الكتاب: العقل واللغة والمجتمع .. الفلسفة في العالم الواقعي
المؤلف: جون سيرل
ترجمة: سعيد الغانمي
الناشر: المركز الثقافي العربي. المغرب.
عدد الصفحات: 240
جون سيرل واحد من أبرز الفلاسفة المحدثين الذين ينتمون إلى تيار الفلسفة التحليلية، كما أنه من أبرز فلاسفة المدرسة التداولية اللغوية التي ولدت في أحضان الفلسفة التحليلية، وينسب إليه وإلى جون أوستن وضع وتطوير ما يسمى نظرية )الأفعال الكلامية(.
لقد كتب جون سيرل في الفلسفة، وإشكالاتها الرئيسية، فحاول تحليل العقل والشعور، كما كتب في المجتمع، واللغة والمعنى حتى تعددت محاولاته المعرفية.
يشكل كتاب (اللغة والعقل والمجتمع) خلاصة الحياة الفلسفية لجون سيرل؛ فهو وإن تناول فيه مواضيع مختلفة متباعدة الحقول، إلا أنها ترتبط ببعضها من حيث كونها تشكل حصيلة ما يراه المؤلف حول هذه القضايا التي تعد في قلب الفلسفة الواقعية، وقد حظي الكتاب بشعبية كبيرة، فترجم إلى ما يقارب العشر لغات. وفي كتابه هذا عكف سيرل على تفسير الظواهر الفلسفية المختلفة في ضوء التطور العلمي الحاصل وخاصة في مجال البيولوجيا، وبيان أنها جزء من العالم الفيزيائي، يتم تحليلها كأية قضية فيزيائية بعيدا عن ثنائية الروح والجسد. ص18
ملامح الفلسفة الواقعية عند سيرل
يعد سيرل واحدا من الفلاسفة الواقعيين الذين ينظرون إلى العالم بواقعية -قد تكون مفرطة أحيانا- فهو لا يرى خلف العالم الواقعي شيئا، فلا يرى في الحقائق التي طرحتها الفلسفة قديما والتي تقوم عليها الديانات (كثنائية الروح والجسد) سوى حالات يمكن تفسيرها فيزيائيا باستخدام الوسائل التي أفرزها التطور العلمي.
وهو ينطلق سيرل في تحليل العالم ومظاهره وفي جعبته مرتكزات عدة يبني عليها فلسفته، ويرى وجوب ضمانها قبل الغوص في تحليل هذا العالم:
1- فهو يرى –تماشيا مع بعض الفلاسفة - “أن هناك عالما واقعيا يوجد بشكل مستقل عنا، وبمعزل عن تجاربنا، وأفكارنا، ولغتنا” ص23، وأننا “نمتلك طريقا إدراكيا مباشرا للدخول في العالم من خلال حواسنا، ولاسيما اللمس والرؤية ... –لذا- فإن أحكامنا بشكل عام إما صادقة أو كاذبة اعتمادا على كونها تتطابق مع الكيفية التي توجد عليها الأشياء، أي مع الوقائع في العالم الخارجي” ص23-24.
ويدحض سيرل التحديات التي تطال الواقعية، ويرى بأنها لا تخرج عن كونها مغالطات، تخرج في صيغ متعددة، تقول إحدى هذه المغالطات: إننا “لا نستطيع أن نصل إلى العالم الواقعي، ولا طريقة لنا لتمثيله... إلا من وجهة نظر معينة، وانطلاقا من مجموعة معينة من المسلمات، وتحت مظهر معين.. وإذا لم يوجد طريق مباشر للوصول للواقع .. فلا أهمية فعلا للحديث عن الواقع، والحقيقة، لا يوجد واقع مستقل عن المواقف المظاهر ووجهات النظر” ص39.
فعندما أرى هذا الكرسي -مثلا- فإنني أراه من وجهة نظري الخاصة، ويراه غيري من وجهة نظره الخاصة، وقد تختلف وجهات النظر، ويعزز هذه المنظورية (وجهة النظر الخاصة) نسبية مفاهيمنا، التي تنظر إلى العالم من خلال مفهومنا الخاص الذي كُوّن تكوينا خاصا، فأنت لو سئلت كم غرضا في هذه الغرفة ستلاحظ الأثاث وترد برقم ما، ربما يختلف عما سيرد به آخر الذي يرى الأثاث بالنسبة له، ولذلك “لا عالم واقعيا إلا نسبة لمخطط مفهومي” ص44.
يرى سيرل أن هذه المحاجّة ضعيفة؛ لأن ذلك التباين عائد إلى النظام الحسابي المستعمل الذي تحدده وجهة النظر الخاصة، فوزني بالباونات مثلا 160، ولكنه بالكيلوغرامات 72، فكم أزن فعلا ؟
والجواب أن كلا الرقمين صحيح وذلك استنادا إلى نظام القياس الذي أستخدمه. ص44.
والحقيقة أن قضية الوجود الخارجي- هي قضية قديمة اختلف فيها الفلاسفة كثيرا، ولكن ما ينبغي الركون إليه –حسب رأيي- هو أن لا نحاكم الأمور دائما بشكل نظري أو مطلق، بل ينبغي أن تَحٌلّ -في كثير من الأحيان- النسبية الواقعية محل النظرية المطلقة.
فعلى سبيل المثال: إنني أرى هذا البحر في هذه الصورة ويراه غيري كذلك، حتى ولو لم يكن في حقيقته كذلك، ولكنه من حيث نراه أو نصطلح عليه هو في هذا الشكل المترائي لنا (ليس من الضرورة أن يكون كذلك في حقيقته) لأننا نصفه بنفس الطريقة، وهذا كافٍ لوحدة مظهره في أنظارنا، فهو بحر في صورته هذه، وهي خطوة مهمة لنمضي قدما في تفكيرنا حول العالم، لأنه وبدون الاصطلاح سنبقى نراوح مكاننا من غير تقدم في التفكير، فالاصطلاح يقوم مقام الحقيقة.
ثم إننا لأن نعتقد به كما نرى خير لنا من مغالطة الحواس والبقاء حيث نحن من غير تقدم، بناء على ما يمكن أن يكون عليه العالم خارج حدود الحواس، فمن يريد البحث عن الحقائق المطلقة، والشك فيما هو قائم، عليه أن يخرج من أسر الحواس أولا ثم يفكر حينها بدون تأثر، ولكن كوننا وجدنا في عالم واقعي نستقبله بالحواس فقط علينا أن نعتقد بما تنقله لنا هذه الحواس عن هذا العالم، وإلا فإننا نغالط العقل كله بمغالطتنا للحواس، لأنها المدخل الوحيد الذي يثري العقل بمعرفة العالم، فضلا عن أن الحديث عن حقيقة تتجاوز الحواس هو رحلة إلى الشك من غير بديل ولا دليل.
2- تعبر اللغة –كما يذهب سيرل- عن معانٍ واضحة بصورة معقولة من غير مراوغة وتأويل، فيمكن استخدامها للحديث عن العالم الواقعي، شأنه شأن الفلاسفة التحليليين الذين يرون اللغة مدخلا لتحليل العالم الواقعي.
3- يرفض سيرل التفسير المادي للظواهر كافة، كما يرفض القول بثنائية الظواهر، أو الكيانات في العالم، فلا يجوز – وفق رأيه- تقسيم العالم إلى عالم المادة وعالم الروح (أو العقل)، كما لا يجوز الانجرار خلف المادية المفرطة ص74.
وهذه الفكرة هي نتيجة الواقعية المفرطة التي يتبناها سيرل، وإقصاءه الحالة الدينية عن التحليل، فقد كان يتوقع أن فكرة الثنائية نتاج غربي محض، ويبدي استغرابه، من وجودها خارج الثقافة الغربية في الديانات الشرقية، وقد اكتشف ذلك مصادفة في الهند حينما التقى (الدلاي لاما) الذي شدد على كون الإنسان مؤلف من عقل وجسم. ص78
ومن هنا يتبدى عدم وقوفه بدقة على حقيقة الأديان -أو حتى الثقافات الشرقية- التي تعتقد كلها بثنائية الظواهر، لذا فلا غرابة أن تراه يجنح في كثير من تحليلاته نحو المادية رغم إعلانه عدم إيمانه بها، ولكنه وبسبب رفضه لعالم الروح لن يبقى له سوى عالم المادة ميدانا للتحليل، حتى وإن رفض القول بمادية الظواهر، وفسرها وأولها تأويلات عدة، بيولوجية أو فيزيائية ... إذ أنها جميعاً لا تغادر العالم الواقعي المشاهد (المادي).
ويتأكد غياب البعد الديني في خطاب سيرل، ونزوعه نحو الإلحاد من خلال تبنيه طرح برتراند رسل الذي يرفض الإيمان بالله انطلاقا من أنه لا يرى أدلة كافية على وجود الله. ص64 .
ولكن ثمة فارق هام بين عدم إعطاء الدليل الكافي، وبين عدم البحث عنه؛ فكونه لا يهتم بالبحث عن الدليل لا يعني عدم وجود الدليل، ولو قام بمحاولة يسيرة للبحث عنه في أي من الديانات لوجده من غير استغراب إذ هو من بدهيات الأديان السماوية وكثير من الأديان غير السماوية، فالدليل موجود والغائب هو البحث عنه.
هذه مجمل المقدمات النظرية التي يبني عليها سيرل فلسفته، وفي إطار هذه الفلسفة كان لابد له من تحليل العقل كأداة للكشف عن العالم، وخاصياته الإشكالية، كالشعور والقصدية، وكيف يعمل العقل في المجتمع؟ وتفسير الواسطة التي يطال بها العقل العالمَ، وهي اللغة.
ماهية العقل.. الشعور وبنيته
العقل وظواهره وتجلياته المختلفة ظواهر بيولوجية كما يراهم سيرل، وهو يعتقد أن تحليلاته البيولوجية بشأنهم قد كشفت اللثام عن كثير من القضايا الفلسفية الشائكة.
ينطلق سيرل من محاولة تفسير الشعور محددا إشكاليته على النحو التالي: “إذا فكرت بالشعور بوصفه نوعا من الظاهرة المعزولة المميزة عن الواقع المادي أو الفيزيائي، إذا فسيبدو وكأنك مضطر إلى تبني ما يسمى تقليديا بالثنائية... ولكن إذا حاولت إنكار الثنائية وإنكار أن يوجد الشعور بوصفه شيئا ذاتيا غير قابل للاختزال، إذا فسيبدو أنك مضطر إلى ركوب المادية” ص74.
ولكنه يمضي قدما رافضا هذين الافتراضين معا، إذ كلاهما –حسب رأيه- لا يقوم على حجج قوية، فكلاهما لا ينتميان إلى العالم الواقعي الفيزيائي.
يحاول سيرل أن يخرج من هذا المأزق بتفسيره الشعور تفسيرا بيولوجيا؛ فشأنه شأن أية ظاهرة بيولوجية أخرى (ص83) وإن كان يتميز ببعض السمات الخاصة، وبخاصة الذاتية، فهو يمتلك وجودا أنطولوجيا، وكونه يملك هذه الخصائص المميزة لا يمنع من كونه ظاهرة بيولوجية، “على مستوى أعلى للدماغ، تماما كما أن الهضم سمة على مستوى أعلى للمعدة” ص83.
وفي تحليله هذا يختلف سيرل عن الماديين من حيث أنه أثبت للشعور وجودا فعليا، وهذا ما ينكره الماديون، ولكنه في المقابل يدحض الثنائية كذلك بمجرد رفضه مقولة إن الشعور شيء لا بيولوجي، وليس جزءا من العالم الطبيعي.
وفي هذا تأكيد على واقعيته سابقة الذكر التي لا ترى خلف حدود الواقع شيئا، كما ترفض التفسير المادي الجامد، ولكنها لا تغادر العالم المادي فهي مادية معدلة، أو مفسرة للظواهر على نحو يلغي كل الأبعاد غير المادية المحسوسة، ولو اختلفت التسمية.
فالشعور وعملياته كلها عمليات بيولوجية، تسببها عمليات عصبية على مستوى أعلى من الدماغ، بل إن سيرل يذهب أبعد من ذلك عندما يعلن أنه “لا يوجد سبب بقدر ما نعلم من حيث المبدأ يحول دون بناء دماغ اصطناعي يسبب الشعور ويحققه أيضا” ص86.
ويطلق سيرل على هذه النظرة (الطبيعة البيولوجية)، فهي طبيعة لأن العقل فيها جزء من الطبيعة، وبيولوجية لأن “نمط تفسير وجود الظواهر العقلية هو بيولوجي في مقابل التفسير الحاسوبي أو السلوكي أو الاجتماعي أو اللغوي تمثيلا” ص86.
ولا أدري إن كان هذا الجهاز الشعوري الذي يقترحه سيرل ستحمر صفائحه –إن كان من الحديد- عندما يشعر بموقف محرج، أو ستنتفخ أوداجه الخشبية عندما يغضب، أو يفقد الوعي في حالة سماعه نبأً مروعا. وهل يمكن صناعة جهاز بديل ينوب عن الأم ويشعر الطفل الصغير بحنانها وقت غيابها، بحيث تتدفق فيه كميات الحنان نفسها، ويبدي لها الطفل استجابة.
من جانب آخر ألم تسترعِ سيرل ظاهرة الموت ليحاول تفسيرها، فما هو السر الذي نزل بهذا الجسد فحول الجسد النابض بالحركة إلى قطعة كقطع الخشب الهامدة؟ وهل بمقدورنا صناعة جهاز يعيد تشغيل الجسد (بيولوجيا!) -كما يرى- أم إن حدود البيولوجيا تقف هنا؟
كل هذه التساؤلات تبين أنه لم يكن مطلوبا من سيرل تفسير عمل العقل ووظائفه بيولوجيا، فهذا مما يعرفه المختصون في علوم الطب، وإنما كان حريا به تفسير المؤثرات التي تخرج عن حدود البيولوجيا، كتفسير الهيجان نتيجة كلام معين، والوقوف على الرابط بين مواقف وكلمات محددة وأثارها المنعكسة عنها.
العملية الشعورية تسير حسب المخطط التالي:
سبب علاقة مسبب
والواقع أن العملية الشعورية تتألف من ثلاثة عناصر أساسية، هي : سبب، علاقة ، مسبب؛ وسيرل بتحليلاته السالفة يفسر المسبب ويوضح سيرورته البيولوجية، كما يفسر السبب، ولكنه يحجم عن تفسير العلاقة الاقترانية بينهما. وما قام به في حقيقة الأمر هو تفسير للجانب المادي للظاهرة، ولكن تفسير العلاقة الاقترانية بين الموقف والشعور هو الجانب الروحي الذي لم يره سيرل في حدود العالم الواقعي.
ولكن كيف يمكن تحليل الشعور إلى عناصره المكونة؟ كما نحلل الهضم إلى إفراز الأنزيمات والسوائل تحلل الكربوهيدرات وغيرها ص88، وكما نحلل انقسام الخلية وغيرها من الظواهر البيولوجية، وهي إشكالية مهمة اعترضت سيرل.
يجيب سيرل على ذلك باعتباره الشعور غير قابل للاختزال -التحليل إلى العناصر المكونة-؛ فالحال مع الشعور مختلف “فما أن نفسر الأساس السببي للشعور من خلال الرسائل والنبضات العصبية في المهاد (الثالامس) والطبقات المخية المختلفة، أو فيما يتعلق بالناحية الأخرى من خلال الخصائص الذرية والكهربائية حتى يبدو لنا أن ظاهرة أخرى بقيت من دون مساس .. ففي حالة الشعور لدينا عنصر ذاتي غير قابل للاختزال بقي متروكا بعد أن قدمنا تفسيرا سببياً كاملا للأساس البيولوجي-العصبي فما الذي يجري؟” ص88-89.
يدرك سيرل أنه لا يمكن تفسير الشعور وتحليله كأية ظاهرة مادية أخرى وإلا فإن هذا سيضطره إلى الدخول في ثنائية الجوهر (المادة والروح) أو ثنائية الخاصة التي تقول بوجود نوعين من الخواص للأشياء التي تتميز ميتافيزيقيا؛ فهناك خواص فيزياوية، كوزن الأشياء، وخواص عقلية كالتألم مثلا ص90.
لذا فهو يفضل الاكتفاء في تحليل الشعور ببيان أساسه السببي الكامن في عناصره الفيزياوية الصغرى؛ فيمكننا مثلا تحليل الألم من خلال رؤيتنا للنبضات العصبية التي تتحرك في موضع في الدماغ، لكننا -وحسب سيرل- “نترك في هذه الحالة شيئا ما، شيئا جوهريا في مفهومنا عن الشعور وما نتركه هو الذاتية” ص91، التي لا يمكن تفسيرها وتحليلها.
هذا الذي يتركه هو التساؤل الذي أورردناه سالفاً حول ماهية العلاقة بين الشعور والمواقف؟ ولماذا يختلف الشعور من شخص لآخر رغم وجود نفس المؤثر؟ وليس السؤال ما هو التحليل البيولوجي للعملية الشعورية التالية؟
السبب المانع من تحليل الظاهرة عند سيرل هو أن “للشعور أنطولوجيا حضور ولهذا السبب لا نستطيع القيام باختزال الشعور إلى ظواهر غيابية دون أن نتخلى عن خاصية الجوهرية” ([1]) ص91 .
وهنا يؤكد سيرل اختلاف الشعور عن باقي الظواهر البيولوجية الأخرى دون أن يقدم حلا مقنعا حول هذا الاختلاف وسببه.
فما هو السر الذي تلبس بالشعور فحال دون تحليله كأية ظاهرة بيولوجية ؟ لا شك أنها الروح التي تعطي تعليلا للعلاقة بين السبب والمسبب، وهي جزء من العالم الواقعي وإن لم تكن مشاهدة ومعاينة، ولكنها متعقلة من خلال تأثيراتها. ولو أن سيرل لم يقم بإقصاء الروح عن التحليل لوجد فيها تفسيرا لهذا الاختلاف.
كيف يعمل العقل؟ ... القصدية
ينتقل سيرل من الحديث عن ماهية العقل إلى الحديث عن كيفية عمله، فكيف يربطنا العقل بالأشياء والأشخاص والعالم؟ هذا ما يسمى القصدية، فالقصدية تعني: “الحالات الشعورية، الاعتقادات والرغبات، والمقاصد والإدراكات، وكذلك ضروب الحب والمكاره والمخاوف والآمال” ص128.
والفارق بين القصدية والشعور أن الشعور يحتاج تأهب المشاعر، ويقظة الإنسان وليس ذلك ضروريا في القصدية، فقناعتي بوجود بلد اسمه فرنسا يبقى حتى وإن كنت نائماً، ولكن إحساسي بها يحتاج اليقظة، فالقصدية حيّة حتى عند خمود المشاعر.
يعود سيرل هنا ليؤكد -كما في تحليل الشعور- أن القصدية حالة مطبعة كحالة بيولوجية، وذلك لتفادي الوقوع في الثنائية الطبيعية، أوالمادية. ص139.
ثم يطرح سيرل نموذجا بيولوجيا بسيطا عن كيفية ارتباطنا بالأشياء، وذلك كحالة الجوع والعطش، فـ “كلاهما قصدي لأن كليهما من أشكال الرغبة: الجوع رغبة في الأكل والعطش رغبة في الشرب، وها هي الطريقة التي يعمل بها العطش، يتسبب فقدان الماء في النظام بأن تفرز الكليتان الرينين (أو بروتين ضغط الدم) الذي يؤثر في سائل الأبيتيد الدوار، الذي يطلق عليه الشد الوعائي فبسبب الشد الوعائي تصل هذه المادة إلى الدماغ، وتهاجم أجزاء من المهاد التحتي وتسبب زيادة في معدل الرسائل العصبية في تلك الأجزاء، وهذه بدورها تجعل الحيوان يحس بالرغبة الشعورية للشرب” ص143. فالقصدية عند جون سيرل تفسر كهذه الحالة، فتوجهك نحو شيء يحدث بالطريقة ذاتها التي تتوجه بها نحو الماء والطعام.
ولكن المستغرب أنه يشرح القصدية في الحب والكراهية.. بأمثلة أخرى، فهو يضرب حالة الطعام والشراب مثلا تقريبيا لها، فإن كانت القصدية نحو الآخرين (الحب والكراهية) بهذا الوضوح لمَ لم يشرحها هي بذاتها؟ ويحلل لنا كيف تتم عملية الكراهية مثلا، من دون حاجة لمثال يطلب مني بعد ذلك القياس عليه.
السؤال المركزي –وفق ما نعتقد- ليس كيف تستجيب بيولوجيا الإنسان ومادته للعمليات العقلية، أي كيف تمثّل بيولوجيا، بل هو كيف تفسر عقليا، وما هو سبب الكراهية أو الحب – السبب المعنوي- وهذا سيحيلنا مرة أخرى للحديث في بنية الشعور التي مر ذكرها.
وعلى سبيل المثال؛ فأنا عندما أرى شخصا معينا وأتعامل معه ويتولد انطباع الحب عندي مثلا، ثم تندفع الدماء وكافة الاستجابات البيولوجية، السؤال ما الذي حرك وولد هذه الحالة البيولوجية من دفق الدماء و....، وليس السؤال شرح كيفية الاستجابة البيولوجية، فالسؤال المطروح أسبق من العملية البيولوجية، لأن العملية البيولوجية بحد ذاتها استجابة له.
القصدية الجمعية.. كيف يخلق العقل واقعا اجتماعيا موضوعيا؟
يريد المؤلف في هذه الزاوية أن يلقي الضوء على طبيعة الواقع الاجتماعي والمؤسساتي، ودور العقل في صياغته، وهل المجتمع هو مجموعة القصديات الفردية أم هو كيان يأخذ شكلاً جديداً بتأليفه من الصياغات الفردية ولكنه ليس مجموعها ؟
يضرب المؤلف النقود مثالا لتشكل الظاهرة الاجتماعية. فخصائصها الفيزيائية عادية جدا، فهي أوراق ملونة، ولكن وبرغم تفاهتها نحيطها بعناية كبيرة، وإذا سألنا ما الذي أعطى هذه الورقة التافهة هذه القيمة والأهمية؟ سنجد أن مكوناتها الفيزيائية والكيميائية قاصرة عن الإجابة، ولو حاولت إنتاج شيء مشابه لها لن يكون بنفس الأهمية بل سيكون تزويرا، ولكي يكون الشيء نقودا “ينبغي أن يكون أكثر من مجرد مجموعة من المواقف حتى لو كانت هذه المواقف من المكونات الجزئية أو الجوهرية لنمط من الظواهر التي تميز النقود....[فـ] لا يكون نمط من الأشياء نقودا على المدى الطويل إلا إذا قبل كنقود، وما يصح على النقود يصح على الواقع الاجتماعي والمؤسساتي بشكل عام” ص166-167.
يرفض سيرل عد القصدية الجمعية مجموعة من القصديات الفردية، ويخالف الفلاسفة في جعلها كذلك، ويرى أن القصدية الجمعية موجودة في الواقع بشكل عملي، فلعبة كرة القدم أو أداء قطعة موسيقية هي عملية جمعية لها طابعها الخاص المختلف عن القصديات الفردية، فقارنوا مثلا فرقة الأوركسترا وهي تؤدي سيمفونية ما، بالأعضاء الأفراد للأوركسترا وهم يعزفون القطع الخاصة بهم كل على حدة فحتى “لو تدرب الأعضاء الأفراد جميعا بالمصادفة على أداء الأجزاء الخاصة بهم بطريقة يمكن الجمع بينها زمنياً بحيث يبدو عزفهم المنفرد وكأنه سيمفونية يبقى هناك فرق حاسم بين قصدية السلوك التعاوني وقصدية السلوك الفردي” ص177-178.
ويرى سيرل بأن وجود الواقع الاجتماعي المؤسساتي يتطلب الأمور التالية:
1- القصدية الجمعية، وقد مر بيانها.
2- إسناد الوظيفة: فمن مميزات الكائنات البشرية قدرتها على استعمال الأشياء كأدوات، فهي تسند الوظائف إلى الأشياء، وعلى سبيل المثال استخدمت الشعوب البدائية جذوع الأشجار كمقاعد.
3- القواعد المكونة: هناك قواعد تنظم أشكال السلوك الموجودة سابقا، كقواعد السياقة، التي تنظم الفعاليات التي توجد وجوداً مستقلا عن القواعد، فلا تصنعها القواعد ص182، وتسمى هذه القواعد قواعد تنظيمية، لأنها تنظم السلوك الموجود سابقا، وهناك نوع آخر من القواعد لا تنظم السلوك الموجود فقط بل تسهم في تشكيل صورة الفعالية التي تنظمها، أو تجعلها ممكنة، فالقواعد تساهم في تشكيل الظاهرة فضلا عن تنظيمها ص 182، وخير مثال على ذلك قواعد الشطرنج، فقواعده الضمنية القائمة على شبكة من الاحتمالات تخلق الفعاليات، ولا تنظم فقط طريقة اللعب، ولذلك تجد فيه إبداعا لأنه يستخدم القواعد ليكون خطوات وفعاليات، فهذه القواعد المكونة هي ما تقوم عليه المؤسسات الاجتماعية، وإلا فلن تتجدد الفعاليات.
ثم بناء على هذه المكونات الثلاثة يقترح سيرل تشييد واقع اجتماعي بسيط، ويضرب مثالا له في مجتمع بدائي قام باستخدام جذوع الشجر –أسندوا لهم وظائف- كمقعد نتيجة القصدية الفردية ثم تكونت لدى الناس بفعل ذلك قصدية جمعية في بناء المقاعد -مع العلم أن القصدية الجمعية هنا هي مجموع القصديات الفردية وليس كما يرى سيرل أنها مختلفة عن القصدية الفردية- ثم قاموا بتشييد حاجز قوي، وتشكل عندهم قناعة بمتانة هذا الحاجز، ولكن بعد فترة تصدع هذا الحاجز ولم يبق منه إلا صف من الأحجار، ولكن الناس استمروا يعاملونه وكأنه حاجز لا يجوز تجاوزه، هذا التغيير هو النقلة الحاسمة في خلق الواقع المؤسساتي 185، فالحاجز كان يؤدي وظيفته بفعل العوامل الفيزيائية، ولكنه اليوم يؤديها بفعل القبول الجماعي، وهنا يقترح الكاتب تسمية هذه النقلة بـ “وظيفة الوضع” ص186.
ولم يمرّ سيرل في تشييد هذا الواقع الاجتماعي على المكون الثالث (القواعد المكونة) ولكن يمكن فهمه من خلال استخدام الناس للأدوات وفق مناهج فاعلة تبد الأشياء بحيث تكون هذه المناهج، والأساليب هي القواعد المكونة.
هكذا قدم سيرل توصيفا جيدا للواقع الاجتماعي، وحلله بشكل مفصل شرح فيه كيفية صناعته ومراحل عمله، بحيث ألقى الضوء على النقاط التي يمر عبرها الواقع المؤسساتي مما يفسح المجال للاستفادة منه في التصحيح، والبناء على حد سواء.
كيف تعمل اللغة؟... الكلام بوصفه نوعا من الفعل الإنساني
ذكرنا بأن سيرل واحد من الفلاسفة التحليليين، والفلسفة التحليلية ترى اللغة مدخلا لفهم الحياة، فيتم بالاعتماد عليها فهم النشاط الإنساني إذ هي صورة من صور الأداء الفعلي بالقول، فعندما يتم الاتفاق بين شخصين على بيع دار مثلا، تقوم صيغة العقد والكلام المستعمل في العقد مقام الفعل في نقل الملكية من فلان إلى فلان، فنحن حين نتحدث نفعل، ولذلك تطورت الدراسات اللغوية في كنف الفلسفة التحليلية تطورا كبيرا،فظهرت المدرسة البراغماتية (التداولية) نتيجة لاهتمام الفلاسفة التحليلين بكيفية عمل اللغة في المجتمع، وظهرت فكرة الأفعال الكلامية.
فهذه الأفعال الكلامية تقع في عدة أنواع فقد أصدر حكما، أو أفسر مشكلة علمية، أو أتنبأ بوقوع حدث ما في المستقبل.. ص201، وقد أطلق الفيلسوف البريطاني جون أوستن([2]) على هذه الأمثلة (الأفعال التمريرية). والفعل التمريري هو أصغر وحدة مكتملة في الاتصال اللغوي الإنساني، ص202، فحينما نكتب أو نتكلم نؤدي أفعالا تمريرية.
وإذا ما أردنا أن نحصر الفعل الكلامي الإنساني في تصنيفات جامعة مانعة فهناك -حسب سيرل- خمسة أنماط من النقاط التمريرية:
1- النقطة التمريرية الإثباتية: وهي التعهد للمستمع بحقيقة الخبر، فهي “أن نقدم الخبر بوصفه تمثيلا لحالة موجودة في العالم” ص217، ومن أمثلتها الأحكام التقريرية، والأوصاف الطبية والتصنيفات والتفسيرات، وكل الإثباتات لها واقع يصدقها أو يكذبها فهي (كالخبر عند النحويين) ([3] )
2- النقطة التمريرية التوجيهية: وهي “محاولة جعل المستمع يتصرف بطريقة تجعل من تصرفه متلائما مع المحتوى الخبري للتوجيه” ص218، ومن أمثلتها الأمر والنهي والطلبات، وهذه التوجيهات لا توصف بالصدق ولا بالكذب، وهي (كالإنشاء عند النحويين)، ولكنها يمكن أن تطاع أو تهمل.
3- النقطة التمريرية الإلزامية: وهي “تعهد من المتكلم لمباشرة مساق الفعل الممثل في المحتوى الخبري” ص218، وأمثلتها هي المواعيد والنذور والرهون والعقود والضمانات، وهذه كذلك لا يمكن أن تكون حقيقة أو زائفة، ولكنها يتم أن يتم تنفيذها أو يحافظ عليها أو يحنث بها، ومن أمثلتها كذلك التهديد، فهو إلزامي ولكنه ضد مصلحة المستمع.
4- النقطة التمريرية التعبيرية: وهي “التعبير عن شرط الصدق للفعل الكلامي” ص219. ومن أمثلتها: الاعتذارات والشكر والتهاني والترحيبات والتعزيات، وكلها تسلم بحقيقة المحتوى الخبري محل الترحيب أو الشكر..
5- النقطة الخامسة هي التصريحات: والمقصود هنا أن تصرح بقرار أو بإحداث حالة ما، وتكون وظيفة التصريح “إحداث تغيير في العالم بتمثيله وكأنه قد تغير” ص219. ومن أمثلتها (لذلك أعلن الحرب) (أنت مطرود) (أنا مستقيل) وتنفرد التصريحات بكونها تحدث التغييرات في العالم فقط من خلال الأداء الناجح للفعل الكلامي، فإذا نجح في إعلان الحرب، فيكون قد أحدث حالة فعلية لم توجد من قبل.
ولكن ربما تتداخل التصريحات مع التوجيهات فـ (أعلن اندلاع الحرب) تماثل قولنا بفعل الأمر (أعلنوا الحرب) ولكن الأسلوب والمجاز لعبا دورا هنا.
ولنضرب على ذلك مثالا من القرآن الكريم، يقول تعالى في سورة آل عمران {ومن دخله كان آمنا} آل عمران: ٩٧، فهذا تصريح ولكن المقصود منه هو التوجيه. والمقصود: أي أمنوا من دخل الحرم، فالتعبير بالتصريح يكون في حالة ضمان المتكلم للمستمع بأنه سينفذ الأمر من غير جدال، فالتصريحات قد تكون صيغة أبلغ في التوجيهات، وكذلك الحال في القول: (أنت مرفوض) فهو يساوي للقول (أرفضك) ولكن التعبير بالصيغة التصريحية يأتي لتأكيد أن الأمر يعتبر في حكم الناجز بهذا القول.
بيد أن هناك أسئلة حول هذا التقسيم، أين وضع سيرل التعجب؟ (ما أروع السماء) هل هو في الإثباتات أو في التعبيرية وأين وضع التمني والترجي؟ (لعل الغائب يعود) وأين وضع النداء؟...
والواقع أن مسألة الأفعال الكلامية أخذت بحثا ونقاشا كبيرين، ولعل أفضل من قاربها من الباحثين العرب الدكتور مسعود صحراوي فقد قارن ظاهرة الأفعال الكلامية بين العلماء العرب والغربيين في كتابه (التداولية عند العلماء العرب: دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني العربي). حيث طرح فكرة الأفعال الكلامية في الثقافة الغربية، وقارنها بما هو عند العلماء العرب مما ينطوي تحت ظاهرة (الخبر والإنشاء) ولن نطيل كثيرا في نقاش هذه القضية، فهي بحد ذاتها تحتاج بحثا مفردا.([4])
خاتمة
وفي المحصلة الختامية، لقد قارب هذا الكتاب مواضيع متباعدة نظريا، ورغم ذلك فإن قارئه لا يشعر بالشتات من خلال قراءته، لأن الجامع بين هذه المواضيع هو فلسفة واحدة التي حاول من خلالها الكاتب فهم هذه الظواهر المتعددة.
ولعل ما يميز سيرل كونه قدم في كتاب واحد نظرية متكاملة بدءا من المنهج إلى التطبيق، بحيث حاول التوفيق بينهما من غير مشاكل في التخريج، فهو –وبغض النظر عن موافقتنا له- كان متناسقا مع مبادئه غير متناقض معها، ويلتزم الصمت حين لا تستطيع الواقعية الإجابة.
هذه الواقعية التي تطلق العقل من أسر الشكية، والمخادعة الفلسفية التي تحول بينه وبين فهم العالم كما ينبغي، فالواقعية خطوة مهمة في السير نحو الواقع وفهمه.
ولكن وأمام الواقعية نقول: إن الواقعية إن كانت تعني النظر إلى العالم المشاهد (الواقع) من غير تجوال حول هذا الواقع فلا شك أنها ستقع في شرك المادية، ولن تكون التأويلات البيولوجية سوى مساحيق للتجميل لا أكثر، لأن غاية ما تقوم به الفيزياء والبيولوجيا وغيرها.. هو وصف الحالة وتحليلها، لا تعليلها وفهم أسبابها، ولكنها إن نظرت للواقع نظرة التعليل والسؤال، بحيث تجاوزت المادي والمشاهد، وقبلت بإمكانية وجود عالم الروح، فلا شك أنها ستزداد عمقا في فهم العالم الذي يتكون من هذه الثنائية، ولست أقرر هنا على الواقعيين ولكنها دعوة لهم بأن يضعوا ذلك كاحتمال جدير بالملاحظة، قامت عليه معظم الأديان، فلا شك أن ذلك يسترعي الاهتمام والنظر.
[1] الاختزال إلى ظواهر غيابية هو : تحليل الظاهرة إلى عناصرها المكونة موضوعيا بغض النظر عن تأثيرتها الشخصية أي تحليل الشعور موضوعيا بغض النظر عن شعور زيد أو عمر، وهو مستحيل لأن الشعور ليس عملية فيزيائية وبيولوجية فقط، كما يرى سيرل. بل –حسب رأيي_ تتلبسه الروح التي تختلف من شخص لآخر بما يجعل الشعور مختلفا بالتبعية.
[2] - يعد جون أوستن مؤسس المدرسة التداولية، وهو أول من تحدث عن الأفعال الكلامية في كتابه: كيف ننجز الأشياء بالكلام، توفي سنة 1957. ثم تبعه سيرل في كتابه: أفعال الكلام، وكلاهما ينتميان لتيار الفلسفة التحليلية
[3] - الخبر: ما احتمل الصدق أو الكذب وهو قسيم للإنشاء في اللغة.
[4] - انظر تفصيلات أوفي حول هذا الموضوع في بحثنا (التداولية.. دراسة في المنهج ومحاولة في التصنيف)، والمنشور على موقع ببليوإسلام على الرابط التالي:
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.