هذا الوجود المفترض للاختيار زائف بشكل واضح، ما دام الناخبين يُدعَوْنَ للاختيار ما بين (أحزاب تعددية) بالطريقة ذاتها التي ينتقون بها ماركتهم المفضلة لمادة منظِّفة، فمن بين منتجات متشابهة يختارون واحدة هي تلك التي تبدو أقل سوءاً.

وإذا استسلمنا للأسطورة التي تقول بأن المؤسسات شبه التمثيلية للدولة الدستورية الديمقراطية هي ديمقراطية بشكل ملائم، وإذا قللنا من أهمية حقيقة أن النمو الهائل لكل من الدولة وبيروقراطية شبه الدولة يخلق فرصاً لا حد لها للالتفاف على مشروعية حكم القانون، فإننا لا نستطيع أن نغض أبصارنا عن أغلب التطورات الدولية الحديثة. وإن عولمة اقتصاد السوق اليوم ينقل مركز صياغة القرار إلى شركات متعددة الجنسية ومنظمات دولية تحت سيطرتها، بعيدا عن أي سيطرة ديمقراطية، أو تمثيلية من قبل المواطنين.

النقطة الثانية من النقد تشير إلى ما يدعى ((المجتمع المدني ومجال التواصل الجماهيري))  أي شبكة من التجمعات والرابطات الحرة، وكذلك شبكة من الإعلام مكلفة للعمل كمكبرات صوت لتضخيم ونشر صوت الحركات المدنية المستقلة عن الدولة. وكما لاحظ عدد من المتخصصين أن مفهوم المجتمع المدني مثير للجدل، فلا أحد يعرف ما إذا كان واقعا مثاليا أو تصوريا أو فعليا. إن فكرة المجتمع المدني عند هابرماز هي العنصر الديمقراطي بشكل جذري لرؤاه حول السياسة الديمقراطية. على أي حال، فإن تصور الفكرة المعيارية للمجتمع المدني تبقى بلا معنى ما دام هابرماز يتجنب التفكير بالشروط الفعلية لوجودها، ويردها على مشكلة تجريبية.

على أي حال تبين هذه الفكرة أن النظام السياسي نفسه ينطوي على كل من القدرات الفعلية، وميل المواطنين للدخول في العمل السياسي. وتتطلب المشاركة السياسية نظاما مؤسساتيا بدلا من أن يثبط الهمم يعلمّ الناس بروح وطنية ويضمن الشروط المسبقة المادية الضرورية. والأجوبة المقدمة من قبل هابرماز على هذه التساؤلات غير ملائمة أيضا. إن مطلب مجتمع مدني فعال ارتبط بوجود ثقافة سياسية قانونية حرة تتحسس المشكلات المؤثرة على المجتمع ككل ـ ثقافة متغيرة أو في حالة مستمرة من التذبذب، ومن هنا سريعة الاستجابة. على أي حال فإن الثقافة السياسية لا تتقاطر من السماوات وإنما تنشأ على الأرض، ولا يشير هابرماز إلى هذا النشوء، وعلى العكس فهو يفترض، كما سبق أن رأينا، وجود قصور، يرجعه إلى واقع الطبيعة البشرية، وإلى تجاهل التفكير بالظروف الاجتماعية التي تولده، وتسنده وتقويه.

وهو يطبق رؤيته أيضا على دور الأعلام الجماهيري. وعندما يكون السؤال المطروح هو لماذا يجب على الأعلام أن يتعهد بتكبير الأصوات الضعيفة التي تبرز بشكل مباشر في المجتمع المدني؟ يتوسل هابرماز بالفهم الذاتي المعياري لتلك الأصوات (على سبيل المثال اللغة الاحترافية للصحافة) والتنظيم الرسمي للنشر الحر عن طريق قوانين تسيطر على التواصل الجماهيري بأمل أن يقود هذا إلى جعل تلك الأصوات حساسة، وبشكل خاص في الأوضاع المتأزمة ـ على سبيل المثال، حالات العصيان المدني. على أي حال إن معرفتنا بعلم الاجتماع الإعلامي يكذب هذه الآمال. و إذا كانت تلك الأصوات واقعية، فمن الجدير بالاهتمام فحص ما إذا كانت الحالات الاستثنائية للأوضاع المتأزمة يؤهلنا للحديث عن الممارسات التواصلية الحرة التي أشار إليها هابرماز.

إن العجز الديمقراطي المشاهد في الديمقراطيات المعاصرة، الناتج عن سلبية المواطنين ليس صعبا على التفسير، فهناك إجماع بشعور واسع بان المشاركة السياسية لا طائل منها، فتحت الشروط الحالية لتدويل الاقتصاد ليست هناك إمكانية لتطوير المجتمع المدني، واستقلاله الحق عن الدولة وأيديولوجيا السوق الحرة. الجهد الحقيقي للسيطرة على اقتصاد السوق الذي يستلزم تدخلات الدولة وأنظمتها، ويتعارض مع شروط المنافسة، مفترض عن طريق الشكل الحالي لعملية السَّوْقَنَة، وليس من قبيل الصدفة أن تجيز الدولة مؤسسات المجتمع المدني الحرة إلى الحد الذي تكون فيها مّندمجة في نظام من الإجماع الليبرالي الجديد أو الليبرالي الاجتماعي، ففي أوربا مثلا، فإن رداءة مقاومة اتحادات التجارة أو سيطرتها الفعالة بواسطة الدولة كانت شرطا مسبقا أساسيا لضريبة الحرمان، وانحلال دولة الرفاهة وفوضوية سوق العمل ـ وهي عناصر لم تتغير، بشكل كامل، عن طريق الحكومات الليبرالية الاجتماعية الجديدة، وإن درجة استقلال المجتمع المدني تم الكشف عنها من خلال حقيقة دعم الدولة، من بين المشاريع البديلة لما يدعى القطاع الثالث، لتلك التي تستطيع أن تقدم خدمات اجتماعية رخيصة ومرنة ـ وتسهم بتخفيض نفقات حفظ الأمن الاجتماعي.

وفي حالة ألمانيا، التي يفكر من خلالها هابرماز، فإن نموذج المجتمع المدني يمكن أن يطبق فقط على قسم من الحركات الحرة. وخلال الثمانينات والتسعينات حافظت الدولة الألمانية على نظام أمني ذي شعبتين من أجل تلك الحركات الديمقراطية البديلة أو البيئية، التي لم تصل بعد ذلك إلى النظام السياسي الرسمي، تلك المشاريع البديلة التي ترغب بالتعاون وتسوية أوضاعها تحولت إلى مؤسسات، ودخلت في ميدان المنافسة السياسية، وكان لها تأثير على القليل من القرارات فقط. وبالعكس فإن المجموعات السياسية الراديكالية والمشاريع البديلة (على سبيل المثال حركات الاحتلال) قمعت بعنف واستبعدت من المجال العام للتواصل السياسي. وبالتزامن مع ذلك خلقت البطالة الناشئة عن البنية الاقتصادية والنمو المفاجئ للتفاوت الاجتماعي خصائص جديدة للأفراد المستبعدين اجتماعيا ذوي الأصوات غير المسموعة. وليس لهؤلاء الناس في الغالب طريقة أخرى للتعبير عن أنفسهم سوى الممارسة غير الاستفزازية للعنف. إن موقفهم الأيديولوجي، إن كان لديهم موقف، يمكن أن ينهي التنوع السياسي. وبعد إجراء كل التغييرات الضرورية فإن ظواهر مشابهة تظهر في بلدان أوربية أخرى أيضا.

وإذا سلمنا جدلا بضرورة اقتصاد السوق والإدارة البيروقراطية والديمقراطية التمثيلية، فإن أسلوب هابرماز يقوض في الواقع إمكانية قيام مجتمع مدني مستقل يتطلب دمقرطة حقيقية مقابل النخب السلطوية للدولة والعاصمة. ومن هذا المنطلق، فإن فكرة تعزيز مجتمع مدني من دون تغيير أي شيء في النظام المؤسساتي للمجتمعات الحديثة، ليس برنامجا سياسيا معقول،ا وإنما هو تفكير باهت.

أود أن أقبل عرضا بنتيجة مؤقتة هي أنه على الرغم من أن هابرماز قدم فكرة التسويغ الإجرائي للمبادئ المعيارية للدولة الدستورية الديمقراطية، إلا أنه يتجنب التفكير في الافتراضات المسبقة والشروط المسبقة لعمل نموذجه. وعلى أي حال، فإن الفكر الديمقراطي الراديكالي لا يمكن أن يكون حبيس التسويغ العقلاني (الذي هو في كل الأحوال غير ملائم) إذا كان معنيا حقا بشؤون الديمقراطية والحرية، وسبب هذا أنه حالما يستيقظ، يواجه السياق الداخلي الاجتماعي، والاقتصادي والسياسي والبيئي الذي يصاغ ضمنه فقط السؤال حول المبدأ الديمقراطي بمعانٍ متماسكة. والديمقراطية ليست مسألة إجراءات فقط، وإنما هي لا يمكن فصلها عن مسألة الوسائل لبناء مجتمع تكون فيه العلاقات بين أعضائه الأحرار المتساوين، مشخصة عن طريق التكافل. وإذا كان لمصطلح المجتمع المدني أي معنى، فيجب أن يطمح إلى شيء ما أكثر من كتلة بسيطة من أفراد عقلانيين، وهذا يعني أننا سنعيد النظر بمؤسساتنا من زاوية واقعية نسبية، وتحت ضغط الحاجة لدعم التكافل الاجتماعي، وخلق شروط تحقيق الغنى الاجتماعي بمعناه الواسع.



[1] KONSTANTINOS KAVOULAKOS: Constitutional state and democracy (On Jurgen Habermas’s Between Facts and Norms. In: J. Of Radical Philosophy, Vo.96, JULY/ AUGUST 1999, pp33-41.

[2]  أستاذ جامعي عراقي، أستاذ الفلسفة المساعد في جامعة الكوفة سابقا، أستاذ مساعد في الجامعة الأسمرية للعلوم الإسلامية، كلية أصول الدين، في الجماهيرية الليبية حاليا.

 

تاريخ النشر : 20-07-2009

6384 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com