آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

النسخ في القرآن

محمد الناصري


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي فضلنا بالقرآن على الأمم أجمعين، وآتانا به من لم يؤت أحدا من العالمين، أنزله هداية عالمية دائمة، وجعله للشرائع السماوية خاتمة، ثم جعل له من نفسه حجة على الدهر قائمة.

والصلاة والسلام على من كان خلقه القرآن، ووصيته القرآن، وميراثه القرآن، القائل "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

وبعد:

الموضوع الذي تعالجه هذه الورقة عنوانه: "النسخ في القرآن" وترجع صلتي بالموضوع إلى بحث نيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، عنوانه "العلاقة مع الآخر في ضوء الأخلاق القرآنية".

وكان هدفي من البحث: التأكيد على سلمية العلاقة بين المسلمين وغيرهم ممن لا يدينون بدين الإسلام، وأنها علاقة قائمة على الأمن والسلم والتسامح، لتحقيق التواصل الفعلي، والتعارف والتفاعل الحضاري والتعاون الموصوف بالبر والتقوى.

وأنا أحاول التدليل على ذلك، اعترضتني مشكلة شائكة: تلك هي مشكلة القول بآية السيف أو آيات القتال التي حكم القائلون بها بنسخها لخمس وسبعين آية من الآيات القرآنية الداعية إلى السلم وحسن الجوار والمعاملة بالتي هي أحسن والصفح والعفو ... بما فيها الآيات التي هي من قواعد الإسلام الكلية مثل قوله تعالى :"لا إكراه في الدين"[1].

القول بآية السيف حدا بالقائلين بها إلى اعتبار الحرب أصل العلاقة مع الآخر المخالف دينيا، وأن الكفر في ذاته سبب لمقاتلة أهله، وقسمت الأرض بناء على هذا القول إلى عوالم ثلاثة: دار الإسلام، دار العهد، دار الحرب، مما أثر سلبا في إفقار الخطاب القرآني من روح التسامح التي يتسم بها.

فوجدت نفسي أمام مشكلة شائكة تحتاج إلى الحل، فقررت بحث الموضوع مستقلا، فاخترت النسخ في القرآن موضوعا لورقتي هذه، وكل يقين بأن الموضوع يحتاج إلى كبير جهد وصبر، وكثير من العمق والهدوء ... وإلا فهو موضوع أكبر من أن يناقش في صفحات معدودة.

والخطة المتبعة في تناول الموضوع تقوم على دراسة المشكلة في محورين وخاتمة.

أما المحور الأول فهو يدور حول أهمية النسخ عند السلف ومعناه لغة وشرعا، وأنواعه وأدلته عندهم.

وبعد المحور الأول يجيء المحور الثاني لتفنيد دعوى النسخ في القرآن من خلال مناقشة أدلة القائلين به وتتبع سياقاتها، والوقوف على معنى "الآية" فيها.

وأخيرا تجيء الخاتمة، فتوجز أهم نتائج الورقة، وتقدم المقترحات التي هدي إليها.


المحور الأول : النسخ عند القائلين به

يشيع بين المسلمين أن قي القرآن الكريم آيات أحكامها ملغية، وأن هناك آيات قد رفع حكمها ولفظها، وأخرى قد رفع لفظها بينما حكمها باق ملزم.

وقد تلقت الأمة هذا الأمر بالقبول، بفضل إجماع علمائها على وقوع ذلك شرعا وجوازه عقلا، وقد ناقش علماء السلف هذا الأمر، تحت عنوان "علم الناسخ والمنسوخ"

و في فضل هدا العلم يقول القرطبي إن معرفة الناسخ والمنسوخ "أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام، روى أبو البحتري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال: ما هذا؟ قالوا رجل يذكر الناس، فقال : ليس برجل يذكر الناس ! لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني. فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال :فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا، قال : هلكت وأهلكت ومثله عن ابن عباس"[2].

وتظهر عناية علماء الأمة بموضوع الناسخ والمنسوخ من كثرة المؤلفات التي أفردوا له، إذ "أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون"[3]، كشفوا النقاب عن مواطنه وأزالوا الشبهات التي أحيطت بموضوعه، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر.

-          ابن الجوزي الفقيه الحنبلي (ت 597هـ) صاحب كتاب "أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ.

-          أبو جعفر النحاس محمد بن أحمد المرادي (ت338هـ) صاحب كتاب "الناسخ والمنسوخ.

-          مكي بن أبي طالب القيسي (ت 313هـ) صاحب كتاب "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخة،وكتاب "الإيجاز في ناسخ  القرآن ومنسوخه. وكتب في الناسخ والمنسوخ كل من :

o       قتادة بن دعامة من تابعي البصرة.

o       أبو عبيد القاسم بن سلام.

o       أبو داود السجستاني.

o       أبو بكر ابن الأنباري.

o       أبو بكر بن العربي المعافري.

 

النسخ ... الدلالة اللغوية والشرعية

يذكر اللغويون لمادة النسخ عدة معان تدور بين النقل والإبطال والإزالة، فيقولون نسخ زيد الكتاب إذا نقله عن معارضة (مقابلة) ونسخ النحل إذا نقله من خلية إلى أخرى، ويقولون نسخ الشيب الشباب إذا أزاله وحل محله، ويقولون : نسخت الريح آثار القوم إذا أبطلتها.

يقول ابن فارس: "النون والسين والخاء أصل واحد، إلا أنه مختلف في قياسه، قال قوم : قياسه رفع شيء وإثبات غيره مكانه، وقال آخرون قياسه تحويل شيء إلى شيء، وكل شيء خلف شيئا فقد اتتسخه وانتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب ومنه تناسخ الأزمنة والقرون"[4].

ويقول صاحب "لسان العرب" :"النسخ إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه ... النسخ تبديل الشيء من الشيء وغيره.

ونسخ الشيء بالشيء نسخه وانتسخه، أزاله به وأداله، والشيء ينسخ الشيء نسخا أي يزيله ويكون مكانه ...

والأشياء تناسخ، تداول فيكون بعضها مكان بعض كالدول والملك... والعرب تقول : نسخت الشمس الظل وانتسخته أزالته، والمعنى أذهبت الظل وحلت محله"[5].

وأمام هذه المعاني المتعددة للمادة نراهم يختلفون في أيها هو المعنى الحقيقي وأيها مجاز له، ثم يتجاوز هذا الخلاف دائرتهم إلى الأصوليين والمفسرين والمؤلفين في الناسخ والمنسوخ حين ينقلون عنهم.

فهذا أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم يقرر أن اشتقاق النسخ من شيئين أحدهما يقال : نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت محله، ونظير هذا "فينسخ الله ما يلقي الشيطان". والآخر من نسخت الكتاب إذا نقلته من نسخته وعلى هذا الناسخ والمنسوخ[6].

وهذا أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي صاحب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ينكر على النحاس إجازة أن يكون النسخ في القرآن بمعنى النقل، ويحكم بأن هذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن حيث قال: "وهذا المعنى ليس من النسخ الذي قصدنا إلى بيانه، إذ ليس في القرآن آية ناسخة لآية أخرى، كلاهما بلفظ واحد ومعنى واحد، وهما باقيتان، وهذا لا معنى لدخوله فيما قصدنا إلى بيانه.

وقد غلط في هذا جماعة، وجعلوا النسخ الذي وقع في القرآن مأخوذا من هذا المعنى، وهو وهم، وقد انتحله النحاس، وقال في كتابه "أكثر النسخ في الله عز وجل مشتق من نسخت الكتاب"، مع كلام بدل على هذا المذهب، هذا خطأ ليس في القرآن آية نسخت بآية في مثلها في لفظها ومعناها، وهما باقيتان، لأن معنى نسخت الكتاب، نقلت ألفاظه ومعانيه إلى كتاب آخر، وهذا ليس من النسخ الذي هو إزالة الحكم وإبقاء اللفظ، ولا من النسخ الذي هو إزالة الحكم واللفظ"[7].

في حين يذهب أبو البركات محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد السعيدي، النحوي في كتابه "الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخ وناسخ" إلى ترجيح قول النحاس على قول مكي إذ قال : ويشهد لما قاله النحاس قوله تعالى "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون"[8]"[9].

وإذا تركنا المؤلفين في الناسخ والمنسوخ إلى الأصوليين نجدهم مختلفين كسابقيهم في تحديد حقيقة النسخ من مجازه فهم "يعنون غالبا ببيان المعنى الحقيقي للكلمة، وقد يعجزهم الوقوف على هذا المعنى فيحكمون بأن جميع معانيها حقيقة، وأنها من المشترك أو يحكمون بأن معانيها مجازية، وأنها كلمة شرعية عبر القرآن  عن المراد منها بمادة أخرى هي التبديل، فهذه المادة هي أوجه ما تفسر به إذن.

فهذا السرخسي في أصوله بعد أن يذكر من معاني النسخ : النقل، والإبطال، والإزالة، يقرر بأن "كل ذلك مجاز لا حقيقة ... وأوجه ما قيل فيه أنه عبارة عن التبديل، من قول القائل: نسخت الرسوم، أي بدلت برسوم أخر"[10].

وأما الغزالي فهو يصور –في المستصفى- الاتجاه على الحقيقة في كل من الإزالة والنقل، ويقرر أن مادة النسخ مشتركة بينهما حيث يقول :"النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان، يقال نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها،[11] وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب، فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة".

إذا انتقلنا إلى المفسرين فإننا نلحظ نفس الملاحظة، وهو اختلافهم في تحديد حقيقة النسخ من مجازه، ومن أعجزه ذلك، اكتفى بإيراد آثار تحدد المراد بالنسخ دون ترجيح.

فهذا ابن كثير الدمشقي في تفسيره للآية 106 من سورة البقرة يقول: "قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه "ما ننسخ من آية "ما نبدل من آية، وقال ابن جرير : عن مجاهد " ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها، ونبدل حكمها حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم وروى عن أبي العالية، ومحمد بن كعب نحو ذلك، وقال الضحاك "ما ننسخ من آية "ما ننسك. وقال عطاء أما "ما ننسخ" فما نترك من القرآن، وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها، وقال ابن أبي حاتم : يعني قبضها رفعها مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموها البتة". وقال ابن جرير "ما ننسخ من آية" ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراما والحرام حلالا... وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله، ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"[12].

أما القرطبي في تفسيره فيحكم أن حقيقة النسخ الإبطال والإزالة يقول في تفسيره للآية106 من سورة البقرة "النسخ في كلام العرب على وجهين :

-          أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر،وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخ، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى :"إذ كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" أي نأمر بنسخه وإثباته.

-          الثاني: الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين :

o       أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة أخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وهو معنى قوله تعالى :"ما نسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها".

o       الثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم، نسخت الريح الأثر ومن هذا المعنى قوله تعالى "فينسخ الله ما يلقي الشيطان"[13].  أي يزله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بد له"[14].

وهكذا يمضى المؤلفون في الناسخ والمنسوخ والمفسرون والأصوليون في سعيهم إلى تحديد معنى النسخ لغة قصد تبين حقيقته من مجازه.

والراجح عند أغلبهم أن مادة النسخ وضعت لتدل على معنى الإزالة، إذ يحكم أكثرهم أن الإزالة هي المعنى الحقيقي لمادة النسخ في القرآن.

إذا انتقلنا إلى البحث عن حقيقة النسخ الشرعية، بعد أن تبينا حقيقته ومجازه لغة، فإن ما نسجله ابتداء هو اختلاف الأصوليين في تعريف النسخ شرعا، تبعا لاختلافهم في تحديد معناه لغة.

وهكذا "نجد من الأصوليين من يعرفه بأنه بيان انتهاء مدة التعبد مع التراضي، ومن يعرفه بأنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم، ومن يعرفه بأنه اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأول، ومن يعرفه فيقول : هو أن يرد دليل شرعي متراخيا عن دليل شرعي مقتضيا خلاف حكمه، ومن يذهب في تعريفه إلى أنه رفع تعلق مطلق بحكم شرعي ابتداء، ومن يضطرب فيحاول الجمع بين عدة اتجاهات في تعريفه، ومن يستوحي القرآن والسنة وكلام ا لمتقدمين فيعرفه، بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر"[15] .

والتعريف الأخير للنسخ –والذي مفاده بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر- هو الراجح عند جمهور العلماء لأنه "تعريف واضح بسيط لا غموض فيه ولا تعقيد، وأنه يعود بالنسخ إلى مدلوله الأول، فيربط بينه وبين معناه اللغوي برباط وثيق، ويستمد القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولغة الصحابة والتابعين حقيقته الشرعية كما أنه تعريف جامع مانع لا يحمل نوعا من النسخ، ولا يسمح بدخول ما ليس بنسخ في نطاق النسخ كما حده، بالإضافة إلى أنه يعرفه على أنه هو فعل الشارع، وهذه هي حقيقته، والشارع وحده هو الذي يملك سلطة تقريره والقول به فيما شاء من أحكامه"[16].

إنها ملاحظات تجعل من تعريفنا هو الراجح "والجائز عند جمهور علماء الأمة"[17].

إذا كان التعريف الجائز والراجح عند الجمهور هو : رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، فإن سؤالا يواجهنا مفاده، ما المعنى الذي كانت تحمله "كلمة النسخ" في عصر الرسالة والصحابة والتابعين هل كان الصحابة  يطلقون كلمة "النسخ" ويقصدون بها رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر، أم كانوا يقصدون ما هو أعم؟.

إن الصحابة قد يطلقون كلمة النسخ ولا يقصدون بها المعنى الاصطلاحي كما هو عند الأصوليين، بل يقصدون ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل، وتقييد المطلق وتخصيص العام.

إلى هذا ذهب الشاطبي في موافقته وعبر عنه حين قال : "الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين : فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غير معمول به والثاني هو المعمول به.

وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا أعمال في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يعد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام من الخاص، إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استعمل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد"[18].

ويورد الشاطبي مجموعة من الأمثلة على قضايا نسخ صحت روايتها عن الصحابة والتابعين، لتأكيد ما ذهب إليه من أن مدلول النسخ عند الصحابة كان أعم منه عند الأصوليين، ونورد هاهنا بعضا منها لتبين المراد.

1.ما روي عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى :"من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد"[19] إنه ناسخ لقوله تعالى :"من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته  منها"[20].

وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق ... وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.

2.وهي أيضا مروية عن ابن عباس، إذ قال في قوله "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى نستأنسوا وتسلموا على أهلها"[21] إنه منسوخ بقوله "ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة"[22]. وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله :"ليس عليكم جناح"[23] يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.

3.وهي كسابقتيها مروية عن ابن عباس، قال في قوله تعالى "قل الانفال لله والرسول"[24]منسوخ بقوله :"واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه"[25] وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله : "الله والرسول"[26].

نفهم مما سبق أن الصحابة كانوا يطلقون كلمة النسخ ويقصدون بها ما هو اعم من مدلول الأصوليين لكلمة النسخ الذي يعنون به "رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر مع ما يفيد ذلك من إبطال للمنسوخ، وهم (أي الاوصوليون) يخالفون الصحابة في النسخ. وليس لقولهم مستند قوي. ذلك "أن من قرأ كتب الحديث الستة المعروفة أو التسعة بإضافة الموطأ ومسند أحمد والدارمي، أو الأربعة عشر بإضافة مسندي أبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة، أو السبعة عشر بإضافة صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وأكثر منها : لم يجد فيها حديثا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيـه : إن الآية الفلانية في سورة كذا منسوخة وقد بطل حكمها، أو يقول : إن هذه الآية من سورة كذا قد أبطلت حكم آية كذا من سورة كذا ... مع أهمية هذا البيان وضرورة وحاجة المسلمين الماسة إليه، وقد قرر  العلماء أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لما فيه من إضلال الناس عن الحقيقة"[27].

إذا كان الأمر كذلك بمعنى إذا خلت كتب الحديث الصحاح وغير الصحاح من حديث نبوي صحيح يبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ آية متأخرة نزولا من  القرآن لآية أخرى متقدمة عنها والقول بإبطال حكم الآية المتقدمة.

فمن أين جاء المؤلفون في الناسخ والمنسوخ بأقوالهم التي توصل عدد الآيات المنسوخة إلى أزيد من مائتي آية.

والمحققون قد اشترطوا أن "الزمن الذي يسوغ فيه نسخ النصوص فهو عصر الرسالة، دون ما بعده، ومن ثم يجب أن ترفض كل دعوى نسخ لم تؤثر عن هذا العصر، وإنما حدث بعد مضيه؛ إذ لا ينبغي أن ينسخ نص تشريعي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم محكما ... ويزداد هذا وضوحا إذا نحن تركنا الزمن الذي يسوغ فيه النسخ إلى من له الحق في النسخ"[28].

وفي هذا يقول الشاطبي :إن "الأحكام إذا ثبتت على المكلف فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولا محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق"[29].

في نفس الاتجاه يقول السيوطي "قال ابن الحصار "... إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صحيح ولا معارضة يينه، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده صلى الله عليه وسلم، والمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد"[30].

أمام هذه الحقيقة، كيف حكم المؤلفون في الناسخ والمنسوخ بوقوع النسخ في القرآن دون اعتماد على نقل محقق، وكيف تلقت الأمة عنهم ذلك بالقبول؟ لن نتعقبهم بمزيد اعتراضات إضافية ونؤجل غيرها إلى حين معرفة أنواع النسخ التي قالوا بها، وأدلتهم التي ساقوها لتأكيد ما ذهبوا إليه.

 

النسخ ... حكمه ... أنواعه ... دليله ...

ذهب المؤلفون في الناسخ والمنسوخ والمفسرون والأصوليون إلى وقوع النسخ في القرآن، وحكموا بجوازه عقلا في الشريعة الواحدة وبين الشرائع، حيث إن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها.

وبناء على ما ذهبوا إليه قسموا النسخ إلى قسمين:

  • النسخ الكلي : وهو النسخ الواقع بين الشرائع السماوية، فكل شريعة متأخرة زمنيا تأتي أحكامها ناسخة لبعض أحكام الشريعة التي سبقتها فمثلا شريعة عيسى ناسخة لشريعة موسى، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لشريعة عيسى، وبذلك تعتبر شريعة محمد ناسخة لما قبلها من الشرائع، فلا عمل بما في شريعة سابقة إلا ما وافق الشريعة الخاتمة الخالدة.

ولا يوجد مسلم ينكر هذه الحقيقة، إذ لا نعلم أحدا من المسلمين أنكر نسخ شريعة نبينا  محمد صلى الله عليه وسلم لجميع ما سبقها من شرائع، إلا ما ادعي على أبي مسلم الأصفهاني، وهذا من التحامل عليه، فإنه إنما أنكر النسخ الجزئي في الشريعة الإسلامية لا النسخ الكلي، وكلامه منصب على إنكار النسخ في القرآن على وجه الخصوص[31].

  • النسخ الجزئي : وهو النسخ الواقع في الشريعة الواحدة، كأن يكون في الشريعة الواحدة حكم جاء مخالفا لحكم سابق عليه، ولا يمكن الجمع بينهما بتأويل مقبول، فيكون الثاني حتما ناسخا للأول.

ويجمع جمهور علماء المسلمين على جواز وقوع النسخ الجزئي في القرآن، بل يقرون بنسخ بعضه بعضا مستدلين بما يلي :

أولا : قوله تعالى :"ما ننسخ من آية أو ننسها نات بخير منها أو مثلها"[32].

ثانيا : قوله تعالى :"يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"[33].

ثالثا : قوله تعالى :"وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل"[34]"[35].

وتبعا لذلك نوع القائلون بالنسخ في القرآن، القرآن إلى أنواع ثلاثة :

الأول : نسخ التلاوة والحكم معا : يدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن رواه الشيخان"[36].

الثاني : نسخ الحكم  دون التلاوة : ويدل على وقوعه آيات كثيرة، منها آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة"[37]. منسوخة بقوله سبحانه: "أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واطيعوا الله ورسوله"[38] على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية، مع أن تلاوة كلتيهما باقية"[39].

الثالث : نسخ التلاوة دون الحكم : ويدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا : كان فيما أنزل من ا
تاريخ النشر : 08-09-2009

6320 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com