آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  الفقه و الأصول

دراسات قرآنية    |    دراسات حديثية    |    العقيدة و الكلام

  •     

نقد مقصد الحرية في فكر محمد الطاهر بن عاشور

محمد همام


تقديم:

      لم يكن الإسلام في عمقه إلا ثورة شاملة ضد الظلمة، وتحريرا لإرادة الإنسان وإخلاص العبودية لله الواحد الأحد. وليست الحرية المقصودة إذن وإباحة وحسب بل وعي وإرادة وقصد خالص وهي مسؤولية وأمانة. فالحرية قدر الإنسان الذي ميزه عن بقية المخلوقات. والنضال من أجل الحرية ليس حقا بل واجب يثاب على فعله ويعاقب على تركه. فالحقوق في الفكر الإسلامي ذات قدسية خاصة يمنع التلاعب بها.

إن الحرية أمانة في عنق المؤمنين، وذات أبعاد إنسانية شاملة بعيدا عن الفوارق الطبقية أو النسبية أو العقدية.

ونظرا للتدافعات الفكرية والسياسية التي عاشها الفكر الإسلامي المعاصر؛ مما فرضه التحدي الغربي الفكري والسياسي، ومما زكاه مقلدوه من العلمانيين في العالم الإسلامي، عرف خطاب الفكر الإسلامي المعاصر نقاشا مستفيضا حول مبحث  الحرية؛ وانخرطت، إيجابيا، كل المدارس الفكرية الإسلامية المعاصرة في هذا النقاش، بما يبرز القيمة الكبرى للحرية في المنظومة الإسلامية. وإذا استثنينا التجارب المذهبية المغلقة والحرفية في الظاهرة الإسلامية ذات الحساسية الفكرية من الحرية ومن كل ما يفجر طاقات الإنسان ويعزز قدراته ومناعته للتصدي للطغيان، استلابا لفقه جغرافي وتاريخي تقليدي ومحدود الأفق، فإن أغلب المدارس الفكرية الإسلامية، على اختلاف سياقاتها وآفاقها ومداخلها، قد تفاعلت إيجابيا مع النداء المتكرر لتجديد الفكر الإسلامي، وتعميق مبحث الحرية فيه ونزع كل الأقنعة عن الطاغوت والاستبداد تحت دعاوى الطاعة والولاء والصبر.

وشكل المجهود المتفرد للإمام الشاطبي في (الموافقات) الإطار العام لمعالجة مبحث الحرية، كما شكلت أطروحة مقاصد الشريعة النظرية- الإطار للحقوق والحريات العامة من منظور إسلامي. فمقاصد الشريعة قدمت للفكر الإسلامي المعاصر أداة منهجية فعالة وسلما من القيم لتنظيم حياته الاجتماعية والسياسية على هدى من الرسالة الإسلامية.وتكاد جل المدارس الفكرية الإسلامية المعاصرة تتفق على أن الحرية هي الأصل والأساس للاعتقاد والفكر والعمل.

ولكن مازال الفكر الإسلامي في حاجة إلى جهود كبيرة لتقديم الإسلام كمنظومة مفتوحة للحريات، تستوعب انتظارات الإنسان وآفاقه للتحرر من كل جبروت. وعلى الحركات الإصلاحية أن تجعل من أولى أولوياتها ترسيخ فقه الحريات وتعميق وعي الإنسان بذاته وحقوقه ومواهبه، وسد المنافذ الفكرية والمنهجية أمام الطاغوت لاستغلال الدين واستعباد الناس بمقولاته، مما يسئ في الأخير إلى منظومة الإسلام العظيم، عند إغراقها بنصوص تحث على طاعة الاستبداد والاستسلام له.

ويمثل الشيخ محمد الطاهر بن عاشور أحذ الرموز الفكرية التي انفردت بالإلحاح الفكري على دور الحرية في تنمية الإنسان وتحقيق رسالته الإستخلافية، بل اعتبرها مقصدا من مقاصد الشريعة.

ولو أن الشيخ لم يعمق البحث في الحرية كمبحث وجودي وإنساني واجتماعي نظرا لثقل الثقافة التاريخية وملابساتها التي كان يحملها في ذهنه كفقيه تقليدي، إلا أنه كان بحق جريئا في طرح الموضوع والإلحاح عليه. وعليه سنحاول الوقوف على مجهوده في ترسيخ مقصد الحرية، مع تسجيل مانراه مناسبا من ملاحظات على مواقف الشيخ وتحليلاته. وما يحسب للشيخ بن عاشور قبل ذلك أنه جسد العالم المنفتح على المذاهب والاتجاهات المختلفة، مع محاولاته المضنية للتخلص من مثالية التاريخ وخيالاته. وظل حريصا على التوفيق بين ثقافته العصرية وموروثة الثقافي التاريخي، مما سبب له حرجا كبيرا واضطرابا تصوريا وفكريا في أكثر من مناسبة.         

1-     البعد النقدي في فكر محمد الطاهر بن عاشور:

مثل المجهود الفكري للطاهر بن عاشور إحدى المحطات الأساسية في حركية الفكر الإسلامي. فقد حاول تجاوز النظر الفقهي الجزئي المشبع بالأدوات اللفظية والسياقات اللغوية المحدودة. كما حاول الانطلاق من محددات منهاجية ذات أفق حضاري شامل، وذات صياغة كلية جامعة، متجاوزا تطويل الشاطبي وخلطه بين مسائل كثيرة، مضيفا مقاصد جديدة "كالحرية" في خطوة اجتهادية غير مسبوقة في إطار علم جديد هو "علم المقاصد".

وبرغم أن مباحث الشاطبي كانت المادة الخام التي انطلق منها السؤال النهضوي لحركة الإصلاح في بداية القرن العشرين، فإن الحس النقدي الذي ميز الطاهر بن عاشور جعله يدفع بالدرس المقاصدي إلى أبعد الحدود تفسيرا وتعليلا واستدلالا، مما أتاح للفكر الإسلامي عامة قدرات منهاجية إضافية كما أتاح للخطاب الشرعي خاصة قدرات استيعابية أكبر للتاريخ وملابساته، من خلال توظيف المقاصد الشرعية للاستدلال على الأحكام. كما أكسب الحجاج الفقهي بعدا غائيا ومقاصديا جديدا، وقدم أدوات منهجية فعالة تساعد على التقريب بين مدارك الفقهاء وتجميع منطلقاتهم النظرية في أطر كلية ضابطة ومتوافق عليها بعيدا عن المقتضيات الجزئية للمذاهب الفقهية.

وجاءت اجتهادات ابن عاشور مستقلة في منحاها المنهجي متجنبة نقل المجهودات السابقة أو اختصارها، بل متعرضة لها بالنقد والإضافة، خاصة مجهود الإمام الشاطبي؛ "ذلك أن جدل المتقدمين واستدلالهم وتعليلهم في مسائل العبادات وبعض مسائل الحلال والحرام غير مجدية للباحث عن أسرار التشريع في أحكام المعاملات". [1]ويحسب لابن عاشور أنه كان واعيا بدور التاريخ في تطور الشريعة؛ إذ بنظره، لم تأت الشريعة لحمل الناس على لزوم حالة واحدة بعينها في حضارتهم وأحوالهم مادامت أحوالهم داخلة تحت قسم المأذون فيه شرعا. وانطلق في تصوره التطوري للشريعة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم". ولم يزل المسلمون، بنظره، يتقلبون على أحوال لم يكونوا عليها في زمن النبوة ولم يروا في ذلك حرجا، إلا أفرادا شذوا منهم وذكر منهم أبا ذر الغفاري [2]. ولا يخفى على الناظر في نصوص ابن عاشور حسه النقدي وقدرته على المساجلة ورصد عيوب التأليف السابقة مع التعبير عن مواقفه الفكرية، بحرية واستقلالية إلى حد الاعتداد بقدراته الاجتهادية؛ فالشيخ عالم ناقد بامتياز[3].

2-     الفطرة مدخل إلى الحرية:

اعتبر ابن عاشور الفطرة أصلا كليا تنبني عليه جملة من المقاصد الشرعية سواء كانت خاصة أو عامة. والحرية والمساواة من أبرز المقاصد العامة التي تنبني على وصف الفطرة.

ويؤكد ابن عاشور بدءا أن الإسلام لم يدع إلى الحرية على الإطلاق أو على الإجمال، لأن هناك حدودا دقيقة بعضها محمود نافع وبعضها ضار مذموم. والحرية بنظره أكبر ما تهش لسماعه الآذان، إلا أن مفهومها يعرف تسيبا كبيرا؛ ذلك أن مستعمليه يحملونه على محامل ذاتية ضيقة؛ فالوقح يحسب الوقاحة حرية، والجريء يجد من ذلك مبررا لجرأته، والثائر يستعمل الحرية أداة مسوغة لفعله، والمفتون في اعتقاده يدعي حرية العقيدة[4]. والحرية عند ابن عاشور في المحصلة الأخيرة هي "السلامة من الاستسلام إلى الغير بقدر ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة".[5]

وفي الثقافة العربية جعلوا الحرية ضد الرق؛ وألصقوا الصفات النفسية السلبية بالعبيد، أي فاقدي الحرية، وجعلوا الفضائل من سمات الأحرار. وقدم ابن عاشور أمثلة نموذجية على قيمة الحرية من خلال الثقافة والتاريخ العربيين مستشهدا بأشعار دالة في الموضوع، كقصة عنترة بن شداد مع أبيه، وقولته المشهورة "كر وأنت حر"، مادام الشعر ديوان العرب وابن عاشور صاحب ثقافة شعرية وأدبية واسعة جدا.

والحرية عند ابن عاشور في مستوى آخر وصف فطري في البشر، "فطرة الله التي فطر الناس عليها" (الروم: 30). ومادامت الحرية من أصل الفطرة فهي شعبة من شعب الإيمان. وينطلق ابن عاشور من قوله تعالى:" الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" (الأعراف: 157)، ينطلق من هذه الآية للحديث عن الحرية كأصل من أصول الإسلام؛ فالأسر والأغلال هي التكاليف الشاقة والقيود التي كانت تلغي حريتهم مما يفرضه السدنة والقادة على عموم الناس.

لقد كان الإنسان حرا على الفطرة إلى أن أتى عليه حين من الدهر والتاريخ فتراكمت وسائل الضغط قسوة وتسلطا، فبدأ القوي يسخر الضعيف، والبسيط يذهب ضحية المحتال، دعم هذا الأمر إيديولوجيا مضللة من أساطير الوثنية والشرك والكهانة. فجاءت دعوة الإسلام " رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107) معلنة الحرب على جميع القيود ورموز العبودية، داعية إلى تواصل اجتماعي ومدني يقوم على التعاون في إطار شرائع وقوانين من خلال تنظيمات اجتماعية وسياسية واضحة الأهداف والوظائف. فالإسلام، بنظر ابن عاشور، بذل للأمة من الحرية أوسع ما يمكن بذله في شريعة جامعة بين أنواع المصالح، بحيث   بلغ بها حدا لا يمكن تجاوزه وإلا انهدم البناء الاجتماعي برمته.

لقد مثلت الفطرة إذن موقفا نظريا أساسيا انطلق منه ابن عاشور لصياغة نظريته في مقاصد الشريعة، اعتمادا على قوله تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها" (الروم: 30). والفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق؛ ففطرة الإنسان هي "ما فطر، أي خلق عليه الإنسان ظاهرا وباطنا أي جسدا وعقلا"[6]. فهي إذن نظام من الإمكانات والطاقات الجسدية والعقلية يقتدر بها المكلف على أداء التكليف[7]. وهي الاستعمال السليم و الممارسة الأمثل لإمكانات الإنسان العقلية والجسدية. وهذا تصور استفاده الشيخ بن عاشور من ابن سينا الذي تأثر به كثيرا[8] . وأحكام الشريعة بنظر ابن عاشور متجاوبة بشكل كامل مع فطرة الإنسان. وقد كتب بحثا نفسيا عميقا[9] ، درس فيه علاقة الحرية باللذة والألم؛ فذكر أقسام اللذات سواء كانت حسية أو عقلية أو مركبة منها، وخلص إلى أن اللذات الحقيقية هي لذات روحية وكمالات عقلية. وأظهر في بحثه لهذا الموضوع ثقافة فلسفية واسعة، رابطا في بحثه بين الحكمة والفطرة؛ فالمؤمن، بنظره، حكيم بفطرته، وبالفطرة تتحقق سعادة الدنيا في مدينة فاضلة.

ولما اعتبر ابن عاشور الحرية مقصدا من مقاصد الشريعة، فقد جعل الأفكار تحفظ مثل الأنساب، فهي أنساب أدبية[10]. فحفظ الأفكار هو أيضا من الكليات التي هي أساس قانون الشرع التفصيلي. فإذا كانت الفكرة هي أصل الاجتماع الإنساني فإن الأفكار الحرة هي التي تساعد الإنسان على أن يحقق مدينته الفاضلة ويعيش كما يحب لا كما يلقى[11].

3-     مجالات الحرية عند الطاهر بن عاشور:

يحدد الطاهر بن عاشور للحرية مجالات ثلاثة، هي مجال الاعتقاد، ومجال القول، ومجال العمل.

أ‌-       حرية الاعتقاد والفكر أو حفظ الأفكار.

يرى ابن عاشور أن الإسلام أسس حرية العقيدة من خلال إبطال العقائد المزيفة؛ تلك العقائد التي كانت تقوم على القوة والإكراه ولو كانت مجرد تخيلات، فقدم الإسلام منظومته الاعتقادية في إطار استدلالي محكم يسمح للناس بل يدعوهم إلى الاستنتاج الحر؛ " قل فانظروا ماذا في السماوات والأرض" (يونس: 101). وزكى التاريخ الفكري الإسلامي، بنظر ابن عاشور، هذا الشكل المميز في عرض الأفكار والتصورات بتطوير آليات التناظر والحجاج عوض المغالبة والإرهاق. كما أن حكومة الإسلام في بدايتها لم تسلك مسالك إرغام الناس على تبني اعتقادات فكرية ومذهبية معينة إلا ماتثبته الحجة والمناظرة ويكون اختيارا. إلى أن اختلطت المصالح السياسية بالقضايا الفكرية؛ وابتدأت في القرن الثالث الهجري مسألة خلق القرآن وإثبات الكلام النفسي القديم ووقع اضطهاد فئات مذهبية بعينها في بغداد ومصر، وظهرت بالقيروان مسألة الاستثناء في الإيمان ومسألة العندية في الإيمان، وتبع ذلك صراعات وفتن تظهر وتختفي.

 وحذر ابن عاشور من انتحال الأفكار، وفي المقابل دعا إلى احترام الأفكار المختلفة من دون سخرية أو استهزاء، لأن احتقار أفكار الغير وعدم احترامها مدخل إلى ضمور الإبداع والقدرة على الإفصاح عليها، فتموت تحت أقفال الأسر في صباها قبل أن تبلغ أشدها وتستطيع مقاومة الزمان ولي أيدي المضطهدين[12]. فالمجتمع الذي لا يحترم الأفكار مجتمع مهدد بالانهيار. واحترام الأفكار لايتعارض مع واجب تقويمها ونقدها وتمييز خبيثها من طيبها. ولكن النقد يكون انطلاقا من الإيمان باحتمال وجود صواب ما في هذه الأفكار المنقودة، مع تجنب التعرض لأصحابها بالإساءة والطعن والاستخفاف، بناء على ظنون مسبقة أو شهوات نفسية متسرعة. فمراجعة الأفكار عند ابن عاشور ليست تأييدا مطلقا، بل هي استئناف الشيء الجديد وحفظ الوحدة، وسلامة الضمير، وعدم الاستسلام لغرائز التشفي والانتقام. فلا بد لكل ناقد من أن يطفئ بوادر الحسد والغل في نفسه وأن لايسارع إلى تغليط الصائبين.

فالحرية والاحترام شيئان متلازمان عند ابن عاشور؛ والحرية لا يحس بها المرء حقيقة إلا عند شعوره بوجوب مساواته مع غيره فيها. ودعا ابن عاشور إلى سن عقوبات للذين لا يحترمون الأفكار ويتجرؤون على أصحابها. لأن تلك الجرأة العمياء تثير العصبيات وتبعد الناس عن الحقيقة التي ما احترمت الأفكار إلا لأجل الوصول إليه[13].

إن أهلية الأمة لدخول عصر التنوير، بنظر ابن عاشور، تمر عبر التربية على احترام الآراء والتسامح عند الاختلاف. وقدم دراسة عرضية ونقدية للاختلاف الفكري في التاريخ الإسلامي، أبانت على أن الشيخ يمتلك ثقافة كلامية وجدلية واسعة مع قدرة كبيرة على الاحتفاظ برأيه على مسافة موضوعية وعلمية من كل الفرق الكلامية التي عرفها التاريخ الإسلامي خصوصا المعتزلة والأشاعرة[14].

ورغم هذا العمق التأصيلي الشرعي والتاريخي الذي مافتئ ابن عاشور يحوم حوله إلى حدود السجال والجدل مع الأفكار المختلفة والعقائد المباينة لمنظومة الإسلام، فإنه ظل مسكونا بها جس تقنين الحرية والحديث عن حدودها وسقفها؛ فالإسلام بنظر ابن عاشور لم يسمح بتجاوز حرية الاعتقاد خارج دائرة الإيمان والإسلام المفسرين في حديث جبريل الشهير، لأن ذلك بنظره يفضي إلى انحلال الجامعة الإسلامية. من هنا تبدأ حلقة الضعف الأولى في تصور ابن عاشور لمقصد الحرية، بنظرنا، أي منذ بداية الحديث عن حكم المرتد بحرابة أو بدونها؛ إذ ظل مشدودا إلى نصوص تاريخية ملتبسة بأحداث سياسية وصراعات مذهبية لم يعمل ابن عاشور رحمه الله  على فرزها وتمييز سياقاتها عن بعضها البعض. وهي نصوص غاية في القسوة، تتنافى مع بعد الرحمة الذي يسكن فلسفة التشريع في الإسلام. قال تعالى: "إنه كان بكم رحيما" (الإسراء: 66). وابن عاشور نفسه تحدث طويلا عن قيمة الرحمة في الإسلام باعتبارها صفة نفسية وعمقا روحيا وتشريعيا. والإسلام في أحد معانيه هو إفاضة الرحمة على الناس إفاضة متدرجة بحسب ما اقتضته حكمته تعالى، إلى أن ساق إليهم الهدى على ألسنة الرسل، "فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة" (الأنعام: 157). وختم بنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107). فكيف تخرج النصوص القاسية من شريعة كلها رحمة ودعوة إلى الهدى ودين الحق؟ وذات خصوصية دقيقة وهي أن حالة النفوس البشرية بعدما مر عليها من الأطوار والعصور قد تهيأت لأن تساس بالرحمة[15] .

فقد ذهب ابن عاشور إلى وجوب قتال المرتدين اعتمادا على ما أسماه "إجماع الصحابة"، كما كان إجماعهم بنظره  أصلا في قتل المرتد، بدعم من حديث معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس "من بدل دينه فاقتلوه".

 وحرص ابن عاشور، بنفس سجالي، على دفع كل ما من شأنه أن يقدح في أصل حرية الاعتقاد وأصل الحرية الذي دعا له وتحمس له. واعتبر أن الداخل في الإسلام دخل بحرية في اعتقاده،  "فلما دخل في الإسلام صار غير حر في خروجه منه، لأن الارتداد يؤذن بسوء طوية المرتد من قبل، فإنه لايتصور أن يجد بعد إيمانه دينا آخر أنفذ إلى القلب من الإيمان"[16].

عندها يعتبر المرتد متجسسا، كما يهدف إلى تشويه الدين في نظر من لم يؤمنوا به ليوهمهم أنه دين لايستقر متبعه عليه بعد أن يعرفه. ومعظم الناس، بنظر ابن عاشور، أغرار تغرهم الظواهر ولايغوصون على الحقائق!

قد يصدقوا هذا المدعي. إن المرتد يجب أن يقتل، بنظر ابن عاشور، لأنه إن بقي أصبح دليلا وهميا على عدم صحة هذا الدين. ثم إن الارتداد في إحدى تجلياته يعتبر استخفافا بالإسلام. وحرمة الله  توجب الدب عن الدين وقتال المرتد و التمكن منه حتى لاتصبح فتنة في الجامعة الإسلامية ويصبح فساد عظيم.

ويأتي موضوع الردة كحلقة ضعف داخل الخطاب الإسلامي المعاصر؛ ذلك أن "حد الردة" كما يسميه كثير من الفقهاء وطلبة العلوم الشرعية لم ينظر إليه ضمن تصور شامل، ومؤامرة كبيرة تستهدف "الحرية" التي يتأسس عليها الاعتقاد في الإسلام. مؤامرة الحكم الغاشم على المعارضين والمخالفين بأدوات دينية.

فقتل المرتد افتراء على الله واعتداء على عباده، وانتحال لصلاحياته، وادعاء تمثيله، والنطق باسمه مع تزييف هدايته وتعاليمه. هي مؤامرة الخاطفين للسلطة والمتغلبين على الأمم، والمزيفين لإرادة الشعوب، ضد معارضين لا يملكون إلا ألسنتهم التي يقطعها الجبابرة عندما لا تنطق بمآثرهم ولا تؤلههم ولا تسبح بحمدهم[17]. وقد قدم أستاذنا طه جابر العلواني بحثا تفصيليا في موضوع الردة والمرتدين في تاريخ الإسلام، وبين ما يسببه القول بهذا الحد الغريب عن منظومة الإسلام، من حرج للمسلمين في علاقتهم بنصوصهم المنشئة أو المبينة أي النصوص التأسيسية، وبينهم وبين بقية الناس، خصوصا في واقعنا المعاصر؛ من اتهام للشريعة بالجمود والقسوة والتخلف، وتحريك دعاوى الاضطهاد الديني داخل كثير من البلاد الإسلامية.

فقد وقف أستاذنا طه جابر العلواني بعمق منهجي ومعرفي باستلهام لمنهجية القرآن المعرفية على أن القرآن الكريم، النص المنشئ، والسنة النبوية، النص المبين من حيث القول والفعل، يقومان على تعميق الحرية الدينية، بعيدا عن أي مؤثرات خارجية قديما وحديثا.[18] ولم ينف طه جابر العلواني قيم الفاعلية والدفع والحيوية التي يحبل بها تراثنا الفكري والفقهي ولكن في المقابل وقف على أن نموذج "حكم قتل المرتد" من العناصر الفقهية المقعدة للأمة والمعيقة لحركيتها. فبسبب هذه العناصر ساد الغلو في العقيدة، وفي التشريع وشاع رفض الآخر والجهل بالسنن الإلهية والكونية. ورغم مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قتل المرتد، وإبراهيم النخعي (ت 196 هـ) وسفيان الثوري (ت 161هـ) ورموز كثر من الصحابة، إلا أن ابن عاشور ادعى أن "قتل المرتد" مجمع عليه؛  إذ لم يثر هذا الموضوع أي مشكلة بالنسبة للشيخ في تعارض تام مع حرية العقيدة التي يدعو إليها، بل لم يتفاعل إيجابيا مع رواد حركة الإصلاح في الشرق الذين خالطهم كالشيخ محمد عبده ورشيد رضا، وقد أثاروا الموضوع وتحفظوا على قتل المرتد تارة وبحثوا عن تخريجات لا تلغي حرية الاعتقاد تارة أخرى. وذكر طه جابر العلواني أسماء كثير من الرموز الفكرية والفقهية الذين يشككون في الإجماع حول قتل المرتد، ولكن بقوا محدودي التأثير لتخوفهم من حملات المحافظين والمقلدين واضطهادهم، ومن هؤلاء الفقهاء الأحرار الشيخ شلتوت (ت 1963م) والشيخ محمد أبو زهرة (ت 1974).[19] وأمام هذا الصمت حيال هذه القضية الخطيرة في فكر المسلمين، وقعت كوارث وسالت دماء وظلم أبرياء وقتلوا بغير حق، مما سبب حرجا كثيرا للمسلمين وما زال إلى اليوم، منذ أن أثيرت قضية المواطن الأفغاني عبد الرحمان عبد المنان الذي تنصر، وما أثير حوله من قضايا في المحاكم. ثم جاءت قضية فرج فودة، وفتوى الشيخ محمد الغزالي بالافتئات، مقرا مذاهب الفقهاء في وجوب قتل المرتد، وهو الفقيه المتنور وصاحب الأفق الفكري الواسع، ثم جاءت قضايا نصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، ونوال السعداوي، وربما تأتي قضايا أخرى أخطر ما لم يتجند قادة الفكر الإسلامي المعاصر للحسم في هذه القضايا وتوسيع نشر المبادئ الإسلامية العامة التي جاء بها الإسلام ومن أهمها حرية الاعتقاد وحرية التدين وأن لا إكراه في الدين. هذه المسؤولية الجسيمة تصدى لها، كما ذكرنا، أستاذنا طه جابر العلواني برباطة جأش وشجاعة فكرية ناذرة ستعطي دفعات قوية للفكر الإسلامي في اتجاه التطور والتجديد المؤطرين بمنهجية القرآن المعرفية. فعشرات الآيات القرآنية التي وردت في الردة والارتداد لم تذكر أية عقوبة دنيوية على ذنب أو جريمة الردة، ولم تشر ولا تصريحا ولو على سبيل الإيماء إلى ضرورة إكراه المرتد على العودة إلى الإسلام، أو قتله إذا امتنع.[20] بل جاءت في المقابل آيات كثيرة تدعم الحرية وتدافع عنها وتعدها جوهر تميز الإنسان، إذا فقدها فقد دوره الرسالي في الوجود. إن تصور الحرية كما قدمه الشيخ بن عاشور لم يحشد له ما يلزم لحمايته رغم ذكره لسد ذرائع الإجهاز على الحرية. فالحرية في الأخير عند ابن عاشور بيد قوى سياسية وفقهية خارج الإنسان نفسه، أما عند طه جابر العلواني فالعقيدة حرية ثم هي شأن إنساني خاص بين الإنسان وربه، وليس لأحد أن يكره أحدا على اعتقاد أو تغيير اعتقاده تحت أي ظرف من الظروف، وبأي نوع من أنواع الإكراه.[21]

واعترض طه جابر العلواني على حديث "من بدل دينه فاقتلوه" منهجيا وواقعيا؛ فالاعتراض المنهجي يأتي باستثمار آلية الهيمنة بالقرآن الكريم على الحديث مع ما لاحظه المحدثون في طرقه وأسانيده ومتنه. والهيمنة بالقرآن الكريم تعني عدم تقديم الحديث عليه، أو جعله مساويا له، أي ما يدعيه بعضهم من أن "السنة قاضية على الكتاب". كما وقف طه على اضطراب المذاهب الفقهية في النظر إلى الردة بمفهومها السياسي وبين الردة بمعنى التغيير في الاعتقاد. فحروب الردة التي وقعت مثلا في تاريخ الإسلام، لم تكن لإعادة من غيروا اعتقادهم إلى المعتقد الذي فارقوه بالقوة؛ بل لإلزام مواطنين تخلوا عن التزاماتهم وواجباتهم تجاه الدولة.

أما الاعتراض الواقعي لطه جابر العلواني على حديث "من بدل دينه فاقتلوه"، فهو أن التاريخ أثبت أن الرسول (ص) ما قتل مرتدا طيلة حياته الشريفة مما ينفي أي دليل فعلي صادر عن الرسول الأكرم، ولو علم عليه الصلاة والسلام أن "قتل المرتد حكم الله" لما تردد في إنفاذه.

أما وضعية غير المسلمين فقد دافع ابن عاشور عن فكرة عدم إكراههم على الأخذ بمعتقداته، بل الدخول تحت سلطانه وحسب. وعند مجادلتهم العقدية يتم اعتماد المنهج القرآني المشهور: أي الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. ثم إن الدخول في سلطة الإسلام لا علاقة له بالاعتقاد والعمل ولكن له ارتباط بالانتماء للوطن الجامح حفظا لأمنه ولحمته الاجتماعية. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا من غير المؤمنين به في دولته على اعتناقه، ولم يقاتل المشركين حتى قاتلوه، فنزل قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" (الحج: 39) . وقال تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" .(البقرة: 256)، وقد استلهم ابن عاشور مجموعة من الأفكار من آية "لا إكراه في الدين"، باعتبارها دليلا واضحا على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه، لأن أمر الإيمان، بنظره، يجري على الاستدلال، والتمكين من النظر، وبالاختيار[22]. كما ميز فيها بين القتال للإكراه على الإسلام، وهذا لم يحصل في تاريخ الإسلام، بنظره، والقتال لدفع غائلة المشركين، وهو ما وقع. وعرض لآراء مجموعة من المفسرين لآية " لا إكراه في الدين" من دون تعليق ولا اعتراض، خصوصا وأن بعضهم قال بنسخها بآيات القتال. فالشيخ لم يستثمر آية "لا إكراه" لتعميق حرية الاعتقاد، كما لم يستثمر آية "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها". (الكهف: 29) واكتفى بشروحات لغوية وبلاغية شكلية[23].

ب‌-        حرية التفكير والتعبير:

أن تكون الحرية أصلا في الدين يعني أن يجهر المفكر برأيه، وأن يصرح بما يراه صوابا، قال تعالى: "وإن قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" (الأنعام: 152). فقد ربط ابن عاشور حرية التعبير والقول بحرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن مادام الشيخ مسكونا برسم حدود الحرية وتقنينها فقد خص تغيير المنكر باليد، في الحديث المشهور، بأولي الأمر، من دون أن يطرح سؤال أولي الأمر من هم؟ وهل يقومون بالعدل، و هل يعبرون عن عمق الأمة وانتظاراتها، وهل يحترمون مرجعيتها ومؤسساتها وأنظمتها، وهل يحفظون حدود الشرع وحرماته؛ أي هل هم أمناء حقا على الأمة؟ هذه عادة أسئلة محرجة للشيخ صاحب المسؤوليات الرسمية والإدارية[24]. ويعزز ابن عاشور قوله بأمثلة تكاد تختزل الحرية في ممارسات سلوكية وأخلاقية سطحية لا عمق فيها؛ مثل مراجعة الضعيف للقوي هكذا على العموم، أو مراجعة الابن أباه، أو مراجعة المرأة زوجها.

ويجعل ابن عاشور حرية التعبير تستوعب حرية العلم والتعليم من خلال بث العلم ونشره قدر الاستطاعة بحرية من باب "ليبلغ الشاهد الغائب"، وأدخل نسخ المصاحف وتوزيعها في الأقطار ضمن حرية القول، واسترجع تجربة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل يوما في الأسبوع لتعليم النساء، كما تأسست المكاتب لتعليم الصبيان في عهد أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، كما ذكر أمثلة لأحاديث حثت على فضل تعليم العبيد والإماء.

وإضافة إلى حرية التعليم وكسب المعارف، جعل ابن عاشور حرية الاستنباط في العلم مرتبة أساسية، وهي التي يمارسها الذي بلغ درجة الاجتهاد بجميع مراتبه. والاجتهاد من الحريات الواجبة؛ فآية "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن: 16) مستوعبة لهذا المعنى. وتتجلى قمة حرية العلم في أن الإسلام جعل الأجر على الخطأ.

ولحرية القول مجال آخر وهو إتاحة الفرصة لأهل العلم والمعارف لنشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها للناس بحرية، رغم اختلافهم في وجوه العلم، واحتجاج كل فريق لرأيه ومذهبه؛ فالحق مشاع. وقد رفض الإمام مالك رحمه الله دعوة أبي جعفر المنصور لتعميم كتابه على الناس وإلزامهم به وقال قولته المشهورة: "إن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث وأخذ كل قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإن ردهم عن ذلك شديد فدع الناس وما هم عليه". وأعطى ابن عاشور نموذجا آخر لحرية القول والتعلم زمن الدولة العبيدية؛ فقد كان سكان البلاد مالكية  يخالفون الدولة ذات المذهب الإسماعيلي الشيعي  في أصول الدين وفروعه. وكان علماء الفريقين ينشرون كتبهم ويدرسون مذاهبهم من غير حرج. وكذلك الأمر حصل عند انتقال العبيديين إلى مصر وتأسيس الدولة الفاطمية. وتاريخ المذاهب زاخر بهذا النفس الإيجابي المتبادل بين الملل والنحل والفرق. كما منح الإسلام، بنظر ابن عاشور، حرية القول لأهل الملل من الداخلين في ذمته وسلطانه من يهود وغيرهم.

ج-     حرية العمل:

تعني حرية العمل عند الطاهر ابن عاشور كل ما هو خصوصي  بالنسبة لأي فرد؛ مثل تناول المباحات وممارسات العمل بحسب الكفاءة والموهبة. وأن لا يجبر أحد على أن يعمل لغيره، إلا إذا كان مصلحة عامة، أو ما فيه تدخل عاجل لحفظ حياة الغير إذا كان في خطر؛ مثل الدفاع عن الوطن، وإنقاذ الغريق، وإعطاء الزكاة، ونفقة القرابة.

ودافع ابن عاشور عن حرية النساء في التصرف في أموالهن مثل الرجال بحسب ما تسمح به حالتهن من انتفاء المفاسد. لكن الشيخ ظل مشدودا إلى ثقافة تراثية تكبل حركية المرأة وتحد من حريتها؛ فبرغم إلحاحه على حرية تصرف المرأة، فهو يعود إلى أن خروجها ليس حرا بل محدود لقضاء الحوائج بالمعروف، كما لهن حضور الجمعة والجماعة والعيدين! وأعطى أمثلة لنساء تحدين أزواجهن للخروج للصلاة مثل زوجة عمر بن الخطاب، على معرفتها  كراهيته لذلك. ورغم الأفق الواسع للشيخ ابن عاشور في تأمل آيات القرآن الكريم، إلا أن السقف الثقافي التاريخي المحدود الذي تحرك فيه النص القرآني ظل مهيمنا على الشيخ؛ فقوله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" (النساء: 228) ظلت هذه الآية مسيجة في ذهن الشيخ بأسيجة ثقافية واجتماعية أفقدت الآية عمقها الحقيقي القائم على الحرية والمساواة في إطار متكامل للأدوار والوظائف مع العلم أن المساواة أخذت حيزا مهما في المشروع الفكري للطاهر بن عاشور؛ والمساواة عنده لا تعني دحض الفروق الذاتية والمميزات النفسية والمواهب المختلفة. وقد انتقد تصور الشيوعيين للمساواة، من دون نقد مفهوم المساواة في الفكر الليبرالي الفرنسي على الخصوص والذي ظل الشيخ معجبا به إلى أبعد الحدود. فالعدل بنظره أصل العمران، وعنه تنشأ الحرية والأخوة. بذلك وحده تسعد الأمة ويدوم بقاؤها؛ فلا عدل بدون حرية. والعدل الممزوج بالحرية هو أن يأخذ المرء كل حقوقه ويفي بجميع حقوقه وأن يصدع بآرائه. ولا يخفى ما في كلام الشيخ من تأثر بأفكار الثورة الفرنسية حول الحرية و الأخوة والمساواة، وهو صاحب ثقافة غربية متينة[25] . إن المساواة عند ابن عاشور تعتمد توفر شروط وانتفاء موانع. والشريعة التي لا تقيد المساواة بشيء شريعة مضللة. والمساواة في الإسلام كما يتصورها الشيخ، هي "المماثلة بين الناس في مقادير معلومة وحقوق مضبوطة من نظام الأمة، سواء كان الضبط بكليات ومستثنيات منها، أم كان بتعداد مواقع المساواة. فالمساواة في المحصلة الأخيرة هي الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهلية"[26].

فالمساواة في الإنصاف بين الناس في المعاملات هي العدل، والمساواة في تنفيذ الشريعة أي جريان أحكامها على وثيرة واحدة من دون تمييز بين الناس. والمساواة في الأهلية أي الصلوحية للأعمال والمزايا وتناول المنافع بحسب الأهلية، أو ما نسميه اليوم تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة... والأصل في الأهلية عند ابن عاشور هو المساواة بين الداخلين تحت حكم الإسلام كلهم اعتمادا على حديث " لهم مالنا وعليهم ما علينا"؛ فالمساواة في مجتمع إسلامي لاتقتصر على جنس أو قبيلة أو لغة أو لون أو نسب. وقد استمد ابن عاشور تصوره الفريد للمساواة من خطبة الوداع والتي جاء فيها: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لافضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".

وحرية العمل في تصور ابن عاشور محدودة باحترام الكليات التشريعية، وحفظ مجموع الحريات، وإقامة المصالح العامة في الأمة.

واستغرق ابن عاشور طويلا من غير مبرر منهجي ولا معرفي في الحديث عن الرق والعبيد، وميز بين استرقاق الاختيار والاسترقاق في الجناية والاسترقاق في الدين واسترقاق السائبة، وهي أنواع رفضها الإسلام. كما عرض المراحل المنهجية التي اتبعها التشريع للحد من ظاهرة الرق في أفق التخلص منها نهائيا ذلك "أن الشارع متشرف إلى الحرية" .
تاريخ النشر : 30-09-2009

6551 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com