آخر تحديث للموقع

 2022-08-20

 
Facebook Twitter Rss

النص والتراث  .  دراسات قرآنية

دراسات حديثية    |    الفقه و الأصول    |    العقيدة و الكلام

  •     

ضرب المرأة.. عندما يغدو التأويل ضرورة حضارية

محمد أبو الخير السيد


عنوان الكتاب  :     ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية!

المؤلف  :     عبد الحميد أحمد أبو سليمان

الناشر  :     دار الفكر 

المدينة   :     دمشق

السنة   :     2002

 صفحات  :  29  

 

شهدت مرحلة المواجهة بين الموروث الإسلامي والطرح الغربي مناقشة العديد من القضايا الإشكالية، وقد تنوعت أشكال هذه المواجهة وزوايا النظر التي تناولت من خلالها تلك القضايا بين تبرير التراث أو تأويله أو تجاوزه بتوفيق أو تلفيق أو تجديد وعصرنة ونحو ذلك، وكان من جملة تلك القضايا العالقة قضية المرأة... حجابها، ميراثها، عملها، شهادتها، ولايتها... الخ، لكن المسألة التي يتناولها هذا البحث لم تشغل اهتمام الباحثين في السابق كما شغلتهم في فترة لاحقة، أعني مسألة ضرب المرأة، وقد ورد الكلام عنها في سورة النساء في قول الله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع و اضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً) النساء: 34.

 ومما تجدر ملاحظته والتنبيه إليه في مطلع هذا البحث- على سبيل الاستطراد- أن الموقف الذي اتخذته تيارات الحداثة إزاء النص الديني المنقول (القرآن والسنة) قد تباين بوضوح بين تعامله مع النص القرآني وبين تعامله مع السنة النبوية، ففي الحين الذي لجأت فيه بعض تلك التيارات إلى تأويل النص القرآني إلى حد بلغ التعسف في بعض المواضع، نجدها لا تكلف نفسها عناء التأويل في نصوص السنة النبوية، بل تسلك سبيل رد الحديث لأوهى سبب متذرعة بوجود ما يسميه المحدّثون: العلة في المتن – أو نقد المتن - ولو نظر المتأمل في العلل التي أوجبوا بها رد كثير من الأحاديث وإبطالها لَوَجَدَ ما هو أشد منها موجودةً في النص القرآني، وتفصيل القول في هذا الفرق وأسبابه مفصل في غير هذا الموضع، لكننا أوردنا هذا التلميح لصلته بموضوع البحث.

     أما مسألة ضرب المرأة كما وردت في سورة النساء فقد كانت هذه الآية لدى كثير من المعاصرين تمثل إشكالاً بالغ الصعوبة خصوصاً إزاء تنامي تيارات حقوق الإنسان وتحرير المرأة وغيرها من التيارات التي تجد في هذا الفعل إسفافاً بإنسانية الإنسان وإهانة لكرامته، ولهذا السبب تنوعت التأويلات لهذه الآية وتفاوتت درجاتها، وتتناول هذه المراجعة أحد هذه التأويلات، وهو التأويل الذي ذهب إليه الدكتور عبد الحميد أبو سليمان في كتابه "ضرب المرأة.. وسيلة لحل الخلافات الزوجية".

 

المنهجية والتأويل

كان منهج الدكتور أبو سليمان في بحثه المذكور ينطلق من البعد الإنساني "الأصيل" و المبثوث في حنايا النص الديني والذي يتجلى في أحكام الشرع و"مقاصده"، وهي بدورها لا تتنافى مع سنن الله تعالى وفطرته في خليقته، وحين المزاوجة بين هذين الثابتين المتكاملين "آيات الوحي وآيات الكون" اعتماداً على "مبادئ العقل" فإن ما يثار عندئذ من الشبهات أو الإشكالات حول الدين أصولاً أو فروعاً لا يلبث أن يجد الإجابة الشافية التي لا تبقي للشك أو للشبهة موضعاً؛ وهذه المنهجية تقابل منهجية من "يبدأ النظر في الأحكام أولاً . . حاملاً ثقافة التقليد التي تحول بينه وبين الرؤية الشمولية للواقع و الطبائع . . ويصاحبها و يعمقها الجهل بالدراسات الاجتماعية المتعلقة بالوقائع و الطبائع" (ص 13،14).

 

ولا يخفى ما في البعد عن هذا المنهج الذي قدّمه من إضرار بالغ بكثير من جزئيات وكليات واقعنا الإسلامي، ولعل في مقدمتها الأسرة التي هي "المحضن الأساسي لتكوين شخصية الطفل وسيناء هذا العصر" (ص16)، وهي بدورها المحوري وأثرها الفعال وقيمها المعنوية الناظمة لها لا بد أن تكون ضابطاً في فهم آيات الأحكام المتعلقة بها أو المتقاطعة مع منظومتها .

وبالخوض في جزئية من تلك الجزئيات المتعلقة بالأسرة – أقصد ضرب المرأة - فقد ذهب الدكتور في تفسيره للآية إلى أن فعل ضَرَبَ في القرآن الكريم سواء كان متعدياً بنفسه أو بحرف الجر قد استُخدم "استخدامات مجازية فيها معنى العزل والمفارقة والإبعاد والترك" (ص 48) كما جاء في بعض التعابير بمعنى الدفع والخبط واللطم، وأن الضرب في آية النشوز محتمِل للمعنيين، لكن لا بد من حمله على معنى العزل والمفارقة والإبعاد، لأن هذا هو المعنى الذي يستدعيه السياق القريب في الآية، إضافة لملاحظة معاني المودة والرحمة التي تتأسس عليها العلاقة الزوجية كما قررها القرآن الكريم في مواضع عدة.

ثم فسَّر خطوات معالجة النشوز بالموعظة ثم بالهجر في المضجع، وهو هجرٌ في داخل المنزل، أما الضرب فهو تركٌ للإقامة في المنزل واعتزال للزوجة ومفارقتها بشكل كامل (ص51) ورأى أن هذا التأويل لمسألة الضرب مؤيَّد بالسنة النبوية من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين هجر نساءه شهراً واعتكف في مشربةٍ له، فهذا تفسيرٌ عملي من السنة لكيفية الضرب (ص52).

أما فهم الضرب بمعناه المعروف عنفاً وقهراً وإخضاعاً بالقوة للزوجة وإنزالاً لها كَرهاً على رغبات زوجها فهو بعيد كل البُعد عن طبيعة الأسرة المسلمة التي "كانت عضويتها عضوية اختيارية لا مجال فيها للقهر والتسلط والتعسف، وكان فيها لكلٍّ من الزوجين حق مغادرة الأسرة وإنهاء العلاقة الزوجية إذا لم يعد أي واحدٍ منهما يرغب في البقاء فيها . . فالزوج إذا كره العشرة له حق الطلاق في الإسلام، و الزوجة إذا كرهت العشرة لها حق الخلع في الإسلام . . كما أن الضرب على أي حال ليس وسيلة مناسبة لإشاعة روح المودة بين الزوجين، وليس وسيلة مناسبة لكسب ولاء أطراف العلاقات الحميمة و ثقتها" (ص33-34).

وفي تناولنا لهذه المسألة نورد أولاً نص الآية كاملاً للتبيين والتعليق، ثم نذكر الوجوه التي تشكل مآخذ على هذا التأويل عسانا نطل على الآية الكريمة من زاوية أقرب.

يقول الله تعالى:"الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً " النساء:34 .

 

مفتاح النشوز

   لعل مفتاح الحل في هذه القضية يكمن في تحديد معنى النشوز، ذلك أن المعترضين على ضرب المرأة إنما انصرف نظرهم إلى الضرب مباشرة، أما النشوز فلم يتجاوزوا فيه تفسير السابقين، بل اعتمدوا عليه دون نقد أو مراجعة، وأول ما نلحظ في هذه الآية الكريمة اختصاصها بالحديث عن مشكلةٍ بين الرجل والمرأة ضمن إطار العلاقة الزوجية، والآية تذكر قوامة الرجال على النساء أولاً، ثم تتحدث عن فريقين للنساء إزاء هذه القِوامة لا ثالث لهما: فريق الصلاح وفريق النشوز، فأما فريق الصلاح من النساء (الصالحات) فقد وُصفْن بالقنوت وحفظ الغيب؛ فالأصل في القنوت هو لزوم الطاعة والانشغال بالعبادة[1] وقد وُصفت بهذا الوصف السيدة مريم في قوله سبحانه:"وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ" التحريم:12.

 

فوصْف الزوجة بالقنوت أقرب ما يكون إلى وصفها بحُسن العلاقة مع الله تعالى[2]، وهذا هو الجانب الأول في وصفها، أما الجانب الثاني فهو علاقتها مع الزوج، وقد ذكرت الآية أنه حفظ الغيب بما حفظ الله، وقد ورد في السنة بيان لمعنى هذا الحفظ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "خير النساء امرأة إن نظرتَ إليها سرتك، وإن أمرتَها أطاعتك، وإن غبتَ عنها حفظتْك في مالها و نفسها" ثم تلا هذه الآية:"الرجال قوامون... بما حفظ الله"[3]، فالحفظ في المال هو عدم التبذير أو الإسراف فيه بل ولا حتى الإنفاق من مال الزوج إلا بإذنه[4]، والحفظ في النفس هو العفة عن الفاحشة وما يؤدي إليها، فإذا كانت هذه صفة الصالحات كانت صفة الناشزات هي تضييع المال أو العِرض أو كليهما، ومعلومٌ أن المرأة التي تعرّض عرضها للوقوع في الحرام هي على أبواب مشكلة أسرية مدمرة، فقد يؤدي ذلك بها إلى الوقوع في الفاحشة، والوقوع في الفاحشة بالنسبة إلى الزوجة مآله إما العضل في علاقتها بزوجها[5]، وإما الملاعنة وإنهاء العلاقة الزوجية بتاتاً مع تشويه سمعتها والتشهير بها، وكلا الأمرين فيهما من الضرر عليها الشيء الكثير، فكان اللجوء إلى الضرب من باب اختيار أهون الشرّين و أخف الضررين [6].

  وهذا التوجيه لمعنى النشوز مستوحى من سياق الآية وقسمتها أصناف النساء في مطلعها، والمعنى الأشهر للنشوز عند المفسرين هو العصيان لأمر الزوج أو الاستعلاء عليه، وهو معنى مستمد من اللغة ويؤيده تمام الآية في قوله تعالى "فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً"، ومثار الإشكال عند اللاحقين في تفسير النشوز بمعنى "العصيان" أنه لا ينضبط بضابط بل يتبع مزاج الزوج، وهم في ذلك على حق، لكن إن نحن ضبطنا طاعة الزوج – التي هي عكس النشوز – بمعنى القنوت والحفظ الواردين بنفس الآية على الوجه الذي قدمناه آنفاً لم يبق للإشكال محل.

 

مسار التأويل .. عقبة النص

ونلتفت الآن إلى مناقشة تأويل الدكتور أبو سليمان في كتابه، ونورد ذلك من وجوه عدة:

الوجه الأول:  أنه قد وقع خلط بين النشوز وبين الخلاف الزوجي، ثم ترتب على هذا وقوع الخلط بين وسائل معالجة كل منهما، وكثيرون يظنون استعمال الضرب إنما هو لحل الخلافات بين الزوجين، وهذا ما ظنه الدكتور عبد الحميد حتى جعله من عنوان كتابه، وفرق كبير بين النشوز وبين الخلاف الزوجي من حيث الماهية ومن حيث وسيلة الحل، أما من حيث الماهية فالخلاف الزوجي أمر طبيعي ناجم عن اختلاف التنشئة والطباع والثقافة وطرائق التفكير، في حين أن النشوز في مضمونه إخلال حادّ بالمقومات الأساسية لاستمرار الحياة الزوجية ودفع بالأسرة إلى التفكك، وأما من حيث وسائل الحل فإن الخلافات الزوجية لا تحل بالضرب كما يظن الكثيرون، بل بوسائل أخرى كالتعليم والموعظة والمشاورة أو بالتحكيم إن وصل الأمر إلى الشقاق كما يذكر القرآن الكريم، أما النشوز بالمعنى الذي أوضحناه من التفريط بحفظ مال الزوج أو عرضه آنفاً فالضرب من وسائل حله، لكنه آخرها وليس أولها.

الوجه الثاني: أن غالب من ناقش هذه الآية ظن أنها تتحدث عن كل زوجة، والحق أن الآية جعلت الصالحات في جهة والناشزات في جهة مغايرة، وشتان ما بين الفريقين، فاختلاف المنزلة يستلزم _ بداهةً _ اختلاف الوسيلة.

الوجه الثالث: أن الضرب غير مستقبح في ذاته، وإنما يستقبح أو يُعاب إن وضع في غير محله، وعليه فإنه لا يقبح عندما يكون على سبيل التأديب، فهذه حالة الزنا عقابها الجَلْد، أفيقبح جَلْد الزانية كما قبح ضرب الزوجة الناشز؟! مع العلم أن بين الجَلد وبين الضرب فرقاً كبيراً [7]؛ أم يكون في الجَلْد إسفاف بكرامة الإنسان و إنسانيته؟ إذن فأي معنى عندئذ للقانون أو التشريع - أياً كان مصدره - إن كان عاجزاً عن ضبط سلوك الإنسان خوفاً من الإخلال بإنسانيته؟ 

الوجه الرابع: أن الضرب إن كان مشروعاً فإن ذلك لا يعني استحبابه أو أفضليته، إذ ليس كل مباح مستحباً، فالطلاق مع كونه مباحاً مشروعاً لكنه أبغض الحلال إلى الله[8]، ومثله في المشروعية مع الكراهة: الضرب؛ فقد جاء في السنة ذم الضرب[9] واستقباحه مع كونه مشروعاً بضوابطه.

الوجه الخامس: لا يستلزم الضرب إيلاماً جسدياً ولا تعذيباً [10]، فإن الضرب لا بد أن يكون متناسباً مع المضروب من غير مبالغة فيه، مع مراعاة كونه وسيلة لا غاية، وهذا ما يفسر ما جاء في الروايات من وصفه بأنه غير مبرّح.

الوجه السادس: ذكر الدكتور أبو سليمان أن العلاقة الزوجية مبنية على المودة والرحمة، وأن الضرب الجسدي ينافي ذلك، فجوابه أن الضرب هنا إن خرج عن دائرة المودة لم يخرج عن دائرة الرحمة، وكم من الأعمال التي يفعلها المرء ظاهرها الإيلام و حقيقتها الإصلاح و المداواة.

الوجه السابع: أنه فسر الضرب بترك منزل الزوجية ومفارقة دار المرأة و اعتزالها (ص51-25)، وهذا يخالف ما جاء في السنة من منع الهجر إلا في المنزل، فقد روى أبو داود في السنن عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طَعِمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت"[11]، والملاحظ في هذا الحديث أنه ذكر الضرب ونهى عن ضرب الوجه، وكأن في هذا إلماحاً إلى ما جاء في آية النشوز من الهجر والضرب.

 الوجه الثامن: أن الدكتور أبو سليمان عدّ لفظ الضرب في الآية محتملاً لمعنى الدفع والخبط البدني ولمعنى الاعتزال والترك والابتعاد، وليس له في هذا الفهم وجهٌ معتبر، بل هذا تأويلٌ و صرفٌ للَّفظِ عن معناه بدون دليل، ذلك أن لفظ الضرب معناه في اللغة هو الدفع بقوة، أما معنى العزل والابتعاد والهجر..الخ فتكون صيغته مقترنة بحرف يفيد ذلك المعنى، كالضرب في الأرض، والضرب على الآذان، والضرب بالأرجل، وغير ذلك. وإلا فما تفسير ضرب البحر بعصا موسى عليه السلام؟ وضرب إبراهيم للأصنام؟ وضرب الملائكة وجوه الكافرين وأدبارهم؟ أيكون معنى هذا كله هو العزل والإبعاد؟ فالدكتور في تأويله هذا لم يفرق بين فعل "ضرب" كفعل متعدٍّ بنفسه وبين كونه فعلاً متعدياً بحرف الجر، مع أنه يترتب على هذا التباين في التعدية تباين في الدلالة اللغوية كما هو معلوم لغةً واستعمالاً.

   ولعل الدافع الأساسي لهذا التأويل المتكلَّف إنما هو تقديم نموذج في فهم نصوص الشريعة يصلح أن يواكب مفاهيم هذا العصر وقيمه الجديدة، ولا إشكال في هذا المقصد ما دام لا يلغي قواعد اللغة ودلالتها في فهم النصوص كما لا إشكال فيه ما دام لا يلغي نصوص السنة التي ساهمت في إزالة اللبس في فهم معنى الضرب واستعماله، أما تأويل النص ارتهاناً لحالة حضارية فلن ينتج سوى إفقارٍ في فهم النص وإعماله بالتوازي مع تكريسٍ ضمني لتفوق الآخر ومنظومته على حساب الذات.

 

مسار الواقع.. عقبة الثقافة

  ولئن كان الباحث يرمي إلى تحسين صورة الإسلام في تعامله مع المرأة [12] خصوصاً في قضية الضرب فلا يخفى أن مشكلة ضرب المرأة إنما هي مشكلة اجتماعية قبل أن تكون مشكلة دينية، بل هي ليست وليدة نص ديني بعينه أصلاً، والغرب الذي يعنى به المؤلف في بحثه هذا ضمناً هو من أكثر المجتمعات التي ما تزال تعاني من "العنف الزوجي" وليس مجرد "الضرب غير المبرح"، وكل ما فعله النص القرآني هو أنه تعامل مع المشكلة بواقعية ووضع لها الضوابط والبدائل الأفضل مع جعله اللجوء إلى الضرب خياراً غير مستحسن.

   ثم إن الثقافة التي يتحرك في ساحتها النص القرآني لحظة نزوله كانت – وما تزال - ثقافة تُقر الفرق بين الجنسين وتعترف بتفوق الرجل بدنياً على المرأة ما يجعل مباشرة الرجل ضرب المرأة نوعاً من سوء التدبير واستقواءً مستقبحاًً من الطرف القوي على الطرف الضعيف، هذا بخلاف الثقافة الغربية التي أقرت مساواةً شبه مطلقة بين الجنسين ما يجعل الضرب من حيث المبدأ حقاً للطرفين مع أنه في الواقع حق لا يملكه ولا يقدر عليه سوى الرجل، فكرست بذلك المشكلة بدلاً من أن تحلها، في حين استطاع القرآن حلها عن طريق تعزيز قيم خلقية وثقافية رادعة مبثوثة في حنايا آياته وتوجيهاته؛ ذلك أن مسألة الضرب قد أصابها - بالتركيز عليها – فصل عن سياقها في عموم النص، فإن نحن لاحظنا موارد النص المتحدثة عن شؤون الأسرة ونظامها وما يحكم العلاقات الزوجية من قيم أخلاقية إنسانية وإلزامات دينية ربانية - ولا محل لسردها هنا - لوجدنا أن اللجوء إلى خيار الضرب يتقلص بل ينعدم واقعاً..إما شهامةً ومروءةً، وإما ديانةً كما هو مشهود في الكثير من أحوال الأسر التي نأى بها تديُّنها أو وعيها السلوكي عن مثل هذه المنزلة.

--------------------------------------------------------------------------------

 [1] انظر "المفردات" للراغب الأصفهاني ،تح. صفوان داوودي، ص685 .

[2] يذهب بعض المفسرين إلى أن من معاني القنوت: القنوت للزوج ،بمعنى طاعته . وهذا التفسير للقنوت عليه مآخذ من وجوه عدة: أحدها: أن القرآن الكريم لم يورد لفظ القنوت إلا مختصاً بالله تعالى،و مرة ورد القنوت لله والرسول معاً،و هذا معناه الانقياد لحكم الله تعالى وشرعه. الثاني: أن آية سورة النساء هذه تتحدث عن جانبين في النساء الصالحات الأول هو العلاقة مع الله تعالى فوُصف بالقنوت، والثاني هو العلاقة مع الزوج وقد وصفت بالحفظ بما حفظ الله ،وسيأتي شرحها،فلا يجوز إدخال هذين الطرفين بعضهما ببعض مع إمكان فصلهما عن بعضهما.

[3] روى جمعٌ من المفسرين هذا الحديث عند تفسيرهم لهذه الآية كالبغوي وابن عطية وابن الجوزي وابن أبي حاتم ، ولم أجد في روايات المحدثين تلاوته صلى الله عليه وسلم لهذه الآية في نهاية حديثه ،وربما كان ذلك إدراجاً من أبي هريرة ،لكن الذي يعنينا هنا هو تفسير الحفظ للغيب. انظر الحديث في سنن النسائي برقم  3179

[4] جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قوله " لَا تُنْفِقُ امْرَأَةٌ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ قَالَ ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا "أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وأحمد ،وهو عند الترمذي برقم 606.

[5] قال تعالى" َلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ " النساء : 19.

[6] لا يختلف تضييع المال في الإساءة عن تضييع العرض كثيراً و إن كان الجرم في تضييع العرض أقبح و أشنع وكان  هو الغالب في أن يعاقَب عليه بالضرب.

[7] فرق الدكتور أبو سليمان في حاشية الصفحة 49 بين الضرب والجلد بقوله "يُلاحظ أن القرآن لم يعبر بلفظ الضرب ولكن بلفظ الجَلد – بفتح الجيم - حين قصد إلى الضرب بمعنى الأذى الجسدي بقصد العقاب والتأديب، وذلك في قوله تعالى ( الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة )،وذلك من الجِلد – بكسر الميم – لأنه موضع الإحساس بالأذى والألم، وهو المقصود بالضرب؛ قلت بين الجلد وبين الضرب عموم وخصوص، فالجلد ضرب مخصوص، أما القرآن فقد أورد معنى الأذى الجسدي والنفسي بقصد العقاب و التأديب بلفظ الضرب عينه لا بلفظ الجلد المخصوص ،وقد أفردت هذا في الوجه و سردته في الوجه التاسع بعد قليل.

[8] قال صلى الله عليه و سلم "أبغض الحلال على الله تعالى الطلاق" أخرجه أبو داود برقم : 1863، وابن ماجه برقم: 2008.

[9]" بِمَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْفَحْلِ أَوْ الْعَبْدِ ثُمَّ لَعَلَّهُ يُعَانِقُهَا " البخاري برقم :5582 ،" وَعَظَهُمْ فِي النِّسَاءِ وَقَالَ عَلَامَ يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ" أحمد برقم 15632، وعن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب رضي الله عنه ، قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تضربوا إماء الله » فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، قد ذئرن (اجترأن) النساء على أزواجهن، فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضربوهن ؛ قال: فأطاف بآل محمد صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة ،كلهن يشتكين أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس أولئك خياركم » رواه الحاكم برقم :2724.

[10] وهذا هو رأي الدكتور أبو سليمان نفسه عندما أشار إلى قوله تعالى عن أيوب عليه السلام : ( وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولاتحنث) ص : 44 ، ثم أورد في الحاشية رأيه بقوله" الضغث هو الحزمة، ويذكر المفسرون أن المقصود به هو شمروخ النخل وما به من الأغصان الرهيفة الكثيرة، أي إن الله الذي كرم بني آدم وجّه نبيه أيوب الذي غضب من زوجته وهو يعاني صابراً من المرض أن يبر قسمه في ضرب زوجته بأن يهشها بأغصان الشمروخ المئة كناية عن الضرب (!!) فأبر بقسم نبيه أيوب دون أن يرتكب أيوب خطأً أو جرماً بأن يضرب زوجته لما اعتبره قد صدر عنها من تصرف خاطئ دون أن ينال الزوجة بالأذى والمهانة كما نجى المؤمن المسلم إسماعيل ابن المؤمن المسلم إبراهيم من الذبح ، فصدق رؤيا إبراهيم دون أن يذبح ابنه بأن فداه بذبح عظيم. ضرب المرأة ، ص 47 .

[11] أخرجه أبو داود برقم  1830، وقال في آخره ولا تقبح : أن تقول : قبحك الله .

[12] انظر إلماحه إلى هذا ومواجهته لمنطق الشبهات والإشكالات لدى الغرب في مطلع بحثه ، ص 11 – 12.

نقلا عن موقع ببليو إسلام

 

 http://www.biblioislam.net/ar/Review/BookReviews.aspx?ID=38412


تاريخ النشر : 30-09-2009

6151 : عدد القراءات


يلفت موقع الملتقى الألكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.


 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية   l   دراسات قرأنية   l   دراسات حديثة   l   الفقه و الأصول   l   العقيدة و الكلام   l   فلسفة التجديد

قضايا التجـديـد   l   إتجاهات الإصلاح   l   التعليم و المناهج   l   التراث السياسي   l   الدين و الدولة   l   الحقوق و الحريات

مفاهيم و مصطلحات   l   الإسلام السياسي    l    الظاهرة الدينية   l   فلسفة الدين   l   فلسفة الأخلاق   l    قضايا فلسفية

المـــرأة و النسوية   l   الإسلام و الغرب    l   عروض و مراجعات   l   إصدارات   l    حوارات و شخصيات   l    مـؤتـمـرات و متابعات

جديد الملتقى   l   سجل الزوار   l    رأيك يهمنا   l   اتصل بنا

   ©2024 Almultaka  جميع الحقوق محفوظة 

Designed by ZoomSite.com