آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

القرآن والعمران قراءة في المفاهيم المؤسسة

يحيى رمضان


تنطلق هذه المداخلة من مسلمة مفادها أن أي مقاربة لمفهوم العمران كما حدده القرآن  لا يمكن أن تتم إلا بقراءة الحقل المفاهيمي الذي يؤسسه ضمن النص.

           من ثم فإن أي قراءة تستهدف استكناه مفهوم العمران هي بالضرورة مضطرة إن كانت تتغيا ملامسة محتواه القرآني أن تقف عند مفاهيم أخرى لها علاقة به إما علاقة تشاكل وتأسيس أو علاقة تباين وهدم .

          انسجاما مع هذه المسلمة نقدم القول فنقول: إن العمران بالمفهوم القرآني لا يمكن أن يفهم في أبعاده المختلفة  والمتعاضدة في آن من دون فهم مفهوم الاستخلاف، وهذا المفهوم بدوره  لا  يعطينا كل دلالاته  ولا تنماز طبيعته من دون استحضار مفهومالتسخير ، وهذا المفهومان ( الاستخلافُ و التسخير )  بما هما مفهومان مكونان للمفهوم الأعمِّ  العمرانُ لا يدركان  ومفهومُهما الأعمُّ من دون النظر إلى المفهوم المقابل  مفهومِالفساد وهذا باعتباره انحرافا عن الأصل أو تناسيا له لا يمكن أن ينظر إليه إلا من خلال مفهوم  العهد .

           إن هذه المنظومة المتعاضدة في جانب والمتقابلة في جانب آخر بما يندرج ضمنها ويميزها من تفاصيل  وبما يربطها من علاقات  هي ما ندعوه بالحقل المفهومي الذي نرى أنه ينبغي قراءته إن كنا نريد مقاربة مفهوم العمران كما أراده المتكلم بالقرآن.

1 ـ العمران:

          العمران أحد المفاهيم الإسلامية المنشأ التي صاغها العقل المسلم في تفاعله الدائم والمستمر مع نص الوحي، ومع العالم المحيط به، ولا يزال هذا المفهوم / المصطلح حاضرا في الخطاب الإسلامي المعاصر بالحمولة القديمة ذاتها أو باعتباره مرادفا أو مقابلا لمصطلحات أخرى نشأت ضمن مجالات حضارية أخرى مختلفة، أو بوصفه قراءة مستجَدة ومُحيِّنة لطبيعة الوجود البشري في العالم انطلاقا من المرجعية ذاتها التي انطلق منها القدماء، وهم يؤسسونه وبالحركية نفسها حيث الذهاب و الإياب من وإلى النص والواقع طردا وعكسا في عملية قراءة مبدعة وتفاعلية تسعى، وهي محملة بكل منجزات العصر إلى استكناه  الآفاق الممكنة في النص بغية إدراك العالم وتصوره انطلاقا من النص وتحت ظلاله الممتدة في الزمان والمكان باعتباره إجابة لا يحدها الزمان و لا المكان.

          و بالعودة إلى الآية المركزية في نشوء هذا المفهوم وانبنائه في الخطاب الإسلامي قديمه وحديثه : {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود:61] نتبين ثلاثةَ مكونات أساسية:

1.     فعل العمران (أو الاستعمار).

2.      المقصود بهذا الفعل ( الإنسان بصيغة الجمع ).

3.     فضاء هذا الفعل ( الأرض بما تحويه وما يعلوها).

يسجل هذا الخطابُ الآيةُ حدثا مهما من أحداث البدايات الأولى للوجود البشري، كما يكشف السياق الذي ورد فيه، أقصد سياق دعوة الأنبياء إلى التوحيد في سورة هود، عن أهمية الوظيفةِ / الفعلِ المشارِ إليه( الاستعمار)، ومكانةِ القائم به، غير أن طبيعة الخطاب الحجاجية  { والى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود:61]، وهي تربط بين إنكارها سلوك الإنسان الحادثِ المتمثل في الكفر  وبين لحظةِ الوجود الأولى لهذا الإنسان( الاستعمار)  إنما تستبطن أن  الطبيعي بالإنسان هو العكس (  أي كونه موحدا). فكيف يكون الله هو صاحب فعل التأسيس  الأول للعمارة ويكون المعبودُ غيرَه؟!

          إن شرط العمارة ( العمران) المؤَسِّس إذن هو شرط العبادة الموحِّدة{ ما لكم من إله غيره}. وهي الغاية التي خلق من أجلها هذا الذي به أنيط فعل العمران : الإنسان: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]

إن صفة العبودية، صفة بدهية نشأت طبيعيا من فعل العمران / الاستعمار، فهي الأصل الذي كان عليه المستعمَر ( الإنسان) لحظة فعل الاستعمار الأول،  و أن ما وقع من انحراف بعد ذلك هو ما استدعى التذكير الذي جاء على لسان صالح {وإلى ثمودَ أخاهُم صالحا قال يا قومي اعبدوا الله ما لكم  من إله غيره هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود:61]. إن الآية تذكير بالعبودية باعتبارها أصلا، عبر التذكير بالأصل الأول لاستعمار الله للإنسان في الأرض، فهما كانا متلازمين في الأصل وذلك ما ينبغي أن يدوم عليه الحال لأنه الحال الطبيعي والأصلي. ولهذا فسر القرطبي ما ورد في الآية مباشرة بعد الحديث عن العبادة والاستعمار، أي قوله تعالى: { فاستغفروه ثم توبوا اليه  [سورة هود:61]، بقوله '' أي ارجعوا إلى عبادته ''[1] والرجوع من دون شك عودة إلى ما كان[2]، ولم يكن شيء تعرفه  ثمودُ  قبل مجيء صالح عليه السلام غير عبادة الأصنام فتَعيَّن أن المقصود بالعودة إنما هي عودة أهل ثمودَ إلى ما كان عليه المستعمَرون الأولون في الأرض من عبادة الله. فلا عمران إذن من دون عبادة، وأي حالة يتجسد فيها خلاف ذلك إنما هي حالة انحراف إلى الحالة المقابلة للعمران حالة الفساد.

إذا ثبت أنه لا عمران من دون عبادة، فمن البدهي أيضا أن لا تكون عبادةٌ من دون عابد، ولا يمكن أن تتجلى لنا حقيقةُ هذا العابدِ  ولا طبيعة العبدية التي يتصف بها المستعمر باعتباره كذلك  خارج إطار المفهومين الآخرين المكونين لمفهوم الاستعمار ( العمران) ، أقصد مفهومي الاستخلاف والتسخير.

2 ـ الاستخلاف:

          إن هذا العبد المستعمر، وقبل حدوث فعل الاستعمار ذاته يُشهدُ الله ملائكته، في الملأ الأعلى، أن حكمته اقتضت جعله خليفة في الأرض:  {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة:30] . إن الخلافة بما هي إرادة سابقة عن فعل الاستعمار كان لها السبق في تحديد طبيعة الوجود الإنساني في الأرض، إنه وجود استخلافي والإنسان فيه خليفة، خليفةٌ وليس شيئا آخر[3] يتجاوز هذه المرتبة الوجودية أو يقل عنها، فمن معاني الخليفة التناوب في الوجود بين بني البشر حيث '' يَخْلُف بَعْضهمْ بَعْضًا قَرْنًا بَعْد قَرْن وَجِيلًا بَعْد جِيل '' كما في تفسير ابن كثير[4]. و الخلافة بهذا المعنى تتساوق و العمران من حيث كونُه عمرا [5]،  أي مرحلة زمنية تقتضي نهاية المستخلَف المستعمَر ليأتي آخر يقوم بالدور نفسه. و ما كان غير قابل للبقاء الذي هو لله وحده، فلا يكون إلا مستخلَفا فانيا،  وما كان فانيا كان عبدا '' وكل له عبد ''. غير أن عبدا عن عبد يفترق فعبد عابد بالاختيار كما هو (الإنسان المستخلف) لاشك أفضلُ عند الله من عبد عابد بالقهر (سائر المخلوقات)،فذاك، كما يقول ابن القيم الجوزية،  يعبد ربه  ويسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار بل ويبذل نفسه في محبته ومرضاته '' مع معارضات الهوى  والشهوة والعدو، [وتلك  تعبده ] ... من غير معارِض... ولا شهوة ولا عدو أو سلطة... ، بل عبادتكم بمنزلة النفَس  لأحدهم''[6] .

          إن العمران المستهدف بالإرادة الإلهية هو عمران استخلافي يقوده الإنسان العبد المستخلف بما ركب الله فيه من قدرات جعلته الوحيد القادر على فعل الاستخلاف من دون بقية مخلوقاته  جميعا، فاستحق بذلك أفضليته على كثير من مخلوقاته فكان بما هو مستخلَف  قابلا للاستعمار  وبما هو مستعمَر متصفا بالعبودية الاختيارية فكان عبدا مستخلفا مختارا، أو وإذا شئنا قلنا: كان مستخلفا عبدا مختارا.

إن هاته الأفضلية التي شعرت بها الملائكةُ حين أخبرها ربُّها بما اقتضته حكمته وإرادته من استخلاف الإنسان فصدر عنها ما عبرت به عنه استعلاما أو تعجبا أو هما معا: { أتجعل فيها من يُفسِد فيها ويَسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة:30] هي ما استدعى  الرد من المستعمِر المستخلِف { إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ وهي ما غابت عن الملائكة حكمتُها التي أظهرها الله لهم بما أعطاه لآدم المستخلَف من قدرة على التسمية:  {وعلم آدم الأسماء كلها}[البقرة:31]. فلما رأت الملائكة ما علمه الله '' لهذا الخليفةِ أقروا بالعجز وجهْل ما لم يعلموه... [و] أقروا له بالفضل''[7].

إن هذه القدرة على التسمية التي مَنَّ الله بها على مستخلفِه آدم بما هي قدرة يندغم فيها العقل ’’ بما هو قوة بها يعقل وعلوم وأعمال تحصل بذلك’’[8] باللسان بما هو قدرة على الإفصاح والتعبير عن هاته العلوم والأعمال، والتي  بها تجلى'' فَضْله وَعُلُوّ شَأْنه... فَحَصَلَتْ لَهُ رُتْبَة الْجَلَال وَالْعَظَمَة بِأَنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لَهُ، مُخْتَصًّا بِالْعِلْمِ ''[9]هي  ما ستمكنه إضافة إلى ما ركب الله فيه من قدرات أخرى من القيام بدوره المنوط به، أقصد عمارة الأرضبما هو العمران إعمال لهذه القدرات التي مُكّن منها في محيطه.

 

 3 _ التسخير:

غير أن التهيئ الإلهي للإنسان بإعطائه القدرات الـمُمَكّنة من إعمال العقل واللسان وما ساندهما لإنتاج العلم وتأسيس شروط العمل إنجازا وتداولا وتوريثا ما كان ليكون له أثر محسوس لولا التسخير الإلهي للمكون الثالث من مكونات الفعل الاستعماري، أعني الأرض بما هي العالم الذي جعله الله فضاء للاستعمار ( بناء واستغلالا، وحفظا واستدامة، و تداولا وتوارثا). بكل ما يعنيه التسخير من تهيئة للأرض، مهدا، وتثبيتا، و توفيرا لأسباب الحياة ماء وهواء وشمسا و ...[10]

إن هذه الرعاية الإلهية المتجسدة  في التسخير بالقدر الذي هي فيه رحمة إلهية بالمستخلَف وتفضيل له، لأن كل شيء إنما مهد له ومن أجله سخر إلا أنها في الوقت نفسه إشعار له بنسبيته ومحدوديته، بل بضعفه  و  احتياجه الدائم و المستمر إلى رحمة الله وعطائه و تسديده و توفيقه.

إننا مع الفعل الاستعماري، بقطبيه الاستخلاف والتسخير، أمام بعدين بهما يتحقق التوازن على الأرض:بعد القدرة والحرية والاختيار وبعد المحدودية و النسبية والافتقار . ولا يتحقق العمران على الأرض إلا حين يدرك المستخلَف هذين البعدين، أي لا يتجسد الفعل العمراني كما أراده الله، إلا حين يعي الإنسان حقيقة الاستخلاف و جوهر التسخير،  ويعمل وفق مقتضياتهما.

4 _ مقتضيات الفعل الاستعماري استخلافا وتسخيرا

 ينحل العمران بمكوناته الثلاثة:  فعل الاستعمار ، والمقصود به  ( الإنسان) ، وفضاؤه ( الأرض أو العالم) إلى علاقتين : 

1.     علاقة فاعلية

2.     علاقة مفعولية

وفي هاتين العلاقتين كان الله فاعلا بإطلاق، إذ هو المنشئ لفعل الاستعمار والمستخلِفُ للقائم به، والمسخِّرُ لفضائه؛ وكانت الأرض منفعلة بإطلاق ، إذ هي مسخَّرة، ابتليت بالطاعة كم يقول ابن القيم فهي قابلة بفعل التسخير هذا لأن تكون قابلة للفعل الإنساني؛ وكان الإنسان المقصود بفعل الاستعمار منفعلا من جهة، وفاعلا من جهة أخرى ، منفعلا لأن اختياره ليكون المستعمَر كان أمرا قدريا لا اختيار له فيه إضافة إلى أن ما مُكِّن منه  و جُعل له مهيئا في ذاته  هو معطى إلهي غير مكتسب لا يد للإنسان فيه، وفاعلا من جهة كونه فاعلا في الطبيعة ( الأرض) بما سُخر فيها له بهذا الذي رُكِّب فيه.

من هنا كان الإنسان مركز الكون  بما هو إنسان ناظر ناطق أعطاه الله القدرة على فعل التعقل والتعبير عن هذا الفعل ( قدرة على التسمية) وإعمال هذه القدرة لينتج  علما وعملا هُيأت أسبابُهما في ذات الإنسان للاستيلاء على الأرض المسخرة له، وهذا مقتضى الاستخلاف  الذي من مقتضياته أيضا حرية المستخلَف فيما استخلِف فيه لأنه لا عمل للعقل ولا إنتاج للعلم والعمل من دون حرية،وبها إضافة للعقل، ينماز عن بقية المخلوقات التي تمثل الطرف الثاني في فعل الاستعمار .

          غير أنه بمقتضى الاستخلاف والتسخير لا حرية مطلقة للمستخلَف في ما استخلف فيه، فتلك من صفات الفاعلِ المطلق صاحبِ فعل الاستعمار اللهِ سبحانه وتعالى والفاعلِ بإطلاق في المستخلَف والمسخَّر. أما ما عداه،أي الإنسان،  فهو  على الرغم من كونهمركز الكون إلا أنه محكوم في وجوده، وفي تكوينه، وفي محيطه الذي يتحرك فيه مستعمَرا ومستعمِرا  بقوانين تحكمه، وتحكم فعل استعماره للمسخَّر الأرض.  

          إن الخلافة بما هي وظيفة أرادها الله   للإنسان المستخلف  وإن كانت بوأته مكان الأفضلية في الكون فاحتل مركزه  علما وعملا فهي تعني من جملة ما تعنيه أنها  موضع تناوب  يخلف فيه الإنسان  باعتباره فردا وبوصفه جماعة بعضه بعضا،  و ما كان محلا للتناوب كان محلا للفناء وما كان هذا محله كان محدودا من حيث قدراتُه كلُّها.  فتكون حريته من ثم من جنس هذه القدرات.  وأي ادعاء للإنسان   بخلاف هذه الحقيقة إنما هو خروج عن مقتضى الاستخلاف و انحراف عن شرط العمران الأصلي الذي هو العبادة، نحو الفساد بتجلياته المختلفة. فليس الفساد سوى تجاوز الحدود المرسومة له باعتباره   مستخلفا عبدا.

5 ـ الفساد

ليس وظيفة الاستخلاف سوى إحدى وسائل العمران كما العمران ليس سوى الأداةِ التي من دونها لم يكن لعبادة الله العبادةِ القائمةِ على الحرية والاختيار أن تتحقق على الأرض فضاءً للعمران؛ مما يجعل العبادة ليس الشرط التأسيسي للعمران في مبدأه فحسب و لكن غايته التي من أجلها وجد.  وإذا كان لا  عبادة  من  دون حياة فإن كل ما يمكن أن يهدمهما أو يسيرَ عكسهما سيكون من دون شك سعي لإفساد العمران ولذلك ليس من المستغرب أن ينبه العليم الحكيم صاحب الفعل التأسيسي لفعل الاستعمار على لسان الملائكة  في مشهد الاستخلاف ذاته على الحدود التي لا ينبغي أن يصلها الإنسان المستخلف في ممارسة قدراته التي مُكِّن منها: { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة:30] ،  إن سفك الدماء وعدم التقديس والحمد خط أحمر لا ينبغي للمستخلَف  الاقتراب منه[11] . ليس لأن في سفك الدماء وتنكُّب العبادة  تجاوزا لدوره المكلف به واستعمالا لـ’’ حريته وقدرته’’ فيما لا ينبغي أن تعتبر من مجالاتهما فحسب ولكن لأن المستخلَف بهذا الفعل يكون  قد انتهك حرمة ركنين من أركان العمران: الحياةِ والعبادةِ وسعى للقضاء عليهما، والقضاء عليهما قضاء على العمران كما أراده الله فكان من ثم مفسدا.

بالفساد سفكا للدماء  وتنكرا  للحمد والتقديس ( العبادة)يتبين الحد الفاصل بين وظيفة الاستخلاف كما أرادها الله لمن سيعمر أرضه نسلا وحرثا بناء وعلما  وعبادة ( حمدا وتقديسا)،  وبين مسار آخر مناقض،  لكنه مع ذلك ممكن،  قد  يختاره  الإنسان أو بالأحرى ينحرف إليه متنكبا وظيفته الأصلية والغاية التي من أجلها كانت. إن هذا المسار،  بما هو انحراف عن الوظيفة الأصلية (الاستخلاف) والغاية منها ( العبادة)، هو مسار من دون شك يفتح  بابا واسعا للهدم المنظم للعمران لاسيما حين لا يكون محصورا في أفراد معدودين بل يغدو مسلك جماعيا نسقيا. لذلك كان الاستئصال مآل أصحاب هذا المسار في الأمم التي سبقت مجيء الإسلام. كان ذلك مصير قوم نوح  و هود (عاد) وصالح(ثمود) ولوط  شعيب( مدين)  وفرعون  وقومه .

إن العمران الاستخلافي الذي أراده الله من عباده عمران  يتوقى الفساد وسفك الدماء، ويهيمن على القائمين به ( المستخلفين) التسبيحُ والتقديسُ بما هما اعتراف بالخالق المؤسس لفعل الاستعمار ( أو العمران إن شئت) في أصله وبدايته.

إن الفساد بما هو ميلان أو خروج  عن حد الاعتدال[12] لا شك يشمل سفك الدماء ويتضمنه، ولا شك أيضا أن عدم  التسبيح والتقديس بما هو نكران للخالق المؤسس لفعل العمران  والمستخلِف للقائم به على الأرض  هو أيضا فساد بنص القرآن غير أن إيرادها في مشهد الاستخلاف متمايزة على لسان الملائكة   { أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}  [البقرة:30]   يمكن أن يُفهم منه أن الفساد الذي قد ينحرف إليه المستخلف لا يتعلق فقط بالعلاقة التي تربط هذا بمن يشاركونه العمران ( سفك الدماء)،  ولكنه سيتجاوز ذلك إلى  علاقته بربه( عدم التسبيح والتقديس / نكران الخالق أو الإشراك به )، بل  يمكن توسيع دائرته  ليشمل  الأرض ذاتها التي استعمِر فيها .

إن هذا الجزء من آية الاستخلاف  { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}  [البقرة:30] إضافة إلى أنه يمكن اعتباره محددا لطبيعة الإطار الذي ينبغي أن يلتزم بحدوده العمران البشري  حتى لا يفقد  هويته فينقلب فسادا  مطلقا، فهو أيضا  يمكن أن يكون إطارا موجها لطبيعة العلاقات التي ينبغي أن تتأسس بين  مكونات الفعل الاستعماري/ العمراني في كليته:

1.   علاقة الإنسان بربه

2.  علاقة الإنسان بمن يقوم معه بمهمة الاستعمار ( الانتباه إلى أن الحديث في القرآن كان بصيغة الجمع: استعمركم فيها)

3.   علاقة الإنسان بالأرض

  1. علاقة الإنسان بربه

          يتضح من خلال المقطع الذي اعتبرناه إطارا موجها لطبيعة العلاقات الناشئة بين مكونات  الفعل الاستعماري{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}  [البقرة:30] أن العلاقة السليمة  والمحمودة التي ينبغي أن تربط الإنسان بخالقه هي علاقة العبودية بما هي تسبيح وتقديس،  يتنزه فيها الخالق عن الشريك والمثيل[13]. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الاستخلاف بما هو اختيار إلهي لمن سيقوم بعمارة الأرض سيكون حتما التجسيد الفعلي للمسافة الفاصلة التي ينبغي أن تدرك وتحفظ بين المستخلِف والمستخلف.  مسافة  ينبغي أن يبقى فيه الإنسان إنسانا بكل ما يميز الإنسان من نسبية ومحدودية من حيث القدرات، علما وعملا، محدودية يجليها مفهوم التسخير ويرسم حدودها. إن المخلوق باعتباره مستخلفا  له حدود  لا ينبغي تجاوزها ومن ثم فإن من شروط الاستخلاف عدم تجاوز مرتبة الإنسانية بأي شكل من أشكال التجاوز وعلى أي صورة كان فلا ينبغي للمستخلف أن يتأله لا حلولا ولا اتحادا كما لا ينبغي له أن يؤله أية سلطة أخرى تستعبده وتسيطر عليه  كونه المسيطر الوحيد في الوجود بما هو خليفة[14]. في كلا الحالتين حالةِ التأله  أو حالة تأليه سلطة أخرى  كيفما كانت هاته السلطة  سيكون الإنسان  قد خرج عن وظيفة الاستخلاف التي اختير لها إما بتهديم المسافة بينه وبين خالقه  أو  بين المعبود الجديد  وبين المتعالي عن كل المخلوقات أيا كانت . وما أُريد له إلا أن يكون خليفة. من هنا نفهم   حرص المحققين من العلماء القدامى ليس على تدقيق المقصود من لفظ الخليفة الوارد في آية الاستخلاف بل وفي حصر استعمالاتها بحيث رفضوا أي استعمال يمكن أن يفهم منه تعرض هذه المسافة بين الخالق والمخلوق للانتهاك. في هذا السياق رفض الكثير تسمية الإنسان خليفة لله، بمعنى كونه نائبا عنه يقوم مقامه، أو مفوضا عنه[15].

 

  1. علاقة الإنسان بالإنسان

إذا كان سفك الدماء بما هو وضع حد للحياة البشرية على الأرض علامة من علامات خروج العمران من هويته الطبيعية الأصلية إلى الهوية المقابلة التي هي الفساد، فإن إحياء النفس البشرية سيكون بالضرورة و الحتم الهدف الأصلي والصميم الذي يستهدف القائم بالعمران  تحقيقه في إطار علاقته بأخيه الإنسان، بكل ما تعنيه الحياة من حفظ لما ركب في الإنسان و به كان عمرانه الأرض مكنا ( من عقل ولسان، وجسد وروح). و لا يمكن لهذا الحفظ أن يتأسس في الكون من دون تحقيق عدالة تحفظ لكل واحد من المجموعة البشرية التي تعمر الأرض حقه في هذا الفعل بكامل الحرية والمساواة مع بقية المشاركين.

          غير أن الإنسان المستخلف وهو العبد الساعي على الدوام إلى استكمال شروط العبودية تحقيقا وتنقيحا و تزكية سيرى أن إعطاء الآخرين حقهم وتجنبَ ظلمهم لا يكفي لتحقيق ذلك، فيندفع بميله الفطري إلى شملهم برحمته رجاء رحمة ربه، وعسى أن يرتقي  بذلك سلم العبودية ودرجاتها لتحقيق مرتبة العبدية  التي ينضاف فيها إلى خالقه فيكون من عباده حقا وليس مجرد عبد .

          تأخذ الرحمة في العمران الاستخلافي العبادي موقعا مركزيا حيث تتجاوز كونَها بعدا من الأبعاد إلى كونها القيمة المهيمنة على كل القيم  عدلا ومساواة وحرية، دفعا لخطر تحول الإنسان المستعمَر إلى آلة صماء، لا يعنيها غير الجري وراء  الرزق ومعادلات الربح والخسارة المادية، و خوفا من صيرورته كائنا أنانيا لا يعيش إلا لنفسه،  ورغبة في أن يكون كما أراد الله له أن يكون عبدا معطاء متراحما متواصلا، لا يمنعه حبه لذاته من حصر الخير فيها وقصره عليها .

 ترفع الرحمة، باعتبارها  أهم القيم التي لا يحرك  القائمين بها انتظار المقابل المادي  الدنيوي،ترفع أصحابَها ومن ثم عمرانَهم إلى مستوى التعالي عن الصراعات المصلحية الحادة أو على الأقل تخفف منها، لصالح عمران متضامن متكافل ،’’ لا يستفرد به النسيج الاقتصادي الذي نراه الآن قد امتد في العالم’’[16]فصيره عالما أنانيا صراعيا، أول الخاسرين فيه وأكثرهم شقاء الإنسان بما هو إنسان.    

          إن الرحمة بما هي علاقة تواصل وعطاء بين البشر أرادها الله أن تكون شاملة  تعم الافراد جميعَهم  بمن فيهم الراحم وهو يقوم بهذا الفعل اتجاه غيره.حيث إن انتشار الرحمة وشيوعَها سبيلٌ إلى تجلي رحمة الرحمن في خلقه ’’ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في  السماء إن الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته’’[17] . ولحكمة ما  اتخذ البارئ سبحانه الرحمنَ اسما من أسمائه الحسنى و’’لم يسم به غيره’’[18]، غير أنه سبحانه قد اشتق منه الرحم فنالها بهذا القرب في الاشتقاق من الرحمة ما لا ينبغي للمستعمَر الاستخلافي العابد أن يتجاهله بله أن يدفع في اتجاه يخالفه. لذلك لا يُستغرب أبدا توعد الله من تجرأ على ذلك بالقطع ’’ فمن وصلك وصلته ومن قطعك قطعته’’[19]،  و هذا الوعيد  ينسجم تمام الانسجام مع جعله قطع الأرحام من تجليات الفساد[20] بما هو الفساد انحراف خطير يمس العمران { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض}[  البقرة:27 ]  . فقد نقل ابن كثير عن قتادة أنه فسر ’’ ما أمر الله به أن يوصل’’ بصلة الرحم والقرابات[21] وأورد القرطبي تفسير ابن جريج  لقوله تعالى { فهل عسيتم إن توليتم  أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} الذي يقول فيه ’’ المعنى هل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض  بالمعاصي وقطع الأرحام’’[22] . وربط ابن كثير في تفسير هذه الآية بين سفك الدماء وقطع الرحم باعتبارهما تجليين من تجليات الفساد المنهي عنهما حينما قال في تفسير الآية ’’ أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء وتسفكون الدماء وتقطعون الأرحام ... وهذا نهي عن الفساد عموما وقطع الأرحام خصوصا’’[23].

و إذا كانت الرحم بما هي الحضن الحاضن للنواة البشرية الأولى و أيضا تجلياتها المتناسلة و المتكاثرة مع امتداد البشرية  واتساعها العددي بتشكيلاتها المتصاعدة ، أسرا وقبائل وشعوبا هي المقصودة في خطاب الله تعالى  بالاشتقاق من اسمه الرحمن فإن الرحم ينبغي أن تُرحم في كل هذه التجليات التي تظهر عليها أسرة أو قبيلة أو أكثر[24]. ولعل ذلك ما يدعمه قوله تعالى: {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا }[ الحجرات:13] ولا معنى للتعارف من دون بحث في الأنساب بما هي أرحام ترجع إلى رحم مشتركة ولذلك فسر ابن كثير ’’ لتعارفوا في الآية بقوله  ’’ أي ليحصل التعارف  بينهم كل يرجع إلى قبيلته’’[25]  وليس  القبيلة سوى مستوى من مستويات تناسل الرحم وامتدادها. ولا شك أنه بالرجوع إلى القبيلة تتجلى القربى وتتحرك العلاقة الرحمية(  وهي المشتقة من الرحمن)  فتنتشر الرحمة بين المتعارفين  وينتفي الإنكار و التناكر ، سبيلا قطع الأرحام و التحارب. ومن القبائل المتراحمة إلى الشعوب المتراحمة، إلى العالم المتراحم. رحمة متواصلة كما هو الرحم رحم واحدة متواصلة ترجع في النهاية وفي الأصل إلى لحظة خلَقَها الله واشتق لها اسمها من اسمه.

إن الرحمة بهذا المعنى أفق واسع في العمران القرآني لا حد له، يشمل الإنسان مطلق الإنسان بل يتعداه إلى غيره من المخلوقات. وذلك ما سيتجلى في العلاقة الثالثة علاقة الإنسان بالأرض أو العالم.   

  1. علاقة الإنسان بالأرض ( العالم)

إن هدف الإحياء بما هو عدل ورحمة هو ما يشكل أيضا طبيعة العلاقة التي تربط الإنسان بمن حوله من غير البشر بل ومع الأرض ذاتها.  فعلى الرغم  من الموقع المركزي الذي يحتله الإنسان في منظومة العمران الكونية، فليس له مطلق الحرية ليفعل ما يشاء في ما حوله من الأمم التي تقيم معه على الأرض إلا وفق مبدأ العدل ذلك ما فهمه المفسرون من قوله تعالى {وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} [الأنعام:38 ] فقد فسرها ابن كثير  بأنهم ’’ جماعات مثلكم .... فلا ينبغي أن تظلموهم ’’ [26]، و ذلك ما أفتى به الفقهاء في نوازلهم حين رأوا أنه لا حق لأحد  في إرهاق الحيوان بتحميله فوق وسعه ، بل اعتبروا ذلك ’’من المناكر التي يجب الاحتساب فيها  ومنعهم منها’’[27] ولو بالقوة والمجاهدة  إن هم أبوا ولا حجة  لمن يفعل   ذلك _كما يضيف الونشريسي _’’ في كونها ملكه فإن الحيوان محترم وحفظ النفوس واجب’’[28] . إن حفظ النفس هذا الذي يشير إليه هاهنا الونشريسي باعتباره حفظا للحياة يصير التعدي عليه من دون وجه حق تجليا من تجليات الفساد المناقض للعمران كما يفهم من قوله تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض  ليفسد فيها ويُهْلك الحرث والنسل واللهُ لا يحب المفسدين} [ البقرة: 205].

 إن إهلاك الحياة بالنسبة للنسل بما هو  ’’ نتاج  الحيوانات’’[29] ، كما فسره ابن كثير، عمل من أعمال المفسدين لا شك، وأيضا إهلاك الأرض، بما هي ’’  محل إنماء الزروع والثمور’’ [30]، المعبر عنها في الآية بالحرث هو أيضا داخل بحسب سياق الآية ضمن هذا المسار إذا الأرض  أصل الحياة الطبيعية للبشر ولا قوام للناس إلا بها وبمن عليها من النسل[31] وكل من أفسدها كان ساعيا لهدم ركن من أركان العمران  سواء كان ذلك متعلقا بالزروع  والثمور كما في تفسير الآية أو في غيرها مما يستهدف اليوم الأرض من انتهاكات تمس جوهر وجودها.

6 ـ مفهوم العهد

إن إقامة العمران البشري والمحافظة عليه بقاء واستمرارا وتزكية ليدوم،  بالمواصفات المشار إليها أعلاه، عمرانا عِباديا استخلافيا بما تعنيه العبادة  من حرية واختيار، و بما تستتبعه  الحرية والاختيار من مسؤولية و ما تقتضيه هاته  من حساب، عقابا أو ثناء، فقد كان من  حكمة الله ورأفته بعباده،  بما هم بشر قابلون للنسيان والانحراف والفساد، أن يتعهدهم بالرعاية المستمرة عبر إرسال الرسل وبيان الرسالات تذكيرا بأصل الأصول ( العبادة) و تحديدا للمسؤوليات المترتبة عن أصلي الحرية والاختيار وتحقيقا لأسباب العدل الإلهي في معاملة المستخلف إما شاكرا وإما كفورا { و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}[الإسراء:15] .

كان ذلك مقتضى العهد والميثاق الذي ربط المستخلَف بربه لحظة نزوله إلى فضاء الاستخلاف والذي تحدد الآيات الكريمات:{ قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ البقرة :38] ،{ قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو  فإمَّا  ياتينَّكم مني هدى فمن اتبع هداي  فلا يَضِل  ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنْكا  ونحشُرُه يوم القيامة أعمى قال ربِّ لم َ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتي فنسيتها  وكذلك اليوم تنسى}[ طه:123/126]. لقد نفى الله  في هذا العهد’’ مسمى الضلال والشقاء عن متبع الهدى مطلقا ’’ [32] { فمن اتبع هداي  فلا يَضِل  ولا يشقى}،فكان نفيهما عنه في الدنيا  والآخرة، فلا ضلال للإنسان المستخلف ولا شقاء له في عمرانه الد
تاريخ النشر : 22-08-2009

7196 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com