أجرت صحيفة الرأي حواراً مع الدكتور معتز الخطيب تناول قضايا العنف، ومراجعات بعض التيارات حول قضايا التكفير وغيرها، كما تطرق إلى موقف الغرب من الحركات الإسلامية، وجدوى إشراكها في السلطة ..وقضايا أخرى،وفيما يلي نص الحوار الذي أرجته الصحفية ريتا فرج:
......................
* أجرت بعض الحركات الإسلامية الكثير من المراجعات حول خطابها العقائدي، خاصة ما يتعلق بتكفير المجتمع والدولة والرؤية إلى الغرب. برأيك ما هي أسباب هذا التحول؟ والى أي مدى يرتبط بالسياسات الدولية الراهنة والمشروع الذي تطرحه الإدارة الأميركية بشأن الحوار مع هذه الجماعات؟
بداية لا بد من استحضار أن الحركات الإسلامية طيف واسع ومتنوع، لكن يقع الالتباس كثيرًا بينها، فبعض خصومها من الغربيين والعلمانيين لا يفرّقون بينها، وإن تمّ الاعتراف بالتفريق فهو تفريق في الدرجة فقط!.
فكرة "المراجعة" قد تكون تعبيرًا مُحدَثًا عما كان يسمى "النقد الذاتي"، الذي شهد ثلاث موجات (عربيًّا) رصدها السيد يسين في بعض كتاباته، لكن المهم هنا رصدُها (إسلاميًّا وحركيًّا)، فقد بدأت فكرة النقد الذاتي داخل الحركة الإسلامية مع كتابين، هما:
"في النقد الذاتي: ضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية"، 1982م، (خالص جلبي)
و"الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية: أوراق في النقد الذاتي" 1989م، (تحرير عبد الله النفيسي وشارك فيه نخبة من رموز العمل الإسلامي).
والواقع أن بعض الحركات التي تتوسل بالعنف طريقًا للتغيير، أجرت ما سمي "مراجعات"، بدأتها الجماعة الإسلامية المصرية سنة 1997م، ثم تبعها "تنظيم الجهاد"، وهذه المراجعات حظيت باهتمام كبير؛ نظرًا لكونها متصلة بجماعات عنفية كانت أعمالها ملء السمع والبصر، كما أثارت جدلاً وتعليقات مطولة، حتى إن طارق الزمر (أحد قيادات الجهاد) أصدر رسالة سماها "مراجعات لا تراجعات"، في تمييز دالّ بين المراجعة والتراجع، وبحسب كمال حبيب (أحد قيادات تنظيم الجهاد سابقًا) أن أول محاولة فعلية للمراجعات بدأت في منتصف عام 1986م، بعد دخول أعضاء تنظيم الجهاد -وكان هو واحدا منهم- السجن. (المصري اليوم 22/11/2007م).
وإذا كانت فكرة النقد الذاتي – قديمًا - أو المراجعات –حديثًا- فكرة إيجابية، إذ لا يمكن الإصلاح من دون مراجعات مستمرة في الفكر والسلوك، فإن هذه الفضيلة الأخلاقية لم تترسخ بعد في الثقافة العربية والإسلامية، كما لم تتحول إلى منهجية للحركات الإسلامية، فمحاولات النقد الذاتي بقيت على هامش الحركة الإسلامية الرسمية، ومراجعات الجماعة اتهمت بأنها نتيجة صفقة أمنية، وتواطؤ مع السلطات، ومراجعة منظّر الجهاد (سيد إمام) اتُّهمت بأنها صادرة من وراء قضبان السجون فلا عبرة بها لكونها تحت الإكراه، إلى غير ذلك. ولذلك ينبغي ألا نسرف كثيرًا في التعويل على تأثيراتها وكأنها مرحلة فاصلة، أو لحظة حاسمة، أو نهاية قاطعة، وإن كانت لها أهميتها وتأثيرها لا شك.
وينبغي أن يتم التدقيق كذلك في مفردات تلك المراجعات، فبما أنها صادرة من جماعات (محلية) كانت تنتهج العنف طريقًا للتغيير، فإن مراجعاتها انصبت على "وقف العنف" و"تصحيح مفهوم الجهاد" أو "ترشيده"، وحتى المراجعات التي أشار إليها كمال حبيب كانت تدور حول مسائل الانتخابات والموقف من الأقباط والجزية وغيرها. فهي مراجعات انصبت في مجملها على نقد ممارسات سابقة، وانتقاد ممارسات حالية لتنظيم القاعدة وقادته.
ويبقى السؤال عن دوافع هذه المراجعات سؤالاً مشروعًا، لكن من المهم أن أصحاب تلك المراجعات يحيلونه إلى عوامل ذاتية، كما نجد في نصوصهم وإحالاتهم، وقد كتب سيد إمام مثلاً عن دوافع إصدار وثيقته: "إنما كتبتها من باب المسؤولية الشرعية لما علمت أن بعض المتفلتين من الشريعة كتنظيم القاعدة يستخدم كتبي في تجنيد أفراده ...".
لكن لا شك أن مثل هذه الظواهر المعقدة، يحسن فيها التحليلات المركبة التي تدرك جملة من العوامل والمكونات التي تسهم في إحداث التغييرات، منها الفكري والنفسي والزماني والمكاني، وتطورات الأحداث، والاعتبار بالنتائج والمآلات، وغير ذلك. كما أنه مرتبط بفقدان تلك التنظيمات لجاذبيتها في الشارع، وبتحولات استراتيجية القاعدة من استهداف النظم (العدو القريب) إلى استهداف الولايات المتحدة (العدو البعيد) الذي أُعلن عنه عام 1998 مع قيام «الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين».
ويبدو لي من خلال المراجعات والردود عليها والردود على الردود أن ثمة حساسيات شخصية أيضًا بين بعض قيادات العمل المسلح. (تأمل مثلاً حوار الحياة مع سيد إمام 12 ديسمبر 2007م حيث يكرر من وصف "بعض الخونة"، ويتهم الظواهري "بخيانة الأمة والاعتداء على كتبه" ويذكر تعبير: "شيوخ الغدر والخيانة بن لادن والظواهري").
كما أنه لا يمكن تجاهل نتائج مثل تلك الممارسات وتأثيراتها على الإسلام والمسلمين، وهو ما عبر عنه أسامة رشدي (أحد قيادات الجهاد في الخارج) فقال: "كان لنا السبق في استشراف نتائج مثل هذا الفكر على الإسلام وشريعته ودعوته والجماعات العاملة له، وقد واجهنا أصحابه"، حين طالب سيد إمام بمزيد من الجهد لنفي الآثار الكارثية لكتابيه "العمدة" و"الجامع".
* بعد أحداث أيلول لم ير الغرب الأميركي في الإسلام إلاّ العدو القادم، ومن المعروف أن عقدة الإسلاموفوبيا تلازم المتخيل الأميركي ما قبل هذه المرحلة. برأيكم هل باستطاعة الولايات المتحدة العيش خارج إطار وجود عدو افتراضي؟ وفي حال دخلت بتسوية مع الحركات الجهادية ومن بينها القاعدة ما هي انعكاسات هذه التسوية على منطقة الشرق الأوسط؟
لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العظمى في العالم، وقد درجت الثقافة الأمريكية على الولع بإبراز هذه العظمة بشتى السبل، وهو ما نلمسه بوضوح في السينما الأمريكية، التي تولع بصناعة الأعداء الذين يقهرهم البطل الأمريكي الأوحد، وهذا أمر يتصل بنشأة أمريكا نفسها، فلا يمكن تجاهل التاريخ الذي لا يزال يؤثر في نمط الثقافة والبناء النفسي، وفي طبيعة العلاقات بين الناس وبين الدول.
ثم إننا لا نرى هذا في السينما فقط، فجون شيلتون لورانس (باحث أميركي) ألف كتابًا بعنوان "خرافة البطل الأميركي المطلق" خلص فيه إلى أن أسطورة البطل الأميركي الخارق هي مفتاح رئيسي لفهم كافة جوانب الحياة الأميركية التاريخية والفنية والدينية، ومن الصعب حضور البطل دون وجود عدو ومعركة.
وكذلك صموئيل هينتينغتون صاحب نظرية صدام الحضارات، أوضح أن "المطلوب هو توفير حافز اصطناعي للوحدة في المجتمع الأميركي الميال بطبيعته للتفكك عند الشعور بالأمن، وهذا الحافز هو اقتراح عدو خارجي لملء الفراغ الذي خلفه زوال الشيوعية لأجل أن تسود ثقافة الخوف وتوحد الأميركيين وتغلب الغريزة".
وهكذا نجد أن تنمية الحس القومي والشعور بالهوية الأمريكية (التي هي فسيفساء من أعراق وألوان وخلفيات شديدة التنوع) إنما يتم بخلق فكرة العدو الذي يوجب على جميع الأمريكيين المختلفين التوحد في مواجهته.
* دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال خطابه الشهير من القاهرة إلى ضرورة تجسير العلاقات مع العالم الإسلامي. ما هي دلالات هذه الدعوة؟ وهل يمكن تغييب تاريخ مشحون بالقلق ما بين الشرق والغرب؟
تفاوتت ردود الأفعال على خطاب أوباما إلى العالم الإسلامي، وفي تقديري ينبغي أن لا يغيب هنا نمط خطابات أوباما وولعه باللغة التصالحية التي تكاد ترضي جميع الأطراف، وهو ما فعله في خطابه الشهير، والسياسة الأمريكية تصنعها الأفعال والممارسات وليس الخطابات، ثم إن آلية صنع السياسات والقرارات شديدة التعقيد ومن الصعب أن نشهد "تحولاً" بمعنى التحول، وإن شهدنا تغيرًا - لا شك - بالمقارنة مع الإدارة السابقة.
لكن تبقى مشكلة جوهرية في آلية معالجة هذا الموضوع، فالتفكير الأمريكي مولع بتغيير الآخرين، وليس بمراجعة النفس، وهو ما عكسه السؤال الشهير بعد 11 سبتمبر (لماذا يكرهوننا؟)، وقد عنى وقتها شعورًا مفعمًا بطهرانية الذات، وبراءتها، وأمر آخر هو أن آلية التغيير الأمريكي يلجأ إلى حملات تحسين الصورة بالوسائل المعروفة تقنيًا، وليس على الأرض، ومثل هذه الآليات أثبتت فشلها في التعاطي مع العالم الإسلامي تحديدًا المحكوم إلى منطق مختلف واعتبارات قيمية وإسلامية لا تؤثر فيها بطبيعة الحال الصور الجميلة والدعايات وإن انفعل بها مؤقتًا.
* هل إشراك الحركات الإسلامية بطرفيها السياسي والجهادي في إدارة الحكم داخل الأنظمة العربية يساهم في تخفيف حدة التوتر والعنف في العالم العربي؟
يحلو للبعض الإجابة على هذا السؤال بالقول: إن الحركات الجهادية لا يمكن القبول بمشاركتها إطلاقًا بحجة أنها حركات إقصائية، لكن الأمر - في تقديري - أكثر تركيبًا من مثل هذه الإجابات البسيطة، التي لا تتنزه عن التورط في قدرٍ من الإقصاء أيضًا، فالحركات التي تتوسل بالعنف منهجًا للتغيير قد يكون انسداد أفق التغيير وانعدام أي وسيلة للمشاركة سببًا من أسباب نشأتها وانبثاقها أصلاً، والأكيد أن فتح آفاق التغيير والمشاركة في إدارة الشأن العام سبيلٌ رئيسي من سبل تخفيف حدة العنف والتطرف، فالناس تلجأ - عادة - إلى الطرق والأساليب العنفية حينما تنعدم الوسائل السلمية وحينما يستحكم الاستبداد والقهر. وحين لا تقوم الدولة بوظائفها في صيانة مصالح الجماعة وهويتها ووجودها المادي والمعنوي والرمزي، فإنها تدفع إلى التطرف والعنف دفعًا، فإذا ما توفرت بيئة خصبة له ظهر وتجسد في ممارسات ووقائع هنا وهناك، وإلا بقي كامنًا بالقوة، حتى تتهيأ له أسباب الفعل.
فلا مناص –إن كنا مؤمنين حقًّا بالديمقراطية- من الاحتكام إلى إشراك جميع القوى الفاعلة في ظل نظام قانوني وديمقراطي يحفظ الحقوق ويصون الحريات، وينتقل بالصراع الطبيعي بين القوى والأفكار المختلفة من ساحة العمل العنفي إلى ساحة العمل السياسي.
يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.